بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفسير سورة قريش
مكية و آياتها أربع آيات
( لإيلاف قريش ) قال كثير من المفسرين : إن الجار و المجرور متعلق بالسورة التي قبلها أي : فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل لأجل قريش و أمنهم , و استقامة مصالحهم , و انتظام رحلتهم في الشتاء لليمن , و الصيف للشام , و ذلك للإتجار و جلب الأرزاق إلى بلادهم التي ليست هي بذات زرع و لا صناعة فإيلافهم هاتين الرحلتين كان بتدبير الله تعالى ليعيش سكان حرمه و بلده في رغد من العيش فهي نعمة من نعم الله تعالى .
ثم أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقال :
( فليعبدوا رب هذا البيت ) أي : فليوحدوه بالعبادة , كما جعل لهم حرما آمنا و بيتا محرما , كما قال الله تعالى ( إنّما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرّمها و له كل شيء و أمرت أن أكون من المسلمين ) . و البيت هو الكعبة المشرفة .
و خصّ الله بالربوبية البيت , لفضله و شرفه و إلا فهو رب كل شيء .
( الذي أطعمهم من جوع ) بما هيأ لهم من أسباب .
( و ءامنهم من خوف ) أي مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات و الحروب و القتال و الأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض , قال ابن زيد : كانت العرب يغير بعضها على بعض و يسبي بعضها بعض , فأمنوا من ذلك لمكان الحرم و قرأ " أولم نُمكّن لهم حرما ءامنا يُجبى إليه ثمرات كلّ شيء " و نظيره أيضا قوله تعالى " أولم يروا أنّا جعلنا حرما ءامنا و يُتخطّف الناس من حولهم " .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفسير سورة الفيل
مكية و آياتها خمس آيات
( ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * و أرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف ماكول ) .
هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش , فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل , الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة و محو أثرها من الوجود , فأبادهم الله , و أرغم آنافهم , و خيّب سعيهم , و أضل أعمالهم , وَرَدهم بِشرِّ خيبة , و كانوا قوما نصارى , و كان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان . و لكن كان هذا من باب الإرهاص و التوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال .
وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية , حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث , فيقولون : ولد عام الفيل و حدث كذا لسنتين بعد عام الفيل و نحو ذلك .
( ألم تر كيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل ) يعني الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة , أي ألم تعلم علما رصينا متاخما للمشاهدة و العيان باستماع الأخبار المتواترة , و معاينة الآثار الظاهرة .
و الله تعالى يخاطب رسوله مذكرا إياه بفعله الجبار في إهلاك الجبابرة فأين قوة ظلمة قريش من قوة أبرهة و أبادها الله تعالى في ساعة فاصبر يا محمد و لا تحمل لهؤلاء الأعداء همّا فإن لهم ساعة فكانت السورة عبارة عن ذكرى للعظة و الإعتبار .
( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) أي ألم يجعل ما كادوه لبيتنا و حرمنا في خسارة و ضلال فلم يجنوا إلا الخزي و الدمار . قال الرازي : إعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية " إن قيل " لم سماه كيدا و أمره كان ظاهرا , فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت ؟ " قلنا " نعم لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر , لأنه كان يضمر الحسد للعرب , و كان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة , منهم و من بلدهم , إلى نفسه و إلى بلدته .
( و أرسل عليهم طيرا أبابيل ) أي طوائف متفرقة , يتبع بعضها بعضا من نواح شتى . و " أبابيل " جمع لا واحد له , على ما حكاه , و التنكير في " طيرا " إما للتحقير , فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب و أكبر , أو للتفخيم , كأنه يقول و أي طير ترمي بحجارة صغيرة فلاتخطئ القتل , أفاده الرازيّ .
( ترميهم بحجارة من سجّيل ) أي من طين متحجر . كل طائر يحمل ثلاثة أحجار كالحمصة و العدسة واحدة بمنقاره و اثنتين بمخلبيه كل واحدة في مخلب ترميهم بها فتتفتت لحومهم و تتناثر فجعلهم كعصف ماكول .
