بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفسير سورة النصر
سورة النصر مدنية عدد آياتها ثلاثة , و أجمعوا على أنها آخر سورة نزلت جميعا , هذا قاله ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح مسلم
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : " لما نزلت ( إذا جاء نصر الله و الفتح ) قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " نعيت إليَّ نفسي " بأنه مقبوض في تلك السنة " - قال الشيخ شاكر إسناده صحيح - , و هكذا قال مجاهد و أبو العالية و الضحاك , و غير واحد : إنها أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم نُعي إليه .
و روى البخاري عن ابن عباس قال : " كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدر , فكأن بعضهم وجد في نفسه , فقال : لم يَدْخل هذا معنا و لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم , فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم , فما رئيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليُريهم فقال : ما تقولون في قول الله عز وجل ( إذا جاء نصر الله و الفتح ) ؟ فقال بعضهم : " أمرنا أن نحمد الله و نستغفره إذا نصرنا و فُتح علينا " , و سكت بعضهم فلم يقل شيئا , فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا , فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلمه له , قال : ( إذا جاء نصر الله و الفتح ) فذلك علامة أجلك ( فسبح بحمد ربك و استغفره إنه كان توابا ) . فقال عمر بن الخطاب : " لا أعلم منها إلا ما تقول " .
أما المعنى الذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر , فهو معنى مليح صحيح , و قد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات , فقال قائلون : هي صلاة الضحى , و أجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها , فكيف صلاها ذلك اليوم و قد كان مسافرا لم يَنْوِ الإقامة بمكة ؟ و لهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبا من تسعة عشر يوما يقصر الصلاة و يُفطر هو و جميع الجيش , و كانوا نحوا من عشرة ألاف .
قال هؤلاء : و إنما كانت صلاة الفتح , قالوا : فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدا أن يصلي فيه أول ما يدخل ثماني ركعات , و هكذا فعل سعيد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن .
ثم قال بعضهم : يصليها كلها بتسليمة واحدة , و الصحيح أنه يسلم من كل ركعتين .
( إذا جاء نصر الله ) أي لدينه الحق على الباطل .
( و الفتح ) و المراد بالفتح ها هنا فتح مكة قولا واحدا , فإن أحياء العرب كانت تَتَلَوَّم بإسلامها فتح مكة , يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي , فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا , فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا , و لم يبقى في سائر قبائل العرب إلا مُظهر للإسلام , و لله الحمد و المنة . و هذا هو قوله تعالى : " و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " .
( فسبح بحمد ربك ) أي فنزه ربك عن أن يهمل الحق و يدعه للباطل يأكله , و عن أن يخلف وعده في تأييده , و ليكن هذا التنزيه بواسطة حمده و الثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب .
( و استغفره ) أي إسأله أن يغفر لك و لأصحابك ما كان من القلق و الضجر و الحزن , لتأخر زمن النصر .
( إنه كان توّابا ) أي إن الله تعالى الذي أمرك بالإستغفار توبة إليه كان توابا على عباده يقبل توبتهم فيغفر ذنوبهم و يرحمهم .
روى البخاري عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول في ركوعه و سجوده : سبحانك اللهم ربنا و بحمدك , اللهم اغفر لي يتأول القرآن " .
و روى مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر في آخر أمره من قول : سبحان الله و بحمده , أستغفر الله و أتوب إليه , و قال : إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي , و أمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده و أستغفره , إنه كان توابا , فقد رأيتها ( إذا جاء نصر الله و الفتح , و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا , فسبح بحمد ربك و اسغفره إنه كان توّابا ) .
تنبيه :
ذكر الشيخ أحمد شاكر و الشيخ الجزائري أن سورة النصر تعدل ربع القرآن و سورة الزلزلة تعدل ربع القرآن , قلت ( عبد الحي ) : و الحديث الذي يدل على ذلك حديث ضعيف أنظر ضعيف الترغيب و الترهيب ( 1 / 890 ) , و الشيخ الجزائري نفسه أشار أن الحديث ضعيف في تفسير سورة الزلزلة ( ص 1489 )
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة الإنفطار
مكية و آياتها تسع عشرة آية
( إذا السماء انفطرت ) أي انشقت كما في آية " و يوم تشقّق السّماء بالغمام " .
