العودة   منتديات أفـــاق دبـــي الثقافيـــة > كليةالشريعة College of Sharia > قسم الماجستيرSection Masters

آخر 10 مشاركات
الخبيصه الاماراتيه (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 1 - المشاهدات : 20665 - الوقت: 09:09 PM - التاريخ: 01-13-2024)           »          حلوى المغلي بدقيق الرز (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 14551 - الوقت: 03:16 PM - التاريخ: 12-11-2023)           »          دروس اللغة التركية (الكاتـب : عمر نجاتي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 20704 - الوقت: 11:25 AM - التاريخ: 08-21-2023)           »          فيتامين يساعد على التئام الجروح وطرق أخرى (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 22131 - الوقت: 08:31 PM - التاريخ: 07-15-2023)           »          صناعة العود المعطر في المنزل (الكاتـب : أفاق الفكر - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 4 - المشاهدات : 56206 - الوقت: 10:57 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          كحل الصراي وكحل الاثمد وزينت المرأة قديما من التراث (الكاتـب : Omna_Hawaa - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 2 - المشاهدات : 51342 - الوقت: 10:46 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          كيفية استخدام البخور السائل(وطريقة البخور السائل) (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 2 - المشاهدات : 43222 - الوقت: 10:36 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          جددي بخورك (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 25640 - الوقت: 10:25 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          عطور الإمارات صناعة تراثية (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 26001 - الوقت: 10:21 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          خلطات للعطور خاصة (الكاتـب : أفاق : الاداره - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 1 - المشاهدات : 31909 - الوقت: 10:12 PM - التاريخ: 11-06-2022)

إضافة رد
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-24-2012, 02:13 PM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

OM_SULTAN

المشرف العام

OM_SULTAN غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








OM_SULTAN غير متواجد حالياً


أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ملخص أول

أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص أول)

ماجد علي مقبل باشا
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 10/6/2012 ميلادي - 20/7/1433 هجري
زيارة: 7211
ملخص كتاب
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله
د. عياض السلمي
مقدمة في التعريف بأصول الفقه:
التعريف بأصول الفقه، ويشمل: نشأته، وتعريفه، وموضوعاته، وفوائده، واستمداده.


أولاً: نشأة أصول الفقه:
لم يأخذ علمُ الأصول شكله النهائي الذي يميِّزه عن سائر العلوم الشرعية قبل أواخر القرن الثاني الهجري، ففي عهده - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لم يكن هذا العلم مستقلاًّ عن غيره من العلوم؛ بل كانت قواعده العامة موجودةً، تُعرف من استنباطه - صلى الله عليه وسلم - للأحكام، بناء على فهمه للغة العربية بمقتضى السليقة، فهو يعرف مضمون الكلام، ويعرف الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، وغيرها.

وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - يعرفون قواعد اللغة كذلك، ومع ذلك كانوا إذا نزلتْ بهم نازلة، أو أشكل عليهم أمر، أو احتاجوا إلى معرفة حكم - يرجعون إليه - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك سؤالهم له عن زكاة الحُمُر الأهلية، فاستدلَّ - صلى الله عليه وسلم - بعموم قوله - تعالى -: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] على مسألة جزئية، وهي زكاة الحمر الوحشية، ومن ذلك اجتهاده فيما لا نصَّ فيه كما في قصة أسرى بدر، ولم يكن الصحابة بحاجة إلى تدوين قواعد أصول الفقه.

وفي أواخر عصر التابعين ظهرتِ المدارس الفقهية، وبدأ الخلاف بين مدرسة الرأي ومدرسة أهل الحديث، وكان طلاب العلم يترددون أي المذاهب يأخذون، وكان لكل شيخ أنصارٌ ومحبون يأخذون برأيه، فدخل التعصب المذهبي، واختلط العرب بغيرهم من العجم، وظهرت حاجة ملحَّة إلى ضبط قواعد علم الأصول، فشرع الإمام الشافعي في تأليف رسالته في الأصول، وتتابع العلماء في التأليف في الأصول بعد الشافعي، فألف أحمد كتاب "طاعة الرسول"، وألف داود كتاب الإجماع وإبطال التقليد، و"خبر الواحد"، وكتاب "العموم والخصوص"، وازدهر التأليف في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وظهرتْ كتب من أهم المؤلفات في الأصول وهي: كتاب "العمد" للقاضي عبدالجبار، وكتاب "المعتمد" لأبي الحسين البصري، وكتابي "اللمع" و"التبصرة" للشيرازي، وكتاب "العدة" لأبي يعلى، وكتابي "المستصفى" و"المنخول" للغزالي، وكتاب "التمهيد" لأبي الخطاب الكلوذاني، وكتاب "أصول السرخسي"، وكتاب "أصول البزدوي"، وكتاب "إحكام الفصول"، و"الإشارة" لأبي الوليد الباجي، ثم انتشرتْ بعد ذلك المختصرات والشروح.

ثانيًا: تعريف أصول الفقه:
يعرَّف باعتباره مركبًا إضافيًّا، ويعرف باعتباره علَمًا ولقبًا، فبالاعتبار الأول، يعني الفقه في اللغة مطلق الفهم، أو الفهم للأشياء الدقيقة، ويعرف في الاصطلاح بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، ويقصد بالأصل ما ينبني عليه غيرُه, وقد يراد به منشأ الشيء، وعند الأصوليين يطلق ويراد به الدليل، أو القاعدة المستمرة، أو الراجح، أو مخرج المسألة الفرضية، وأقربها إلى المعنى المقصود هو المعنى الأول ثم الثاني.

وأما تعريف أصول الفقه باعتباره علمًا ولقبًا على هذا العلم، فهو: "مجموع طرق الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد"، فيشمل الأدلة، وطرق الدلالة اللفظية والعقلية، ويشمل كذلك دلالات الألفاظ من العام والخاص، وكذا المطلق والمقيد، وأيضًا الأمر والنهي، والمنطوق والمفهوم، كما يدخل في ذلك طرق معرفة العلة المستنبطة ونحو ذلك، كما يشمل حال المجتهد وحال المقلد.

ثالثًا: موضوع أصول الفقه:
موضوعه: الأدلة المتفق عليها، والمختلف فيها، ودلالات الألفاظ، وصفة المجتهد والمقلد.

رابعًا: فوائد علم أصول الفقه:
إن من أهم فوائده التفقهَ في الدين، وتطبيق قواعده على الأدلة التفصيلية وعلى المسائل الجزئية، ومعرفة حكم الله في كل جديد ونازلة مما لم يَرِدْ بشأنه نص، كأطفال الأنابيب، والتلقيح الصناعي، وقضايا الإنترنت، ويساعد على معرفة حكم الشريعة وأسرارها، كما أنه يساعد صاحبَه في الرد على أعداء الشريعة وخصومها، ممن يدعي عدم صلاحيتها للتطبيق، ويحمي الفقيه من التناقض في أقواله وفتاواه.

استمداد أصول الفقه: وهو مستمد من الكتاب والسنة، وعلم أصول الدين (علم الكلام)، واللغة العربية، والفقه.


الباب الأول

الحكم الشرعي


أولاً: تعريفه: يراد به في اللغة المنع والقضاء، وأما في الاصطلاح فهو: خطاب الله - تعالى - المتعلِّق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا.


وأما الفقهاء فيعرِّفونه بأنه: ما يترتب على خطاب الله - تعالى - أو أنه مدلول خطاب الله - تعالى.


فقولهم: "خطاب الله تعالى" قيد خرج به ما ليس خطابًا لله - تعالى.


وغلط القائلون بأن الخطاب هو الكلام النفساني؛ إذ إن إطلاق مثل هذا اللفظ يعني تأييد مذهب من قال بأن كلام الله ليس لفظًا مسموعًا، وهذا مردود.


وقولهم: "المتعلق بأفعال المكلفين" قيد خرج به الأوصاف والإخبار بقصص السابقين، ومعنى تعلقه بأفعال المكلفين دلالتُه على كونها مطلوبةً أو ممنوعة، وعلى أنها صحيحة أو باطلة وما يلحق بذلك، والأَولى أن يقال: المتعلق بأفعال العباد.


وقولهم: "اقتضاء" يعني الطلب، سواء أكان طلب فعل، فيشمل الواجبَ والمندوب، أم كان طلب ترك، فيشمل المحرَّم والمكروه، وإسقاط البعض للإباحة من التعريف خطأ؛ لأن الإباحة حكم شرعي يعرف من تخيير الشارع أو سكوته.

وقولهم: "أو وضعًا" يشمل ما جعله الشارع سببًا، أو شرطًا، أو مانعًا، وكذلك ما وصفه الشارع بالصحة، أو الفساد، أو البطلان.


ثانيًا: أقسامه: وينقسم إلى حكم تكليفي وحكم وضعي، والأولى أن يقسم إلى ثلاثة أقسام، هي: الحكم التكليفي، والحكم الوضعي، والحكم التخييري؛ لأن الإباحة على الصحيح ليست من الأحكام التكليفية.

1- فالحكم التكليفي: هو خطاب من الله متعلق بأفعال المكلفين اقتضاء، فيضم التحريمَ والكراهة، والإيجاب والندب، فالتحريمُ طلب ترك الفعل بما يشعر بالذم على الفعل كتحريم الزنا، والكراهة طلب ترك الفعل من غير ذم لفعله، ككراهية المشي في النعل الواحدة، وأما الإيجاب فطلب الفعل طلبًا يشعر بالذم على تركه، كالأمر بإقامة الصلاة، والندبُ طلب الفعل من غير ذم على تركه، كالندب إلى المكاتبة.

2- والحكم التخييري: يراد به التسوية بين فعل الشيء وتركه، كالأكل والشرب.

3- والحكم الوضعي: يراد به خطاب الله الذي يجعل الشيء سببًا، أو يجعله شرطًا أو مانعًا، أو يجعله صحيحًا أو فاسدًا.


ثالثًا: أقسام الحكم التكليفي: أقسامه خمسة، هي: الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح، وزاد الحنفية الفرض والمكروه كراهة التحريم، ونتناولها تباعًا:

1- فالواجب في اللغة: الساقط، وفي الاصطلاح: كل ما ذم تاركه مطلقًا، سواء كان عملاً أو اعتقادًا، وهو ثلاثة أقسام: واجب موسَّع، كالصلاة حيث يجوز أن يتركها في أول الوقت وأن يفعلها في أثنائه، وواجب مخيَّر، ككفارة اليمين: عتق أو إطعام أو كسوة، إذ من حقِّ المكلَّف أن يختار أحدها دون أن يُذم، وواجب كفائي، كغسل الميت وتكفينه في حق من علِم بموته، فلو فعله بعضهم وتركه آخرون لم يُذمُّوا.


وأما الواجب باعتبار الذات، فينقسم إلى واجب معيَّن وواجب مخيَّر؛ فالأول طلَبَه الشارعُ بعينه ولم يخيِّر المكلفَ بينه وبين غيره، كالصلاة ونحوها، وأما الثاني فالمكلف مخيَّر بين أدائه بعينه أو أداء غيره، ككفارة اليمين؛ إذ إنها واجبة ولكن على التخيير.


وأما الواجب باعتبار وقته، فينقسم إلى واجب مؤقَّت وواجب غير مؤقت؛ فالمؤقت ما حدد له الشارع وقتًا معينًا، له بداية ونهاية، وذلك كالصلاة، وأما غير المؤقت فهو عكسه، ومثاله النذر، وينقسم الواجب المؤقت إلى قسمين: واجب مضيق، وواجب موسع؛ فالمضيق: ما حدد له الشارع وقتًا لا يسع لأداء غيره معه من جنسه، مثل الصيام، فإن المكلف لا يملك أن يصوم يومًا عن نذر وكفارة معًا، ولكن هذا اليوم قد يتَّسع لما هو من غير جنس الصيام، كالصلاة، وتلاوة القرآن، ونحو ذلك.



وأما الفرق بين الواجب الموسع والمضيق، فهو أن الأول لا يصح أداؤه إلا بنيةٍ اتفاقًا، وأنه لا يمتنع صحة أداء غيره من جنسه من الواجبات في زمنه، بخلاف الواجب المضيق، فعند الحنفية لا يحتاج إلى نية؛ إذ تنصرف إليه من غير تخصيص، ويمتنع أداء غيره من جنسه فيه.


وينقسم الواجب بالنظر إلى فاعله إلى: واجب عيني: وهو ما طلب الشارع من كل مكلف بعينه فِعلَه، كالصلاة، وواجب كفائي: وهو ما طلبه الشارع دون تعيين لفاعله، كالجهاد وغسل الميت، ويفترقان في أن الواجب العيني مأمورٌ به كلُّ مكلفٍ بعينه، ولا يجوز أن يقوم فعل غيره مكانَه إلا بإذنه إن كان مما تدخُل فيه النيابة، وأن مصلحة الواجب العيني تعود على فاعله، بخلاف الواجب الكفائي.


وقد اتفق العلماء على أن الأمر موجَّه لجميع المكلفين في الواجب العيني، واختلفوا في الواجب الكفائي، فذهب البعض إلى أنه موجه للجميع، ويسقط بفعل البعض، وهو الراجح، ودليل ذلك أن هذه الواجبات جاءت بصيغة العموم، وأن الإثم - إذا لم يقم بالواجب الكفائي أحدٌ - يلحق الجميعَ.


وينقسم الواجب إلى واجب محدد، كمقادير الزكاة، وواجب غير محدد، كالطمأنينة في الصلاة.


ومما ينبغي ملاحظته أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذه قاعدة أصولية ينبني عليها فقهٌ كثير، وهي ليست مطلقة، فما لا يتم الواجب إلا به من الشروط، وانتفاء الموانع، والأسباب، فليس بواجب قولاً واحدًا، وأما ما لا يتم الواجب تامًّا إلا به من غير الأحكام الوضعية، فينقسم إلى ما يدخل تحت الاستطاعة، فهو واجب، وما لا يدخل تحت الاستطاعة فليس بواجب.


2- المندوب: يراد به في اللغة: المدعو إليه، وفي الاصطلاح: ما طلبه الشارع طلبًا غير جازم، ويعرف المندوب بطرق، منها: الأمر الذي يقترن بقرائن الإباحة، كالأمر بالمكاتبة، ويعرف بالترغيب فيه من غير أمر، كالإكثار من قول: لا إله إلا الله، ويعرف ببيان محبة الله للفعل، كما في حديث: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))؛ (متفق عليه)، ويعرف بمدح فاعله كالمشي على الأرض هونًا، ويعرف بفعله - صلى الله عليه وسلم - له من غير أمرٍ به، كالاعتكاف، وأشهر تقسيمات المندوب: السنة المؤكدة: وهي ما واظب عليه - صلى الله عليه وسلم - في السفر والحضر، كركعتي الفجر، والمستحب: ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - سواء أواظب عليه أم لا.


ومما يتعلَّق بالمندوب مسألةٌ اختلف فيها العلماء، فحْواها: إذا شرع العبد في المندوب فهل يجب عليه إتمامه أو لا؟ اتفق العلماء على وجوب الإتمام في التطوع بالحج والعمرة، وعدم وجوبه في الصدقة على الفقير، واختلفوا فيما عدا ذلك، فذهب أبو حنيفة ومن معه إلى وجوب الإتمام، واستدل بأدلة كثيرة، منها: قوله - تعالى -: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وحديث: ((كُلْ وصم يومًا مكانه))؛ (رواه الدارقطني)، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المتطوع بالصوم أن يصوم يومًا مكانه، وهو دليل الوجوب، واستدلوا بالقياس على الحج والعمرة.


وذهب الجمهور إلى عدم وجوبه، واستدلوا بأدلة، منها: حديث: ((الصائم المتطوع أمير نفسه))؛ (رواه أبو داود)، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل أهله: ((أعندكم طعام؟))، فإن قالوا: نعم، أكل منه، وإلا قال: ((إني إذًا صائم))؛ (أخرجه أبو داود والنسائي)، ووجه الدلالة أنه كان يصبح ناويًا الصوم، فإن وجد طعامًا أكل، وإن لم يجد أتم صومه، وهو واضح في الاستدلال به.


ويبدو أن رأي الجمهور أرجح، ويرد على دليل الحنفية الأول، بأن المراد بإبطال الأعمال إبطالها بالرياء، ويرد على الثاني بأنه لو كان الإتمام واجبًا لما أمره بالإفطار؛ لأنه حينئذٍ يكون آمرًا بمعصية وحاشاه، وأما القياس ففاسد للفارق.


3- الحرام: يراد به في الاصطلاح: ما ذم الشارع فاعلَه، ويعرف بأمور، منها: النهي المجرد عن قرائن الكراهة، كالنهي عن الزنا، والنص على التحريم كقوله - تعالى -: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وذم فاعله، كالعود في الهبة، وتوعُّد الفاعل بالعقاب، كقوله تعالى - بعد أن ساق أنواعًا من المحرَّمات -: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، وينقسم إلى قسمين: حرام لذاته: وهو ما كان مفسدة في ذاته، كالقتل، وحرام لغيره: و هو ما كانت المفسدة ناشئة عن وصف تعلَّق به، كالصلاة في المقبرة.


التضاد بين الحرام والواجب: الحرام والواجب ضدان، وبالتالي فلا يمكن أن يكون الشيء الواحد بعينه منهيًّا عنه ومأمورًا به من جهة واحدة، فإذا حصل ذلك فيما يبدو للمكلف، فعلاجه في باب التعارض والترجيح.


4- المكروه: يراد به في اللغة المبغض، وفي الاصطلاح: هو ما نهى عنه الشارع نهيًا غير جازم، ومثاله المشي بنعل واحدة، ويقسمه الحنفية إلى مكروه تحريمًا، ومكروه تنزيهًا، فالأول ما كان النهي عنه جازمًا ولكن دليله ظني، كأكْل ما له نابٌ من السباع، والثاني ما كان النهي عنه غير جازم، وهو يرادف المكروهَ عند الجمهور.


ويعرف المكروه بأمور، منها: النهي مع عدم العقاب، كالمشي بالنعل الواحدة، وأن يترتب على الفعل الحرمان من الأفضل، كدخول المسجد لمن أكل بصلاً.


5- المباح: يراد به في اللغة: المطلق والمأذون فيه، وفي الاصطلاح: ما أجاز الشارع فعله أو تركه، كأكل اللحوم.


وتعرف الإباحة بطرق، منها: التخيير بين الفعل والترك، كما في حديث بريرة، حيث خيِّرتْ بين البقاء أو المفارقة، ونفي المؤاخذة كما في يمين اللغو، والنص على الحل كقوله - تعالى -: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، والأمر الذي يرد بعد الحظر، كقوله - تعالى -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وكون الشيء مسكوتًا عنه، فالأصل في الأشياء الإباحة.


6- تقسيم الحكم إلى عزيمة ورخصة: فالعزيمة في اللغة: القصد المؤكد، وفي الاصطلاح: وصفٌ للحكم الذي ثبت ابتداءً لا لأجل عذر، ويوصف به الواجب والمندوب والمكروه والحرام والمباح، وأما الرخصة في اللغة فهي: التسهيل، وفي الاصطلاح: وصف للحكم الذي ثبت على خلاف دليل شرعي غير منسوخ لعذر.


وأما الفرق بين الرخصة والمخصوص من العام، فهو أن الرخصة خصَّصت العامَّ لعذر كالاضطرار، مع بقاء الحاجة إلى الحكم العام، بخلاف الثاني، فقد خصص العام ولا حاجة لبقاء الحكم الثابت فيه، مع ملاحظة أن الرخصة قد تنقلب إلى واجب، كمن أشرف على الهلاك، فيصير الأكل من الميتة في حقه واجبًا لا رخصة، إذا ترتب على الترك الهلاك.


رابعًا: أقسام الحكم الوضعي: ينقسم الحكم الوضعي إلى سبب، وشرط، وصحة، وبطلان، وفساد.

1- فالسبب: يراد به في اللغة ما يحصل الشيء عنده، وفي الاصطلاح: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته.

2- والشرط: يراد به في اللغة العلامة، وفي الاصطلاح: وصف يلزم مِن عدمه عدمُ الحكم المعلق عليه، ولا يلزم من وجوده وجودُه ولا عدمه.

وينقسم إلى أربعة أقسام: شرط شرعي، وهو ما عُرِفَ بالشرع، وشرط عادي، وهو ما عرف بالعرف، وشرط عقلي، وهو ما عرف بالعقل، وشرط لغوي، وهو التعليق بإحدى أدوات الشرط المعروفة، وهذا الأخير يسمى شرطًا في اللغة مع أنه سبب في الاصطلاح.

3- والمانع: يراد به في اللغة الحاجز، وفي الاصطلاح: وصف يلزم من وجوده عدم الحكم المتعلِّق به، ولا يلزم من عدمه وجوده ولا عدمه.


وأما الصحة، فيراد بها في اللغة: ضد المرض، وفي الاصطلاح: ترتُّب آثار الفعل المقصودة منه عليه.


وأما الفساد والبطلان، فيراد بالأول في اللغة ضد الصلاح، وبالثاني ذَهاب الشيء هدرًا، وفي الاصطلاح: تخلُّف آثار الفعل المقصودة منه عنه، ويفرِّق الحنفية بين الفاسد والباطل، فالأول: ما شرع بأصله دون وصفه كالبيع الربوي، والثاني: ما ليس مشروعًا بأصله ولا بوصفه، كبيع حمل الناقة.


أوصاف العبادة المؤقتة: تتَّصف العبادة المؤقتة - سواء أكانت فرضًا أم نفلاً - بصفة من ثلاث صفات: الأولى: الأداء، وهو فعل العبادة في وقتها المعيَّن من غير اختلال فعل، والثانية: القضاء، وهو فعلها بعد فوات وقتها، بعد فعل مختل، كإعادة الصلاة لاختلال شرط من شرائطها، ويلاحظ أن الواجب غير المؤقت كالكفارات، لا يوصف إلا بالإعادة.


خامسًا: الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي: ثمة فروق جوهرية بين الحكم التكليفي والوضعي، نلخصها في الآتي:

1- الحكم التكليفي يوصف به فعل المكلف فقط، وأما الوضعي فلا يختلف باختلاف فاعله.

2- يشترط لثبوت الحكم التكليفي العلم، بخلاف الحكم الوضعي، فلا يشترط لثبوته العلم.

