تنوير المحمود وإصرار السعد:بل رجال واختلاط وقيم وضوابط
قينان الغامدي
أحترم الأخت الدكتورة نورة خالد السعد الكاتبة لزاويتها الأسبوعية "ربيع الحرف" في صحيفة "الرياض" كل يوم خميس، ومنطلق احترامي للدكتورة الكاتبة أنها تفصح عما تعتقد صحته بوضوح، تعلنه تحت الشمس غير مكترثة بمن يختلف معها، وغير متأثرة أو آبهة بالمسافة الضوئية التي تفصلها عن جارها الذي يكتب معها في نفس الصفحة الأستاذ المتميز محمد بن علي المحمود الذي يتحرك والدكتورة نورة في اتجاهين متعاكسين تماماً، فكلما تحرك وتقدم المحمود في آفاق التنوير أوغلت السعد في إصرارها على عدم التحرك نهائياً، ومن واقع ما ينشر على الموقع الإلكتروني لصحيفة "الرياض" وما ينشر في الصحيفة الورقية والصحف الأخرى ومواقع الإنترنت المختلفة يلاحظ المتابع أن عدد معارضي أفكار المحمود لا يكاد يتغير، أما عدد مؤيديه فهو في تزايد مستمر، والعكس تماماً بالنسبة للدكتورة نورة فعدد مؤيدي أفكارها لا يكاد يتغير أما عدد المعارضين فهو في تزايد مستمر، بل إن معارضي المحمود يكادون يكونون هم ذاتهم مؤيدو نورة، وهم لا يناقشون فكراً، ولا يقدمون فكرة، فهم يكتفون بشتم المحمود والدعاء عليه، ومدح نورة والدعاء لها وهم يفعلون ذلك باستبسال منتظم مع كل من يشبه المحمود أو الدكتورة، ولعل في هذا الواقع إجابة واضحة لسؤال المحمود الذي طرحه في مقال عميق يوم الخميس 22 ربيع أول 1427هـ تحت عنوان "هل ينتصر التنوير؟"، وأنا أقول: نعم سينتصر.
ومع قناعتي بأنه سينتصر، فإنني أقدر للدكتورة السعد إصرارها على رأيها، وأتفهمها، وأحترمها فهي "لا ترتدي قناعاً وهمياً يخفي خلفه وجهاً آخر" وهذه الجملة الموضوعة داخل الأقواس اقتبستها من نهاية مقال الدكتورة المنشور يوم الخميس 8 ربيع أول 1427هـ، وسيتبين غداً لماذا أوردت الدكتورة هذه الجملة.
كتبت الدكتورة مقالين تحت عنوان "تشغيل النساء كيف" و "النساء بائعات" ثم أتبعتهما بمقال إيضاحي دفاعي تحت عنوان "مرة أخرى .. النساء بائعات". وأريد أن أوضح أنني فهمت مقصد الدكتورة تماماً فهي ليست ضد عمل المرأة، لكنها ضد إجبارها عليه، وأنا أتفق معها في موضوع الإجبار ولكن من وجهة نظر مختلفة، لكنني أفضل البقاء عند نقطة عمل المرأة الذي تؤيده الدكتورة، فهي تؤيده فعلاً، لأنها نفسها تعمل لكنها تؤيده بشروطها، فهي تريد المرأة أن تعمل في جزيرة لا يرتادها ألا بنات جنسها، التزاما بالشروط الشرعية، وخوفاً من "تحرش الرجل الجنسي" و الشروط الشرعية عند الدكتورة هي "بيئة لا رجال فيها ولا اختلاط" ومعنى هذا أننا نحتاج أسواقاً للنساء، ومثلها مستشفيات ، ومثلها حدائق ومطاعم، ومكتبات، وفنادق وسيارات وطائرات وقطارات وسفن، وشوارع ، وقد تتطور الحالة مع هذا الشرط العجيب لنطالب بمدن خاصة للنساء ، وأخرى للرجال، وبينهما مدينة ثالثة يلتقي فيها المحارم من الطرفين بمحارمهم. إن هذه البيئة يا دكتورة لم يطالب بها أحد من الفقهاء المعتدلين وهم الأكثرية البارزة منذ عصر النبوة إلى ما قبل عشرين سنة أو نحوها، حيث بدأت الأصوات ترتفع بها في بلادنا فقط، وليس في عالم المليار ونصف مليار مسلم، وإنما عندنا فقط، وفي ذلك الوقت لم تكن الدكتورة كما أتذكر من المطالبين بهذه البيئة، لكنها مع الوقت وجدت أن هذا المطلب هو الأعلى صوتاً وهو الوحيد المهيمن ولا أحد يجرؤ على انتقاده أبداً، فهو زمن "الصحوة المباركة" فانضمت تدريجياً تحت لوائه ولها الحق كل الحق أن تتغير وتتطور وتفهم وتتأثر كما تشاء لكن لابد أن تقتنع أن للآخرين نفس الحق ، فإذا كانت بيئتها الشرعية "لا رجال فيها ولا اختلاط" فهناك من لديه بيئة شرعية أخرى لها أدلتها الشرعية والعقلية والواقعية وفيها "رجال واختلاط وقيم وأخلاق وضوابط".
إن اشتراط هذه البيئة التي "لا رجال فيها ولا اختلاط" لعمل المرأة يقوم على خلط واضح بين "الخلوة المحرمة" وبين "الاختلاط المباح"، وبين "الحجاب الإسلامي المبيح لكشف الوجه والكفين" وبين الفهم السعودي الخاص لشكل الحجاب أو العادة السعودية التي نشأت منذ عقدين وتمت تغذيتها "صحوياً" حتى أصبحت في قدسية التشريع وهي "تغطية الوجه والكفين"، والدكتورة لابد أنها تعرف اختلافات المذاهب والفقهاء واتفاقاتهم حول هذين الأمرين، والشيخ ابن باز - رحمه الله - كرر كثيراً أن مسألة كشف الوجه محل خلاف بين أهل العلم ومهما قلنا ومهما تجادلنا فإننا في النهاية لا يمكن أن نزعم أننا على حق، ومليار ونصف مليار مسلم بعلمائهم ومراجعهم الدينية على باطل. إن أقوى ما يمكن أن نحتج به في أحسن الأحوال أننا أخذنا برأي فقهي متشدد وتركنا آراء كثيرة لا تؤيده على الرغم من أن لها حججها الأقوى وأدلتها الأوضح أو أن لنا عاداتنا وتقاليدنا التي خلطنا بينها وبين الفقه وألبسناها لبوس الشرع وأظن أننا يجب أن نكون عقلاء عند هذه النقطة على الأقل وغداً نكمل.
العرض العادي