( و إذا الكواكب انتثرت ) أي انفضّت و تساقطت .
( و إذا البحار فجّرت ) أي : اختلط ماؤها بعضه ببعض ملحها بعذبها لانكسار ذلك الحاجز الذي كان يفصلهما عن بعضهما لزلزلة الأرض إيذانا بخراب العالم .
( و إذا القبور بُعثرت ) إنقلب باطنها ظاهرها و أخرج ما فيها من الأموات .
( علمت نفس ما قدّمت و أخرت ) أي علمت كل نفس مكلفة ما قدمت من أعمال حسنة أو سيئة , و ما أخرت من أعمال لحقتها بعدها وذلك ما سنته من سنن الهدى أو سنن الضلالة . و هذا العلم يحصل للنفس أولا مجملا و ذلك عند ابيضاض الوجوه و اسودادها , و يحصل لها مفصلا عندما تقرأ كتاب أعمالها .
( يا أيّها الإنسان ما غرّك بربك الكريم ) أي : أي شيء خدعك و جرّأك على الكفر بربك الكريم و عصيانه بالفسق عن أمره و الخروج عن طاعته . و هو القادر على مؤاخذتك و الضرب على يديك ساعة ما كفرت به أو عصيته .
قال ابن القيّم : .. و إنّما غرَّه بربه الغَرور , و هو الشيطان , و نفسه الأمّارة بالسوء , و جهله و هواه . و أتى سبحانه بلفظ " الكريم " , و هو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الإغترار به و لا إهمال حقه .
( الذي خلقك فسواك فعدلك ) أي : جعلك سويّا معتدل القامة منتصبها , في أحسن الهيئات و الأشكال .
( في أي صورة ما شاء ركبك ) إن شاء بيضك أو سودك , طولك أو قصرك , جعلك ذكرا أو أنثى , إنسانا أو حيوانا , قردا أو خنزيرا , هل هناك من يصرفه عما أراد ذلك ؟ و الجواب لا أحد . إذا كيف يسوغ لك الكفر به و عصيانه و الخروج عن طاعته .
( كلاّ بل تكذبون بالدين ) كلاّ ما غركم كرم الله و لاحلمه , بل الذي جرأكم على الكفر و الظلم و الإجرام , تكذيب في قلوبكم بالمعاد و الجزاء و الحساب .
( و إن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) و إن عليكم لملائكة حفظَة كراما يحفظون عليكم أعمالكم و يحصونها لكم و يكتبونها في صحائفكم . يعلمون ما تفعلون – و دخل في هذا أفعال القلوب , و أفعال الجوارح – في السر و العلن , فاللائق بكم أن تكرموهم و تجلوهم و تحترموهم .
( إن الأبرار لفي نعيم ) قال ابن جرير : أي إن الذين برّوا بأداء فرائض الله , و اجتناب معاصيه , لفي نعيم الجنان ينعمون فيها .
( و إن الفجار لفي جحيم ) إن الذين قصروا في حقوق الله و حقوق عباده , الذين فجرت قلوبهم , ففجر أعمالهم , لفي عذاب أليم في دار الدنيا و دار البرزخ و في دار القرار .
( يصلونها يوم الدين ) يعذبون بها أشد العذاب و ذلك يوم الجزاء على الأعمال . قال القرطبي : يصيبهم حرها و لهيبها و هذا قطعا بعد دخولها .
( و ما هم عنها بغائبين ) أي : لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة , و لا يخفف عنهم من عذابها , و لا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة , و لو يوما واحدا .
( و ما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين ) ففي هذا تهويل و تفخيم لأمر ذلك اليوم و تعظيم لشأنه .
( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله ) أي : لا يقدر أحد على نفع أحد و لا خَلاصه مما هو فيه , إلا أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى . و نذكر ها هنا حديث : " يا بني هاشم , أنقذوا أنفسكم من النار , لا أملك لكم من الله شيئا " رواه مسلم . و لهذا قال " الأمر يومئذ لله " , كقوله " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " , و كقوله " الملك يومئذ الحق للرحمن " , و كقوله " مالك يوم الدين " . قال الرازي : و هو وعيد عظيم , من حيث إنه عرّفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر و الطاعة يومئذ , دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا , من مال وولد و أعوان و شفعاء .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة التكوير
و تسمى سورة " إذا الشمس كورت " و هي مكية و آيها تسع و عشرون .
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنّه رأي عين فليقرأ " إذا الشّمس كورت " و " إذا السّماء انفطرت " و " إذا السماء انشقت " صححه الألباني
( إذا الشمس كورت ) أي أُزيلت من مكانها , و ألقيت عن فلكها , و مُحي ضوؤها . قال ابن جرير : التكوير جمع الشيء بعضه إلى بعض , و منه تكوير العمامة و جمع الثياب بعضها إلى بعض , فمعنى قوله " كوّرت " : جمع بعضها إلى بعض , ثم لفت فرمى بها , و إذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها . قال صلى الله عليه و سلم : " الشمس و القمر يكوران يوم القيامة " رواه البخاري .
( و إذا النجوم انكدرت ) أي تغيرت و تناثرت و تساقطت من أفلاكها على الأرض .
( و إذا الجبال سيّرت ) أي زالت عن أماكنها و نُسفت من أثر الرجفة و الزلزال الذي قطع أوصالها .
( و إذا العشار عطّلت ) أي تركت مهملة لا راعي لها و لا طالب , لما أصاب أهلها من الهول و الفزع . و العشار جمع عُشَراء و هي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم لا يزال إسمها كذلك حتى تضع , و خصها , لأنها أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم , على ما هو في معناها من كل نفيس .
( و إذا الوحوش حشرت ) أي جمعت من كل جانب و اختلطت , لما دهم أوكارها و مكامنها من الزلزال و التخريب , فتخرج هائمة مذعورة من أثر زلزال الأرض و تقطع أوصالها .
( و إذا البحار سجّرت ) أي أوقدت فصارت – على عظمها – نارًا تتوقد .
( و إذا النفوس زوّجت ) أي قرنت بأجسادها – بعد خلق الأجساد لها – ثم قرن كل صاحب عمل مع نظيره , فجمع الأبرار مع الأبرار , و الفجار مع الفجار , و زوج المؤمنون بالحور العين , و الكافرون بالشياطين , و هذا كقوله تعالى " و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا " " و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " " احشروا الذين ظلموا و أزواجهم " .
( و إذا الموءودة سئلت , بأي ذنب قتلت ) يوم القيامة تسأل الموؤودة على أي ذنب قتلت , ليكون ذلك توبيخا و تقريعا و تهديدا لقاتلها , فإذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا ؟! و قال ابن عباس " و إذا الموءودة سئلت " أي : سألت , و كذا قال أبو الضحى : " سألت " أي : طلبت بدمها . و عن السدي و قتادة مثله .
و عن حسناء إبنة معاوية الصُّريمية , عن عمها قال : قلت يا رسول الله , من في الجنة ؟ قال : " النبي في الجنة , و الشهيد في الجنة , و المولود في الجنة , و الموؤودة في الجنة " صححه الألباني .
و الموؤودة هي المقتولة الصغيرة التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات , و خشية العار و الفقر , أو لنذرهم إياهم للآلهة , أو يقولون إن الإناث بنات الله , فألحقوا البنات بالله فهو أحق بها منا .
و كان للعرب تفنن في الوأد , فمنهم من إذا صارت بنته سداسية يقول لأمها : طيّبيها و زيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها , و قد حفر لها بئرا في الصحراء , فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها , ثم يدفعها من خلفها و يهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض . و منهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع , حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة , فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة , و إن ولدت إبنا حبسته .
و قد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال , جد الفرزدق بن غالب , بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية , و نهى عن قتلهن . قيل إنه أحيا ألف موءودة , و قيل دون ذلك .
فالوأد كان عادة من أشنع العوائد في الجاهلية , مما يدل على نهاية القسوة و تمام الجفاء و الغلظة . قال الإمام : أنظر إلى هذه القسوة و غلظ القلب و قتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر و العار , كيف استبدلت بالرحمة و الرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب ؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الإنسانية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة .
( و إذا الصحف نشرت ) قال ابن جرير : " أي صحف أعمال العباد نشرت لهم , بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات و السيئات " , فآخذ هذا كتابه بيمينه , و آخذ ذاك كتابه بشماله , أو من وراء ظهره .
( و إذا السماء كشطت ) أي نزعت من أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة عند سلخها .
( و إذا الجحيم سعّرت ) أي : أوقد عليها فاستعرت , و التهبت إلتهابا لم يكن لها قبل ذلك . قال قتادة : و إنما يسعرها غضب الله و خطايا بني آدم .
( و إذا الجنة أزلفت ) أي قرّبت لأهلها ليدخلوها .
( علمت نفس ما أحضرت ) أي : إذ وقعت هذه الأمور , علمت كل نفس عند ذلك , ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة , أو شر فتصير به إلى النار , أي تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به , و ما الذي كان فيه صلاحها من غيره .
( فلاأقسم بالخنس , الجواري الكنس ) قال الشيخ عبد العظيم بدوي : الخُنَّس هي النجوم تخنس – أي تختفي و تغيب عن الأنظار نهارا – بالنهار , و تظهر بالليل . " الجواري الكنّس " التي تجري في بروجها و منازلها و مواقعها طول الليل ثم تغيب مع طلوع الفجر .
( و الليل إذا عسعس ) أي أدبر و لم يبق إلا اليسير , و ذلك وقت السحر .
( و الصبح إذا تنفس ) قال ابن جرير : يعني وضَوْءُ النهار إذا أقبل و تبيّن .
و جواب القسم قوله تعالى ( إنّه لقول رسول كريم ) يعني : إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم , أي : ملك شريف حَسَن الخلق , بهي المنظر , و هو جبريل عليه الصلاة و السلام .
فالله تعالى قد أقسم بأعظم قسم على أن القرآن نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه و سلم , و ما يقول محمد صلى الله عليه و سلم هو كلام الله ووحيه صدقا و حقا .
( ذي قوّة ) أي على تحمل أعباء الرسالة , و على كل ما يؤمر به .
و من قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم . فهو شديد الخَلْق , شديد البطش و الفعل .
( عند ذي العرش مكين ) أي جبريل عليه السلام مقرب عند الله تعالى , له منزلة رفيعة , و خصيصة من الله اختصه بها . قال أبو صالح في قوله " عند ذي العرش مكين " قال : جبريل يدخل في سبعين حجابا من نور بغير إذن .
فجبريل عليه السلام له مكانة و منزلة فوق منازل الملائكة كلهم .
( مُطاع ثَمَّ ) له وجاهة , و هو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى , قال قتادة : " مطاع ثمّ " أي : في السماوات , يعني : ليس هو من أفناء الملائكة , بل هو من السادة و الأشراف , مُعْتَنى به , انتخب لهذه الرسالة العظيمة .
( أمين ) صفة لجبريل بالأمانة , و هذا عظيم جدا أن الرب عز و جل يزكي عبده و رسوله الملكي جبريل عليه السلام .
و هذا كله يدل على شرف القرآن عند الله تعالى , فإنه بعث به هذا الملك الكريم , الموصوف بتلك الصفات الكاملة . و العادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات , و أشرف الرسائل .
( و ما صاحبكم بمجنون ) أي : محمد صلى الله عليه و سلم ليس ممن يتكلم عن جِنَّة و يهذي هذيان المجانين " بل جاء بالحقّ و صدّق المرسلين " و هذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه , صلى الله عليه و سلم , حسدا و لؤما . قال الشهاب : و في قوله " صاحبكم " تكذيب لهم بألطف وجه . إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن , فأنتم أعرف به و بأنه أتم الخلق عقلا و أرجحهم نبلا و أكملهم و أصفاهم ذهنا . فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق و الجنون .
( و لقد رآه بالأفق المبين ) أي : رأى محمد صلى الله عليه و سلم جبريل عليه السلام بالأفق البيِّن – الذي هو أعلى ما يلوح للبصر – على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح و قد سدّ الأفق كله . و هي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء , و هي المذكورة في قوله تعالى " علّمه شديد القوى , ذو مرّة فاستوى , و هو بالأفق الأعلى , ثُمّ دنا فتدلّى , فكان قاب قوسين أو أدنى , فأوحى إلى عبده ما أوحى " .
( و ما هو على الغيب بضنين ) و ما هو على ما أوحاه الله إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو يكتم بعضه , بل هو صلى الله عليه و سلم أمين أهل السماء و الأرض , الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين . فلم يبخل بشيء منه , بل بلَّغه و نشره و بذله لكل من أراده .
( و ما هو بقول شيطان رجيم ) و ما هذا القرآن بقول شيطان رجيم . و هو نفي لقولهم إنه كهانة , قال تعالى " و ما تنزّلت به الشياطين و ما ينبغي لهم و ما يستطيعون " .
( فأين تذهبون ) ينكر عليهم مسلكهم الشائن في تكذيب رسوله محمد صلى الله عليه و سلم و إتهامه بالسحر , و القرآن بالشعر و الكهانة و الأساطير .
( إن هو إلاّ ذكر للعالمين ) أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس , يتذكّرون به خالقهم و رازقهم و محييهم و مميتهم , و ما له عليهم من حق العبادة وواجب الشكر , و يتعضون به فيخافون ربهم فلا يعصونه بترك فرائض عليهم و لا بارتكاب ما حرمه عليهم .
( لمن شاء منكم أن يستقيم ) أي : من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن , فإنه منجاة له و هداية , لا هداية فيما سواه .
( و ما تشاءون إلا أن يشاء ربّ العالمين ) أي و ما تشاءون شيئا من فعالكم , إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم , و إقداركم عليها , و التخلية بينكم و بينها . و فائدة هذا الإخبار , و هو الإعلام بالإفتقار إلى الله تعالى , و أنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدره الله عز و جل , فهو خاضع لسلطان مشيئته , مقهور تحت تدبيره و إرادته .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة عبس
و تسمى سورة الصاخبة , و هي مكية و آيها اثنتان و أربعون .
ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش , و قد طمع في إسلامه , فبينما هو يخاطبه و يناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم – و كان ممن أسلم قديما – فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شيء و يلح عليه , وَوَدَّ النبي صلى الله عليه و سلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل , طمعا و رغبة في هدايته . و عبس في وجه ابن أم مكتوم و أعرض عنه , و أقبل على الآخر , فأنزل الله عز و جل " عبس و تولى " .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( أنزلت " عبس و تولى " في إبن أم مكتوم الأعمى , أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يقول : أرشدني . قالت : و عند رسول الله صلى الله عليه و سلم من عظماء المشركين . قالت : فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يُعرض عنه و يقبل على الآخر , و يقول : أترى بما أقول بأسا ؟ فيقول : لا , ففي هذا أنزل ) قال الشيخ الألباني صحيح الإسناد .
و إبن أم مكتوم هذا إسمه عبد الله , قال الشهاب : و هو مكيّ قرشيّ من المهاجرين الأولين , و كان النبي صلى الله عليه و سلم يستخلفه على المدينة في أكثر غزواته , و كان ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها .
( عبس و تولى ) أي النبي صلى الله عليه و سلم , و معنى عبس قطب ما بين عيينه كراهية لما نَابه و حصل له مما أزعجه , " و تولى " أعرض عنه .
( أن جاءه الأعمى ) أي لأجل أن جاء عبد الله بن أم مكتوم فقطعه عما هو مشغول به من دعوة بعض أشراف قريش للإسلام .
( و ما يدريك لعله يزّكى ) أي يريد زكاة نفسه و تطهير روحه بما يتعلمه منك .
( أو يذّكر فتنفه الذكر ) أي يعتبر و يتعظ فتنفعه موعظتك .
( أمّا من استغنى ) أي بماله و قوته و شرف قومه عن سماع القرآن و الهداية و الموعظة .
( فأنت له تصدّى ) أي تتعرض له مُقبلا عليه رجاء أن يسلم و يهتدي .
( و ما عليك ألاّ يزّكى ) أي و ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام , إنْ عليك إلا البلاغ . قال الرازي : أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم , إلى أن تعرض عمن أسلم , للإشتغال بدعوتهم .
( و أمّا من جاءك يسعى و هو يخشى ) جاءك مسرعا يجري وراءك يناديك بأحبّ الأسماء إليك يا رسول الله , و الحال أنه يخشى الله تعالى و يخاف عقابه فلذا هو يطلب ما يزكي به نفسه ليقيها العقاب و العذاب .
( فأنت عنه تلهى ) أي تُعرض و تتشاغل بغيره .
و من هاهنا أمر الله عز و جل رسوله صلى الله عليه و سلم ألا يخص بالإنذار أحد , بل يساوي فيه بين الشريف و الضعيف , و الفقير و الغني , و السادة و العبيد , و الرجال و النساء , و الصغار و الكبار . ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم , و له الحكمة البالغة و الحجة الدامغة .
قال السيوطي في الإكليل : في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء و الإقبال عليهم في مجالس العلم و قضاء حوائجهم , و عدم إيثار الأغنياء عليهم . قال الزمخشري : لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا , فقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء .
( كلاّ ) لا تفعل مثل هذا مرة أخرى .
( إنّها تذكرة ) أي هذه الآيات و ما تحمل من عتاب حبيب إلى حبيب موعظة , يجب الإتعاظ بها و العمل بموجبها .
( فمن شاء ذكره ) أي عَمِل بهذا الوحي و التنزيل كقوله تعالى " و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر " .
( في صحف مكرمة , مرفوعة مطهرة ) صحف آيات التنزيل و سوره معظمة و موقرة عند الله تعالى , مرفوعة القدر و الرتبة , مطهرة من الدنس و الزيادة و النقص , و منزهة عن مس الشياطين لها .
( بأيدي سفرة , كرام بررة ) بأيدي ملائكة , خُلقهم كريم حسن شريف , و أخلاقهم و أفعالهم بارة طاهرة كاملة .
و من هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله و أقواله على السداد و الرشاد .
( قتل الإنسان ) لعن الإنسان – الكافر – و هذا الجنس الإنسان المكذب , لكثرة تكذيبه بلا مستند , بل بمجرد الإستبعاد و عدم العلم .
( ما أكفره ) أي ما حمله على الكفر و الكبر .
قال الرازي : " قتل الإنسان " تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب . و قوله " ما أكفره " تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح و المنكرات .
( من أي شيء خلقه ) أي من أي شيء حقير مهين خلقه ؟ و هذا تحقيرا له .
( من نطفة خلقه ) خلقه الله من ماء مهين , من نطفة قذرة .
أمن كان هذا حاله يليق به أن يكفر و يتكبر و يستغني عن الله ؟ فلينظر إلى مبدئه و منتهاه و ما بينهما . مبدأه نطفة مذرة و آخره جيفة قذرة , و هو بينهما حامل عذرة . كيف يكفر و كيف يتكبر ؟
( فقدّره ) أي أطوارا نطفة فعلقة فمضغة , ثم هيأه لما يصلح له و يليق به من الأعضاء و الأشكال , فسواه بشرا سويا . و كذلك قدّر أجله و رزقه و عمله و شقي أو سعيد .
( ثم السبيل يسّره ) ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه – اختاره ابن جرير - , أو يكون المعنى : يسر له الأسباب الدينية و الدنيوية , و هداه السبيل و بيّنه و امتحنه بالأمر و النهي قال تعالى " إنا هديناه السبيل إمّا شاكرا و إمّا كفورا " و هذا رجحه ابن كثير .
( ثم أماته فأقبره ) أي أكرمه بالدفن , فهيأ له من يقبره , و لم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه الأرض .
( ثم إذا شاء أنشره ) أي بعثه بعد موته للجزاء .
( كلاّ لمّا يقض ما أمره ) فيها قولان للعلماء : الأول : أن الإنسان لم يقض ما أمره الله به , فهو مُقَصِر في حق الله , لأنه مهما اجتهد في طاعة الله فهو مقصر في حق مولاه – قاله الشيخ عبد العظيم بدوي - . الثاني : أن الله تعالى لن يقوم بالبعث و النشور الآن حتى تنقضي المدة , و يفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى له أنه سيوجد منهم , و يخرج إلى الدنيا , و قد أمر به تعالى كونا و قدرا , فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق و أعادهم كما بدأهم . و هذا اختاره ابن كثير .
( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) أي فإن لم يشهد خلق ذاته , و عمي عن الآيات في نفسه , و أصر على جحوده توحيدَ ربه , فلينظر إلى طعامه و مأكله الذي هو أقرب الأشياء لديه . ماذا صنعنا في إحداثه و تهيئته لأن يكون غذاء صالحا لعله يذكر فيشكر . و كذلك فيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظاما بالية و ترابا متمزقا .
( إنا صببنا الماء صبّا ) أنزلنا المطر من السماء على الأرض بكثرة .
( ثم شققنا الأرض شقّا ) أي صدعناها بالنبات , حيث أسكنّا المطر فيها فدخل في تُخُومها و تخلّل في أجزاء الحبِّ المودَع فيها , فنبت و ارتفع و ظهر على وجه الأرض .
( فأنبتنا فيها ) أصنافا مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة , و الأقوات الشهية .
( حبّا ) و هذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها , كالقمح و الشعير و الذرة .
( و عنبا و قضبا ) العنب معروف , و القضب هو : كل ما أكل من النبات رطبا , كالقثاء و الخيار و نحوهما . و سمي قضبا لأنه يقضب , أي يقطع مرة بعد أخرى .
( و زيتونا و نخلا ) الزيتون يؤكل حبا , و يدهن به زيتا , و يستصبح به . و نخلا يؤكل بلحا بسرا , و رطبا , و تمرا , و نيئا , و مطبوخا , و يعتصر منه رُبٌّ و خل .
( و حدائق غُلبا ) أي بساتين ذوات الأشجار المثمرة , عليها حوائط تحيط بها , " غلبا " أي ضخمة عظيمة , و عظمها إما لاتساعها البالغ حد البصر , أو لغلظ أشجارها و تكاثفها و إلتفافها .
( و فاكهة و أبّا ) و فاكهة أي مما يؤكل من ثمار الأشجار , من تين و عنب و خوخ و رمان , و غير ذلك . و الأبُّ هو المرعى الذي تأكله البهائم من العشب و النبات .
( متاعا لكم و لأنعامكم ) أي عيشة لكم و لأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة .
فمن نظر في هذه النعم , أوجب له ذلك شكر ربه , و بذل الجهد في الإنابة إليه , و الإقبال على طاعته , و التصديق بأخباره .
( فإذا جاءت الصّاخة ) و هي صيحة القيامة و صوت زلزالها الهائل المصمّ للآذان , المزعج للأفئدة يومئذ , مما يرى الناس من الأهوال و شدة الحاجة لسالف الأعمال .
( يوم يفرّ المرء من أخيه , و أمّه و أبيه , و صاحبته و بنيه ) أي : يراهم , و يفر منهم , و يبتعد عنهم , لأن الهول عظيم , و الخطب جليل , و لاشتغاله بنفسه , و علمه بأنهم لا ينفعونه . و معنى صاحبته أي زوجته .
( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) أي قد أشغلته نفسه , و اهتم لفكاكها , و لم يكن له إلتفات إلى غيرها .
عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا " فقالت عائشة : يا رسول الله , فكيف بالعورات ؟ فقال : " لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " صححه الإمام الألباني . و غرلا : أي غير مختونين .
( وجوه يومئذ مسفرة , ضاحكة مستبشرة ) وجوه يومئذ مضيئة مشرقة , قد ظهر فيها السرور و البهجة , من ما عرفوا من نجاتهم , و فوزهم بالنعيم . و هذه الوجوه هي وجوه المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه , و قدموا من الخير و العمل الصالح ما ملأوا به صحفهم .
( ووجوه يومئذ عليها غبرة , ترهقها قترة ) ووجوه يومئذ عليها غبار و كدورة , تغشاها ظلمة و سواد , فهي وجوه سوداء مظلمة مدلهمة , قد أيست من كل خير , و عرفت شقاءها و هلاكها .
( أولئك هم الكفرة الفجرة ) أي : الكفرة قلوبهم , الفجرة في أعمالهم , الذين لا يبالون ما أتوا به من معاصي الله , و ركبوا من محارمه , فجوزوا بسوء أعمالهم و خبث نياتهم .