3- يشترط لثبوت الحكم التكليفي القدرة، بخلاف الحكم الوضعي.

4- الحكم التكليفي لا توصف به سوى أفعال المكلفين التي هي من كسبهم، بخلاف الحكم الوضعي، فيسري على أفعال المكلفين مطلقًا.


سادسًا: التكليف:

1- تعريفه: يراد به في اللغة الإلزام بما فيه كلفة ومشقة، ويعني في الاصطلاح: "الخطاب بأمر أو نهي"، وبناء على هذا التعريف تنقسم الأحكام التكليفية حقيقة إلى: واجب، ومندوب، ومحرَّم، ومكروه، ولا تدخل الإباحةُ ضمن الأحكام التكليفية، وقد أخرج بعضهم المكروهَ والمندوب من دائرة التكاليف؛ لأنه ليس فيها كلفة ومشقة.


وأركان التكليف ثلاثة: المكلِّف، والمكلَّف، والمكلَّف به، وزاد بعضهم الصيغة، فالمكلِّف هو الله تعالى، والمكلَّف هو العاقل البالغ، والمكلف به إما أن يكون فعلاً أو تركًا، وأما الصيغة فهي الأوامر والنواهي وما جرى مجراهما.


وأما شروط التكليف، فمنها ما يرجع إلى المكلف، وهي قسمان: عامة وخاصة، فالعامة هي البلوغ، والعقل وفهم الخطاب، والقدرة على التكليف، والاختيار، والعلم بالتكليف، وعلامات البلوغ هي: بلوغ خمس عشرة سنة، أو الاحتلام، أو نبات شعر العانة وخشونة الصوت، وهي مشتركة بين الرجل والمرأة، أو بالحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، وبالنسبة للمميز يدرب على العبادات، ولا يعد مكلفًا إلا بالبلوغ، وأما الشروط الخاصة فهي: الحرية والذكورة بالنسبة لبعض العبادات كالجمعة.


ويشترط في الفعل المكلف به أن يكون معلومًا، بأن تكون حقيقته معلومة، وأن يكون معدومًا حال التكليف، بأن يكون غير حاصل وقت الأمر بالنسبة للمأمور به، وأما ما نهى الشارع عنه فبالإمكان أن يكون معدومًا حال النهي عنه، وأن يكون ممكنًا؛ إذ لا تكليف بمستحيل، إلا المستحيل المتعلق بعلم الله الأزلي فيجوز التكليف به، كأن يكلف الله من علم أنه يموت على الكفر بالإيمان.


ومن الأدلة التي تدل على عدم التكليف بالمستحيل قوله - تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وعموم الأدلة التي تؤكِّد على رفْع الحرج في الدين، والتكليفُ بمستحيل حرجٌ عظيم، ومن الأدلة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتُكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم))؛ (متفق عليه)، ومحل الشاهد أنه علَّق التنفيذ على الاستطاعة، ومن الأدلة استقراء فروع الشريعة، فهو يؤكد على عدم التكليف بالمستحيل.


2- موانع التكليف: اعتاد الحنفية أن يذكروا موانع التكليف عند حديثهم عن الأهلية وعوارضها، وهم يقسمون الأهلية إلى أهلية وجوب، وأهلية أداء، فأهلية الوجوب: هي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، ويَكسِبها الإنسانُ بولادته، وتلازمه إلى موته، وقد يسمُّونها الذمَّة، ويكسبها الشخص المعنوي كذلك بنشأته، كالأوقاف والشركات.

ويقصد بأهلية الأداء صلاحية الإنسان للاعتداد بأقواله وأفعاله شرعًا، وشرطُها التمييز.


وأهلية الوجوب تنقسم إلى أهلية ناقصة تثبت للجنين وهو في بطن أمه، فتجب له الحقوق بشرط أن يولد حيًّا، كالإرث والوصية، وأهلية تامة تثبت للإنسان من ولادته إلى وفاته، ولا تفارقه لصغره أو جنونه.


وأما أهلية الأداء فتنقسم إلى أهلية أداء ناقصة، وتثبت للإنسان من سن التمييز إلى سن البلوغ، وتكون عباداته صحيحة، وتصرفاته منها ما هو نافع نفعًا محضًا، وهو صحيح نافذ، ومنها الضار ضررًا محضًا، كالتبرع، وهو باطل، ومنها ما يتردد بين النفع والضرر، وهو صحيح موقوف على الإجازة.



وأما أهلية الوجوب الكاملة، فتثبت بالبلوغ والعقل.


وأما موانع التكليف، فهي:

أ- الجنون: وهو زوال العقل، والعلماء متَّفقون على أنه يمنع التكليف؛ لحديث: ((رُفع القلم عن ثلاثة...)) ومنهم: ((المجنون حتى يفيق))؛ (رواه أحمد)، ورفع التكليف يقتضي عدم المؤاخذة على أقواله؛ إذ تعدُّ لَغوًا، وأما أفعاله فإن كانت عبادات، فهي لغو كذلك، وإن كانت مضرة بالغير، فلا يؤاخذ عليها في الآخرة، والضمان في ماله.


ب- النسيان: وهو الذهول عن الشيء بعد العلم به، وهو عذر يمنع العقابَ في الآخرة؛ لحديث: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان))؛ (رواه أحمد)، وأما بالنسبة للحدود والتعازير، فتسقط عنه إذا ثبت نسيانُه.


ج- الجهل: وهو ضد العلم، ممن يتصور منه العلم، وهو على أنواع أربعة: فجهل بالحق - تبارك وتعالى - فهذا لا يعذَر فيه أحد بعد علمه بإرسال الرسل، وجهلٌ بما علم من الدين ضرورة، كوجوب الصلاة، فلا يعذر فيه أحد ممن عاش بين المسلمين، وجهلٌ في موضع الاجتهاد، كالجهل بحرمة بعض أنواع البيوع، فهذا يسقط عن الجاهل ويلزمه استدراكه، إن أمكن الاستدراك من غير مشقة، وجهلٌ من حديث عهد بإسلام، أو ممن عاش في بلاد الكفر، فهذا يسقط المؤاخذة الأخروية، ويلزمه استدراكه.


د- النوم: وهو مانع من التكليف حال النوم؛ لحديث: ((رفع القلم عن ثلاثة...))، ومنهم: ((النائم حتى يستيقظ))؛ (رواه أحمد)، فلو صدر منه أقوال أو أفعال وهو نائم، فلا يعتد بها.


هـ- الإغماء: وهو مرض يصيب الإنسانَ ويعطل ما لديه من قوة إدراك، واختلف العلماء في العبادة التي مر وقتها وهو مغمى عليه: أيلزمه القضاء أم لا؟ ذهب الشافعي إلى أنه لا قضاء عليه، وفصَّل الحنفية؛ فإن كان الإغماء طويلاً يلحق بالمجنون، وإن كان قصيرًا فعليه القضاء، والصحيح الأول.


و- السكر: وهو حالة تحصل للإنسان ينقص فيها إدراكُه أو يزول بالكلية، وقد اختلف العلماء في عدِّه من موانع التكليف، فذهب البعض إلى أنه ليس مانعًا، وأن السكران مكلَّف؛ لقوله - تعالى -: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فالآية دليل على أنه أهلٌ للخطاب، وقالوا أيضًا: أزال عقله اختيارًا، فيعد مكلَّفًا؛ عقوبةً له، وذهب البعض إلى أنه غير مكلف، قياسًا على المجنون في عدم تعقل الخطاب، وذهب البعض إلى التفرقة بين أقواله وأفعاله، فيؤخذ بالأفعال دون الأقوال، فيؤاخذ على الزنا والإتلاف، ولا يحاسب على القذف والطلاق، ورجَّح المؤلف أن العبرة بالعقل، فإن ذهب عقله بالكلية فيمتنع التكليف في حقه، وإلا فلا، ولا يلزم من ذلك أن يعذر في حقوق الآدميين، ويعاقب عقوبة الصاحي إن كان ذلك باختياره.


ز- الإكراه: وهو حمل الإنسان غيرَه على فعل لا يفعله لو خلِّي ونفسه، وينقسم إلى إكراه ملجِئ، وإكراه غير ملجئ، فالملجئ عند الجمهور يكون فيه الشخص مجردَ آلة بيد غيره، كما لو ألقي على صبي فمات، وهذا يمنع التكليف، وغير الملجئ ما عدا ذلك، وأما الملجئ عند الحنفية، فما يكون فيه التهديد بالقتل أو بالضرب أو بالسجن، من قادرٍ على ذلك، وغير الملجئ ما كان التهديد فيه بأقل من ذلك، ولا يمنع التكليف عندهم، وما اعتبره الجمهور إكراهًا ملجئًا لم يعدَّه الحنفية إكراهًا، واعتبروا الفاعل فيه هو الملقي.


وقد اختلف العلماء في الإكراه بالتهديد بالقتل أو الضرب، فذهب الجمهور إلى أنه لا يمنع التكليف، وذهب جمهور المعتزلة إلى أنه يمنع التكليف، فإن فَعَلَ المكرَهُ ما يوافق الشرع فلا يثاب عليه، ولا يمنع التكليف إن فعل المكلفُ نقيض مراد الشرع، والإكراه إما أن يكون بحق، كالإكراه على بيع ماله لسداد الغرماء، فيصح وينفذ، وإكراه بغير حق، وهو إما أن يكون قولاً، كالعقود المالية بيعًا وإجارة، فلا تصح ولا تنعقد عند الجمهور، وذهب الحنفية إلى فسادها، وقد يكون القول عتقًا أو نكاحًا أو طلاقًا، فلا تقع من المكره عند الجمهور، وذهب الحنفية إلى وقوعها، وقد يكون القول محرَّمًا، كالنطق بالكفر، والإكراه مسقط لعقوبته إن اطمئن القلب بالإيمان.


وإما أن يكون الإكراه بغير الحق فعلاً، كأفعال الكفر، فحكمُه كالأقوال الكفرية، وقد يكون قتلاً للمعصوم أو جرحه، أو ارتكاب للزنا، والإكراه لا يبيح ذلك باتفاق، لكن يسقط حد الزنا؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.


الباب الثاني

أدلة الأحكام الشرعية

أولاً: تعريف الدليل: يقصد به في اللغة المرشد والهادي، ويعرِّفه الأصوليون بأنه: "ما يمكن بصحيح النظر فيه التوصلُ إلى مطلوب خبري"، فقولنا: "ما يمكن" وذلك حتى تدخل الأدلة التي لما يتنبه المجتهدون بعدُ إلى الاستدلال بها، ويراد بالنظر الفكر الموصل إلى العلم أو الظن، وخرج بقيد "صحيح النظر" النظرُ الفاسد، وهو المخالف للعقل السليم أو للفطرة المستقيمة، أو للغة أو للشرع، ويراد بالمطلوب الخبري حكم من الأحكام.


ثانيًا: أقسام الأدلة الشرعية: تنقسم من حيث العمل بها إلى أدلة متفق عليها، وهي الكتاب والسنة، وأدلة فيها خلاف ولكنه ضعيف، وهي الإجماع والقياس، وأدلة وقع فيها خلاف كبير، وهي قول الصحابي، والاستحسان، والاستصحاب، والاسترسال، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع.


وتنقسم من حيث طريقة التعرف عليها إلى أدلة نقلية، وأدلة عقلية؛ فالنقلية: الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول الصحابي، وشريعة من قبلنا، والعرف، وأما العقلية: فالقياس، والاسترسال، والاستصحاب، والاستصلاح، وسد الذرائع.


وتنقسم الأدلة من حيث قوتها في الدلالة إلى أدلة قطعية، وأدلة ظنية؛ فالأدلة العقلية هي: ما دلَّتْ على الحكم من غير احتمال لضده، كقوله - تعالى -: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، فدلالة الآية على عدد الأيام التي يجب صومها قطعية.


وأما الأدلة الظنية، فهي: ما دلت على الحكم مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحًا، كقوله - تعالى -: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، فالآية تدل على أن كلاًّ من المنِّ والأذى يؤدي إلى إبطال الصدقة، ولا يلتفت إلى ما يحتمله اللفظ من احتمال مرجوح، مضمونُه أن الصدقة لا تبطل إلا باجتماع الأمرين.


والأصل في الأدلة الشرعية الواردة بصيغ العموم أو الخصوص أن تحمل على العموم، ما لم يدل الدليل على خصوصيتها، وبناء عليه؛ فأدلة الكتاب والسنة التي وردت بصيغة العموم تحمل على العموم، والأدلة الخاصة التي وردت بصيغة الخصوص تحمل على العموم فيمن حالهم كحال تلك الحالة الخاصة، كحديث رجم ماعز، وهذا الأصل نستدل عليه من وجوه؛ الأول: عموم الشريعة الإسلامية، والثاني: واجب التأسي به - صلى الله عليه وسلم - والثالث: أن أدلة مشروعية القياس تدل على عموم الأدلة.


القسم الأول

الأدلة المتفق عليها

وهي أدلة متفق على حجيتها بين العلماء، ويختلفون في بعض التفصيلات اختلافاتٍ يسيرة، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ونتناولها في هذا القسم على التوالي:


الدليل الأول

الكتاب

أولاً: القراءة الصحيحة والقراءة الشاذة: نزل القرآن على سبعة أحرف، كما في الصحيحين، وهذه الأحرف التي نزل بها كلها أحرفٌ عربية، وجُمع في عهد عثمان على حرف واحد، والقراءات العشر كلها لا تخرج عن الحرف الذي دون به في هذا العهد.


ثم إن القراءات منها ما هو صحيح، ومنها ما هو باطل، ومنها ما هو شاذ؛ فالصحيحة ما كان سندها صحيحًا، وكانت موافقة للغة العربية ولو من وجه واحد، وموافقة لرسم مصحف عثمان، وأما القراءة الباطلة، فهي القراءة التي اختل فيها شرط من شروط القراءة الصحيحة، فلا يجوز القراءة بها ولا الاحتجاج، وأما القراءة الشاذة أو الآحادية، فهي ما كان سندها صحيحًا، ووافقت اللغة العربية ولو من وجه، وخالفت الرسم العثماني.


وقد اختلف العلماء في جواز القراءة الشاذة في الصلاة، فذهب الجمهور إلى المنع؛ لأنها ليست متواترة، وبالتالي ليستْ قرآنًا، وذهب البعض إلى الجواز، وصحة الصلاة بالقراءة الشاذة متى صحَّ سندها، ودلَّلوا على ذلك بأن ابن مسعود وأُبَيَّ بن كعب كانوا يقرؤون بها في الصلاة، وذهب المؤلِّف إلى أن رأي الجمهور أحوط؛ لاحتمال أن الصحابي كان يقولها تفسيرًا لا على أنها قرآن.


ثانيًا: حجية القراءة الشاذة: اختلف العلماء في حجيتها، فذهب البعض إلى أنها تعتبر حجة؛ وذلك لأنها نُقلتْ عنه - صلى الله عليه وسلم - بالسند الصحيح، فهي إما قرآن، وإما سنة، وفي كلتا الحالتين تعتبر حجة، وذهب الشافعي في المشهور عنه أنها ليستْ حجة، ودليله في ذلك أنها نقلت على أنها قرآن، وليس على أنها سنة، والقرآن من شروطه التواتر، وليست القراءةُ الشاذة متواترة، ويحتمل أن تكون تفسيرًا من الصحابي، وقول الصحابي ليس حجة عند الشافعي، والراجح القول الأول، وعلى احتمال أن تكون تفسيرًا من الصحابي، فتفسير الصحابي للقرآن حجة يلزم العمل بها.




الدليل الثاني

السنة

أولاً: تعريف السنة: ويراد بها في اللغة الطريقة، سواء كانت حسية أو معنوية، حسنة أو سيئة، ويعرِّفها الأصوليون بأنها: ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من قول غير القرآن، أو فعل، أو تقرير، ويضيف المحدِّثون على التعريف السابق الوصف خُلقيًّا كان أو خَلقيًّا، وإنما لم يذكرها الأصوليون؛ لأنها لا تعلق لها بالأحكام.


وللسنة إطلاقات أخرى؛ فهي تطلق على المندوب والمستحب، وتطلق في مقابل البدعة.


وأما أقسام السنة، فتنقسم من حيث الذات إلى سنة قوليَّة، وهي كلامه - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن، ومثالها: ((من كذَب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار))؛ (متفق عليه)، وسنةٍ فعلية، ومثالها ما نقل إلينا عن كيفية صلاته - صلى الله عليه وسلم - وسنةٍ تقريرية، وهي سكوته عن قول أو فعل علِم به أو حدث في حضرته، كإقراره لأكل الضب على مائدته (متفق عليه).


ثانيًا: الفرق بين السنة والخبر: سبق تعريف السنة، وأما الخبر فيراد به في اللغة: النبأ، ويعرفه الأصوليون بأنه: ما يحتمل الصدقَ والكذب لذاته، ومعنى "لذاته"؛ أي: بالنظر إلى ذاته دون النظر إلى المخبر.


وقد يطلق الخبر على ما ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - من غير القرآن، وما ينقل عن الصحابة وتابعيهم، وقد يسمى الأخير أثرًا لا خبرًا.


ويقسم الجمهور الخبرَ باعتبار رواته إلى متواتر وآحاد، ويضيف الحنفيَّة إلى هذا التقسيم المشهورَ؛ فأما المتواتر: فهو ما نقله جمع عن جمع إلى نهاية السند، بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، وهو نوعان: متواتر لفظي: اتفق الرواة على لفظه ومعناه، كحديث: ((من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار))؛ حيث رواه أكثر من ستين صحابيًّا، ومتواتر معنوي: اتفق الرواة على معناه دون لفظه، فحاز المعنى القطعَ دون اللفظ، كأحاديث مشروعية المسح على الخفين.


وأما الآحاد: فما رواه واحد أو أكثر، ولم يبلغوا حدَّ التواتر، وأغلب الأحاديث تندرج في هذا القسم.


وأما المشهور عند الحنفية: فهو آحاد تواتر في عصر التابعين أو تابعي التابعين، كحديث: ((إنما الأعمال بالنيات))؛ (متفق عليه).


ويقسم العلماء الخبر باعتبار الصحة إلى صحيح، وحسن، وضعيف؛ فأما الصحيح: فهو ما رواه عدلٌ تامُّ الضبط عن مثله إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - وكان خاليًا من الشذوذ والعلة القادحة، ويقصد بالعدل صاحب التقوى، الفاعل للمأمورات، المجتنب للمنهيات، المجتنب لمخلاَّت المروءة من الصغائر، ويراد بتمام الضبط حفظُه لما سمعه أو رآه وأداؤه كما هو، ويراد بالشذوذ مخالفة الراوي للثقات الأثبات، ويقصد بالعلة القادحة الوصف الخفي الذي يوجب ردَّ الحديث، ويمثِّل الحنفية للعلة القادحة بتفرُّد الراوي بحديثٍ فيه تشديد في أمر تعم به البلوى، كالوضوء من مسِّ الذكر، ومن أكل لحم الإبل.


وأما الحسن: فهو ما رواه عدل خفيف الضبط عن مثله إلى نهاية السند، من غير شذوذ ولا علة قادحة.


وأما الضعيف: فهو ما لم يكن صحيحًا ولا حسنًا.


ويشترط في الراوي أن يكون مسلمًا عند أداء الرواية؛ لوجوب التوقف في خبر الفاسق، فضلاً عن الكافر، وأن يكون بالغًا وقت أدائها؛ لارتفاع القلم عن الصبي، وأن يكون عدلاً ملازمًا للتقوى، تاركًا للكبائر كلها، وللصغائر المخلة بالمروءة، وأن يكون ضابطًا يحفظ ما يسمعه أو يراه، وقل أن يخطئ فيه.


ثالثًا: حجية السنة: ليس في حجية السنة الثابتة خلافٌ؛ وإنما خالف بعض أهل الكلام في حجية السنة الآحادية، فاشترطوا لحجيتها أن يرويَها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان فصاعدًا، وأن يرويها عن كل واحد منهما اثنان حتى تصل إلينا، ولا خلاف بين أئمة المذاهب المتبوعة في حجيتها، وقد استدلوا على ذلك بقوله - تعالى -: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122]، فإذا اشترطنا التواتر لما وجبتِ النذارةُ على هذه الطائفة، واستدلوا بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل عمَّالَه، وقضاته، وسُعاتَه آحادًا، فلو لم يكن خبر الآحاد معتبرًا، لما صح إرسالهم.


وأما أدلة أهل الكلام، فقاسوا الرواية على الشهادة، وهو قياس فاسد؛ للفارق بينهما، وذهب فريق إلى أنه لا حجية لخبر الآحاد بتاتًا، واستدلوا على ذلك بقوله - تعالى -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، قالوا: وغاية ما في خبر الآحاد الظن لا العلم، فلا يجوز اتباعُه، ويردُّ عليهم بأن العلم في الآية هو غلبة الظن، وقد غلب على الظن صدقُ خبر الواحد، وأجمع الصحابة عليه، واستدلوا بردِّ عائشة لخبر عمرَ وابنِه في تعذيب الميت ببكاء أهله، ويرد على هذا بأن الرد لم يكن لأنه خبر آحاد، ولكن لمعارضة الخبر ما هو أقوى منه.


رابعًا: منزلة السنة من القرآن: قد تكون السنة مبيِّنة للقرآن، بتبيين مجمله، كالسُّنة المبينة لكيفية الصلاة، وقد تكون السنة مؤكِّدة لما فيه من دون زيادة، كحديث: ((اتقوا الله في النساء))، فهو مؤكِّد لقوله - تعالى -: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقد تكون السنة زائدة على ما في القرآن، وأنكرها بعضهم، كحديث: ((اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة)).


خامسًا: شروط الحنفية لقبول خبر الواحد: يشترط الحنفية - خلافًا للجمهور - لقَبول خبر الواحد ألاَّ يكون الخبر فيما تعم به البلوى؛ إذ يشترط فيها العدد، وألاَّ يخالف الخبر الأصولَ الثابتة، وأن يكون الراوي فقيهًا، وألاَّ يعمل بخلاف روايته.


