بعد الانتهاءِ من ذكرِ القولِ الأولِ نأتي على القولِ الثاني ، وقبل ذلك أشكرُ كلَ من شارك في التعليقِ المفيدِ المبني على علمٍ وليس على الكلامِ العاطفي الذي يتقنهُ كلُ واحدٍ ، وقد آثرتُ التأخرَ في نقلِ القول الثاني في المسألةِ للإطلاعِ على أكبرِ عددٍ من المصادرِ المتعلقةِ بالحجاجِ .
القولُ الثاني :
قبل أن نشرعَ في ذكرِ القولِ الثاني نقفُ مع أمرٍ مهمٍ له علاقةٌ مهمةٌ بهِ ، وهي فتنةٌ حصلت في تلك الفترةِ من تاريخِ بني أميةَ ألا وهي فتنةُ ابنِ الأشعثِ ، وبدون التطرقِ لهذه الفتنةِ قد لا يستوعبُ القولُ الثاني .
جرت بين ابنِ الأشعثِ والحجاجِ موقعةٌ في مكانٍ يقالُ لهُ : " ديرُ الجماجمِ " انتهت بانتصارِ الحجاجِ على ابنِ الأشعثِ ، ولستُ بصددِ التفصيلِ فيما جرى بين ابن الأشعثِ والحجاجِ من حروبٍ وقتالٍ ، ولكن تباينت آراءُ العلماءِ ، واختلفت مواقفهم اختلافاً كبيراً في مسألةِ الخروجِ على بني أميةَ ، والدوافعِ التي أدت إلى هذا الخروجِ على بني أميةَ .
لقد كانت من أهمِ الدوافعِ التي دفعت ابنَ الأشعثِ ومن معه من العلماءِ في الخروجِ على بني أميةَ أمران هما :
أولاً : الجرأةُ العجيبةُ التي كان يملكها الحجاجُ لبعضِ حدودِ الدينِ وانتهاكهِ لحرماتهِ ، وقد كان ممن كتب في هذا الأمر طرفانِ ووسط ، طرفٌ أخفى هذا الجانب ، وهذا ليس من الإنصافِ في شيءٍ ، وطرفٌ بالغ في ذكرِ انتهاكات الحجاجِ لحرماتِ الدين ، وأكثرها لا يصحُ ، هذا إلى جانبِ دخولِ الدسِ من أعداءِ الحجاجِ وبني أميةَ في صياغةِ كثير من هذه المبالغات ، وخاصة كتب الأدب كـ " العقدِ الفريد " لا بن عبد ربهِِ الذي امتلأ بكثيرٍ من الدسِ على التاريخِ ، وكذلك كتابُ " الأغاني " للأصفهاني والذي تتسم رواياتهُ بسمةٍ شيعيةٍ واضحةٍ ، ولهذا يقولُ ابنُ العربي في " العواصم من القواصمِ " ( ص 260 ) عن النقلِ من هذه الكتب : : وأغلبُ من كتب في المسائلِ التاريخيةِ منهم كانوا من أهلِ الأهواءِ والبدعِ . وفي هذه الكتب كثيرٌ من أحاديثِ استحقارِ الصحابةِ والسلفِ والاستخفافِ بهم ، واختراعِ الاسترسالِ في الأقوالِ والأفعالِ عنهم ، وخروج مقاصدهم عن الدينِ إلى الدنيا ، وعن الحقِ إلى الهوى .ا.هـ.
وقد تحرز الإمامُ ابنُ كثيرٍ فيما نقل عن سيرة الحجاجِ كما ذكرتُ في المقالِ الأولِ ، وأعيدهُ هنا لأهميتهِ : وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر كما قدمنا ، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها ، وإلا فهو باق في عهدتها ، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه ، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جداً لوجوه ، وربما حرفوا عليه بعض الكلم ، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات .ا.هـ.
وأهلُ الوسطِ حقق ومحص في النقلِ ، واعتمد على ما ثبت بصحيحِ السندِ من خلالِ كتب السنةِ المشهورةِ ، والكتبِ التي اشتهر أصحابها التحري والدقة .