( فجعلهم كعصف ماكول ) قال ابن جرير : " كزرع أكلته الدواب فراثته , فيبس و تفرقت أجزاؤه , شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم , و تفرقت آراب أبدانهم بها , بتفرق أجزاء الروت , الذي حدث عن أكل الزرع ".
و المعنى : أن الله سبحانه و تعالى أهلكهم و دمرهم , و ردهم بكيدهم و غيظهم لم ينالوا خيرا , و أهلك عامتهم , و لم يرجع منهم بخير إلا و هو جريح , كما جرى لملكهم أبرهة , فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء و أخبرهم بما جرى لهم , ثم مات .
و أخيرا : إن أمر القصة أضيفت إلى الفيل , و اشتهرت به , لاصطحابهم الفيل معهم للبطش و التخريب , فإنه لو تمّ لقائديه كيدهم , لكان الفيل يتخذونه آلة بطش و انتقام , فإذا غضبوا على محارب و أسروه , أو وزير و أوثقوه , أو بلد و نازلوا حصنه - أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل , فنطح برأسه و نابه الصرح فيدكه , و قواعد البنيان فيهدمها , فيكون أمضى من معاول و فؤوس , و أعظم رعبا و رهبة في النفوس , و ربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه , فأعمل فيه نابه , و لف عليه خرطومه و شاله , و مثل به تمثيلا , كان أشد بطشا و تنكيلا .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفسير سورة الهمزة
مكية و آياتها تسع آيات
( ويل لكل همزة لمزة )
" ويل " يتوعد الرب تبارك و تعالى بواد في جهنم يسيل بصديد أهل النار و قيوحهم كل همزة لمزة .
" لكل همزة لمزة " أي لكل من يطعن في أعراض الناس و يغتابهم , فالهمّاز بالقول , و اللّماز بالفعل . قال القاشاني ( رذيلتان مركبتان من الجهل و الغضب و الكبر , لأنهما يتضمنان الإيذاء و طلب الترفع على الناس , و صاحبهما يريد أن يتفضل على الناس , و لا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها , فينسب العيب و الرذيلة إليهم ليظهر فضله عليهم , و لا يشعر أن ذلك عين الرذيلة , فهو مخدوع من نفسه و شيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية و الغضبية ).
( الذي جمع مالا و عدّده ) و من صفة هذا الهماز اللماز , أنه لا همّ له سوى جمع المال و تعديده و الغبطة به , و ليس له رغبة في إنفاقه في طرق الخيرات و صلة الأرحام , و نحو ذلك . قال الإمام : أي أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس , هو جمعه المال و تعديده , أي عده مرة بعد أخرى , شغفا به و تلذذا بإحصائه . لأنه لا يرى عزّا و لا شرفا و لا مجدا في سواه , فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه , انتفخ و ظن أنه من رفعة المكانة , بحيث يكون كل ذي فضل و مزية دونه , فهو يهزأ به و يهمزه و يلمزه , ثم لا يخشى أن تصيبه عقوبة على الهمز و اللمز و تمزيق العرض , لأن غروره بالمال أنساه الموت و صرف عنه ذكر المآل فهو " يحسب أن ماله أخلده " .
( يحسب أنّ ماله أخلده ) أي يظن أن ماله الذي جمعه و أحصاه , و بخل بإنفاقه , مخلده في الدنيا , فمزيل عنه الموت . قال القاشاني ( ...أي لا يشعر أن المقتنيات المخلدة لصاحبها هي العلوم و الفضائل النفسانية الاقية , لا العروض و الذخائر الجسمانية الفانية ) .
( كلا لينبذن في الحطمة )
" كلا " لا يخلده ماله بل و عزتنا و جلالنا " لينبذن في الحطمة " أي ليلقين هذا الذي جمع مالا فعدده في الحطمة و هي إسم طبقة من أسماء النار , لأنها تحطم من فيها .
( و ما أدراك ما الحطمة ) هذا الإستفهام لتعظيم أمرها و تهويل شأنها , كأنها ليست من الأمور التي تدركها العقول .
( نار الله الموقدة ) أي المستعرة المتأججة , التي وقودها الناس و الحجارة , قال أبو سعود : و في إضافتها إليه سبحانه , ووصفها بالإيقاد , من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه .
( التي تطلع على الأفئدة ) قال ثابت البناني : تحرقهم إلى الأفئدة و هم أحياء , ثم يقول : لقد بلغ منهم العذاب , ثم يبكي . و قال محمد بن كعب : تأكل كل شيء من جسده , حتى إذا بلغت فؤاده حَذْو حلقه ترجع على جسده . قال الزمخشري : يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم و تطلع على أفئدتهم , و هي أوساط القلوب , و لاشيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد , و لاأشد تألمنا منه بأدنى أذى يمسه , فكيف إذا طلعت عليه نار جهنم و استولت عليه !!! و يجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر و العقائد الفاسدة و النيات الخبيثة ...
( إنها عليهم مؤصدة ) أي مغلقة مطبقة لا مخلص لهم منها .
( في عمد ممددة ) قال الزمخشري : ( و المعنى أنه يؤكد بأسهم من الخروج , و تيقنهم بحبس الأبد , فتؤصد عليهم الأبواب , و تمدد على العمد , استيثاقا في استيثاق . و يجوز أن يكون المعنى أنها عليهم مؤصدة , موثقين في عمد ممددة , مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص ) . و المقطرة هي جذع كبير فيه خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص و نحوهم .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفسير سورة العصر
مكية و آياتها ثلاث آيات
قال الإمام ابن القيم في " مفتاح دار السعادة " ( قال الشافعي رضي الله عنه " لو فكر الناس في هذه السورة , لكفتهم " . و بيان ذلك أن المراتب أربعة و باستكمالها يحصل للشخص غاية كماله , إحداها معرفة الحق , الثانية عمله به , الثالثة تعليمه من لا يحسنه , الرابعة صبره على تعلمه و العمل به و تعليمه , فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة ) ثم قال ( فهذه السورة على اختصارها , هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره , و الحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه , شافيا من كل داء , هاديا إلى كل خير ) .
قال الرازي ( هذه السورة فيها وعيد شديد , و ذلك لأنه تعالى حكم بالخسارة على جميع الناس , إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة , و هي : الإيمان و العمل الصالح و التواصي بالحق و التواصي بالصبر , فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور ) .
( و العصر ) أقسم الله تعالى بالعصر , الذي هو الليل و النهار , محل أفعال العباد و أعمالهم , و لانطوائه على تعاجيب الأمور , و لأنه يذكر بما فيه من النعم و أضدادها , فينبّه الإنسان على أنه مستعد للخسران و السعادة , و للتنويه به و التعظيم من شأنه , تعريضا ببراءته مما يضاف إليه من الخسران و الذم , كما قيل :
يَعيبون الزمان و ليس فيه *** معايبُ غير أهلٍ للزمانِ
فالعصر ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق و رزق و إعزاز و إذلال و خفض و رفع , فكيف يذم في ذاته , و إنما قد يذم ما يقع فيه من الأفعال الممقوتة .
( إن الإنسان لفي خسر ) أي خسران , لخسارته رأس ماله الذي هو نور الفطرة و الهداية الأصلية , بإيثار الحياة الدنيا و اللذات الفانية و الإحتجاب بها و بالدهر , و إضاعة الباقي في الفاني .
( إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات ) فهؤلاء استثناهم الله تعالى من الخسر فهم رابحون غير خاسرين و ذلك بدخولهم الجنة دار السعادة , و المراد من الإيمان الإيمان بالله و رسوله و ما جاء به رسوله من الهدى و دين الحق , و المراد من العمل الصالح الفرائض و السنن و النوافل .
( و تواصوا بالحق ) أي أوصي بعضهم بعضا بما أنزل الله في كتابه من أمره , و اجتناب ما نهى عنه من معاصيه , قال الرازي ( دلت الآية على أن الحق ثقيل , و أن المحن تلازمه , فلذلك قرن التواصي بالصبر )
( و تواصوا بالصّبر ) أي على ما يبلو الله به عباده , أو على الحق , فإن الوصول إلى الحق سهل , و أما البقاء عليه و الصبر معه بالإستقامة و الجهاد لأجله , فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان و حقيقته .
و تخصيص التواصي بالحق و الصبر , مع إندراجهما في الأعمال الصالحة , لإبراز كمال الإعتناء بهما .