الدليل الثالث

الإجماع

أولاً: تعريفه: يراد به في اللغة العزم الأكيد، ويعرفه الأصوليون بأنه: اتِّفاق جميع المجتهدين من أمَّته - صلى الله عليه وسلم - في عصر من العصور بعد وفاته على حكمٍ شرعي.


ثانيًا: إمكانية وقوعه: للعلماء في هذه القضية ثلاثة مذاهب؛ حيث ذهب الجمهور إلى جواز وقوعه مطلقًا، سواء في عصر الصحابة أو فيما بعدهم، ودليلهم على ذلك أن الإجماع ليس محالاً في ذاته، وأنه لا يشترط فيه التلفظ؛ بل يكتفَى من بعضهم بالسكوت، وهذا غير ممتنع، ومثَّلوا لذلك بإجماع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جمْع القرآن في مصحف واحد.


وذهب آخرون إلى عدم إمكان وقوعه، ودليلهم في ذلك أن بلاد المسلمين متَّسعة الأطراف، وعلماء المسلمين متباعدو الأمصار، وهم مختلفون في المدارك والطبائع، والعادة تؤكِّد امتناع إجماعهم.


وذهب بعض العلماء إلى التفصيل؛ فقالوا بجواز وقوعه في عصر الصحابة دون بقية العصور، وأخذوا بحجج الفريقين.


وذهب الجويني إلى جواز تصوُّره في الكليات لا في الفرعيات، ويرجِّح المؤلف جواز وقوع الإجماع في العصر الحاضر؛ لتوافر وسائل الاتصال الحديثة.


ثالثًا: أنواعه: ينقسم الإجماع من حيث التصريح بالحكم إلى إجماع صريح، يصرِّح فيه أهلُ الإجماع بالحكم، وهو نادر الوجود، وإجماعٍ سكوتي، يصرح فيه بعضُ المجتهدين بالحكم، ويشتهر قوله، فيسكت الباقون، وإجماعٍ ضمني، ويستنتج من اختلاف المجتهدين من أهل العصر على قولين أو أكثر، فيدل ذلك على اتفاقهم أن ما عدا تلك الأقوالَ باطلٌ.


وينقسم الإجماع من حيث قوة دلالته إلى إجماع قطعي، وإجماع ظني؛ فالأول يصرح فيه أهل الاجتهاد بالحكم، وينقل اتفاقهم إلينا بطريق التواتر، وأما الثاني فهو ما اختلَّ فيه شرط من هذين الشرطين.


رابعًا: حجيته: ذهب جمهور العلماء إلى حجية الإجماع مطلقًا، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها: قوله - تعالى -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فقد توعَّد الله من اتَّبع غير سبيل المؤمنين بالنار، والتوعُّد لا يكون إلا على شيء محرَّم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يجمع هذه الأمَّةَ على ضلالة أبدًا، وإن يد الله مع الجماعة، فاتَّبعوا السواد الأعظم؛ فإنه من شذَّ شذ في النار))؛ (أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه والطبراني بألفاظ مختلفة، وهو مشهور المتن، وله شواهد كثيرة).


وذهب بعض العلماء كالظاهرية ورواية عن أحمد، إلى أن الحجة في إجماع الصحابة دون غيرهم، ودليلهم عدم إمكان الإجماع بعد عصر الصحابة، وذهب بعض العلماء إلى عدم حجية الإجماع مطلقًا؛ لعدم تصوُّر وقوعه، ولو تصور لما أمكن نقلُه بطريق صحيح.


خامسًا: حجية الإجماع السكوتي: ذهب الجمهور إلى حجيته، وخالفهم الإمام الشافعي، ودليله القاعدة الفقهية: "لا ينسب إلى ساكت قول"، فقد يسكت المجتهد خوفًا، أو لكونه لم ينظر في المسألة.


ويرجح المؤلف قول الجمهور، ويرى أنه حجة، ولكنها حجة ظنية، وردَّ على دليل الشافعي بأن السكوت في معرِض الحاجة بيان.


سادسًا: أهل الإجماع: وهم العلماء المجتهدون، فلا ينعقد الإجماع إلا باتفاق علماء العصر المجتهدين جميعًا وقتَ النظر في النازلة المنظورة أمامهم، وقد اشترط بعض العلماء لتحقُّق الإجماع أن يبقى كل واحد منهم على الرأي المتفق عليه إلى موته، والراجح خلافه؛ لحديث: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة))، فإذا وقع الإجماع فلا بد أن يكون صوابًا.


سابعًا: الإجماعات الخاصة وحجيتها: يقصد بها إجماع طائفة معينة من العلماء، كإجماع أهل البيت حيث يحتج به الرافضة، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع أبي بكر وعمر، وإجماع أهل المدينة، وإجماع أهل البصرة.


والراجح عنه الجمهور أنه لا حجية لهذه الإجماعات؛ لأن أدلة حجية الإجماع تصرف إلى إجماع علماء الأمة لا غيرهم، وأشهر خلاف حدث هو في إجماع أهل المدينة، وإليك البيان.


ثامنًا: عمل أهل المدينة وحجيته: ويقصد به عملهم في ثلاثة عصور: هي عصر الصحابة، وعصر التابعين، وعصر تابعي التابعين فحسب، وقد جعله القاضي عبدالوهَّاب المالكي على قسمين: نقلي واستدلالي؛ فالنقلي ما نقلوه من المقادير كالصاع والمد، وما نقلوه من الأوقات كأوقات الأذان والصلوات، وهي حجة عند الجمهور، وذهب القرطبي إلى عدم جواز الخلاف فيه.


وأما الاستدلالي، فهو ما ذهبوا إليه عن طريق الاجتهاد، وفيه خلاف بين المالكية أنفسهم، وبينهم وبين وغيرهم؛ فقد ذهب المالكية فيه إلى ثلاثة مذاهب: فريق يرى أنه ليس عملهم حجة ولا مرجحًا، وفريق يرى أنه مع غيره مرجح عند التعارض، وفريق يقول بحجيته، ودليلهم في ذلك أن الإمام مالكًا كان أحيانًا يترك العمل بالخبر؛ لأنه ليس عليه عمل أهل المدينة، ولعل أظهر ما يستدل به لقول القائلين بالحجية أن المدينة ضمَّتْ صحابتَه - صلى الله عليه وسلم - وأبناءهم وأبناء أبنائهم، وهم مقتدون به - صلى الله عليه وسلم - فما فعلوه وما تركوه لا يكون إلا بحجة.


ودليل الجمهور أن أحاديث الإجماع عامة، ولا تخص عمل أهل المدينة.


وأخيرًا:

بقي أن نشير إلى بعض المسائل الهامة في باب الإجماع، وهي أنه إذا اختلف علماء العصر الواحد في مسألة من المسائل، ثم رجع بعضهم عن قوله، واتفقوا، فالراجح عند الجمهور أنه إجماع، وفيما إذا اختلف أهل العصر الأول في مسألة على قولين، ثم جاء العصر الثاني، فاتفق العلماء فيه على قول واحد، فهل يعد إجماعًا؟ والراجح أنه لا يعد كذلك، وإذا خالف عالم أو عالمان لرأي من الآراء فلا يعد إجماعًا.


ومخالف الإجماع يكفِّره العلماء ويقولون بفسقه، وهذا إنما يحمل على الإجماع الصريح الذي نقل إلينا بالتواتر، وعلى سبيل القطع.


الدليل الرابع

القياس

أولاً: تعريفه: يراد به في اللغة التقدير، ويعرفه الأصوليون بأنه: "إلحاق فرع بأصل في الحكم الشرعي الثابت له؛ لاشتراكهما في علة الحكم"، فالفرع هو المقيس، والأصل هو المقيس عليه، والعلة هي المعنى الذي ثبت لأجلها حكم الفرع موافقًا للأصل، والحكم الشرعي هو الوجوب أو الندب، أو التحريم أو الكراهة، فإذا قلنا: النبيذ محرَّم قياسًا على الخمر للإسكار، فالفرع هو النبيذ، والأصل هو الخمر، والعلة هي الإسكار، والحكم هو التحريم لكليهما.


ثانيًا: أركانه: يتَّضح مما سبق أن أركانه أربعة، وهي: الفرع، والأصل، والعلة، والحكم.


وتعرف العلة في اللغة بالمرض، ويعرفها الأصوليون بأنها: "وصف ظاهر منضبط، دلَّ الدليل على كونه مناطًا للحكم"، وعليه فالوصف الخفي أو غير المنضبط لا يندرج في العلة.


وإذا كان العلماء يتَّفقون في تعريفهم للعلة، إلا أنهم يختلفون في أثرها في الحكم؛ فيذهب المعتزلة إلى أن العلة مثبتة للحكم بذاتها، ويذهب الأشاعرة إلى أن العلة مجرد علامة على الحكم، وليست سببًا له، ويذهب قول ثالث إلى أن العلة ليست مؤثِّرة بذاتها؛ بل هي سبب جعله الله - تعالى - مؤثرًا في الحكم، وهذا القول أليق بمذهب السلف.


ثالثًا: شروطه: وهي شروط لا بد من توافرها في أركان القياس، فيشترط في الأصل أن يكون له حكم شرعي ثابت، ويشترط في الفرع أن يكون حكمه غيرَ منصوص عليه، وأن تكون علة حكم الأصل موجودةً فيه، ويشترط في الحكم أن يكون حكمًا شرعيًّا عمليًّا، وأن يكون باقيًا غير منسوخ، وأن يكون ثابتًا بنص أو إجماع، أو اتفاق بين المتناظرين، وأن يكون حكم الأصل معقولَ المعنى (العلة)، ويشترط في العلة أن تكون وصفًا ظاهرًا، وأن تكون منضبطة، وأن تكون متعدية، وأن تكون ثابتة على سبيل القطع أو الظن، وأن تكون مطَّردة.


طرق معرفة العلة: وتعرف العلة إما بالنص عليها، سواء أكان النص صريحًا أم غير صريح، كحديث: ((إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر))؛ (متفق عليه)، ومثال النص غير الصريح حديث: ((إنها ليستْ بنجس؛ إنها من الطوافين عليكم والطوافات))؛ (أخرجه الخمسة)، فعلَّة عدم النجاسة صعوبة الاحتراز؛ لقوله: ((إنها من الطوافين عليكم))، ولكنها علة غير صريحة.


وإما بالإجماع، كالإجماع على أن الصغر علة للولاية على مال اليتيم.


وإما أن تعرف العلة بالإيماء، من لازم النص، كترتيب الحكم على الوصف بالفاء، كما في حديث: ((من أحيا أرضًا ميتة، فهي له))، أو أن يأتي الحكم جوابًا عن سؤال، كما في حديث الذي واقع أهله وهو صائم في نهار رمضان، حيث سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أهلكك؟))، قال: "وقعت على أهلي وأنا صائم"، أو أن يعلق الشارع الحكم على الوصف، كحديث بيع الرطب بالتمر، حيث سئل - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر، فقال: ((أينقص الرطب إذا جف؟))، قالوا: نعم، قال: ((فلا إذًا))؛ (أخرجه أصحاب السنن)، فعلة التحريم النقصان.


وإما أن تعرف العلة بالمناسبة والإخالة، بأن يغلب على الظن ملاءمة الوصف - الذي جُعل علةً للحكم - الحكم الثابت في الأصل.


وإما أن تعرف العلة بالدوران، ونعني به ثبوت حكم الأصل للفرع عند وجود الوصف، وانتفاءه عند عدمه.

وإما أن تعرف العلة بالسبر والتقسيم، ونعني به حصر جميع الأوصاف التي يصلح أن تكون علة للحكم في الأصل، ثم إسقاطها جميعًا عدا علة واحدة، ويشترط لصحة هذا المسلك أن يكون التقسيم حاصرًا، وأن يكون إبطال ما عدا علة الحكم بدليل، وأن يكون تعليل الحكم متفقًا عليه بين الخصمين.


رابعًا: أقسامه: ينقسم القياس من حيث ذكر العلة إلى: قياس في معنى الأصل، فلا يحتاج إلى ذِكر وصفٍ يجمع بين الأصل والفرع؛ لعدم الفرق المؤثِّر بينهما، كقياس العبد على الأمَة في تنصيف حد الزنا، وقياسِ علة، يحتاج إلى ذكر علة الحكم المشتركة بين الفرع والأصل، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار، وقياسِ الدلالة، فيحتاج إلى دليل العلة التي تجمع بين الأصل والفرع، كقياس طلاق العبد على طلاق الحر، ودليل العلة قولهم: صح طلاقه، فيصح ظهاره.

وينقسم من حيث مناسبة العلة للحكم إلى: قياس العلة (المعنى)، وفيه تكون مناسبة العلة للحكم ظاهرة، كما في قياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار، فإن العلة - وهي الإسكار - مناسبة للتحريم، وقياس الشبه، وفيه يكون الفرع مترددًا بين أصلين، فيقاس على أكثر الأصلين شبهًا به؛ لأنه يوهم المشابهة، كقياس المذي على البول لا على المني؛ وذلك لأنه أكثر شبهًا بالبول، فلا يتكون منه الولد.


والشبه نوعان:

شبه حسي، كقياس الخف - وهو عضو ممسوح - على الرأس، وهو ممسوح كذلك، فلا يسن تثليث المسح على الخف، وشبه معنوي، كقياس الجلوس في التشهد الأول، عليه في التشهد الأخير.


وقياس الطرد، وهو قياس فاسد عند الجمهور؛ إذ تكون العلة الجامعة بين الفرع والأصل مقطوعًا بعدم مناسبتها، ولم يلتفت الشارع إليها، ويعده الحنفية قياسًا صحيحًا، كقولهم عن الذَّكر: طويل مشقوق يشبه البوق، فلا ينتقض الوضوء بلمسه، مع أن العلة التي ذكروها، وهي كونه طويلاً مشقوقًا، لا يرتب عليها الشارع حكمًا.


خامسًا: حجيته: هو حجة عند الجمهور، ويستدلون على حجيته بأدلة، منها: قوله - تعالى -: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، ومحل الشاهد فيها أن الله أمرَنا أن نعتبر بحال الكفار، والاعتبار لن يكون إلا إذا قسْنا حالنا بحالهم.


ومنها حديث الأعرابي الذي أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي ولدتْ غلامًا أسودَ، فقال له رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((هل لك من إبل؟))، قال: نعم، قال: ((فما ألوانها؟))، قال: حُمر، قال: ((فهل فيها مِن أوْرَق؟))، قال: إن فيها لوُرْقًا، قال: ((فأنى ترى ذلك جاءها؟))، فقال الرجل: لعل عرقًا نزعه، فقال - عليه السلام -: ((وهذا لعل عرقًا نزعه))؛ (متفق عليه)، ومحل الشاهد أنه - صلى الله عليه وسلم - استخدم القياس، ومن أدلتهم فعل الصحابة؛ فقد كانوا يقيسون.


وخالف الجمهورَ في هذه المسألةِ الظاهريةُ، وبعض المعتزلة، وبعض الرافضة.


سادسًا: التعليل بالحكمة: يقصد بالحكمة ما أراده الشارع حين شرع الحكم من تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة، مثال الحكمة: ما يقوله العلماء: إن الحكمة من العدة الاستبراء؛ حتى لا تختلط الأنساب.


وقد اختلف الأصوليون في حكم التعليل بالحكمة، وأشهر ما ذهبوا إليه ثلاثة أقوال: الأول: يرى عدم جواز التعليل بالحكمة؛ لعدم إمكان ضبطها، ومرادهم عدم الجواز في باب القياس، والثاني: يرى أصحابه جواز التعليل بالحكمة مطلقًا، وجواز بناء القياس عليها، والثالث: يرى أصحابه جواز التعليل بالحكمة المنضبطة لا غير، وهي قد تنضبط بنص أو إجماع أو بغيرها من الأدلة المثبتة للعلة.


وعلماء الأصول حين يطلقون لفظ الانضباط، ولفظ الحكمة المنضبطة، يَعنُون بالانضباط علةَ الحكم، فعلة القصاص القتلُ عمدًا عدوانًا، ويعنون بالحكمة المنضبطة المعنى الذي يقوم بذهن الفقيه، ويفهمه من النصوص، مثال ذلك قولهم: الحكمة من القصاص حفظ الأنفس؛ لأن القاتل إن علِم أنه سيُقتَل يحجم عن القتل.


ومن الفروق بين العلة والحكمة أن العلة يدور الحكمُ معها وجودًا وعدمًا، ولا يلزم من تعدُّد العلل انعدام الحكم عند انعدام بعضها؛ بل يقوم الحكم ولو وجدت إحدى عِلله، بخلاف الحكمة، فلا يتعلق الحكم بها دائمًا؛ وعليه فليس كل قتل يؤدي إلى حفظ الأنفس فيما يغلب على الظن يكون مشروعًا.



وقد تكون الحكمة مضبوطة من الشارع بضابط عام أو خاص، وحينها يصح التعليل بها.


القسم الثاني

الأدلة المختلف فيها

وهي أدلة مختلف في حجيتها بين العلماء، وتشمل: قول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستحسان، والاستصحاب، والاستصلاح، وسد الذرائع، ونتناولها تباعًا:

الدليل الأول: قول الصحابي: الصحابي عند الأصوليين: هو مَن صحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به مدة تكفي عرفًا لوصفه بالصحبة، ومات على الإسلام، ويراد بقول الصحابي مذهبه قولاً أو فعلاً غير منسوب إليه - صلى الله عليه وسلم.


وينقسم قوله إلى أقسام أربعة، هي:

أولاً: قول الصحابي فيما لا مجال فيه للرأي، كالعبادات والتقديرات، فهو حجة عند المذاهب الأربعة؛ لأن أغلب الظن أنه سمعه منه - صلى الله عليه وسلم - ومثاله: قضاء الصحابة فيمن قتل نعامة وهو مُحرِم بأن عليه بدَنَة.

ثانيًا: قول الصحابي إذا اشتهر وليس له مخالف (الإجماع السكوتي)، مثاله قضاء عمر فيمن طلَّق زوجته ثلاثًا بلفظ واحد أنها تقع ثلاثًا.

ثالثًا: قول الصحابي إذا خالفه فيه غيرُه من الصحابة، فلا يعتبر حجة.

رابعًا: قول الصحابي في مسائل الرأي والاجتهاد، وقد اختلف الأصوليون في حجيته؛ فذهب بعض العلماء إلى حجيته، واستدلوا بأدلة، منها: حديث: ((خيرُ الناس قرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))؛ (متفق عليه)، فهو يقتضي أن اجتهاده أولى من اجتهاد غيرهم، وأن قوله إذا لم يكن له مخالف يحتمل أن يكون مرويًّا عنه - صلى الله عليه وسلم - ثم هم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله.



وذهب بعض العلماء إلى عدم حجية قول الصحابي، ومنهم الشافعي، وقد استدلوا على ذلك بأدلة، منها: أن الصحابي غير معصوم من الخطأ، وأنه قد نقل عن التابعين مخالفة قول الصحابي، فلو كان حجة لَما وسعهم مخالفته.

ويرجح المؤلف عدم الحجية، إلا إذا اشتهر كلام الصحابي بينهم، ولم يخالفه أحد.


الدليل الثاني: شرع من قبلنا: يقصد بشرع من قبلنا ما ورد بطريق صحيح من الفروع في الشرائع السابقة لشريعته - صلى الله عليه وسلم - ذلك أن أصول الشرائع متَّفقة، ولا خلاف فيها، والطريق الصحيح هو القرآن الكريم والسنة الصحيحة.

وشرع من قبلنا أقسام؛ فقسم ورد في شريعتنا ما يبطله، فهو ليس حجة، ولا خلاف في ذلك، وقسم ورد في شرعنا ما يؤيِّده، وهذا لا خلاف في حجيته، كالصيام، وقسم لم يرد في شرعنا ما يؤيده، ولا ما ينسخه، وهو محل الخلاف؛ فذهب الجمهور إلى حجيته، وأنه يعتبر شرعًا لنا، ومثاله قسمة الماء مهايأة، كقوله - تعالى - لصالح - عليه السلام -: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28]، وذهب الشافعية إلى أنه ليس بحجة.


وقد احتج الجمهور على حجية شرع من قبلنا بأدلة، منها: قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقوله - تعالى -: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، ومحل الشاهد أن أمره - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم أمرٌ لجميع الأمَّة، وقوله - تعالى -: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13]، ومحل الشاهد أن الله بيَّن أنه شرَع لنبيِّه ما شرَعه لنوح، فيكون شرْعه شرعًا لنا.


ومن أمثلة الاستدلال بشرع من قبلنا قول الفقهاء: إن الراعي إذا ذبح الغنمة المشرفة على الهلاك، لا ضمان عليه، ودليلهم قصة الخضر؛ حيث لم يضمن حين خرق السفينة المشرفة على الغصب.


الدليل الثالث: الاستحسان: يعرِّفه الحنفية بأنه: ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس، ويقسمونه إلى استحسان سندُه النصُّ، واستحسان سنده الإجماع، واستحسان سنده القياس الخفي، واستحسان سنده الضرورة، واستحسان سنده المصلحة، واستحسان سنده العرف.


ويعني الأول: ترك الحكم الذي دلَّ عليه دليل عام أو قياس، والعمل بما يدل عليه دليل خاص، مثاله بيع المعدوم، فقد دل الدليل العام على منعه، ودل القياس على ذلك أيضًا، ولكن ورد دليل يبيح السَّلَم، فهو جائز عندهم استحسانًا، ولكنه في الحقيقة عمل بالنص.


ويعني الثاني: ترك الحكم الذي دل عليه القياسُ أو النص العام، وذلك للإجماع، كالإجماع على جواز عقد الاستصناع.

واستحسان سنده الضرورة، كالحكم بطهارة الأحواض بصب الماء فيها.


ومثال الرابع: الحكم بأن سؤر الصقر طاهر، ومثال الخامس: تضمين الأجير المشترك، ومثال السادس: من حلف لا يأكل اللحم، لا يحنث إذا أكل السمك استحسانًا؛ لأن السمك لا يسمى لحمًا في العرف.


وأما حكم العمل بالاستحسان، فقد ذهب الجمهور إلى حجية العمل به، ونقل عن الشافعي إنكاره، وأنه قال: من استحسن فقد شرَّع، ويحمل كلامه على الاستحسان المبنيِّ على الهوى.