وفي مقدمةِ تجاوزاتِ الحجاجِ الشرعيةِ إسرافهُ في القتلِ ، وهو المُبِيرٌ الذي أخبر عنه النبي صلى اللهُ عليه وسلم ، وقدمنا الحديث في ذلك من صحيحِ مسلم . وهذا الأمرُ بناءً على رؤيتهِ في وجوبِ الطاعةِ العمياءِ من الرعيةِ له ، وأن مخالفةَ أمرهِ في أي شأنٍ كبر أو صغر تبرر له القتل .
رواهُ أبو داود (4643) ، وصححه العلامةُ الألباني في " صحيح سنن أبي داود " (3879) ، ووردت آثارٌ بنفس المعنى في سنن أبي داود (4644 ، 4645) ، وصححها العلامةُ الألباني أيضاً (3880 ، 3881) .
قال ابنُ كثيرٍ في " البداية والنهاية " (9/131) عن استهانةِ الحجاجِ بالقتلِ : فإن الحجاجَ كان عثمانياً أموياً ، يميلُ إليهم ميلاً عظيماً ، ويرى أن خلافَهم كفرٌ ، يستحلُ بذلك الدماءَ ، ولا تأخذه في ذلك لومةُ لائمٍ .ا.هـ.
وبناءً على رؤيتهِ في وجوب الطاعةِ لبني أمية رُوي عنهُ أنهُ جعل مقامَ الخلافةِ فوق مقامِ النبوةِ فما صحةُ الخبرِ بخصوص هذا الأمر ؟
رواهُ أبو داود (4642) ، وقال العلامة الألباني في " ضعيف سنن أبي داود " (1007) : ضعيف مقطوع .ا.هـ.
ولذلك الحافظُ ابنُ كثيرٍ في " البداية والنهاية " (9/137) احترز عندما نقل عنه هذا الكلام فقال : فإن صح هذا عنه فظاهرهُ كفرٌ إن أراد تفضيلَ منصبِ الخلافةِ على الرسالةِ ، أو أراد أن الخليفةَ من بني أميةَ أفضلُ من الرسولِ .ا.هـ.
والأثر قد حكم عليه العلامةُ الألباني بالضعفِ كما مر .
ثانياً : الجرأةُ التي كان عليها الحجاجُ تطاولهُ على الصحابةِ ، وسوءُ نظرتهِ للعلماءِ ، وتعاملهِ معهم ، ونقلنا جملةً من ذلك في المواضيعِ الماضيةِ ، وكذلك ما قالهُ في حقِ قراءةِ ابنِ مسعودٍ عندما قال : " وَيَا عَذِيرِي مِنْ عَبْدِ هُذَيْلٍ يَزْعُمُ أَنَّ قِرَاءَتَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَاللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا رَجَزٌ مِنْ رَجَزِ الْأَعْرَابِ مَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَام ... " .
علق الإمامُ ابنُ كثيرٍ في " البداية والنهاية " (9/135) : وهذا من جراءة الحجاج قبحه الله ، وإقدامه على الكلام السيئ ، والدماء الحرام . وإنما نقم على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه لكونه خالف القراءة على المصحف الإمام الذي جمع الناس عليه عثمان ، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول عثمان وموافقيه ، والله أعلم .ا.هـ.
ورويت كلماتٌ شديدةٌ قالها الحجاجُ في حقِ الصحابي الجليلِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنها أوردها الإمامُ ابنُ كثيرٍ في " البداية والنهاية " (9/135) فمن ذلك :
1 - عن عاصم بن أبي النجود والأعمش ، أنهما سمعا الحجاج - قبحه الله - يقول ذلك ، وفيه : والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا الباب لحلت لي دماؤكم ، ولا أجد أحداً يقرأ على قراءة ابن أم عبد إلا ضربت عنقه ، ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير .
وفي سندِ هذه الروايةِ أبو هشام الرفاعي محمدُ بنُ يزيد . قال البخاري : رأيتهم مجمعين على ضعفه . وقال النسائي : ضعيف . وقال الترمذي : رأيتُ محمداً أبا هشام الرفاعي . وقال ابنُ حجر : ليس بالقوي .
2 – عن الأعمش يقول : والله لقد سمعت الحجاج بن يوسف يقول : يا عجبا من عبد هذيل ، يزعم أنه يقرأ قرآنا من عند الله، واللهِ ما هو إلا رجز من رجز الأعراب ، والله لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه .
رواه الحاكمُ في " المستدرك " (3/556) ، وأورده ابنُ كثيرٍ في " البداية والنهاية " (9/135) ، ولم يعزه ابنُ كثيرٍ إلى الحاكمِ وإنما قال : " وفي بعض الروايات: والله لو أدركت عبد هذيل لأضربن عنقه .ا.هـ.
وفي سندها أحمد بن عبد الجبار العُطَارِدي . قال أبو حاتم : ليس بالقوي . وقال مُطَّين : كان يكذب . وقال ابنُ عدي : رأيتُ أهلَ العراقِ مُجمعين على ضعفه . وقال الذهبي : ضعفه غيرُ واحدٍ .
3 - عن مسلم بن إبراهيم ، ثنا الصلت بن دينار ، سمعتُ الحجاجَ على منبرِ واسط يقولُ : عبدُ الله بنُ مسعود رأسُ المنافقين لو أدركته لأسقيتُ الأرضَ من دمهِ .
رواه الخلالُ في " السنة " (855) ، وأورده ابنُ كثيرٍ في " البداية والنهاية " (9/135) .
وفي سنده الصلتُ بنُ دينار الأزدي . قال الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل : متروكُ الحديث ، ترك الناسُ حديثه . وقال الحافظُ ابنُ حجر : متروكٌ ناصبي .
4 - قال – أي الصلت بن دينار - وسمعته على منبر واسط وتلا هذه الآية : " وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي " قال : والله إن كان سليمان لحسوداً .
أورده ابنُ كثيرٍ أيضا ، وفي سندهِ من عرفت آنفاً .
قال ابنُ كثيرٍ معلقاً على هذه الآثار : وهذه جراءة عظيمة تفضي به إلى الكفر قبحه الله وأخزاه وأبعده وأقصاه .ا.هـ.
وقال الذهبي في " تاريخ الإسلام " (6/320) : قاتل اللهُ الحجاج ما أجرأه على الله ، كيف يقولُ هذا في العبدِ الصالحِ عبد الله بن مسعود .ا.هـ.
هذا على فرض ثبوت ما نقل عنه ، وبعد التحققِ من أسانيدها لا يثبت منها شيء خلا كلامهِ على قراءةِ ابنِ مسعود رضي الله عنه .
وبعد إيرادِ ما سبق قد يردُ سؤالٌ : ألم تكن تجاوزتُ الحجاجِ موجودةً قبل فتنةِ ابنِ الأشعث ؟
الجوابُ : بلى ، ولكن بلغت ذروتها وكانت من نتائجها فتنةُ ابنِ الأشعثِ ، والكلامُ عن تلك التجاوزت قد يطولُ جداً ، وفيما ذكر كفايةٌ . وفتنةٌ ابنِ الأشعثِ تدلُ على أن من العلماءِ من كان يرى إزالةَ الحجاجِ هو إزالة لظلمهِ وجورهِ ، وأنه من منطلقِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ ، وخاصةً ممن قاتل الحجاج ، وانضم إلى ابنِ الأشعثِ . ولذا اختلف العلماءُ في مسألةِ المشاركةِ في فتنةِ ابنِ الأشعثِ فمنهم من شارك فيها ، وقاتل ، وقتل ، وبعضهم كانت مشاركتهُ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ ، وإنما بالتحريضِ فقط ، وشارك فيها عددٌ كبيرٌ من العلماءِ ولم ينجو منها إلا عدد قليل قال الإمامُ الذهبي في " السير " (4/321) : وَقَالَ العِجْلِيُّ : ... لَمْ يَنْجُ بِالبَصْرَةِ مِنْ فِتْنَةِ ابْنِ الأَشْعَثِ إِلاَّ هُوَ – يعني مُطَرِّف بن عَبْدِ اللهِ - وَابْنُ سِيْرِيْنَ . وَلَمْ يَنْجُ مِنْهَا بِالكُوْفَةِ إِلاَّ خَيْثَمَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَإِبْرَاهِيْمُ النَّخَعِيُّ .ا.هـ. ، ولولا خشية الإطالةِ لذكرتُ قائمةً بأسماء من شارك فيها .
وفي المقابل وجد من العلماءِ من امتنع عن المشاركةِ في الفتنة واعتزلها بالكليةِ ، بل بعضهم عارض المشاركةَ فيها ، ولكن السؤال الذي يطرحُ نفسهُ .
بعد هذا العرضِ السريعِ لبعض مجرياتِ فتنة ابنِ الأشعث نأخذُ أقوالَ من رأى بكفرِ الحجاجِ ، فقد وردت آثارٌ عن بعضِ أئمةِ السلفِ مصرحةً بتكفيرهِ ، ولأخرى غيرُ مصرحةٍ ، ولنقف عليها .
رواهُ ابنُ أبي شيبةَ في " الإيمان " (95) ، وابنُ سعدٍ في " الطبقات " (5/540) ، وعبدُ الله بن أحمد في " السنة " (671) ، والخلالُ في " السنة " (1165 ، 1531) وفي سنده رجلٌ مجهول ، وابنُ عساكر في " تاريخ دمشق " (12/188) .
وصحح العلامةُ الألباني في تحقيقه لكتاب " الإيمانِ " لابنِ أبي شيبة الطريق التي عند ابن أبي شيبةَ .
2 – عن إبراهيمَ : " أنه كان إذا ذكر الحجاجَ قال : " أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " [ هود : 18 ] .
رواه ابن أبي شيبة في " الإيمان " (96) ، والخلال في " السنة " (1165 ، 1531) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (671) ، وابنُ سعدٍ في " الطبقات " (6/279) ، وابن بطة في " الكبرى " (1211) .
وصحح العلامةُ الألباني سنده في " الإيمان " لابن أبي شيبة .
3 – وعن إبراهيمَ قال : كفى بمن يشكُ في أمرِ الحجاج لحاهُ الله .
رواه ابنُ أبي شيبةَ (98) ، وهو في نفسِ المصادرِ السابقةِ .
ومعنى قولهِ : لَحَاهُ الله ، أي : قبحه ولعنه .
4 – عن الشعبي قال : أشهدُ أنه مؤمنٌ بالطاغوتِ ، كافرٌ باللهِ – يعني الحجاج - .
رواهُ ابنُ أبي شيبةَ في " الإيمان (97) ، واللالكائي في " الاعتقاد " (1823) ، وابن عساكر في " التاريخ " (12/ 187) .
ولفظه عند اللالكائي : عن الأجلح قال : قلتُ للشعبي : إن الناس يزعمون أن الحجاجَ مؤمنٌ ؟ قال : صدقوا بالجبتِ والطاغوتِ كافرٌ بالله .
وصححه أيضاً العلامة الألباني في " الإيمان " لابن أبي شيبة .
فالشعبي من خلال القصةِ رجع عن قولهِ وتاب وقبل الحجاج توبتهُ .
وبعد هذه النقولِ وبيان الأقوالِ يظهرُ أن الحجاجَ لم يكفرهُ أحدٌ من أهل العلمِ ، وإنما هي أقوالٌ وردت عن بعضِ السلف لا يفهمُ منها التكفيرُ ، ومن جاء عنه التكفير فقد تراجع عنه ، وتاب من ذلك ، وتبقى مسألةُ مهمة نختمُ بها .
هل كانت فتنةُ ابنِ الأشعثِ من أجل أنهم رأو كفراً بواحاً منه أم أنه من أجل إزالةِ ظلمِ وبطشِ الحجاجِ ؟
الذي يظهرُ – واللهُ أعلم – أنهم أرادوا إزالةَ ظلمِ وتسلطِ الحجاجِ عليهم ، ولم يريدوا بفعلهم أنه كافرٌ ، ولذلك ذكر العلماءُ مسألةَ الخروجِ على الإمامِ الظالمِ الفاسق ، واختلف العلماءُ فيها على قولين ، قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في " تهذيب التهذيب " (2/288) عند ترجمةِ الحسنِ بنِ صالح : قولهم : كان يرى السيفَ . يعني الخروجَ بالسيف على أئمةِ الجورِ ... وهذا مذهبٌ للسلفِ قديمٌ ، لكن استقر الأمرُ على تركِ ذلك لما رأوه قد أفضى إلى ما هو أشدُ منه .ا.هـ.