يحكى أنه كان هناك في قديم الزمان ملك بشوش مرح محب للنكتة والضحك، لكنه (حسرتي عليه) قد ابتلي بابنة جميلة ذكية (غاية الذكاء)، لكنها كانت في الوقت نفسه لا تحسن الضحك ولا تؤثر فيها النكتة والطرفة والموقف اللطيف، وكان هذا مبعث أسى الملك وحزنه كلما جلس إليها أو جمعهما مكان أو سفرة أو مناسبة، وإلا فهو لا يكف عن الضحك والمرح.
وتفتق ذهنه الطري بحل لهذه المشكلة وهو أن يعلن في كل البلاد عبر الرسل والتجار أن من ينجح في إضحاك الأميرة الصغيرة الجميلة تكون زوجة له ويكون له نصف أراضي وثروات المملكة، أما من يفشل في إضحاكها فإنه يعاقب بأن يضرب بالسياط حتى يتمزق جلد الظهر، ثم يدس الملح في الجروح لزيادة الألم.
وشرع الشباب بالتقدم لهذا الاختبار العسير وكان فيهم الممثلون والمهرجون وأصحاب البدع والسحرة والبهلوانات.
وتوالت العروض أمام نافذة الأميرة، فلم تنبلج إشراقة ابتسام على شفتيها ولم يسمع الملك ضحكتها التي لم يسمعها منها منذ طفولتها الباكرة.
وتوالت السياط على الظهور، وتوالى الناس من كل البلاد البعيدة والقريبة في الحضور، وكان الفشل حليف الجميع.
وبلغ الخبر قرية قصية في أقصى الريف على مقربة من البحر فهرع الشباب وكان بينهم فتى.. كان الناس ينظرون إليه باستهانة كبيرة لأنه من أبناء فقراء الريف، وكان خجولا قليل الخبرة بالحياة.. ووصل الفتى مع شباب القرية الذين لم يكفوا عن السخرية منه طوال الطريق دون أن يؤثر هذا في عزيمته، وكانت المفاجأة الأولى التي قام بها، بعد أن عرض الشباب على مستشار الملك رغبتهم في الدخول للاختبار، طلبه الملح في أن يعمل سائسا أو خادما في القصر.
وأشفق عليه المستشار فعينه في وظيفة مساعد بستاني في حدائق القصر، وكانت تلك فرصته لتدبر الأمر العظيم الذي جاء من أجله.
كان لديه إيمان قوي بأن أمامه فرصة نجاح، لكن كيف..؟ لم يكن يعرف.
ومرت الأيام وعاد رفاقه إلى القرية بظهور مسلوخة ومملحة، أما هو فمكث في الحدائق يرقب الناس وهم يتوافدون ويفشلون.
ذات يوم، وإذ كان في الحديقة، لمح طيرا غريبا غريبا عجيبا لم ير مثله من قبل فقرر أن يصطاده، ونجح في ذلك، وفكر في ما يمكن أن يفعله فيه فاختار أن يبيعه أو يستبدله بشيء ذي قيمة يمكن أن ينفعه في مقصده العظيم.
في الحقيقة.. لم يستحسن الفتى إهداءه للملك أو للأميرة، لأن قصر الملك مليء بمختلف أنواع الطيور والحيوانات، والأميرة ليس لديها مثل هذا الاهتمام.. إذن فليجرب أن يأخذه للسوق عسى أن يصيبه من ورائه ما يمكن أن يضحك الأميرة ويبلغه مراده.
بينما هو في الطريق إلى السوق صادفته امرأة غريبة الشكل، محدوبة الظهر، تحمل قفصا فيه أوزة ذهبية اللون غريبة الأطوار.
- ما هذا يا خالة؟
هتف الفتى بالعجوز وهو يحدق بإعجاب في تلك التي لها شكل الإوزة.
- إنها أوزة نادرة الجنس يا بني وأنا أزمع الذهاب بها إلى السوق لبيعها.. إنها غريبة الأطوار، ومبعث غرابتها: كلما لمسها شخص ما علق بها أو بأي شيء عالق بها، بحيث يستحيل فصله عنها إلا بكلمات أعرفها أنا وحدي ولا أحد غيري.
- عجيب.. وكيف يعلق الشخص بها، هل لديك كلمات تقولينها؟
- نعم لدي ذلك.. فقط أقول لمن يلمسها ( إن كنت تحبها أعلق بها بلا انفصال) وفي الحال يعلق الشخص بها فلا يتحرر إلا بقول آخر.
- وبكم تنوين بيعها يا سيدتي؟
- ربما ألف دينار.
- وأنا أعطيكِ الألف... بل ألفين، فقط تصبرين علي حتى مساء اليوم التالي، وخذي هذا الطير الغريب هدية مني، بيعيه إن شئت فهو نادر ويمكن أن تبيعيه للملك بألف دينار وغداً أسلمك الألف الأخرى.
فرحت العجوز وهمست له بالسر الآخر الذي يقال لفصل من يعلق بالأوزة، وافترقا على أمل أن يلتقيا في مساء الغد في المكان نفسه.
حين عودته إلى القصر، صادفه في الطريق رجل عجوز يتوكأ على عصاه، فدنا منه الرجل وهتف وهو ينظر إلى الأوزة.. "يا سبحان الله.. لم أر في حياتي مثل هذه" وحالما لمسها هتف به الفتى: " إن كنت تحبها اعلق بها يا سيدي".
وعلق الرجل واستمر الفتى في السير بينما العجوز وعصاه متعلق بقوة بجناح الإوزة وهو يقاوم ويحاول أن يخلص نفسه دون جدوى، وفجأة خرج الحداد من ورشته وهو ينظر لهذا المشهد الغريب حيث الأوزة بين يدي الفتى والعجوز عالق يمشي متعثرا.
انفجر مقهقها وهو يهتف بالعجوز:
- أما تخجل يا رجل، اترك الفتى وأوزته واذهب لحالك.
- لا أستطيع يابني.. تعال وخلصني.. أرجوك.. لقد تقطعت أنفاسي من الجري وراءهما.
- وعلق المسكين بالعجوز العالق بجناح الأوزة ومروا بكوكبة من الأطفال والنسوة، فعلق هؤلاء بهم، ووصلوا بيتا أطلت منه زوجة الحداد فهتف بها هذا راجيا المساعدة، فجاءت وفي يدها قدر الطهي الذي كانت تزمع غسله فعلقت معهم، وعلق فلاح يمسك معولا، وعلق آخرون وبلغت المجموعة قصر الملك، وإذ دنوا من نافذة الأميرة، ورأت هذا المشهد الغريب، انفجرت مقهقة بقوة رهيبة أفزعت الملك وأطارت صوابه من الفرح.
أما الملك فقد استلقى من الضحك على بساط الحديقة الأخضر وظل يقهقه بقوة حتى دمعت عيناه، ووفق الله الفتى الفقير إلى الزواج من الأميرة التي صارت تسمى منذ ذلك اليوم الأميرة الضاحكة لكثر ما غدت تضحك بعد أن حلت عقدتها على يد هذا الفتى الذكي الفقير.
وتركناهما ينعمان بالملك والسعادة والأبناء البشوشين وعدنا إلى واقعنا الذي تتوالى فيه الأحزان والأفراح في تواصل عجيب، وتلك حكمة ربك جل شأنه، فليس من فرح يدوم ولا حزن يقيم.
العرض العادي