الدليل الرابع: الاستصحاب: يراد به في اللغة طلب الصحبة، ويعرفه الأصوليون بأنه: الحكم بثبوت حكم في الزمن الثاني؛ لثبوته في الزمن الأول.


مثاله: إذا تيقن المتوضئ أنه على طهارة، ثم جاءه شكٌّ بعد ذلك في طهارته، فيستصحب الحكم الأول، وهو الطهارة، إلى أن يثبت زوالها.


وأما أقسام الاستصحاب، فهي: استصحاب للبراءة الأصلية، وتعني خلو الذمة من التكاليف الشرعية والحقوق المالية، كالحكم ببراءة الذمة من الدَّيْن، كالحكم بعدم فرضية صوم شعبان، واستصحاب الحكم الذي دل عليه الدليل، إلى أن يثبت زواله، كالحكم ببقاء الزوجية بناء على العقد إلى أن يثبت الطلاق، واستصحاب الدليل مع احتمال ما يعارضه، كالحكم ببقاء العام على عمومه حتى يَرِدَ ما يخصِّصه، وهذا عمل بالنص وليس استصحابًا، واستصحاب الحكم الثابت بالإجماع حتى يرد دليل بخلافه، كاستصحاب صحة الصلاة بالتيمم إذا وجد الماء في أثنائها عملاً بالإجماع.


وأما حكم العمل به، فذهب الجمهور إلى حجية الأنواع الثلاثة للاستصحاب، وذهب الحنفية إلى أن الاستصحاب يصلح حجة للدفْع، لا للإثبات، فيظل حكم ما كان على ما كان إلى أن يثبت خلافه.


وقد استدل الجمهور على الحجية بأدلة، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم - فيمن شكَّ في الحدث: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا))؛ (متفق عليه)، ومحل الشاهد استصحابه - صلى الله عليه وسلم - للأصل.


وحديث قضائه - صلى الله عليه وسلم - باليمين على المدعى عليه (متفق عليه)، ومحل الشاهد أنه اعتبر أن الأصل براءة ذمة المدعى عليه.


واستدلوا كذلك بإجماع الصحابة على العمل بالظاهر.


وأما النوع الأخير من الاستصحاب، فالعلماء المحققون على أنه ليس بحجة.


وقد بنى الفقهاء قواعدَ على الاستصحاب، منها: اليقين لا يزول بالشك، الأصل بقاء ما كان على ما كان، والأصل براءة الذمة، والأصل في الصفات العارضة العدم، والأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، وغيرها من القواعد الفقهية.


الدليل الخامس: الاستصلاح: يراد به في اللغة العمل على إصلاح شيءٍ ما، ويعرف في الاصطلاح بأنه: بناء الحكم على المصلحة المرسلة، والمصلحة هي المنفعة.


أما أقسام المصلحة من حيث اعتبارها شرعًا، فتنقسم إلى أقسام ثلاثة: الأولى: مصلحة ملغاة، وهي التي ورد الشرع بإلغائها؛ لما يترتب عليها من المفاسد، كالزنا، فرغم ما فيه من اللَّذة إلا أنه يفضي إلى مفاسدَ كبيرةٍ، والثانية: مصلحة اعتبرها الشارع بعينها، وراعاها في أصل معيَّن بالإمكان القياس عليه، وهي المصلحة التي تحتوي العلة في القياس، كمصلحة حفظ العقل، التي تحوي علة تحريم الخمر، فيقاس عليه كل ما يذهب العقل، والثالثة: مصلحة اعتبر الشارع جنسها، وليس هناك أصل معيَّن يشهد لعينها، كالمصلحة المترتبة على جمع القرآن في مصحف واحد، ويسمى هذا القسم بالمصالح المرسلة.


وأما عن حكم العمل بها، فقد ذهب الجمهور إلى أنها حجة، ويعمل بها في إثبات الأحكام الشرعية، ونقل عن الإمام الشافعي أنه أنكر العمل بها إذا لم ينتظم منها قياس صحيح، وذهب الطوفي إلى أن المصلحة الضرورية تقدَّم على النص، ولا نجد لهذا أمثلة تطبيقية.


ومما يستدل به على حجية المصالح المرسلة عملُ الصحابة بها، فقد جمعوا المصحف، وقتلوا الجماعة بالواحد، وعموم الأدلة الدالة على أن الشريعة جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد.


وأما شروط العمل بالمصلحة المرسلة، فهي: أن تكون المصلحة حقيقية غير متوهَّمة، وألا تعارض نصًّا في الكتاب أو السنة، أو إجماعًا صحيحًا، وألا تعارض مصلحةً تساويها أو أعظم منها، وأن تكون فيما فيه الاجتهاد، بحيث لا تعارض ما فيه التوقيف.

ومن أمثلة العمل بالمصالح المرسلة: ضرب العملات النقدية، ووضع إشارات المرور، وتسجيل العقود.


الدليل السادس: سد الذرائع: يراد بالذرائع الوسائل المؤدِّية إلى الشيء، يقصد بسد الذرائع: منْع الوسائل التي تؤدي إلى المفاسد، سواء أكانت أقوالاً أم أفعالاً.


وتنقسم الوسائل إلى أربعة أقسام:

الأول: وسيلة تؤدي إلى الفساد قطعًا، كشرب الخمر، حيث يفضي إلى ذهاب العقل والمال، والزنا وغيره من المفاسد.

والثاني: وسيلة تؤدي إلى الفساد بقصد مع أن أصلها مباح، كعقد النكاح من أجل التحليل للزوج المطلق.

والثالث: وسيلة تؤدي إلى الفساد غالبًا من غير قصد، مع أن أصلها مباح، ومفسدتها أكبر، كسبِّ آلهة المشركين، المؤدي إلى سبِّ الله تعالى.

والرابع: وسيلة قد تفضي إلى المفسدة مع أن أصلها مباح، ولكن مصلحتها أكبر من مفسدتها، كالنظر إلى المخطوبة.


فالقسم الأول ممنوع، ولا خلاف في ذلك، والقسم الأخير مشروع، ولا خلاف في ذلك؛ وإنما وقع النزاع في القسمين الأخيرين؛ فذهب المالكية والحنابلة ومن معهم إلى أن سدَّ الذرائع دليل شرعي، تؤسَّس عليه الأحكام، فمتى أدى القول أو الفعل إلى مفسدة راجحة أو قصد به ذلك، أو أدى إلى المفسدة باعتبار غلبة الظن، وجب منعُه، وذهب الشافعية والحنفية ومن معهم إلى عدم حجية هذا الدليل، فالمفسدة ما ورد بمنعها نص أو إجماع أو قياس.


وذهب المؤلف إلى القول بحجية سد الذرائع، وساق على ذلك أدلة، منها: قوله - تعالى -: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، والآية ظاهرة في سد الذريعة، وقوله - تعالى -: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، محل الشاهد أنه نهى المؤمنين عن قول "راعنا"؛ للتوصل إلى سد ذريعة التشبه باليهود، وحديث: ((هدايا الأمراء العمال غلول))؛ (رواه أحمد)، وإنما نهي الأمير عن ذلك؛ سدًّا لذريعة الميل والإجحاف بالآخرين.


الباب الثالث

دلالة الألفاظ

يهتم علماء الأصول اهتمامًا بالغًا بدلالات الألفاظ؛ وذلك لأن أحكام الشرع إنما تستفاد من الألفاظ، إما عن طريق الدلالة المباشرة، أو عن طريق الإشارة والإيماء.


ويتناول العلماء في هذا القسم: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والنص والظاهر، والمجمل والمبين، ونحن سنتناولها في الفصول التالية.


الفصل الأول

الأمر والنهي

يعد الأمر والنهي أساس التكليف؛ وذلك لأنه لا تكليف دون أمرٍ صريح، أو نهي صريح، أو ما يقوم مقامهما؛ ولذا اهتم العلماء بدراسة الأمر والنهي، ونحن سنتناولهما في مبحثين تباعًا.


المبحث الأول: الأمر:

أولاً: تعريفه: يعرفه الأصوليون بأنه: طلب الفعل قولاً على جهة الاستعلاء، فخرج بقولهم: "طلب الفعل" طلبُ الترك؛ إذ يسمى نهيًا، وخرج بقولهم: "قولاً" الإشارة والكتابة، فلا تسمى نهيًا، وخالف في ذلك بعض الأصوليين، وقولهم: "على جهة الاستعلاء" يدل على أن الأمر لا يشترط فيه أن يكون من الأعلى إلى الأدنى؛ بل يكفي الاستعلاء، ولو صدر من الأدنى إلى الأعلى، وذهب البعض إلى اشتراط الأمرين معًا في الأمر، ومنهم من لم يشترط الأمرين، والصواب أن الأمر الذي يصلح للتشريع يشترط فيه أن يكون من الأعلى إلى الأدنى.


ويناقش الأصوليون: اشتراط الإرادة في الأمر، ويتفق الأصوليون على أنه يشترط في الأمر أن يقصد المتكلِّم الصيغة، فالأمر الصادر من النائم لا يسمى أمرًا، ويختلفون في اشتراط قصد الآمر فعل المأمور به، فاشترط المعتزلة ذلك لتسميته أمرًا، وخالفهم الأشعرية، حيث لا يعدُّونه شرطًا في الأمر.


ثانيًا: صيغه: للأمر صيغ تدل عليه، من غير حاجة إلى قرينة تكلم، وهذه الصيغ هي: الأمر، كحديث: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، والمضارع المقترن باللام، كقوله - تعالى -: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، والمصدر المشتق من الأمر، كقوله - تعالى -: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، واسم فعل الأمر، كـ"صه"، وهناك أساليب أخرى لم ينشغل الأصوليون بحصرها.



ثالثًا: مقتضياته:

1- دلالة الأمر على الوجوب: ذهب الجمهور إلى أن الأمر الخالي عن القرائن الدالة على الوجوب يُحمَل على الوجوب، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: قول الله - تعالى -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقوله - تعالى - على لسان موسى يخاطب هارون: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]، حيث جعل في الآيتين مخالفة الأمر معصيةً، وعموم الأدلة التي تدل على أن الأمر للوجوب، ومنها إجماع الصحابة على ذلك.

وذهب البعض إلى أن الأمر مشترك بين الوجوب والندب، ودليلهم أن ألفاظ الأمر منها ما حمل على الوجوب، ومنها ما حمل على الندب.


2- دلالة الأمر على الفورية: ذهب الجمهور إلى أن الأمر الخالي عن القرائن الدالة على الفورية أو التراخي، يحمل على الفورية، واستدلوا بأدلة، منها: قول الله - تعالى -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، وقوله - تعالى -: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48] ومحل الشاهد أنه أمر في الآيتين بالمسارعة إلى الخيرات.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يحمل على القدر المشترك بين الفورية والتراخي، ولا تعرض فيه لوقت الفعل، واستدلوا بأدلة، منها: أن الأمر يَرِدُ للفور أحيانًا وللتراخي أحيانًا، فيحمل على القدر المشترك بينهما.


ويرجح المؤلف مذهب الجمهور، فالأمر يدل على الفورية، وبالتالي لا يجوز تأخير الزكاة عن رأس السنة، ولا تأخير الكفارات عن وقت الإمكان، ولا تأخير الحج مع الاستطاعة، ومن فعل ذلك فيأثم.


3- دلالة الأمر على التَّكرار: اختلف العلماء في الأمر المطلق هل يفيد التكرار، بما لا يخالف العقل كالجمع بين الضدين، وما لا يخالف الشرع، كالتكرار المؤدي إلى إسقاط أوامر الله الأخرى، فذهب البعض إلى أن اقتضاء الأمر التكرارَ بحسب الإمكان، واستدلوا بأدلة، منها: أن الأمر بالإيمان لا يكفي لتنفيذه الإيمان مرة، وكذلك الأمر بالتقوى، وإلا للزم منه وجوب الإيمان مرة واحدة، ولا حرج عليه مما يصنع بعد ذلك.


وذهب الجمهور إلى عدم اقتضاء الأمر للتكرار، واستدلوا بأدلة، منها: أن الصيغة في الأمر لا تفيد التكرار، وأن الأمر يقاس على اليمين، فلو حلف على أنه سيصوم، لأجزأه صوم يوم واحد، وذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور، ورد على دليلهم بأن الأمر بالإيمان والتقوى غير الأمر بالفعل، فلا يقاس عليه، وبالتالي، إذا وكل الرجل غيره بطلاق زوجته، فلا يملك إلا طلقة واحدة، ولا يجب على المأموم إعادة الفاتحة بعد فراغه من قراءتها إذا كان في وقت القيام متَّسع.


واختلفوا كذلك في الأمر المعلَّق على شرط: هل يقتضي التكرار؛ لتكرر الشرط أو لا؟ ومثاله: لو دخل المسجد فصلى ركعتين لدخوله، ثم خرج منه وعاد إليه، فهل يلزمه أن يصلي الركعتين مرة أخرى، والخلاف فيه كالخلاف السابق.


ورجح المؤلف اقتضاءه التكرار لتكرر الشرط، وبالتالي إذا سمع الأذان مرة فأكثر، فيستحب له تكرار القول كما يقول، وهكذا بخصوص السلام إذا تكرر، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تكرر ذِكر اسمه أمامه.


4- سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته: ونعني بذلك أن الله - تعالى - إذا أمر بأمر وحدَّد له وقتًا، فلم يفعله المكلَّف حتى ذهب وقته، فهل يظل المكلف مأمورًا بالقضاء بنفس الأمر الأول، أو أنه لا بد من أمر جديد؟


ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على المكلف القضاء بالأمر الأول، دون حاجة إلى أمر جديد، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فدين الله أحق بالقضاء))، ومنها: أن الأمر المركب مأمور بكل أجزائه، فالأمر المؤقت مكون من فعل ووقت، فإن سقط الوقت، فلا يسقط الفعل؛ بل يظل واجبًا، وعلى المكلف القضاء، وأن المأمور به واجب، والواجب لا تبرأ منه الذمة إلا بأداء أو إبراء.


وذهب جمهور الأصوليين إلى أنه لا يجب على المكلف القضاء إلا بأمر جديد، واستدلوا بأدلة، منها: أن تحديد العبادة بزمن مبنيٌّ على المصلحة، وفوات الوقت يعني فوات المصلحة، وبالتالي فلا بد من أمر جديد للقضاء، وأن الأمر بالفعل لا يتضمن الأمر بالقضاء، وبالتالي فإيجاب القضاء لا دليل عليه.


ويرجح المؤلف الرأي الأول، ورد على الاحتجاج بالمصلحة أن ثمة مصلحتين في الأمر المؤقت: مصلحة في الوقت، ومصلحة في الفعل، وما لا يدرك كله لا يترك جله، ورد على الدليل الثاني بأن الوجوب بالعرف الشرعي، لا بالأمر الذي تضمن الفعل المؤقت الفائت، وبالتالي فمن ترك الصلاة تهاونًا لا جحودًا، يجب عليه القضاء بذات الأمر الأول، ومن فاته وقت زكاة الفطر أداها بعد الوقت بذات الأمر الأول.


5- اقتضاء الأمر الإجزاء بفعل المأمور به: يراد بالإجزاء أحد معنيين: موافقة الشرع، أو سقوط القضاء، وقد اختلف العلماء في المقصود بالإجزاء، فذهب المعتزلة إلى المعنى الأول، وهو أن المكلف إذا قام بالمأمور به فلا يسقط عنه القضاء، واستدلوا بأدلة منها: أن الحاج إذا أفسد حجه، مأمور بالمضي فيه، ويجب عليه القضاء، وأيضًا من صلى من غير طهارة ثم ذكر، فعليه القضاء، فلو كان فعل المأمور يُسقِط عنهما القضاء لما وجب عليهما ذلك.


وذهب الجمهور إلى المعنى الثاني، وهو أن المكلف إذا فعل المأمور به سقط عنه قضاؤه، فلا يكلف بالقضاء مرة أخرى، واستدلوا بأدلة، منها: أن الأداء معناه الخروج من عهدة التكليف، وإذا قلنا بعدم سقوط القضاء للزم منه أن يكون معنى الأمر أداء المأمور به مرة بعد أخرى، وهذا خلاف فهم الصحابة.


ويذهب المؤلف إلى ترجيح رأي الجمهور، ورد على أدلتهم بأن مُبطِل حجِّه، ومبطل صلاته لم يأتِ بالمأمور به على الوجه الشرعي، فيلزمه القضاء، وبالتالي ففاقد الطهورين يصلي على حاله، ولا يلزمه القضاء، ومن صلى إلى غير قبلة بعد اجتهاده، فلا يلزمه القضاء.


6- الأمر بالأمر بالشيء: معنى المسألة أنه إذا أمر المكلف غيرَه بفعل شيء، فهل يعتبر المأمور مأمورًا من الشارع بذلك الفعل؟ كما في حديث: ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع))؛ (رواه أبو داود)، فهل يعتبر الأولاد مأمورين من الشارع بالصلاة، وهم أبناء سبع؟


ذهب الجمهور إلى أن الأمر بشيء، ليس أمرًا بذلك في حق الطرف الثالث، واستدلوا له بأدلة، منها: حديث: ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع))؛ (أخرجه أبو داود)، فلو كان دالاًّ على صيرورة الأبناء مكلَّفين من الشارع بالصلاة، لما أجمع الصحابة على خلافه، ولما ورد رفع القلم عنهم، فدلَّ الإجماع ورفع القلم عنهم على عدم الأمر.


وذهب بعض العلماء إلى خلافه، واستدل لهم بأدلة، منها: حديث ابن عمر، حيث طلق زوجته، فأعلم عمر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لعمر: ((مُرْهُ فليراجعها))، فاعتبره ابن عمر أمرًا وراجع زوجتَه، ويؤيد المؤلف مذهبَ الجمهور، ويرد على حديث ابن عمر، بأن ابن عمر ما راجعها إلا بأمره - صلى الله عليه وسلم - له بالمراجعة حين لقيه مرة أخرى.


7- دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده: ذهب الجمهور إلى أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن أضداده، واستدلوا بأدلة، منها: أن فعل المأمور به لا يكون إلا بترك ضده، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وذهب بعض العلماء إلى خلافه، واستدلوا بأدلة، منها: أن الضد مسكوت عنه، فلا يدل الأمر عليه، وأن الآمر قد يأمر بالشيء وهو غافل عن ضده، وذهب بعض العلماء إلى أن الأمر بالشيء يستلزم كراهة ضده، ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور، بشرط أن يكون المأمور به معينًا، والوقت ضيقًا عن غيره.



8- الأمر بعد الحظر: ذهب بعض العلماء إلى أن الأمر بعد الحظر للإباحة، إذا لم توجد قرينة ترجِّح الوجوب أو الندب، واستدلوا بأدلة، منها: أن عرف الشرع يقضي بأن الأمر بعد الحظر للإباحة، ومنه قوله - تعالى -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، ومنه حديث: ((كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها))؛ (أخرجه مسلم)، وأن عرف اللغة على ذلك أيضًا.


وذهب الجمهور إلى أن دلالة الأمر تظل كما هي، واستدلوا بأدلة، منها: أن الأمر الآتي بعد الحظر ينسخ الحكمَ الأول، وقد ينسخه إلى تحريم أو إيجاب أو إباحة أو ندب، وبالتالي نحمله على معناه الأصلي، وهو الوجوب، وقاسوه على النهي بعد الأمر، واستدلوا بعموم الأدلة التي تؤكد أن الأمر للوجوب.


ويذهب المؤلف إلى ترجيح الرأي الأول، فيحمل الأمر بعد الحظر على الإباحة، ما لم يقم دليل على الوجوب، وبالتالي لا يجب على السيد مكاتبة عبده إن علِم فيه خيرًا، ولا يجب على الرجل أن يأتي زوجته بعد طُهرها.


9- الأمر في الواجبات الكفائية: ذهب جمهور العلماء إلى أنه موجَّه لكل شخص بعينه، ويسقط بفعل البعض، وذهب بعض العلماء إلى أن الأمر موجه إلى بعض مبهم، ويذهب المؤلف إلى أن الأمر بالواجبات الكفائية موجه للجميع، فيكونون عرضة للعقوبة إذا لم يقم أحد بالفعل المطلوب.


10- تعلق الأمر بالمعدوم: ذهب الأشعرية إلى أن كلام الله قديم، فردَّ عليهم المعتزلة، بأن قولهم هذا يستلزم الأمر بالمعدوم، وردًّا على شبهة المعتزلة قرَّروا أن الأمر بالمعدوم جائز، ولكنه معلَّق على شرط الوجود، وهذا الإشكال لا يرد على من اتَّبع مذهب السلف، فكلام الله متجدِّد، فهو يتكلم بما شاء، ومتى شاء، وكلامه قبل التعلق بالمخلوقين لا يعد أمرًا ولا نهيًا، وبالتالي لا يكون المعدوم مأمورًا به ولا منهيًا عنه قبل أن يوجد.


المبحث الثاني

النهي

أولاً: تعريف النهي: يراد به في اللغة المنع، وفي الاصطلاح: هو طلب الترْك قولاً من الأعلى إلى الأدنى؛ وإنما قيد بقيد من الأعلى إلى الأدنى؛ لأن الطلب من القرين يسمى التماسًا، والطلب من الأدنى إلى الأعلى يسمى دعاءً.


وأما صيغ النهي، فله صيغة واحدة متفق على إفادتها للنهي، وهذه الصيغة هي: لا تفعل، ومنها قوله - تعالى -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151]، وخالف في ذلك بعض الأشعرية.


وزاد بعض العلماء صيغتين، هما: انته، واكفف، ونحوها مما يدل على الترك، وثمة أساليب يعرف بها التحريم، منها: لعْن الشارع للفاعل، ومنه حديث: ((لعن الله النامصة والمتنمِّصة))؛ (رواه أبو داود)، ومنها: الخبر، كقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]، ومنها: توعُّد الفاعل بالعذاب، كقوله - تعالى - بعد أن ذكر الشرك، وقتل النفس المحرَّمة، والزنا: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان: 68، 69]، ومنها: إيراد الفعل ضمن صفات المنافقين أو الكفار، ومنها: إيجاب حد على الفاعل، كحد الزنا.


ثانيًا: مقتضيات النهي:

1- اقتضاء النهي التحريم: اتفق العلماء على أن النهي الذي صحبتْه قرينةُ التحريم، يُحمَل على التحريم، والنهي الذي صحبته قرينة الكراهة يحمل على الكراهة، مثال الأول: قوله - تعالى -: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، ومثال الثاني: حديث النهي عن المشي في النعل الواحدة.


واختلفوا في النهي الخالي من القرائن، فذهب الجمهور إلى حمله على التحريم، واستدلوا بأدلة، منها: قوله - تعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ووجه الدلالة: أمره - تعالى - بالانتهاء عما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا نهيتكم عن شيء، فانتهوا))؛ (رواه ابن ماجه)، واستدلوا باللغة العربية، فالقرآن نزل بها، والعرب تفهم من صيغة النهي عند الإطلاق المنعَ الجازم.


2- اقتضاء النهي الفورية والاستمرار: يتفق العلماء على أن النهي عن الشيء يقتضي الكف عنه على الدوام، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك؛ وذلك لكون المنهي عنه مفسدة.


3- اقتضاء النهي عن الشيء الأمر بضده: يذهب العلماء إلى أن النهي عن الشيء الذي له ضد واحد يستلزم الأمر بضده، والنهي عن الشيء الذي له أضداد كثيرة، يستلزم التلبس بواحد من أضداده، وخالف ذلك بعض العلماء بحجة أن الناهي قد يكون في ذهول عن الأضداد، والله منزَّه عن ذلك، ويرجح المؤلف الرأي الأول؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.


4- اقتضاء النهي بعد الأمر التحريم: ذهب الجمهور إلى أن النهي الوارد بعد الأمر يقتضي التحريم، كما لو جاء ابتداء دون أن يتقدَّمه أمر، وخالف بعضهم ذلك، والأول أرجح؛ وذلك لأن الإباحة من محامل الأمر لا النهي، ولأن النهي لدفع المفاسد، ودرءُ المفسدة أولى من جلب المصلحة.


5- اقتضاء النهي الفساد: وهي مسألة من مسائل الأصول الكبيرة، والتي حصل فيها خلاف بين العلماء، والمقصود بالنهي هنا النهي مطلقًا، سواء حمل على التحريم أو الكراهة، وقيَّده بعضهم بنهي التحريم، وأخرج بعضهم النهي في العبادة، وزعم أنه يقتضي الفساد قولاً واحدًا.


وذهب بعض العلماء إلى تقسيم النهي إلى ثلاثة أقسام: نهي عن الشيء لذاته، وهو يقتضي الفساد اتفاقًا، كالنهي عن بيع الكلب والخنزير، ونهي عن الشيء لوصف ملازم له، كالنهي عن بيع الغرر، وفيه خلاف، ونهي عن الشيء لأمر خارج عنه، كالأرض المغصوبة إن صلى فيها، وفيه خلاف أيضًا، ونفصل الخلاف على النحو الآتي:

1- النهي عن الشيء لوصف ملازم: ذهب جمهور العلماء إلى أنه يقتضي الفساد، وذلك كبيع الربويات، وذهب جمهور الحنفية إلى التفرقة بين العبادات والمعاملات، فيقتضي الفساد في الأولى دون الثانية، فصوم يوم النحر باطل، أما بيع الربويات ففاسد، ولكنه يثبت به المِلك إن حصل تقابض.


2- النهي عن الشيء لأمر خارج عنه: ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يقتضي الفساد، كالصلاة في الدار المغصوبة، فهي صحيحة مع الإثم، وذهب الإمام أحمد والظاهرية إلى بطلانها.


ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور في المسألتين الخلافيتين؛ وذلك لأدلة كثيرة، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ))؛ (رواه مسلم)، ولإجماع الصحابة وتابعيهم على بطلان البيوع الربوية.


الفصل الثاني

العام والخاص

المبحث الأول في العموم، ويشمل النقاط الآتية:

أولاً: تعريف العام والخاص: يراد بالعام في اللغة: الشامل المحيط، ويعني في الاصطلاح: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، وقولنا: "بحسب وضع واحد" قيد في التعريف خرج به اللفظُ المشترك، فهو يدل على معنيين مختلفين بأوضاع مختلفة.


وأما الخاص، فيراد به في اللغة عكس العام، ويعني في الاصطلاح: ما دل على معيَّن محصور.


وأما الفرق بينهما، فيظهر في أن المطلق المأمور به لا يتناول جميع أفراده، وتحصل البراءة من العهدة ببعض الأفراد، ومثاله قوله - تعالى - في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] فتبرأ الذمة بتحرير رقبة واحدة، بخلاف العام؛ ولذلك يقولون: عموم المطلق بدليٌّ، وعموم العام شمولي.


ثانيًا: أقسام العام: ينقسم باعتبار طرق معرفته إلى: العام لغة، ويعرف أنه عام من خلال الوضع اللغوي، مثاله: كل جمْع معرَّف بأل، والعام عقلاً، ويعرف عمومه بالعقل، كحديث: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان))؛ (رواه ابن ماجه)، والعام العرفي، ويعرف عمومه بالعرف الشرعي أو اللغوي، كشمول حديث: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم))؛ (رواه الشيخان) الرجالَ والنساء، فيشمل النساء عرفًا شرعيًّا.


ومن العلماء من قسَّم العام إلى عام معنوي وعام لفظي؛ فالعام المعنوي هو المستفاد من المعنى مع أن اللفظ من جهة الوضع خاصٌّ، والعام اللفظي هو المستفاد من ألفاظ العموم.


وينقسم العام المعنوي إلى أقسام، هي: العام المستفاد من الاستقراء، كقاعدة: الضرر يزال، والضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدِّر بقدرها، وقد عرف عموم ذلك من استقراء فروع الشريعة، والعام المستفاد من خطاب أحد الصحابة، ما لم يقترن به ما يدل على الخصوص، مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرَ حين أراد أن يشتري الخيل الذي وهبه: ((لا تفعل))، والعام المستفاد من خطاب الله - تعالى - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقم دليل على خصوصيته، كقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، والعام المستفاد من المفهوم، سواء كان مفهوم موافقة أو مخالفة، مثال الأول: قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، فهي عامة من حيث المفهوم في كل ما يضرُّ بمال اليتيم، ومثال الثاني: حديث: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يَحمِل الخَبَثَ))، فمفهومه أن ما كان أقل من قلتين يحمل الخبثَ عمومًا، والعام المستفاد من العلة المنصوص عليها أو المومَأ إليها، مثاله في المنصوص عليها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر))، فالعلة عامة يستفاد منها تحريم النظر إلى عورات الناس، ومثاله في المومأ إليها: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر للنقصان، فالعلة عامة، وبالتالي يحرم بيع المطعوم بجنسه إذا كان هناك تفاوت في الوزن.


ويقسم العلماء العام من حيث عمومه إلى عام أريدَ به العموم قطعًا، فلا يخصَّص، وعام أريد به العموم ويدخله التخصيص، ويسمى: "العام المطلق"، وهو الذي لم يقترن به ما يدل على تخصيصه، ولا ما يدل على عدم قبوله للتخصيص، وعام أريد به الخصوص، مثال الأول: قوله - تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، ومثال الأخير: قوله - تعالى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173]، فالمراد بالناس الأولى نعيم بن مسعود، وفي الثانية أبو سفيان ومَن معه، ويضع العلماء فروقًا بين العام المخصوص، وبين العام المراد به الخصوص، ولا داعي لذكرها؛ لأنه لا يترتب على التفرقة بينهما عمل.


رد مع اقتباس
قديم 09-24-2012, 02:15 PM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

OM_SULTAN

المشرف العام

OM_SULTAN غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








OM_SULTAN غير متواجد حالياً


رد: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ملخص أول

ثالثًا: صيغ العموم المشتهرة: للعموم صيغ كثيرة، نقتصر على ذكر المشتهرة منها، وهي:

1- كل وجميع وما يلحق بهما: ويشترط لعمومها ألاَّ تُسبق بنفي، مثاله: قوله - تعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وقوله - تعالى -: {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].

2- الجمع المعرف بأل الجنسية والمضاف: مثال الأول: المسلمين والمسلمات في قوله - تعالى -: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...} [الأحزاب: 35]، ومثال الثاني: أموال اليتامى في قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

3- اسم الجنس المعرف بأل والمضاف إلى معرفة: ومثال اسم الجنس المعرف بأل: المسلم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم))؛ (رواه الشيخان)، ومثال اسم الجنس المضاف إلى معرفة: أرضهم، في قوله - تعالى -: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} [الأحزاب: 27].

4- أسماء الشرط: وهي: "من" لجمع العقلاء، و"ما" لجمع غير العقلاء، و"متى وإذا" تفيدان العموم في الزمان، و"حيث وأين وأنى" تفيد العموم في المكان، و"أي"، وهي تفيد العموم في ما تضاف إليه.

5- الأسماء الموصولة: وما يفيد العموم منها: "من" للعقلاء، وغير العقلاء، و"ما" الموصولة لغير العاقل غالبًا، و"الذي والتي" وفروعهما إذا كانت محلاة بأل الجنسية، و"أي" الموصولة في الغالب.

6- أسماء الاستفهام: وما يفيد العموم منها: من الاستفهامية، وما، وأين، وأنى، ومتى، وأيان، وأي، وكم.

7- النكرة في سياق النفي وما في معناه: ويشترط لإفادتها العموم ألاَّ يكون النفي الذي يتقدم سِيقَ لسلب الحكم عن المجموع، ومثالها كلمة (إله) في قوله - تعالى -: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 255].

8- ظروف الاستمرار: ومثالها كلمتا "أبدًا ودائمًا" ونحوهما، فتفيدان العموم في الزمان، كقوله - تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} [القصص: 71].


رابعًا: الخلاف في وضع صيغة للعموم:

ذهب الجمهور إلى أن ألفاظ العموم تدل عليه من غير حاجة إلى قرينة، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: قوله - تعالى -: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 31، 32]، ومحل الشاهد تمسك إبراهيم - عليه السلام - به، واستدلوا على ذلك أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الحُمُر الأهلية: ((ما أنزل عليَّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]))؛ (رواه الشيخان)، ومحل الشاهد تمسُّكه - صلى الله عليه وسلم - بالعموم في الآية، واستدلوا أيضًا بإجماع الصحابة والتابعين على ذلك.


وذهب الباقلاني وأبو الحسن الأشعري إلى أنها صيغ مشتركة، ويسمى هذا المذهبُ مذهبَ أرباب التوقُّف، واستدلوا بأدلة، منها: أن هذه الصيغ أوردها الشارع للعموم تارة، وللخصوص أخرى، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون مشتركة بين العموم والخصوص، وبالتالي يجب التوقفُ حتى تَرِدَ القرينة.


وذهب البعض إلى أنها صيغ تُحمل على أخص الخصوص، وهو أقل ما يطلق عليه اللفظ، ويسمى هذا المذهب مذهبَ أرباب الخصوص، واستدلوا بأدلة، منها: أن هذه الصيغَ استُعملتْ في الخصوص أكثرَ من استعمالها في العموم، فتحمل على الخصوص، ما لم تردْ قرينة صارفة، وأن دلالتها على ما زاد على أخص الخصوص مشكوكٌ فيها، فتحمل على أخص الخصوص لتعيُّنه.


خامسًا: قوة دلالة العام: اتفق العلماء على أن العام الذي ورد على سببٍ خاص على صورة السبب، دلالتُه قطعية، إذ إنه لا يمكن تخصيص صورة السبب من العموم، واتفقوا على أنه يدل على أخص الخصوص قطعًا، واختلفوا في غير ذلك من صور العام؛ فذهب الحنفية إلى أن دلالة العام قبل تخصيصه قطعيةٌ في كل فردٍ من أفراده بخصوصه، واستدلوا على ذلك بالوضع اللُّغوي، فألفاظُ العموم وُضعتْ للعموم قطعًا، ولو جاز عدم العموم من غير قرينة، لارتفع عن اللغة والشرع الأمان، ولزم من ذلك التكليف بما فوق الطاقة.


وذهب الجمهور إلى أن دلالة العام على كل فرد من أفراده بخصوصه ظنية، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: أن التخصيص محتمل، وبالتالي لا يمكن القطع بالعموم في كل فرد، وأن أدلة الأحكام العامة خصصتْ في الغالب، وردُّوا على أدلة الحنفية بأن الدليل الأول غير مسلَّم به، وردوا عن الثاني بأنه لا تلازم بين إرادة الخصوص من العام، وارتفاع الأمان عن اللغة.


ويرجح المؤلف مذهب الجمهور، وبالتالي فلا عموم في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، وإنما خصصت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))؛ (رواه الشيخان).


سادسًا: العام بعد التخصيص: اتفق الجمهور من الأصوليين على أن دلالة العام الوارد بعد التخصيص على العموم ظنيةٌ، واحتجوا بأدلة، منها: إجماع الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم على ذلك.


سابعًا: العموم الوارد على سبب: اتفق العلماء على أن صورة السبب تدخُل في الحكم العام الوارد على سبب خاص، واختلفوا في الصور الأخرى، وهي قسمان: الأول: أن يكون عموم اللفظ لها جزءًا من الجواب، بحيث لا يتم إلا به، والثاني: أن يكون عموم اللفظ زائدًا عن الجواب، بحيث يمكن فهمه بدونه، ومثال ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن الوضوء بماء البحر: ((هو الطهور ماؤه، الحل ميتتُه))؛ (رواه أحمد)، ففي جوابه - صلى الله عليه وسلم - عمومان: الأول: لا يتم الجواب إلا به، وهو قوله: ((هو الطهور ماؤه))، وهو عموم جواب، وقوله: ((الحل ميتته))، وهو عموم زائد عن الجواب، وهو خارج عن محل النزاع؛ إذ لا سبب له، فيكون عامًّا في كل ميت من أموات البحر، والأول هو محل النزاع، ومثاله: قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ...} الآية [المجادلة: 3]، فهذه الآية جواب عام في موضع السؤال، وقد اختلف العلماء في الجواب العام في موضع السؤال؛ فذهب الجمهور إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واستدلوا بأدلة، منها: احتجاج الصحابة بالآيات العامة الواردة على سبب خاص، وحمْلها على العموم، كآيات الظِّهار ونحوها، وأن الحكم يؤخذ من نص الشارع، والنص عامٌّ، فيظل على عمومه، وأن العدول من الشارع عن الجواب الخاص إلى ألفاظ العموم يدل عليه، وذهب أبو حنيفة ومن معه إلى أنه يدل على الخصوص، فيقصر على سببه، واستدلوا بأن عناية العلماء واتفاقهم على نقل أسباب النزول يؤكِّد مذهبهم، ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور؛ لقوة أدلتهم، ولأن نقل أسباب النزول لا يدل على ما ذكروه.


ثامنًا: دخول المخاطب في عموم خطابه: اختلف العلماء: هل يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عموم خطابه الذي خاطب به الصحابة أو لا؟ ذهب البعض إلى دخوله؛ لأن أصل اللغة يستلزم ذلك، وذهب البعض إلى عدم دخوله؛ لأن خطابه للغير قد يكون أمرًا أو نهيًا، وفرَّق بعضهم بين الخبر والأمر والنهي، فقالوا: يدخل في الخبر، ولا يدخل في الأمر والنهي؛ لأنه يمتنع أن يأمر الإنسان نفسه وينهاها، ويرجح المؤلف القول الأول، وأنه لا يخرج من الخطاب إلا بدليل.


تاسعًا: دخول العبيد والإماء والكفار في الخطاب العام: ذهب الجمهور إلى العموم، وإلى دخولهم في الخطاب العام، وبالتالي لا يخرجون منه إلا بدليل.


عاشرًا: العمل بالعام قبل البحث عن المخصِّص: يذهب المؤلف إلى أنه يختلف الحكم بالنسبة للعلماء المجتهدين والعوام؛ فالعلماء المجتهدون يعملون بالعام قبل البحث عن المخصص، وأما العوام فلا يجوز لهم العمل بالعام قبل سؤال أهل الذِّكر عن المخصص.


المبحث الثاني

في التخصيص

ويشمل ما يلي:

أولاً: تعريف التخصيص: يراد به في اللغة الإفراد والتمييز، وفي الاصطلاح بيان أن المراد بالعام بعض ألفاظه.

ثانيًا: أركان التخصيص: وأركانه هما المخصِّص، والمخصوص، فالمخصص هو الدليل الخاص الذي به تخرج بعضُ أفراد الخاص عن حكمه، أو يبين أن بعض أفراد العام غير مقصودة للشارع، والمخصوص هو العام الذي دلَّ الدليل على أنه ليس مقصودًا به جميعُ مسمياته.

ثالثًا: الفرق بين النسخ والتخصيص: وأهم الفروق بين التخصيص والنسخ أن التخصيص إخراجٌ لبعض أفراد العام، بخلاف النسخ، فهو رفعٌ للحكم بعد ثبوته، وأن التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد، بخلاف النسخ، فقد يشمل جميعَ أفراد العام، والتخصيص يدخل الأخبار، بخلاف النسخ، فلا يدخلها، والتخصيص قد يكون مقترنًا، بخلاف النسخ، فلا يكون إلا متأخرًا.

رابعًا: شروط التخصيص: يشترط الحنفية للتخصيص أن يكون المخصص مستقلاًّ عن المخصوص، وأن يكون مقارنًا له؛ إذ لو تأخَّر عنه لكان ناسخًا، ويخالفهم الجمهور فلا يشترطون ذلك.


ويقسمون المخصصات إلى مخصصات متصلة ومخصصات منفصلة، فأما المخصصات المتصلة فهي:

1- الاستثناء: وهو إخراج بعض الجملة عن حكمها بإحدى أدوات الاستثناء، وأهم أدواته: إلا، وغير، وسوى، وخلا، وعدا، ومنه قوله تعالى - بعد أن عدَّد بعض الأفعال المنكرة -: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68،70]، فالاستثناء أخرج من عموم المستحقين للإثم التائبين.

2- الشرط: ومثاله: حديث: ((تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام، إذا فقهوا))؛ (رواه البخاري).

3- الصفة: وتشمل كلَّ ما يميز بعض المسميات عن بعض، كالنعت، والحال، والظرف، والجار والمجرور، مثاله: قوله - تعالى -: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].

4- الغاية: ويقصد بها نهاية الشيء، وألفاظها هي: حتى، وإلى، مثاله: قوله - تعالى -: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة222].

5- البدل: ومثاله: قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].


شروط الاستثناء: يسوق العلماء شروطًا للاستثناء، بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وهي:

الشرط الأول: الاتصال: ويراد به الاتصال اللفظي أو الحكمي بين المستثنى والمستثنى منه، فالأول يكون بعدم الفصل بينهما بفاصل، والثاني يكون بالفصل بينهما بفاصل يسير، لكنه لا يدل على انقطاع الكلام، كالفصل لبلع ريق، أو سعال، ونحوهما، واشتراط الاتصال هو مذهب الجمهور، واستدلوا بأدلة، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلَف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها، فليكفِّر عن يمينه، وليأتِ الذي هو خير))؛ (رواه مسلم)، والشاهد فيه أنه لو صح الاستثناء المتأخِّر لما أمره بالكفارة، واستدلوا أيضًا بأن الاستثناء إذا صح تأخرُ النطق به لسادت الفوضى، ولما وثق الناس بعهد ولا عقد، ولما حنث في يمينه حالفٌ قط.


ونُقل عن ابن عباس خلاف مذهب الجمهور، فقيل: إنه قال: يجوز تأخر الاستثناء شهرًا أو شهرين، وقيل: سنة، وقد ثبت النقل عن ابن عباس أنه قال: إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة، ومما استدل به أصحاب هذا الرأي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والله لأغزوَنَّ قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشا، إن شاء الله))؛ (أخرجه أبو داود)، ورد على هذا الدليل بأنه لم يكن ثمة فاصل.


وذهب رأي ثالث إلى جواز الاستثناء ما دام في المجلس، واستدلوا بحديث خيار المجلس، ورد عليهم بأن خيار المجلس ثبت بنصٍّ خاص، فلا يقاس عليه.


الشرط الثاني: عدم الاستغراق: وهو شرط متفق عليه، فلو استغرق الاستثناء المستثنى منه، فالاستثناء باطل، كما لو قال من في عصمته ثلاث نسوة: نسائي طوالق إلا ثلاثًا، فيقع الطلاق ولا يصح الاستثناء، وقصر بعضهم هذا الشرط على الاستثناء من العدد، أما الاستثناء بالصفة فالاستغراق فيه جائز؛ لأنه لا ينافي كلام العرب، بخلاف الأول.


الشرط الثالث: أن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى: وقد ذهب بعض العلماء إلى اشتراطه، وقالوا ببطلان الاستثناء إذا لم يتوافر فيه هذا الشرط.


الشرط الرابع: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.


الشرط الخامس: أن ينوي الاستثناء حين النطق بالمستثنى منه: وهو مذهب الجمهور، وخالف فيه بعض العلماء، والراجح مذهب الجمهور.


الاستثناء المتعقب للجمل: صورة المسألة: إذا تعقب الجملَ المعطوف بعضها على بعض استثناءٌ، فهل يعود الاستثناء على الجميع أو لا؟ كما في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68، 70].


والخلاف قائم، سواء أكان الاستثناء واردًا بعد جملة أم ورد بعد مفردات، وسواء كان العطف بالواو أم بغيرها من أدوات العطف، ما لم توجد قرينة تبيِّن علامَ يعود الاستثناء، فذهب الجمهور إلى عَوْده على الجميع، واستدلوا بأدلة، منها: قياس الاستثناء على الشرط، وأن إعادة الاستثناء بعد كل جملة عيٌّ ولكنةٌ في الكلام، والفصاحة أن يذكر بعدها ويعود على الجميع.


وذهب الحنفية إلى أنه يعود على الجملة الأخيرة فقط، واستدلوا بأدلة، منها: أن العموم ثابت في كل جملة بيقين، وعود الاستثناء على الجميع مشكوك فيه، فلا يُرفَع اليقين بالشك، وأن عود الاستثناء إلى ما قبله إنما هو لضروة عدم الاستقلال، والضرورة تقدَّر بقدرها، وقد عاد إلى الأخير باتفاق، فلا ضرورة لعوده على الجميع.


ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور؛ لقوة أدلتهم، وبناء عليه، فالقاذف المجلود إذا تاب تقبَل شهادته؛ لعود الاستثناء في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5] على الجميع، فالتائب المجلود تُقبَل شهادته، ويرتفع عنه وصف الفسق.


الاستثناء من النفي: اتفق العلماء على أن الاستثناء من الإثبات نفي، واختلفوا في الاستثناء من النفي، فذهب الجمهور إلى أنه إثبات، واحتجوا بالإجماع على أن من قال: لا إله إلا الله، أصبح مسلمًا، ولو لم يكن الاستثناء من النفي إثبات، لما أصبح بقوله مسلمًا.


وذهب الحنفية إلى أن الاستثناء من النفي ليس إثباتًا، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور))؛ (رواه مسلم)، وقالوا: لو كان الاستثناء من النفي إثباتًا، لكان معنى الحديث إثبات الصلاة لوجود الطهور، وهو غير صحيح باتفاق، فقد يوجد الطهور ولا توجد الصلاة، ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور.


الشرط الذي يحصل التخصيص به: ذهب بعض المحققين من الأصوليين إلى أن الشرط المخصص هو الشرط اللغوي، وهو ما كان التعليق فيه بإحدى أدوات الشرط المعروفة، وهذا هو الرأي الراجح.


ومما ينبغي ملاحظته أن الشروط اللغوية أسباب، وقد حرَّر هذه القاعدةَ القرافيُّ في أكثر مصنفاته، حيث قسم الشروط إلى شرط شرعي، وشرط عقلي، وشرط عادي، وشرط لغوي، فالثلاثة الأولى يلزم من عدمها العدم، ولا يلزم من وجودها الوجود ولا العدم لذاته، بخلاف الشروط اللغوية، فهي وإن سميت شروطًا إلا أنها في الحقيقة أسباب؛ إذ يلزم من وجودها الوجود، ويلزم من عدمها العدم، فلو قال الزوج لزوجته: إن خرجتِ من بيتي فأنت طالق، فخرجتْ، تكون طالقًا؛ لأن الشروط اللغوية أسباب.


الشرط المتعقب جملاً: يذهب الجمهور إلى أنه يعود على الجميع، وذهب البعض إلى أنه يعود على الجملة الأخيرة، ومذهب الجمهور هو الراجح، ومثاله قوله - تعالى -: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89].


ما بعد الغاية هل يدخل في حكم ما قبلها؟

ذهب الجمهور إلى أنه يدخل في حكم ما قبلها، وذهب بعض العلماء إلى خلافه، وذهب آخرون إلى التفصيل، فاشترطوا لدخول ما بعدها في حكم ما قبلها أن يكون ما بعد (حتى) من جنس ما قبلها، ويذهب المؤلف إلى ترجيح القول الثالث، وبالتالي لو باع رجل لآخر بستانًا، وقال له: بعتك من تلك الشجرة إلى تلك الشجرة، فننظر إلى تلك الشجرة، فإن كانت من جنس المبيع دخلتْ، وإلا فلا.


وأما المخصصات المنفصلة، ويقصد بها كل دليل مستقل بنفسه، بحيث لا يحتاج إلى ذِكر لفظ العام معه، فهي:

1- الحس: ومثال التخصيص به تخصيص عموم قوله - تعالى -: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]، وإخراج الجبال من العموم، فالمحسوس أنها ما صارت كالرميم.

2- العقل: ومثال التخصيص به تخصيص عموم قوله - تعالى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وإخراج ذاته - تعالى - من العموم، فالعقل دالٌّ على أنه - تعالى - لم يخلق نفسه.

3- النص: وهو أربعة أقسام، هي:

أ- تخصيص القرآن بالقرآن: ومثال التخصيص به تخصيص قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، بقوله - تعالى -: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]، فالمطلقة اليائسة من المحيض عدتُها ثلاثةُ أشهر لا قروء.

ب- تخصيص القرآن بالسنة: ومثاله تخصيص قول الله - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس للقاتل شيء))؛ (رواه مالك)، وتخصيص القرآن بالسنة مسألة خلافية، ذهب فيها الجمهور إلى الجواز، واستدلوا بأدلة، منها: إجماع الصحابة على ذلك، ومن هذا أن فاطمة جاءتْ إلى أبي بكر تطلب ميراثها، فبيَّن لها أبو بكر أنها لا تستحق شيئًا من ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نورث، ما تركناه صدقة))؛ (رواه الشيخان)، وذهب بعض المتكلمين إلى عدم الجواز، واستدلوا بقصة عمر مع فاطمة بنت قيس، والرد عليهم أن ذلك ليس لاعتقاد عمر أن السنة لا تخصص القرآن، وقد بيَّن ذلك بقوله: "لا ندري لعلها حفظت أو نسيت"؛ (رواه مسلم)، ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور؛ لقوة أدلتهم، وبالتالي فقراءة الفاتحة ركن في الصلاة، لا مجرد قراءة القرآن مطلقًا.

ج- تخصيص السنة بالسنة: ومثاله تخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فيما سَقَتِ السماء العُشر))؛ (رواه البخاري)، بقوله: ((ليس فيما دون خمس أوسق صدقة))؛ (رواه الشيخان).

د- تخصيص السنة بالقرآن: ومثاله تخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله))؛ (رواه أبو داود)، بقوله - تعالى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29].

4- القياس: وقد اختلف العلماء في جواز تخصيص القرآن والسنة بالقياس، فذهب بعض العلماء إلى الجواز مطلقًا، وذهب البعض إلى المنع مطلقًا، وذهب بعضهم إلى جواز التخصيص بالقياس الجلي، وذهب بعضهم إلى جواز التخصيص بالقياس إذا كان العام قد سبق تخصيصُه، وذهب المؤلف إلى ترجيح القول الثالث، ومثاله: تخصيص قوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، بقياس العبد على الأمَة، والمستفاد عقوبتها من قوله - تعالى -: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].

5- الإجماع: ومثاله تخصيص عموم قوله - تعالى -: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] بالإجماع على عدم جواز الأكل من هدي جزاء الصيد.

6- المفهوم: وينقسم إلى موافق ومخالف، مثال التخصيص بالأول: تخصيص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته))؛ (رواه ابن ماجه)، بمفهوم الموافقة المستفاد من قوله - تعالى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23].


ومثال الثاني: تخصيص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الماء طهور لا ينجِّسه شيء))؛ (رواه أحمد)، بمفهوم المخالفة المستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))؛ (رواه أبو داود).


الفصل الثالث

المطلق والمقيد

أولاً: تعريف المطلق والمقيد: المطلق في اللغة: الخالي من القيد، وفي الاصطلاح: هو ما دل على الماهية من غير وصفٍ زائد عليها، مثاله: (رقبة) في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، فالرقبة مطلَقة لم توصف بوصف زائد على الماهية، والمقيد في الاصطلاح: هو ما تناول معينًا أو موصوفًا بوصف زائد على الماهية، وهو نوعان: المعين، كالعلم، وغير المعين الموصوف بوصف زائد على الماهية، مثاله: قيد الإيمان في الرقبة في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

ثانيًا: حمل المطلق على المقيد: اتفق العلماء على أن الدليل المطلق عن القيد يُحمَل على إطلاقه، وأنه إذا ورد دليل على تقييد المطلق فيحمل عليه.

ثالثًا: اللفظ المطلق في موضع المقيد في موضع آخر: إذا أُطلق اللفظ عن القيد في موضع، وقيِّد في موضع آخر، له صور بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وهي:


الصورة الأولى: اتحاد الحكم والسبب في الموضعين: ويحمل فيها المطلق على المقيد اتفاقًا، مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم - عن لباس المُحرِم: ((من لم يجد نعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين))؛ (رواه الشيخان)، وقوله: ((فليلبس الخفين))؛ (رواه الشيخان)، فيحمل المطلق على المقيد، وبالتالي يجب على المحرم قطع أسفل الخفين إذا لم يجد نعلين.

الصورة الثانية: اختلاف الحكم والسبب في الموضعين: ولا يحمل فيها المطلق على المقيد اتفاقًا، مثاله: قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله - تعالى -: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فلفظ الأيدي المقيَّد في الثانية بكونه إلى المرافق، لا يحمل عليه الأيدي في قطع يدي السارق.

الصورة الثالثة: اتحاد الحكم واختلاف السبب: وقد اختلف العلماء في هذه الصورة؛ فذهب البعض إلى حمل المطلق على المقيد من طريق اللغة، وهم بعض الشافعية وبعض الحنابلة، وذهب البعض إلى حمل المطلق على المقيد من طريق القياس، بشرط توافر شروطه، وهو رأي بعض الحنابلة، وذهب البعض إلى عدم حمل المطلق على المقيد، وهو رأي الحنفية، ومثاله: قوله - تعالى - في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وقوله - تعالى - في كفارة القتل الخطأ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، ويذهب المؤلف إلى ترجيح حمل المطلق على المقيد بطريق القياس لا اللغة.

الصورة الرابعة: اتحاد السبب واختلاف الحكم: وقد اختلف العلماء في هذه الصورة؛ فذهب البعض إلى حمل المطلق على المقيد، وهو رأي بعض الشافعية، وذهب الجمهور إلى خلافه، ومثاله: قوله - تعالى - في الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وقوله - تعالى - في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، فالأيدي مقيدة في آية، ومطلقة في آية، وقد اتحدَّ السبب، وهو إرادة رفع الحدث، واختلف الحكم، وهو الوضوء والتيمم.

رابعًا: شروط حمل المطلق على المقيد: يشترط العلماء لحمل المطلق على المقيد شروطًا، وهي:

1- أن يكون القيد من باب الصفات، كالإيمان في الرقبة.

2- ألا يعارَض القيد بقيد آخر.

3- أن يكون المطلق واردًا في الأوامر والنواهي.

4- ألا يقوم دليل على منع التقييد.


الفصل الرابع

المنطوق والمفهوم

تمهيد: يقسم جمهور الأصوليين الدلالات إلى منطوق ومفهوم، ويقسمها البعض إلى منظوم وغير منظوم، ويعرف المنطوق في الاصطلاح بأنه: ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق، كدلالة قوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] على الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويعرف المفهوم في الاصطلاح بأنه: ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق، كدلالة قوله - تعالى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على تحريم ضرب الوالدين وشتمهما.


ويقسم الجمهور المنطوق إلى صريح وغير صريح؛ فالصريح يتناول: المطابقة والتضمن، وغيرُ الصريح يتناول دلالة الاقتضاء، ودلالة الإيماء، والإشارة (المفهوم بنوعيه).


وأما الذين عبَّروا بالمنظوم وغير المنظوم، فيقسمون المنظوم إلى دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، ويقسمون غير المنظوم إلى الاقتضاء والإيماء، ومفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، ونحن سنسلك هذا التقسيم الأخير.


1- دلالة المنظوم: وهي دلالة اللفظ على معناه بالوضع اللغوي، وتشمل المطابقة والتضمن.

2- دلالة الالتزام: وهي ما دلَّ عليه اللفظ بغير صريح صيغته ووضعه، وتشمل دلالة الاقتضاء، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء، ودلالة المفهوم، ونتناولها تباعًا:

أولاً: دلالة الاقتضاء: وهي دلالة اللفظ على معنى مسكوتٍ عنه، لا يصدق الكلام ولا يكون صحيحًا شرعًا أو عقلاً إلا بتقديره، والمعنى المقدَّر يسمى المقتضى، وينقسم إلى: ما يتوقف عليه صدق الكلام، كما في حديث: ((لا وصية لوارث))؛ (رواه البخاري)، فالواقع وجود الوصية للوارث، ولصدق الكلام لا بد من تقدير: صحيحة أو نافذة.


ومنها ما يتوقف صحة الكلام شرعًا على تقديره، كما في قوله - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ففي الشرع أن القضاء لا يجب إلا على من أفطر، وبالتالي يجب تقدير مقتضى، وهو: فأفطر؛ ليستقيم المعنى شرعًا.


ومنها ما يتوقف عليه صدق الكلام عقلاً، كما في قوله - تعالى -: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]، ففي العقل أن القرية لا تُسأل؛ لأنها أحجار وأشجار، وبالتالي لا بد من تقدير مقتضى، وهو: أهل؛ ليستقيم المعنى عقلاً.


ثانيًا: دلالة الإشارة: وهي دلالة اللفظ على حكمٍ غير مقصود للمتكلم، ولا سِيقَ الكلامُ من أجله، لكنه لازم للمعنى، كدلالة قوله - تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] على صحة صيام من أصبح جنبًا من أهله.


ثالثًا: دلالة الإيماء: وهي دلالة اللفظ على مقصودٍ لازم للمتكلم، يفهم منه التعليل؛ لاقتران الحكم بوصف مناسب، كدلالة قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] على أن علة القطع السرقة.


رابعًا: دلالة المفهوم:

1- مفهوم الموافقة: وهو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه؛ إما لكونه مساويًا له، أو لكونه أولى منه، مثال المفهوم الأَولى: دلالة قوله - تعالى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على تحريم ضرب الوالدين وشتمهما، ومثال المفهوم المساوي: دلالة قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] على تحريم الإتلاف أيضًا؛ لأن فيه تفويتًا لمال اليتيم أيضًا، وهذا المفهوم حجة عند الجمهور، وخالفهم الظاهرية.

2- مفهوم المخالفة: وهو دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، وينقسم إلى:

أ- مفهوم الصفة: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة))؛ (رواه مالك)، فصفة السوم تدل بالمفهوم على أن المعلوفة لا زكاة فيها.

ب- مفهوم الشرط: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل: هل على المرأة غسل إذا احتلمت؟: ((نعم، إذا رأت الماء))؛ (رواه البخاري)، فشرط رؤية الماء يدل بالمفهوم على أنها إذا لم يغلب على ظنها الإنزال، فلا غسل عليها.

ج- مفهوم العدد: ومثاله: قوله - تعالى -: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فيدل بالمفهوم على أن جلد أقل من ثمانين غير مجزئ، وهو داخل في مفهوم الصفة.

د- مفهوم الغاية: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول))؛ (رواه ابن ماجه)، فيدل بالمفهوم على أن المال الذي حال عليه الحول تجب فيه الزكاة.

هـ- مفهوم التقسيم: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الثيِّب أحق بنفسها، والبكر تستأذن))؛ (رواه مسلم)، فيدل بالمفهوم على أن البكر ليست أحقَّ بنفسها، وأن الثيب لا تستأذن، وهو داخل في مفهوم الصفة.

و- مفهوم اللقب: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مِثلاً بمثل))؛ (رواه مسلم)، فيدل مفهومه أنه يجوز التفاضل في بيع غير الذهب.


حجية مفهوم المخالفة: وهو حجة عند الجمهور، ما عدا مفهوم اللقب، وخالفهم جمهور الحنفية في ذلك، والراجح مذهب الجمهور؛ وذلك لقوة أدلتهم، ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأزيدنَّ على السبعين))، والشاهد فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - فهم أن ما زاد على السبعين حكمُه مختلف عن السبعين، واستدلوا أيضًا بفهم الصحابة - رضوان الله عليهم - أن تخصيص الوصف بالذكر يقتضي انتفاء الحكم عما سواه، واستدلوا بأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عما لا يجوز للمُحرِم أن يلبسه، فأجابهم بقوله: ((لا يلبس القميص، ولا السراويلات، ولا البرانس))؛ (رواه الشيخان)، والشاهد فيه أنه أجابهم عما لا يلبسه؛ لأنهم إن عرفوا الممنوع، فما عداه جائز.


شروط العمل بالمفهوم: يشترط العلماء للعمل بالمفهوم شروطًا، منها:

1- ألاَّ يكون الوصف قد خرج مخرج الغالب.

2- ألا يكون الحكم المذكور المسوق جاء إجابة عن سؤال أو بيانًا لحكم واقعة.

3- ألا يكون المسكوت عنه أولى من المذكور بالحكم.


منهج الحنفية في تقسيم طرق الدلالة: يقسمها الحنفية إلى أربعة أقسام، وهي: دلالة العبارة (عبارة النص)، وهي ما يسمى عند الجمهور بالمنطوق، ودلالة الإشارة (إشارة النص)، ودلالة الاقتضاء (اقتضاء النص)، وهي نفسها عند الجمهور، ودلالة النص، وتسمى عند الجمهور بمفهوم الموافقة.



الفصل الخامس

النص والظاهر والمجمل

أولاً: النص: يراد به في اللغة الكشف والظهور، وفي الاصطلاح: ما دل على معناه دلالة لا تحتمل التأويل، كدلالة العدد في قوله - تعالى -: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].


ثانيًا: الظاهر والمؤول: يراد بالظاهر في اللغة نقيض الباطن، وفي الاصطلاح: هو المعنى الراجح الذي دل عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحًا، كدلالة الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي))؛ (رواه الشيخان) على الوجوب مع احتمال الندب احتمالا مرجوحا.



ويراد بالمؤول في اللغة المرجوع به، وفي الاصطلاح: هو اللفظ المحمول على المعنى المرجوح بدليل، وعليه فالتأويل: حمل اللفظ على المعنى المرجوح بدليل، فإن كان الدليل قويًّا، فهو تأويل صحيح، وإن كان الدليل ضعيفًا، فهو تأويل فاسد، مثال الصحيح: تخصيص العموم في قوله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] بأحاديث النهي عن البيع على بيع الآخرين، والنجش، وغيره من بيوع الغرر، ومثال الفاسد: تأويل الحنفية لحديث: ((أمسكْ منهن أربعًا، وفارق سائرهن))؛ (رواه مالك) على أن المراد إمساك الأربع الأول، ومفارقة الأخريات، ونحوها من التأويلات الفاسدة؛ إذ لا دليل عليها.


ويشترط العلماء لصحة التأويل شرطين اثنين: الأول: احتمال اللفظ للمعنى المصروف إليه لغة، أو شرعًا، أو عادة، وأن يقوم دليل صحيح على التأويل.


ثالثًا: المجمل والمبين: يراد بالمجمل في اللغة المبهم، وفي الاصطلاح: هو ما دلَّ على معنيين لا مزية لأحدهما عن الآخر بالنسبة إليه، وهو قسمان: مجمل قد بيِّن، ومثاله: لفظ (الحق) الوارد في قوله - تعالى -: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فقد بينت النصوص أن المراد به الزكاة، ومجملٌ باقٍ على إجماله، ومثاله: الحروف المقطعة في أوائل السور، وهذا القسم يسميه البعض المتشابهَ الذي استأثر الباري - تعالى - بعلمه.


وأما أسباب الإجمال، فمنها: الاشتراك في اللفظ، كما في لفظ القروء الوارد في سورة البقرة [البقرة: 228]، فهو محتمل للأطهار والحيض، ومنها: اشتهار المجاز، وكثرة استعماله، حتى يصير مساويًا للحقيقة، كإطلاق العين على الجاسوس مجازًا، ومنها: الإطلاق أو التعميم، كما في قوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، قبل بيان كيفيتها.


وأما الفرق بين المجمل والمشترك، فالمجمل يرجع إلى الفهم، والمشترك يرجع إلى وضع اللغة.


ويقسم الحنفية الألفاظ من حيث وضوح الدلالة وخفاؤها، إلى ألفاظ واضحة الدلالة، وألفاظ خفية الدلالة؛ فواضح الدلالة يشمل: الظاهر، والنص، والمفسَّر، والمُحكَم، وخفي الدلالة يشمل: الخفي، والمشكل، والمجمل، و المتشابه، ونحن نتناول هذه الدلالات عندهم تباعًا:

1- الظاهر: ويظهر المراد به للسامع من صيغته، كقوله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فالمعنى ظاهر للسامع، وهو حلُّ البيع.

2- النص: ويظهر المراد منه بمعنى في المتكلم، كقوله - تعالى -: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فهي نص على جواز النكاح بما لا يزيد على الأربع.

3- المفسر: وهو ما زاد وضوحه على النص بمعنى في النص أو بغيره، كقوله - تعالى -: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30].

4- المحكم: وهو المحصن عن احتمال النسخ والتبديل، كقوله - تعالى -: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة29].

5- الخفي: وهو ما خفي المراد منه لعارض في الصيغة، كدلالة قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] على قطع يد النبَّاش.

6- المشكل: وهو ما اشتبه معناه بحيث لا يعرف إلا بمزيد تأمل، كقوله - تعالى -: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، يحتمل أنه يدل على إتيان المرأة في دبرها، وبمزيد التأمل يدل على المنع؛ لأن القبل حرث، والدبر فرث.

7- المجمل: وهو اللفظ الذي لا يفهم المراد به إلا ببيانٍ مِن المتكلم، كلفظ الربا في قوله - تعالى -: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فالربا الزيادة، وليس هذا المعنى مرادًا؛ لأن البيع لم يشرع إلا من أجل الربح، فلم يفهم المقصود بالربا إلا ببيان من المشرع.

8- المتشابه: وهو ما انقطع رجاءُ معرفته، كالحروف المقطعة في القرآن.


والمجمل يحتاج إلى بيان، والمبين في اللغة الموضح، وفي الاصطلاح: هو الدليل الذي يوضح المراد بالمجمل، وأما المبين، فهو ما يحتاج إلى بيان.


والبيان واجب عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو مراتب بعضها أقوى من بعض، فيشمل: القول، والفعل، والكتابة، والإشارة، والتنبيه، والترك.


وإذا كان البيان واجبًا في حقه - صلى الله عليه وسلم - فيمتنع تأخيره عن وقت الحاجة اتفاقًا، واختلفوا في تأخيره عن وقت التلقي إلى وقت الحاجة، والمعنى: هل يمكن أن يخاطب الشارع المكلفين بخطاب فيه تكليف لم يأتِ وقته بعدُ؟ ذهب الجمهور إلى جواز ذلك مطلقًا، واستدلوا بأدلة، منها: قوله - تعالى -: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19]، والشاهد أنه - تعالى - عطف البيان على الاتباع بـ "ثم"، وفيه تأخير للبيان عن وقت الحاجة، فدل ذلك على الجواز.


وذهب الحنفية ومن معهم إلى عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة مطلقًا؛ لأنه يؤدي إلى وقوع المكلَّف في اعتقاد ما لم يُرِدْه الله، وهو يمتنع على الحكيم - تعالى.


ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور؛ لقوة أدلتهم.


وقد فرع العلماء على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة قواعد، منها: حجية الإقرار منه - صلى الله عليه وسلم - لما فعل أمامه، ورتب الشافعية على ذلك أن ترك الاستفصال في مقام الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال، وفرعوا على الخلاف في تأخير البيان عن وقت الحاجة، أن الخاص الذي تأخر عن العام يعتبر ناسخًا أم مخصصًا؟ فالأول مذهب الحنفية، والثاني مذهب الجمهور.


الباب الرابع

التعارض وطرق دفعه

أولاً: تعريف التعارض والتعادل: يأتي التعارض في اللغة بمعنى التقابل، ويعرِّفه أصحاب الأصول بأنه: تقابل بين دليلين على سبيل الممانعة، وهو تقابل في الظاهر لا في حقيقة الأمر.


ويأتي التعادل في اللغة بمعنى: التساوي، وقد جعله بعض الأصوليين مساويًا للتعارض، والراجح أن التعادل يعني تساوي الدليلين من كل وجه، بحيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر فيتساقطان، وحينها يبحث المجتهد عن دليل آخر، أو أنه يتوقف، أو يتخير، أو يأخذ بالأشد، أو بالأخف مما دل عليه الدليلان المتعادلان.


ثانيًا: شروط التعارض، وموقف المجتهد منه: يشترط بعض الأصوليين لحصول التعارض شروطًا، لو تحققت لانغلق باب الترجيح وامتنع الجمع بين الدليلين، ولا داعي لذكرها، وقد اختلف الأصوليون في موقف المجتهد من التعارض، فقال بعضهم: يتخير؛ لأن كل مجتهدٍ مصيب، وقال آخرون بالتوقف؛ لعدم تبيُّن وجْه الحق، وقال غيرهم: يأخذ بالأشد؛ لأن الحق شديد، وقال آخرون: يأخذ بالأيسر؛ لأن الدين يسر، ولعل الراجح أن يتوقف إن لم يتبين له الرجحان، فإن حضر وقت العمل أخذ بالأحوط، أو قلَّد الأعلم، وإن سئل قال: لا أعلم.


ثالثًا: طرق دفع التعارض الظاهري: هذه الطرق هي الجمع بين الدليلين، أو الحكم بالنسخ، أو الترجيح بينهما، وقد ذهب الحنفية إلى أن على المجتهد أن يصير أولاً إلى الحكم بالنسخ، وإلا فيصير إلى الجمع بين الدليلين، فإن لم يصر إلى الترجيح، وذهب الجمهور إلى أن على المجتهد الجمع بين الدليلين، وإلا فيصير إلى النسخ، فإن لم يصر إلى الترجيح، ونتناول هذه الطرق وأمثلتها تباعًا:

1- الجمع: وذلك بإظهار أنه لا تضاد بين الدليلين، وأن التعارض ظاهري، فيؤولهما على وجه يزيل التعارض، مثال ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسأَلها))؛ (رواه مسلم)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن بعدكم قومًا يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون))؛ (متفق عليه)، ووجه التعارض أن الأول مدح من يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها، والآخر ذمه، فيجمع بينهما بتأويل الأول في حق الشاهد الذي لا يعلم به صاحب الحق، ويحمل الثاني على الشاهد الذي يعلم به وبشهادته صاحب الحق، وبهذا يرتفع التعارض.


2- النسخ: ويقصد به في اللغة الإزالة، ويعرف في الاصطلاح بأنه: رفْع حكمٍ ثَبَتَ بخطاب متقدم بحكم ثبت بخطاب متأخِّر، وقد خرج بقولهم: "بخطاب" ما ثبت بمقتضى البراءة الأصلية فرفع حكمه لا يسمى نسخًا، والنسخ لا يكون إلا بكتاب أو سنة.


ومن المفيد في باب النسخ أن نتعرف على مشروعية النسخ، وشروط الناسخ، وطرق معرفة النسخ، فأما مشروعية النسخ، فلقوله - تعالى -: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وأما شروط الناسخ، فهي: أن يكون نصًّا من الكتاب أو السنة، متأخرًا عن المنسوخ، وفي قوته أو أعلى منه قوة، فالقرآن لا ينسخ إلا بقرآن مثله، والسنة تنسخ بالسنة، فلا ينسخ القرآن بالسنة عند الشافعي، واختاره بعض أصحابه، وحجتهم في ذلك أن السنة لا يمكن أن تكون خيرًا من القرآن ولا مثله، وقد قال الله - تعالى -: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].


وذهب الجمهور إلى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة أو المشهورة، وردُّوا على دليل الشافعي بأن المقصود بالخيرية في قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} الخيرية للمكلف، واستدلوا بإمكان ذلك عقلاً، ووقوعه شرعًا، ودللوا على الوقوع بأن حديث: ((لا وصية لوارث))، نسخ قولَه - تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180].


وذهب المؤلف إلى ترجيح رأي الشافعي، ورد على دليل النسخ بأنه دليل احتمالي؛ لأن آية الوصية منسوخة بآية المواريث، لا بالسُّنة.


وأما طرق معرفة النسخ، فهي: النص عليه، كما في حديث: ((كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها))؛ (أخرجه مسلم)، وأن يتأخر أحد النصين المتعارضين عن الآخر ويعرف التأخر بكلام الصحابي أو غيره، واتفاق الصحابة على النسخ، مثال ذلك: أن مفهوم حديث: ((الماء من الماء))؛ (أخرجه مسلم) أنه لا غسل من غير إنزال، واتفق الصحابة على نسخه بحديث: ((إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها، فقد وجب الغسلُ))؛ (متفق عليه)، وترْك الصحابة والتابعين العمل بالحديث من غير نص، مثاله: حديث: قتل السارق في المرة الرابعة (أخرجه الخمسة)، ولم يعمل به الصحابة ولا التابعون.


3- الترجيح وشروطه وحكمه: وهو مأخوذ من رجحان الميزان، ومعناه ميلان إحدى كفتيه، ويعرفه أصحاب الاصطلاح بأنه: "بيان اختصاص أحد الدليلين عن مقابله بمزيد قوة"، وشروطه ثلاثة، وهي: تحقُّق التعارض الظاهري بين الدليلين، وتعذُّر الجمع بينهما، وعدم إمكان إعمال النسخ لعدم التعرف على تاريخ الدليلين.


وحكمه: الوجوب في حق المجتهد، إذا تعارض عنده دليلان ولم يتمكن من الجمع بينهما، أو إعمال النسخ، وقد حكى غير واحد الإجماعَ على وجوب العمل بالدليل الراجح، ومما يدل عليه قوله - تعالى -: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55]، وكذا الإجماع.


وجوه الترجيح: الترجيح إما أن يكون بين الأدلة النقلية أو بين الأدلة العقلية، فإن كان بين الأدلة النقلية، فطرقه ثلاث، هي: الترجيح من جهة السند، أو من جهة المتن، أو لأمر خارجي، وإن كان بين الأدلة العقلية فله طرق ذكرها العلماء، ونتناول هذا تباعًا:


رابعًا: طرق الترجيح بين الأدلة النقلية:

1- الترجيح من جهة السند: ويكون إما بكثرة الرواة، فيرجح ما رواه الأكثرون على ما رواه الأقلون، وهو مذهب الجمهور، وخالفهم في ذلك الحنفية، وقاسوه على الشهادة، فكما أنه لا ترجيح عندهم بكثرة الشهود، فلا ترجيح كذلك بكثرة الرواة، والراجح مذهب الجمهور؛ لأن القياس على الشهادة قياسٌ مع الفارق، وهو لا يصح.


وإما أن يكون الترجيح بفقه الراوي، فتقدَّم روايةُ الأفقه على من هو دونه في الفقه، سواء أكانت الرواية باللفظ أم بالمعنى.


وإما أن يكون الترجيح بكون أحد الرواة هو صاحبَ القصة، أو له صلة قوية بما رواه، فيكون فيها أعلم من غيره، كتقديم رواية ميمونةَ حين قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال على الروايات المخالفة، وكتقديم حديث عائشة، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبًا وهو صائم، على الروايات المخالفة.


وإما أن يرجح بقوة الحفظ والضبط، كتقديم ما يرويه عبيدالله بن عمر بن عبدالعزيز على ما يرويه أخوه عبدالله؛ وذلك لقول الشافعي: "بينهما فضل ما بين الدرهم والدينار".


وإما أن يكون الترجيح بتقديم الحديث المسند على الحديث المرسل؛ وذلك للخلاف في حجية الحديث المرسل.


2- الترجيح من جهة المتن: وله طرق، أهمها:

أولاً: تقديم ما هو خاص على ما هو عام، وترجيح الأخص من العامَّينِ على الأعم منهما، وإليه ذهب الجمهور، وخالفهم فيه الحنفية، حيث يرون التساوي بينهما.

ثانيًا: ترجيح ما هو عام محفوظ على ما هو عام مخصوص.

ثالثًا: ترجيح ما كانت مخصصاته أقل على ما كانت أكثر.

رابعًا: ترجيح العام المطلق على العام الذي ورد على سبب، في غير صورة السبب؛ لأن العام الوارد على سبب يقصر عليه، وترجيح ما فيه إيماء إلى العلة على ما ليس كذلك، فيرجح حديث: ((من بدَّل دينه، فاقتلوه))؛ (رواه البخاري)، على ما في الصحيحين من النهي عن قتل النساء والصبيان؛ لأنه ورد على سبب، وفيه إيماء إلى العلة.

خامسًا: ترجيح ما يدل على المقصود من جهتين، على ما يدل عليه من جهة واحدة، فيقدم حديث: ((إنما الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة))؛ (رواه البخاري)، على حديث: ((الجار أحق بصقبه))؛ (رواه البخاري).

سادسًا: ترجيح الدليل المساق لبيان الحكم، على ما لم يسق له، كترجيح الحنفية لأحاديث النهي عن بيع المنابذة، على عموم قوله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275].

سابعًا: ترجيح الدليل المخالف للبراءة الأصلية على الموافق لها، وهذا مذهب الجمهور، وترجيح الدليل المحرِّم على الدليل المبيح، ومثالهما ترجيح أحاديث تحريم الحُمر الأهلية على أحاديث إباحتها.

ثامًنا: ترجيح الدليل المثبت للحكم على الدليل النافي له، كترجيح حديث بلال في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - داخل الكعبة، على حديث أسامة؛ وذلك لأن مع المثبت مزيدَ علم.

تاسعًا: ترجيح النص على الظاهر، والحقيقة على المجاز، والمنطوق على المفهوم.


3- الترجيح لأمر خارجي: وطرقه هي: أن يعضد أحد الخبرين ظاهر القرآن، كترجيح خبر التغليس على خبر الإسفار في صلاة الفجر، وترجيح القول على الفعل المجرد؛ ذلك أن الفعل المجرد قد يحتمل الخصوصية له - صلى الله عليه وسلم - وترجيح ما عليه عمل معظم السلف على ما ليس كذلك؛ وذلك لأن احتمال إصابتهم للراجح أكبر، وترجيح ما وافق القياس على ما خالفه، وترجيح الدليل الذي فسَّره الراوي على غيره مما لم يفسر.


الترجيح بين محامل اللفظ الواحد: وللترجيح بين ما يحتمله اللفظ الواحد قواعدُ نذكرها تباعًا، وهي:

أولاً: ترجيح الحقيقة غير المهجورة على المجاز غير الغالب، كترجيح مذهب أهل السنة في حمل صفات الله - تعالى - على الحقيقة لا على المجاز.

ثانيًا: ترجيح الحقيقة الشرعية على الحقيقة العرفية، فيكون لفظ الصلاة في حديث: ((لا تقبل صلاة بغير طهور))؛ (رواه مسلم) محمولاً على الصلاة الشرعية لا على الدعاء.

ثالثًا: ترجيح حمل اللفظ على المجاز لا على الاشتراك، كلفظ النكاح يحتمل أن يكون لفظًا مشتركًا بين الوطء والعقد، ويحتمل أن يكون مجازًا في العقد، فيرجح الأخير.

رابعًا: ترجيح ما لا يحتاج إلى إضمار على ما يحتاج إليه، كحديث: ((ذكاة الجنين ذكاة أمِّه))؛ (رواه الخمسة إلا النسائي)، يرجح فيه مذهب الجمهور، وتكون ذكاة أمه ذكاة له.

خامسًا: ترجيح حمل اللفظ على الإنشاء لا على التأكيد، فإذا قال رجل لزوجته: أنت طالق طالق، فالأصل أن يحمل على الإنشاء لا على التأكيد، عند من لا يقول بالنيَّة.

سابعًا: الترجيح بين المعقولين: ونقصد بالمعقولين الأقيسة، وطرق الفقه الأخرى التي لا تندرج تحت النقل والقياس من استصحاب، واستصلاح، واستقراء عند من يراه.


ونحن سنتناول ها هنا الترجيح بين الأقيسة فقط، وأهم هذه الطرق تقديم القياس الذي هو في معنى الأصل على قياس العِلة والشَّبَه، كتقديم قياس العبد على الأمَة في تنصيف الحد بجامع الأصل، على قياسه على الحر الذَّكر بجامع الذكورة.


وكذا تقديم القياس الذي هو في العلة على قياس الشبه والطرد، كتقديم قياس (البيرة) المسكرة على الخمر بجامع الإسكار، على قياسها على عصير التفاح بجامع الشبه في الصورة والشكل.


وكذا تقديم القياس مطرد العلة، على القياس الذي علَّته غير مطردة، كتقديم تعليل الربا بالطعم في الأصناف الستة عند الشافعي، على تعليله بالكيل عند غيره؛ وذلك لأن علة الطعم مطردة، بخلاف علة الكيل.


وكذا تقديم القياس الذي علته مثبتة، على القياس الذي علته نافية، والذي ثبت بالنص حكمُ أصله، على ما ثبت حكمُ أصله بالظاهر، وتقديم ما وافق أصول الشرع الثابتة على ما له أصل واحد فقط، وتقديم ما وافق ظاهر القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة، على ما لم يوافق ذلك.


الباب الخامس
الاجتهاد

أولاً: تعريفه: يعرفه أصحاب اللغة بأنه بذْل الجهد، والجهد يطلق على الوسع والطاقة، ويعرف في الاصطلاح بأنه: بذْلُ الوسع من أجْل إدراك حكمٍ شرعي عن طريق الاستنباط ممن هو أهل له، وقولنا: "بطريق الاستنباط" قيد في التعريف خرج به بذل الوسع من أجل إدراك الحكم الشرعي عن طريق حفظ المتون، أو النصوص الشرعية الدالة صراحة على الحكم، فلا يسمى اجتهادًا.


ثانيًا: أركان الاجتهاد: أركانه ثلاثة، وهي: المجتهد، والمجتهد فيه، والنظر وبذل الجهد، ويطلق الأول على الفقيه المستكمل لشروط الاجتهاد، ويطلق الثاني على الواقعة التي يبحث المجتهد عن حكمها بالنظر والاستنباط، ويطلق الثالث على فعل المجتهد الذي به يتوصل إلى الحكم.


ثالثًا: الاجتهاد في عصر الصحابة والتابعين وكبار الأئمة:

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرجعَ الناس في الفتوى، ومع ذلك فقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يجتهدون في غيابهم عنه، كما حصل في قوله لهم: ((لا يصلينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة))؛ (متفق عليه)، فجاءهم وقت العصر ففهم بعضهم أنه قصد استعجالهم لا حقيقة الأمر، فصلَّوا في الوقت، وفهم بعضهم أنه قصد حقيقة الأمر، فصلَّوا في بني قريظة، فلم يعنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا منهم.


واجتهد الصحابة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ونُقل إلينا كثير من اجتهاداتهم، ومن ذلك رأي ابن عباس في العول، فلا يراه في الفرائض، خلافًا لجمهور الصحابة، ودليلهم في ذلك قياس العول على قسمة الغرماء.


وجاء عصر التابعين وكثرت الوقائع واختلط المسلمون بغيرهم من أمم الأرض، فصارت الحاجة ملحَّةً للاجتهاد، فاجتهد التابعون وكان اجتهادهم متأثرًا بمن تفقَّهوا عليه من الصحابة، فتأثَّر تابعو العراق بابن مسعود وعلي، وتأثر تابعو المدينة بابن عمر - رضي الله عنهم جميعًا - وظهرتْ إثر ذلك مدرسةُ أهل المدينة (أهل الحديث)، ومدرسة أهل العراق (أهل الرأي).


رابعًا: شروط المجتهد:

1- الإسلام، فلا يصح من كافر.

2- العقل، فلا يصح الاجتهاد من مجنون.

3- البلوغ، فلا يصح من قاصر.

4- العدالة، فلا تقبل رواية مجروح، فضلاً عن اجتهاده.

5- معرفة آيات الأحكام وأحاديثه صحيحها وضعيفها، سواء أدلتْ على الأحكام بطريق النص أم الظاهر، ولا يشترط معرفة أكثر من دليل في المسألة الواحدة، ما لم يكن الدليل الآخر فيه زيادة حكم متعلق بالمسألة، من قيد، أو شرط، ونحوهما.

6- معرفة الناسخ والمنسوخ من أحكام الكتاب والسنة، ويكفيه أن يعرف أن الدليل الذي استدل به ليس بمنسوخ.

7- معرفة مواطن الإجماع؛ حتى لا يخالفها، فيقع في محظور.

8- معرفة بقية الطرق الموصلة إلى الفقه كالقياس، والمصالح المرسلة، والاستصحاب، والأعراف والعادات في الأحكام المبنية عليها.

9- معرفة دلالات الألفاظ وما يصح وما لا يصح من الأساليب.

10- معرفة مراتب الأدلة وكيفية الجمع بينها، وطرق الترجيح بينها عند التعارض.


خامسًا: تجزؤ الاجتهاد:

ويقصد به أن يجتهد الفقيه في باب أو مسألة من مسائل الفقه دون غيرها، وقد أكثر الأصوليون من الكلام حول هذه المسألة، ومحل النزاع: هل يجوز الاجتهاد في مسألة من مسائل الفقه في حق من توافرت فيه شروط الاجتهاد العامة، وهي: معرفته للعربية، ودلالات ألفاظها، وقدرته على الاستنباط، وأن يتعرف على ما يحتاجه فيها من مسائل الأصول، دون أن يحيط بأدلة الفقه كلها، أو لا؟


ذهب العلماء إلى أن من لم تتوفر فيه هذه الشروط، لا يجوز له أن يجتهد ولو في مسألة واحدة، واختلفوا فيمن توافرت فيه الشروط العامة، فذهب الجمهور إلى أنه يجوز له الاجتهاد ما دام توافرت فيه شروط الاجتهاد العامة وأحاط بأدلة المسألة، ولو لم يحط بأدلة الفقه كلها علمًا، ودليلهم في ذلك أن كثيرًا من العلماء كانوا يتوقَّفون في بعض المسائل؛ لعدم إحاطتهم بأدلتها.


وذهب بعض العلماء إلى أن الاجتهاد لا يتجزأ، وأن من لم يحط بأدلة الفقه كلها لا يجوز له أن يجتهد في باب أو مسألة، وهو منقول عن أبي حنيفة ولم يذكره نصًّا، واختاره الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول"، ودليله على ذلك أن المسائل الفقهية متصلة بعضها ببعض، كالسلسلة الواحدة، وليس بإمكان من لم يحط بالأدلة كلها أن يحيط بأدلة مسألة من المسائل.


وفصَّل بعضهم، فأجاز تجزئة الاجتهاد في الأبواب لا في المسائل، ودليله على ذلك أن المسائل في الباب الواحد متصلة بعضها ببعض.


وذهب المؤلف إلى جواز تجزئة الاجتهاد بالضوابط المذكورة سابقًا في المسألة الواحدة دون النوازل؛ وذلك لأن أدلة المسائل قد حصرتْ كلها أو معظمها، فيمكن الاطلاع عليها، بخلاف مسائل النوازل.


وأما ثمرة الخلاف، فتتجلى في مدى الاعتداد بفتوى من لم يحط بأدلة الفقه كلها، وهل يجوز العمل بها من العامة، وهل يدخل ضمن المجتهدين، فلا ينعقد الإجماع إلا بموافقته أو لا؟


سادسًا: اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجتهاد الصحابة في عهده:

أما اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - فالجمهور على أنه إذا لم يأتِه الوحي، قد يجتهد، وقد يتوقف إلى نزوله، وإذا اجتهد: فهل هو مسدَّد؟ ذهب بعضهم إلى أنه مسدد وعدم إمكان خطئه في الاجتهاد، وذهب بعضهم إلى أنه قد يخطئ، ولكنَّ الله - تعالى - يبيِّن له الحق في الحال.


والمتأمل في النصوص يتأكَّد عنده أن الرأي الأخير هو الصواب، قال - تعالى -: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]، وقال أيضًا: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1، 2]، ومحل الشاهد أنه اجتهد وعوتب، والمعاتبة لا تكون إلا على خطأ، وليس هذا انتقاصًا؛ بل هو دليل على بشريَّته وصدْقه وتبليغه عن ربه.


وأما اجتهاد الصحابة - سواء في غيابهم عنه، أو في حضوره بإذنه - فجائزٌ وواقع، ودليل الاجتهاد في حال غيابهم عنه ما وقع من عمار - رضي الله عنه - في التيمم للجنابة، وهو في الصحيحين، وأما للحاضر بإذنه - صلى الله عليه وسلم - فمثاله: اجتهاد سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في الحكم على بني قريظة، وهو في الصحيحين، ودليل قيد الإذن قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].


ويؤخذ من هاتين المسألتين حكمُ العودة إلى الظن مع إمكان تحقق اليقين، فقال بجوازه من أجاز الاجتهادَ في المسألتين، ومنَعَه من منع الاجتهادَ فيهما.


سابعًا: هل المصيب في مسائل الاجتهاد واحد؟

اختلف العلماء: هل المصيب في مسائل الخلاف واحد أو أنه يتعدد؟ ومحل خلافهم المسائل الاجتهادية العملية، ويخرج عنها المسائل العملية القطعية، وكذا المسائل العلمية العقدية، فقد اتفقوا أن المصيب فيها واحد.


ونقل خلافه عن القاضي العنبري والجاحظ، وهو مخالف للعقل، وحمل المحققون من أهل العلم - ومنهم ابن تيمية - كلامَ العنبري على المجتهدين من أهل الملة، فإنهم إذا استفرغوا جهدهم في إدراك الحق في مسائل الأصول أو الفروع، فلا يأثمون.


وبناء على ما سبق؛ فإن الكلام يكون في مسألتين:

الأولى: هل يقال لكل من المختلفين: إنه مصيب؟

والثانية: هل يأثم إذا خالف ما هو الحق عند الله؟


المسألة الأولى: هل يقال لكل واحد من المختلفين: إنه مصيب؟

عرفنا أن محل النزاع هو المسائل الاجتهادية العملية، وهي المسائل التي يكون دليلها ظنيًّا، والعقل لا يمنع من تصويب المختلفين فيها، وقد اختلف العلماء هل الجميع مصيبون، أو المصيب واحد؟ والقول بأن المصيب واحد هو الأرجح؛ وذلك للأدلة الآتية:

1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر))؛ (متفق عليه)، فقد سمى أحد المجتهدين مخطئًا.

2- إذا كان المجتهدون كلهم مصيبين مع اختلافهم، لانعدمت الحاجة إلى المناظرة والاستدلال؛ لأن الخلاف يكون من خلاف التنوُّع، والإجماع على خلافه.

3- إذا كان الحق متعددًا عند الخلاف، فيلزم منه المحال في بعض المسائل، وهو الجمع بين الضدين.

4- إجماع الصحابة على خطأ بعض الاجتهادات، ومنه قول ابن مسعود عن رأيه: "وإن كان خطأ، فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله"؛ وهو في النسائي ومسند أحمد، ولا مخالف له من الصحابة.


المسألة الثانية: هل يأثم إذا خالف ما هو الحق عند الله؟

اتفق جمهور العلماء على أن المجتهد مأجور، فإن أصاب الحق فأجران، وإن لم يصبه فأجر واحد، ولا إثم عليه، وخالفهم في ذلك ابنُ علية وبعض الظاهرية، ودليل مذهب الجمهور قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر))؛ وهو في الصحيحين، وهذا الخلاف مبنيٌّ على خلاف في مسألة أخرى، وهي: هل لله - تعالى - في المسألة الواحدة حكمان أو حكم واحد؟


ثامنًا: تجديد الاجتهاد: نعني بتجديد الاجتهاد أن يعيد المجتهد النظرَ في حكم واقعة تجدَّد وقوعُها، أو تكرر سؤالُه عنها، مع سبق نظره فيها، وغلبة الظن بحكم الله - تعالى - فيها، فهل يفتي بما أفتى به سابقًا فيها دون إعادة النظر أو أنه يجب عليه إعادة النظر؟ وما الحكم إذا نسي طريق اجتهاده الأول؟ ويخرج من مجال الخلاف ما إذا وجد ما يستدعي إعادة الاجتهاد كتغيُّر العرف في مسألة بُني الحكم عليها، فيجب عليه إعادة الاجتهاد، وقد ذُكر في المسألة أقوال، أشهرها ما يلي:

القول الأول: يجب عليه تجديد الاجتهاد في الصور الثلاث كلها؛ لأنه إذا لم يعد كان مقلدًا لنفسه.

القول الثاني: عدم وجوب إعادة النظر؛ لأن الأصل في الاجتهاد عدم التغير، وهو مما يجوز البناء عليه؛ ولأنه لا دليل على إعادة الاجتهاد.

القول الثالث: إذا كان ذاكرًا لطريق اجتهاده، فلا يجب عليه الإعادة، وإن نسي الطريق أعاد الاجتهاد، وهو الراجح، ودليلهم على عدم الإعادة مع ذكر الطريق، أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، حتى يظهر ما يعارضه، ودليلهم على الوجوب حال النسيان أنه لو أفتى بما سبق دون معرفة لدليله، يكون مقلدًا، والقادر على النظر لا يجوز له التقليد.


تاسعًا: أسباب تغيير المجتهد لاجتهاده:

1- معرفة دليل لم يكن قد عرفه من قبل.

2- معرفة دلالة دليل على الحكم لم يكن قد تنبَّه له.

3- حدوث تغير في عادة أو عرف كان الحكم قد بني عليها.

4- حدوث تغير في المصالح أو المفاسد المترتبة على الفعل المفتى بحُرمته أو بجوازه.

5- عدم تحقق مناط الحكم في الحادثة النازلة.


عاشرًا: القواعد المبنية على تغيُّر الاجتهاد:

1- قاعدة: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد: فإذا أفتى المجتهد أو قضى بناء على اجتهاد، ثم تغيَّر الاجتهاد منه أو من غيره، فإن حكمه السابق لا ينتقض، وفتواه لا تنتقض كذلك إذا اتَّصل بها العمل.


2- قاعدة نقض الاجتهاد المخالف لنص صريح في الكتاب أو السنة، أو لإجماع صريح ثابت:

سواء كان النص قطعيَّ الثبوت أو ظني الثبوت، إلا أنه يشترط لنقض الاجتهاد بظني الثبوت ألاَّ يعارضه نصٌّ آخر يساويه أو يقاربه في القوة.


3- هل يجب على المجتهد أن يخبر من أفتاه بتغير اجتهاده؟

هذه مسألة خلافية، والجمهور على أنه لا يجب عليه ذلك، وقيل: يجب إذا لم تتصل الفتوى بالعمل، وكان بالإمكان إخباره من غير مشقة، وهو أرجح؛ لأنه من باب النصيحة المأمور بها، ويندرج تحت التعاون على البر والتقوى المأمور به.

وما سبق فيما إذا لم يخالف المجتهد نصًّا صحيحًا من كتاب أو سنة لا معارض له، أو إجماعًا، فإن خالفه فيجب عليه إخبار من أفتاه بالفتوى؛ حتى لا يقع في الإثم، وقد أفتى ابن مسعود أنه يجوز للرجل أن ينكح أم زوجته إذا لم يكن قد دخل بها، فأخبره الصحابة بحرمة ذلك، فأخبر من استفتاه.


4- قاعدة جواز تغير الفتوى بتغير الزمان: قد يتغيَّر الحكم أو الفتوى في المسألة الواحدة بسبب تغير أعراف الناس وعاداتهم وبتغير الزمان، ونحو ذلك مما له أثر في الحكم.


وقد توسع في هذه القاعدة بعض المتأخرين، حيث إنهم لم يقصروها على الأحكام الراجعة إلى العرف والعادة، وأنكرها بعض العلماء؛ حيث فهم منها أنها عامة في جميع الأحكام، وذهبوا إلى أن الحكم الشرعي لا يتغير، وإنما قد لا يعمل به إذا تخلف مناطه، ومثَّلوا لذلك بالنفقة، فقد كانت تقدَّر بالشيء اليسير من الطعام واللباس بحكم العرف، وفي هذا الوقت لم يعد كافيًا، فهذا الحكم لم يتغير؛ ولكنه قاعدة عامة يُترَك للقاضي تطبيقُها على المختصمين معتمدًا على عرف البلد.


ونص هذه القاعدة عند ابن القيم، ليس فيه إلا عدم الإنكار على من غيَّر فتواه لتغير الزمان، والحكم في هذا كالفتوى، فيجب على القاضي أن يعرف أعراف الناس وعاداتهم حتى يقضي بينهم.


الباب السادس

التقليد

أولاً: تعريفه: أما معناه في اللغة، فوضع القلادة على العنق، وأما تعريفه عند أهل الاصطلاح، فقد اختلف العلماء في تعريفه، وترتب على ذلك اختلافهم في حكمه؛ فقد عرفه البعض بأنه: قبول قول الغير من غير حجة، وعرفه البعض الآخر بأنه: قبول قول القائل وأنت لا تعرف من أين قاله، أو هو أخذ مذهب الغير من غير معرفة دليله.


وعند الموازنة بين التعريفين نجد أن التعريف الثاني أضبط، ويؤخذ عليه أنه لم يرد على سؤال فحواه: هل يخرج الإنسان من مرتبة التقليد إذا عرف دليل المسألة، وإن لم يكن قادرًا على دفع الشُّبه عن الدليل، والجواب عن أدلة القول الآخر؟ والظاهر أن أكثر الأصوليين والفقهاء لا يخرجونه عن مرتبة التقليد بمجرد معرفة الدليل؛ ولهذا كان الأحرى بهم تعريف التقليد بأنه: "أخذ مذهب الغير من غير معرفة رجحان دليله"؛ وذلك كي يصدق وصفُ المقلد على الذي يقلد ولا يعلم رجحان الدليل، وإن عرفه.


ثانيًا: أركان التقليد: أركانه ثلاثة، هي: المقلِّد، والمقلَّد، والمقلد فيه، فالمقلِّد - بكسر اللام - هو العامي، والمقلَّد - بفتح اللام - هو المجتهد، وأما المقلد فيه فهو الحكم الشرعي الذي يؤخذ من المجتهد من غير معرفة لرجحان دليله.


ثالثًا: حكم التقليد: ينقسم التقليد إلى تقليد في الأصول وتقليد في الفروع، وقد اختلف الأصوليون في هاتين المسألتين، وحصل خلط كبير في نقل الأقوال في هاتين المسألتين، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى عدم اتفاقهم على تعريف التقليد.


فمن عرفه بأنه: "قبول قول الغير من غير حجة"، قصدوا بذلك أن القول المقلد فيه لا حجة عليه سوى قول المجتهد أو فعله، وذهبوا إلى تحريم التقليد والمنع منه، ولا يفهم من هذا أنهم منعوا العوام من سؤال العلماء فيما أشكل عليهم من أمور دينهم؛ فإنه لا خلاف في أنه يجب على العامي أن يسأل العلماء عما أشكل عليه من أمور دينه، وهذا لا يسمى تقليدًا عندهم ما دام أفتى العالم في المسألة بدليل؛ بل يكون العامي متبعًا لشرع الله.


وأما من عرفه بأنه: "قبول قول الغير من غير معرفة دليله" أو نحوه، فإنهم يفرِّقون بين التقليد في أصول الدين، والتقليد في فروعه، فمنعوا التقليد في الأصول وأجازوه في الفروع، وعليه نستعرض الخلاف في المسألتين: التقليد في الأصول، والتقليد في الفروع.


المسألة الأولى: التقليد في الأصول: يظن بعض الأصوليين أن أصول الدين مسائل الاعتقاد عمومًا، وهذا غير صحيح؛ فأصول الدين: الأمور التي يدخل الإنسان بها في الإسلام، وهي: الإيمان بالله وأنه المستحق وحده للعبادة، والإيمان بصدق محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فهذه هي الأصول التي ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز التقليد فيها، وإنما يتوجَّب على كل مسلم أن يتعرف على أدلتها، وأن يعتقد رجحانها حتى تثبت في قلبه ووجدانه، ومن أدلتهم دليل عقلي، وهو: أن المقلد إما أن يشكَّ في صدق من قلَّده أو يتيقن صدقه، فإن كان شاكًّا فإيمانه مع الشك باطل، وإن كان متيقنًا فلا يخلو حاله من أمرين: إما يقين مبني على نظر واستدلال، أو يقين مبني على ثقة بالمقلد، فإن كان الأول فلا يكون مقلدًا، وإن كان الثاني فلا فرق بين إيمانه وإيمان النصارى بما يقوله قساوستهم ورهبانهم.


وقد اختلف العلماء في وجوب النظر على الجميع، والصحيح أنه واجب على القادر عليه؛ حتى لا يهتز إيمانه لأدنى شبهة، وأما ثمرة الخلاف، فتظهر في أن الموجبين للنظر في تلك المسائل يؤثمون من تركه مع القدرة عليه، ولا يعدُّونه شرطًا لصحة الإيمان، فالإيمان صحيح ما لم يخالطه شك.


المسألة الثانية: التقليد في الفروع: يراد بالفروع ها هنا ما لم يكن من الأصول التي مرَّ ذكرها، فيدخل فيها بعض المسائل العقدية، والفقه ومسائل أصوله.


وقد اختلف العلماء في حكم التقليد في تلك المسائل؛ فأجازه الجمهور، ومن أدلتهم إجماع الصحابة على أن العوام إذا سألوا أجيبوا، وإجماعهم على أنه يجب على الجاهل سؤال العالم، وإقرار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للرجل الذي زنى ابنه سؤالَه أهل العلم، والحديث متفق عليه، وحديث: ((ألا سألوا إذ لم يعملوا))؛ وهو في الترمذي.


وذهب بعض العلماء - كابن حزم والشوكاني - إلى تحريم التقليد، وتحريمهم هذا مبنيٌّ على تعريفهم، ولو وافقناهم على تعريفهم لوافقناهم على حكمهم، وعليه فلا يمكن أن نحرِّم التقليد على المسلمين؛ لأن أكثرهم يعملون بالأحكام بلا معرفة لأدلتها الخاصة.


رابعًا: حكم تقليد المجتهد لمجتهد آخر: نقل الأكثرون من أهل الأصول اتفاقَ العلماء على أنه لا يجوز للمجتهد أن يترك ما غلب على ظنِّه ويعمل بظن غيره، إذا توصل في مسألة من المسائل إلى ظن غالب بحكم الله - تعالى - فيها، وحصر الأصوليون الخلاف في المسألة فيما إذا كان المجتهد لمَّا ينظر في المسألة بعدُ، أو أنه نظر فيها ولما يتوصل إلى ظن غالب.


وقد أخطأ بعضهم فحصر الخلاف في حالة ما إذا اتَّسع وقت المجتهد للنظر والاجتهاد، ونقل الاتفاق على أنه يجوز للمجتهد إذا ضاق الوقت أن يقلِّد، وهذا غير صحيح؛ فذلك داخل في الخلاف أيضًا.


وأهم ما قيل في المسألة أربعة أقوال: الأول: أنه لا يجوز له التقليد مطلقًا، وهو رأي جمهور الأصوليين، ومن أدلتهم على ذلك: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك))، فيه أن المجتهد المقلَّد في رأيه ريبةٌ، فينبغي ألاَّ يقلده المجتهد، وهذا الاستدلال فيه نظر.


ومن أدلتهم قوله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فهو إذًا للعاجز دون المجتهد، ومن أدلتهم عموم الأدلة التي تذم التقليد.


وأما الرأي الثاني، فيقولون: إنه لا يجوز للمجتهد التقليد، إلا إذا حضر وقتُ العمل ولم يتَّسع وقتُه للنظر، أما إن نظر فلا يقلد، وهو رأي ابن سريج، ومعه في ذلك ابن تيمية، ودليلهم: أنه إذا لم يتسع وقته للنظر، أو نظر فلم يظهر له الحكم، يكون بمثابة العامي، فيجوز له التقليد؛ ولأن الشرع إنما علَّق سؤال أهل العلم على عدم العلم بالبيِّنات.


وأما أصحاب الرأي الثالث، فيقولون بجواز تقليد المجتهد لمن هو أعلم منه فقط، ذهب إلى ذلك الشيباني، ودليله على ذلك عقلي، يرى فيه أن العالم مع من هو أعلم منه بمثابة العامي مع العالم.


وذهب رأي رابع إلى جواز تقليد العالم للصحابة، والظاهر رجحان القول الثاني الذي يجيز للمجتهد أن يقلد إذا ضاق الوقت، أو لم يتوصل لغلبة ظن بحكم، والتقليدُ أولى من ترك العمل، وأما الإفتاء فلا يجوز له أن يفتي برأي غيره.


خامسًا: سؤال العامي من شاء من المفتين: من حقِّ العاميِّ أن يسأل من شاء من أهل الذِّكر، وله سؤال المفضول دون الفاضل، وهو رأي الجمهور، ودليلهم على ذلك إجماع الصحابة والتابعين، فقد كان العوام يسألون المفضولَ منهم مع وجود الفاضل، فيفتيهم، ثم إنه لم ينقل عن أحد منهم أنه كان لا يفتي في مسألة مع وجود من هو أفضل منه في البلدة.


وذهب بعض العلماء إلى أن يجب على العامي أن يبحث عن الأعلم والأتقى ليسأله، وقالوا: هذا هو اجتهاد المقلدين: البحثُ عن الأعلم والأتقى.


سادسًا: موقف المستفتي من اختلاف المفتين: إذا استفتى أكثر من عالم في مسألة، فأفتى كل بفتوى، فما موقف العامي من ذلك، وبمَ يأخذ؟ الظاهر الأخذ بفتوى الأعلم، فإن كانوا في العلم سواء، فالأتقى والأورع، وعليه إن جهل حالهم أن يسأل العارفين بأحوالهم، ويأخذ بقول من غلب على ظنه علمُه وورعه وتقواه، وذهب بعض العلماء إلى أنه يتخير، وقيل: يحتاط، وقيل: يستسهل، والرأي الأول هو الصحيح الراجح.


سابعًا: تقليد الميت: في المسألة ثلاثة أقوال:

الأول - وهو رأي الجمهور -: أن تقليد الميت جائز، وقد حكى بعضهم الإجماعَ عليه، واستدل بعضهم على جوازه بالقياس على شهادة الميت قبل الحكم بها، واستدل البعض على الجواز بالضرورة؛ لعدم وجود المجتهد المطلق.


الثاني: أن تقليد الأموات ممنوع مطلقًا، و قد يفهم هذا من كلام الرازي؛ ذلك أنه قال بجواز نقل الفتوى عن الأحياء دون الأموات، ودليل هذا القول أن الميت لا يعتدُّ بقوله في الإجماع، كما أنه يجب على العلماء تجديد الاجتهاد، والميت لا يمكن له ذلك، كما أن اختلاف الزمان والمكان والوقائع يؤثِّر على الفتوى فتتغيَّر، فما يكون مفسدة في زمن، يكون مصلحةً في زمن، والعكس كذلك، ولا يمكن تقدير هذا من الأموات.


والراجح: أن الوقائع والأحكام التي أفتى بها المتقدمون إما أن يغلب على الظن أنه لا مدخل لتغير الزمان فيها، فيعمل بها، أو يغلب على الظن عكسه، فتترك، ولعل تأخر الفقه عن مسايرة تطور الحياة راجع إلى عدم مراعاة ذلك بخصوص ما لم يرد فيه نصٌّ صحيح صريح خالٍ من المُعارض.


ثامنًا: التلفيق: يراد به في الغالب: الإتيان بكيفية لا توافق قول واحد من المجتهدين المتقدمين في مسألة واحدة، ويمثِّلون للتلفيق المختلف فيه بتوضُّؤ رجل ماسحًا على شعرات من رأسه أخذًا بمذهب الشافعي، وعدم اعتماده للنقض بمس المرأة أخذًا برأي أبي حنيفة، ثم يصلي بهذا الوضوء، فإن صلاته باطلة على مذهب أبي حنيفة؛ لأنه لم يمسح ربع رأسه، وباطلة على مذهب الشافعي؛ لانتقاض وضوئه بلمس المرأة.


وقد يراد بالتلفيق ما هو أعم من هذا المعنى عند بعض الفقهاء، حيث يدخِلون فيه أخْذ المقلد في مسألة بمذهب إمام، وفي أخرى بمذهب إمام آخر، ولو لم يكن هناك تلازُم بين المسألتين، ولا يمكن منع التلفيق بهذا المعنى، إلا عند من يلزمون المقلِّد الأخذَ بمذهب واحد في جميع الأحكام، وقولهم هذا فاسد؛ إذ لا دليل عليه إلا إفراطهم في التقليد؛ فقد أجمع الصحابة والتابعون أن للمقلد أن يسأل من العلماء من شاء في كل مسألة على حدة.


وقد يراد بالتلفيق إحداث قول جديد في مسألة من المسائل بأن يكون مركبًا من قولين سابقين، وقد سبق بيان ذلك.


وقد يراد به أن يفتي المجتهد بقول مع عدم اعتقاد رجحانه، يكون هذا القول مركبًا من قولين، وإنما أفتى به؛ ليخلص المستفتي من مشكلة وقع فيها، وهو ما يدخل فيما يسمى بـ (مراعاة الخلاف).


والصواب: أن على المجتهد إذا رأى رجحان قول في حق مستفتٍ بعينه رفعًا للحرج، ومراعاة ليسر الشريعة، ففتواه حينئذٍ تكون صحيحة.


أما المعنى المشهور للتلفيق، فهو: "الإتيان بكيفية لا توافق قول واحد من المجتهدين المتقدمين في مسألة واحدة"، وقد اختلف العلماء في جوازه، فإذا وقع من غير قصد فلا شك في أنه يكون جائزًا؛ لأن من حق المكلف أن يعمل برأي من استفتاه إجماعًا، وإن وقع بتعمد من مجتهد، فإن كان يرى رجحان القول مطلقًا، أو يرى رجحانه في هذه الصورة، فإن فتواه صحيحة على الراجح، وإن كان لا يرى رجحانه لا في هذه الصورة ولا مطلقًا، ففتواه باطلة.


وإن حصل التلفيق من مقلِّد بقصد، فغيرُ صحيح؛ وذلك لأنه يحتمل أن يقع في مخالفة النصوص من حيث لا يدري، ولأن ذلك من اتباع الهوى، وهو ينافي التدين.


ولصحة التلفيق شروطٌ شرطها بعض العلماء، أهمها: عدم مخالفته لنص صحيح من الكتاب أو السنة أو مخالفته للإجماع، وألا يقصد منه التنصل من عهدة التكليف.


تاسعًا: تتبُّع الرخص: ويقصد به الأخذ بأخف ما قيل في المسائل الخلافية، وهو قد يحصل من مجتهد أو مقلد، فإن حصل من مجتهد، فلا يجوز إلا إذا غلب على ظنِّه عن طريق الاجتهاد رجحانُه مطلقًا، أو رجحانه في صورة من الصور التي سُئل عنها، فإن حصل من مقلِّد، فقد أجازه بعض العلماء، والصحيح منعُه؛ وذلك لأن الواجب في حق المقلد أن يسأل أهل العلم لا أن يتتبَّع الرخص، ولأن تتبُّعها يؤدي إلى التحلل من عهدة التكاليف الشرعية، وفيه اتباع للهوى؛ ولذلك قال بعضهم: من تتبع الرخص فقد تزندق.



رابط الموضوع: Cant See Links


رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:40 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.4, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir