آخر 10 مشاركات
الخبيصه الاماراتيه (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 1 - المشاهدات : 12591 - الوقت: 09:09 PM - التاريخ: 01-13-2024)           »          حلوى المغلي بدقيق الرز (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 7366 - الوقت: 03:16 PM - التاريخ: 12-11-2023)           »          دروس اللغة التركية (الكاتـب : عمر نجاتي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 13246 - الوقت: 11:25 AM - التاريخ: 08-21-2023)           »          فيتامين يساعد على التئام الجروح وطرق أخرى (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 14619 - الوقت: 08:31 PM - التاريخ: 07-15-2023)           »          صناعة العود المعطر في المنزل (الكاتـب : أفاق الفكر - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 4 - المشاهدات : 48756 - الوقت: 10:57 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          كحل الصراي وكحل الاثمد وزينت المرأة قديما من التراث (الكاتـب : Omna_Hawaa - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 2 - المشاهدات : 43817 - الوقت: 10:46 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          كيفية استخدام البخور السائل(وطريقة البخور السائل) (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 2 - المشاهدات : 36028 - الوقت: 10:36 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          جددي بخورك (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 20843 - الوقت: 10:25 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          عطور الإمارات صناعة تراثية (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 21099 - الوقت: 10:21 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          خلطات للعطور خاصة (الكاتـب : أفاق : الاداره - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 1 - المشاهدات : 27054 - الوقت: 10:12 PM - التاريخ: 11-06-2022)

إضافة رد
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-24-2012, 05:27 AM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

OM_SULTAN

المشرف العام

OM_SULTAN غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








OM_SULTAN غير متواجد حالياً


مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة " الدكتور عبد المجيد عمر النجار


مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة " الدكتور عبد المجيد عمر النجار


عرض وحوار الهادي بريك
" مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة ".

كتاب من تأليف الدكتور عبد المجيد عمر النجار ( الطبعة الأولى : 06 ـ الطبعة الثانية : 08 ).

من منشورات دار الغرب الإسلامي ( بيروت ـ لبنان ). حوالي : 300 صفحة من الحجم المتوسط. يضم الكتاب بعد التمهيد ستة أبواب لكل باب منها فصلان ويعتمد 49 مرجعا ومصدرا.

وهو أول مؤلف مستقل للدكتور النجار في القضية المقاصدية بعد بحثه القديم في الكشف عن مسالك الكشف عن المقاصد بين الإمامين الشاطبي وإبن عاشور.

نبذة مختصرة جدا عن الدكتور عبد المجيد عمر النجار :

ــ من مواليد 1945 بتونس.
ــ دكتور في العقيدة والفلسفة من جامعة الأزهر عام 1981
ــ عمل أستاذا جامعيا بكليات عربية كثيرة منها ( الجامعة الزيتونية بتونس والجزائر والإمارات العربية وقطر إلخ ..).
ــ يعمل حاليا مديرا لمركز البحوث بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس.
ــ الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
ــ عضو مؤسس بالإتحاد العالمي للعلماء المسلمين
ــ حائز على جوائز تقديرية علمية كثيرة وله كثير من البحوث والدراسات المنشورة
ــ ألف إلى حد الساعة حوالي 30 كتابا في مواضيع مختلفة.

خطة العرض :

1 ــ تقديم الكتاب.
2 ــ الدعوة إلى الحوار حوله :
... مواضع التجديد في الكتاب.
... مواضع الحوار المقترحة.
أولا : عرض الكتاب.

مدخل إلى مقاصد الشريعة :

أ ــ المقاصد بين العقيدة والشريعة.ينتصر الدكتور النجار إلى تغليب شمول المصطلح " مقاصد الشريعة " ليضم إليه مقاصد الدين كلها عقيدة وشريعة ويرجح ذلك بقوله : " ولهذا السبب فإنه ينبغي على ما نرى أن يكون مصطلح مقاصد الشريعة شاملا لمقاصد الدين عقيدة وشريعة وإن كانت هذه المقاصد أبين في الأحكام الشرعية العملية والحاجة إلى العلم بها أوكد لدوران الإجتهاد عليها وأما العقائد فإن مجال الإجتهاد فيها مجال محدود ضيق ". ص 25 من الكتاب.

ب ــ المقصد بين الغائية والحكمة.

لم يتوقف الدكتور النجار عند الإختلاف المعروف في تعريف المقصد وبذلك قال معرفا : " هو الغاية التي من أجلها وضعت أو الحكمة التي تضمنتها أحكامها ". ص 16 من الكتاب.

ج ــ الإتجاه المقاصدي للشريعة بين النفي والإثبات.

لم يعر الدكتور النجار هذا المبحث ما أعاره آخرون ممن ألف في هذا العلم وإكتفى بتأكيد الإتجاه المقاصدي للشريعة بإعتبار أنه هو الرأي الأغلب والأرجح في الأمة إلا ما كان نشازا من مثل ما أتى به فقيه الإندلس إبن حزم أو أحد علامات الأشاعرة الرازي وممن يندرج في نظمهم بحجة أن: " الشريعة من فعل الله وأفعال الله متعالية على أن تكون لها علل وغايات كما هي أفعال الإنسان ..". ص 17 من الكتاب.

د ــ أهمية العلم بالمقاصد.

توقف الدكتور النجار عند هذا المبحث ليؤكد أهميته فقال : " وتظهر تلك الأهمية في كل من مجالي: فهم الأحكام وتنزيلها على الواقع .. مرجحة لحكم على آخر عند النظر في النصوص الظنية الدلالة .. مفيدة جدا في إستخراج الأحكام بطريق القياس المعتمد على معرفة العلة ..". ص 19 من الكتاب.

توسع الدكتور النجار في هذا المبحث قليلا لينتهي به إلى توصيف صنيع عمر عليه الرضوان في القضية المعروفة بحد السرقة عام الرمادة بالعراق : " وذلك هو صنيع عمر حينما أجل تطبيق حد السرقة عام المجاعة ". ص 20 من الكتاب.

ه ــ مراحل الإهتمام بالمقاصد في التاريخ الإسلامي.

هي ـ بحسب الدكتور النجار ـ مراحل ثلاث : " إمتدت المرحلة الأولى أربعة قرون .. كان الفقهاء والأصوليون فيها يبحثون في مقاصد الشريعة .. بإسم علل الشريعة أو حكمة الشريعة أو أسرار الشريعة .. المرحلة الثانية شهدت ظهور التقسيم الشهير للمقاصد أي مقاصد ضرورية ومقاصد حاجية ومقاصد تحسينية .. ومن أشهر أعلام هذه المرحلة الإمام الجويني الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لتميز البحوث المقاصدية عن سائر البحوث الأصولية .. المرحلة الثالثة أصبح فيها هذا العلم يتجه إلى أن يكون فرعا مستقلا بذاته من فروع العلوم الشرعية متولدا من علم أصول الفقه فلما جاء أبو إسحاق الشاطبي طور علم المقاصد تطويرا نوعيا حيث وضع أسسه كعلم مستقل ثم جاء الإمام بن عاشور .. وقد أصبح اليوم علم المقاصد علما مستقلا يدرس في الجامعات ..". ص 22 و23 من الكتاب.

و ــ مسالك العلم بالمقاصد.

تبنى الدكتور النجار مسالك أربعة للكشف عن مقاصد الشريعة مقدما لذلك بقوله : " مشكلة التعرف على مقاصد الشريعة من أخطر المشاكل في هذا الباب مستشهدا بقول الإمام بن عاشور في هذا الباب حين قال : ( على الباحث في مقاصد الشريعة أن يطيل التأمل ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي وإياه والتساهل والتسرع في ذلك ..) .." ولا يتوقف الدكتور النجار عند التنبيه إلى تلك المشكلة بل يضم إليها مشكلة جديدة : " فإن الأمر يحتاج إلى أن يقع العلم بأيلولة تلك المقاصد في الواقع من تحقق جراء إجراء الأحكام الموضوعة من أجلها أو عدم تحقق .. " كما يثبت الدكتور النجار أن هذه المشكلة ( منهج الكشف عن مسالك الكشف ) التي لم يولها الباحثون الأهمية اللائقة بها لا في القديم ولا في الحديث " إنفرد ـ فيما نعلم ـ الإمامان الشاطبي وبن عاشور بتخصيص مبحث لها لشرح طرق العلم بمقاصد الشريعة " كما يدعو الدكتور النجار إلى مزيد من العمق والتوسع والضبط إجتهادا معاصرا لتطوير تلك الشروح التي قام بها الإمامان.

... مسلك الأمر والنهي. علله الدكتور النجار بقوله : " وحينما يثبت أي حكم شرعي بطلب إلهي فمعنى ذلك أن ذلك الطلب الذي ثبت به الحكم هو طلب وضع لذلك الحكم مقصدا شرعيا من أجله شرع فيكون الطلب إذن مقتضيا للحكم .. " وضرب لذلك مثل طلب ترك السرقة الذي يحقق مقصد حفظ المال. كما يحدد طبيعة هذا المسلك فيقول : " ليس من طبيعته أن يعرف بهذه المقاصد على وجه التعيين فإنه كفيل بأن يعرف بها على وجه الإطلاق .." وعاد بالنعي على تنكب فقه المقاصد بمثل ما وقع فيه المشتطون الذين مرقوا من الشريعة بسبيل صرفهم لبعض آي الكتاب الحكيم مصارف مشينة وضرب لذلك مثل الذين زعموا بلوغ درجة اليقين من قوله سبحانه " وإعبد ربك حتى يأتيك اليقين " فأسقطوا عن أنفسهم تكاليف الشريعة.

... مسلك البيان النصي. مبنى ذلك هو أن بعض الأحكام في الوحي صاحبها ذكر مقصدها بوجه من الوجوه وذلك من مثل قوله سبحانه تعقيبا على قصة قتل أحد إبني آدم لأخيه " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا .." ومن ذا يحدد الدكتور النجار طبيعة هذا المسلك فيقول : " يعتبر كالموجه المعين على تعيين المقاصد التي لم يرد فيها تعيين بإعتبارها أنموذجا .." ويعتبر المؤلف أن هذا المسلك يتفاوت في درجة الوضوح فأحيانا يكون قطعيا من مثل ما ورد في المثال آنف الذكر وأحيانا يكون أدنى من ذلك من مثل قوله سبحانه : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله " كما يبين الدكتور النجار أن هذا المسلك قد يكون بيانا للمقاصد العالية وضرب لذلك مثل اليسر في الشريعة إلى غير ذلك من عطاءات هذا المسلك ولكنه ينبه إلى أن الظنيات في هذا المسلك ـ بإعتباره من أقوى المسالك ـ أكثر من القطعيات فيه بما يستلزم الحذر وإطالة الدرس.

... مسلك الإستقراء. أصل هذا المسلك هو أن أغلب الأحكام غير منصوص على مقاصدها وإن كان معلوما أنها مقصدة معللة " وبما أن الأحكام جزئيات كثيرة مندرجة ضمن أنواع وأنواع مندرجة ضمن أجناس فإن الكثير من الأحكام تلتقي عند المقصد الواحد .." ويضرب للإستقراء مثلا من السنة النبوية ليبين أن الإستقراء هو الذي دل على أن مقصد منع الغرر في البيع جاء نتيجة لتتبع جزئيات كثيرة منها النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها ومنها النهي عن بيع ما في بطون الأنعام قبل وضعها وغير ذلك مما لا يحصى.

... مسلك العمل النبوي. أصل هذا المسلك هو أن المقصد قد يكشف عنه من خلال حسن فقه القول ومن خلال حسن فقه العمل حتى لو كان إقرارا منه عليه الصلاة والسلام لعمل بعض صحابته. ولكن المؤلف يقصر ذلك على الأفعال النبوية " إذا كانت مندرجة ضمن ما هو من التصرفات النبوية التبليغية " وضرب لذلك مثالا أبرز فيه أن العمل النبوي مسلك دلنا على مقصد تكريم الذات الإنسانية من خلال عيادته لمريض من مرضى اليهود ومن خلال وقوفه لجنازة يهودي وغير ذلك كما ضرب لهذا المسلك أمثلة أخرى يجدر الرجوع إليها في الكتاب. ص 25 حتى 35 من الكتاب.

زــ تصنيف مقاصد الشريعة.

في هذا الفصل الثاني من الباب الأول يستعرض الدكتور النجار خمسة وجوه لتصنيف المقاصد ثم يشفع ذلك برأيه.
وهذه الوجوه الستة هي :

... المقاصد بحسب قوة الثبوت. يبين هذا الوجه من وجوه التصنيف أن المقاصد منها ما هو منصوص عليها بجلاء وأخرى بخفاء ومنها ما هو غير منصوص عليها بما قد يعرض الباحث المتعجل ـ فضلا عن صاحب الهوى ـ إلى القول على الله بغير علم. ولذلك تكون قطعية أو ظنية أو وهمية أصلا.

أ ــ مقاصد قطعية. بما تحصل من يقين فيها بسبب تواتر أو غير ذلك من مثل مقصد اليسر في الشريعة الذي تظافرت عليه النصوص صحيحة صريحة ومن مثل نوط مقصد الحياة بشريعة القصاص " ولكم في القصاص حياة " ونوط مقصد الإنتهاء عن الفحشاء والمنكر بإقام الصلاة وغير ذلك.

ب ــ مقاصد ظنية. وهي دون درجة القطع وربما يكون أغلبها في مسلك الإستقراء الذي يقتضي بالضرورة جمع الأدلة الجزئية بعضها إلى بعض وقد لا تسلم هذه العملية من خطإ وضرب لذلك مثل عقد النكاح بما يستلزمه من رضا وولاية وإشهاد بما يغلب على الظن بأن المقصد هو تقوية آصرة الزواج وإستدامتها. كما نبه إلى أن الظنية في الأحكام الشرعية وكذا في مقاصدها لا تلغيها ولا تحط من قدرها إذ هي أغلب الشريعة.

ج ــ مقاصد وهمية. ما بدا ظاهرها بادي الرأي مصلحة ولكن عند التحقيق ينجلي العكس حتى لو خالطتها مصلحة وضرب لذلك المثل الذي ضربه القرآن الكريم نفسه في الخمر والميسر إذ شهد لهما بالنفع ولكن ألغيت مصالحهما من الإعتبار جملة وتفصيلا بسبب إجراء فقه الموازنة الذي أثمر غلبة الإثم على النفع.

... المقاصد بحسب المناط. أي بحسب متعلق تلك المقاصد ومجال عملها فيما إذا كان كليا عاما أو نوعيا خاصا أو جزئيا لا يتعدى مجاله المحدد.وذلك بسبب أن المقاصد بمثابة شبكة لولبية واسعة أشبه ما تكون بشبكة الجهاز العصبي أو الشراييني في الجسم البشري يفضي بعضه إلى بعض رغم إختلاف درجاته.

أ ــ مقاصد كلية. أي التي تلتقي فيها كل المقاصد وتفضي إليها من مثل مقصد الخلافة في الأرض ومقصد حفظ نظام الأمة وهي كلية تختلف درجاتها في العلو وأعلاها مطلقا ما أضحى محل إجماع من لدن أهل هذا الفن بمثل ما عبر عنه الإمام الفاسي : " عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها وإستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها ..".

ب ــ مقاصد نوعية. أي التي تلتقي عند نوع من أنواع العمل في الحياة كالأسرة مثلا. أي أنها خاصة بنوع من أنواع حياة الناس فوق الأرض من مثل الحياة الإقتصادية.

ج ــ مقاصد جزئية. خاصة بجزء محدد من الأحكام من مثل تحصيل الطهارة مقصدا للوضوء بمثل ما عقب به سبحانه على آية الوضوء " ولكن يريد ليطهركم " وهذا الضرب من المقاصد الجزئية عادة ما يعبر عنه بعلة الحكم عند فقهاء الأصول.

كما أكد الدكتور النجار أن هذا التقسيم إعتباري لغرض دراسي ولا ينفي ذلك ترابط هذه الحلقات الثلاث من المقاصد الكلية والنوعية والجزئية ترابطا يخدم المقصد الأسنى من الدين كله وضرب لذلك مثلا يبين أن الإستهانة بمقصد جزئي صغير يفضي إلى الإتيان على المقصد الكلي الأعلى وهو مثل يتعلق بمقصد رواج الطعام بين الناس من حكم النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فإن لم يعمل بذاك المقصد الجزئي إنخرم ميزان المقاصد النوعية في مجال التعامل المالي بين الناس وساد الإحتكار بما يفضي بدوره إلى إنخرام المقصد الأسنى العام بما يذهب بالتكافل والتعاون بين الناس ويؤخر مقصد الخلافة والعمارة.

... المقاصد بحسب الشمول. الأصل عموم الشريعة ولكن ذلك لا ينفي وجود مقاصد تتجه إلى نوع محدد من الناس بسبب طروء ظروف خاصة بهم.

أ ــ مقاصد عامة. وهي الأصل الذي يبسط معاني العدل والمساواة والتكافل وغير ذلك مما هو عام بينهم جميعا.

ب ــ مقاصد خاصة. تتجه إلى أصحابها بسبب إنحباسهم في ذلك الوقت في تلك الخصوصية من مثل مقصد درء الحدود بالشبهات فإنه لا يعني سوى مقترفي الذنوب الحدية ( التي فيها حد ) وغير ذلك من الأمثلة. كما يميز الدكتور النجار بين الخصوصية والنوعية في تقسيم المقاصد بقوله بأن الخصوصية تشمل الأفراد ولكن النوعية تشمل الأحكام.

... المقاصد بحسب الأصلية. ككل شيء تقريبا تجد أصلا لكل فرع وفرعا لكل أصل أو مقصدا لكل وسيلة ووسيلة لكل مقصد وبذا تحتم التمييز بين المقاصد الأصلية والمقاصد الوسائلية.

أ ــ مقاصد الأصول. التي جاءت الأحكام تريد تحقيقها بإعتبار ذاتها من مثل مقصد حفظ النفس ومقصد السكن والرحمة في الزواج ومقصد العدل الإجتماعي. فهي مقاصد أصول. وهي أعلى.

ب ــ مقاصد الوسائل. هي مصالح ولكن لغيرها وليس لذاتها وضرب لذلك مثل الإشهاد في النكاح فهو مصلحة ولكن ليس لذاته بل لغيره الذي هو : السكنية والإستقرار في الزواج. كما بين الدكتور النجار أن الإمام الشاطبي نحا نحو آخر في هذا المبحث فقسمها إلى مقاصد أصلية وأخرى تبعية فالأصلي ما لا يكون فيه للمكلف دافع فطري إليه ولكن يغالب نفسه عليه أما التبعي فما يحققه بدافعه الطبيعي من مثل الزواج.

... المقاصد بحسب قوة المصلحة. وذلك بسبب أن المصالح تختلف نسب تأثيراتها في تحقيق المقاصد العليا كما تختلف نسب هذه بدورها في تحقيق المقصد الأسنى من الإسلام وضرب الدكتور النجار لذلك مثل السرقة التي يساهم حكم تحريمها في مقصد حفظ المال بأكثر ما يساهم حكم المغارسة وغيره من التعاملات المالية بين الناس وقد سبق للد. النجار أن وصف هذا الوجه من التصنيف على أنه " العمود الفقري لعلم المقاصد " وبذلك تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية.


أ ــ المقاصد الضرورية. التي لا بد منها لحفظ المقصد الأسنى أي خلافة الإنسان فبقدر حضورها يقوم ذلك المقصد الأسنى والعكس بالعكس. ولقد إستقر عند الأصوليين قديما بأن تلك الضروريات هي خمس : الدين والنفس والعقل والمال والنسل وزاد بعضهم العرض.

ب ــ المقاصد الحاجية. التي لا يتوقف عليها قيام المقصد الأسنى ولكن تصاب حياة الناس بالحرج والعنت لفقدها ولذلك سميت حاجية أي يحتاج إليها الناس بحسب العرف والعادة. وضرب الدكتور النجار لذلك مثل الحاجة إلى الفطر في السفر والحاجة إلى الطلاق عند غلبة العسر والحاجة إلى مزاولة بعض صنوف العمل من مثل الإيجارات.

ج ــ المقاصد التحسينية. التي لا تصاب حياة الناس بغيابها بالتوقف كما هو الشأن في المقاصد الضرورية ولا بالعنت والمشقة كما هو الشأن في المقاصد الحاجية ولكن تغيب مظاهر البهجة والراحة عن المشهد وضرب الدكتور النجار لذلك مثل تخطيط المدن تخطيطا عمرانيا يضفي مسحة من الجمال والبهجة على الناس وغير ذلك من الأمثلة.

وأكد الدكتور النجار بأن " أحكام الشريعة لو تأملناها على إختلاف درجاتها في الأمر والنهي لوجدنا كل واحد منها وضع لتحقيق مقصد ينتمي إلى واحدة من هذه المراتب الثلاث ". ص 36 حتى 48 من الكتاب.

رأي الدكتورالنجار في تصنيف المقاصد.

" هذه التقاسيم لا تعدو أن تكون إصطلاحات مفيدة في الدرس ولكنها غير نهائية ولا هي ملزمة " فعلى سبيل المثال " إقترح الدكتور العلواني أن تصنف مقاصد الشريعة على أساس مقاصد كلية ثلاثة يبنى عليها كل ما تحتها من المقاصد التفصيلية وهي : التوحيد والتزكية والعمران " وأورد الدكتور النجار مقترحات أخرى في هذا الصدد.

كما أكد بأنه " إذا عدنا بالنظر إلى التقسيم الأشهر للمقاصد أي التقسيم بحسب قوة المصلحة فإنا نجد من أنواع المقاصد الضرورية ما قد لا يكون موفيا اليوم بكل الضرورات .. وأن هذه الكليات الخمس الأساسية ليست هي الضرورات التي جاءت الشريعة تقصد إليها على سبيل الحصر ".

وضرب لذلك مثلا بقوله " عصرنا الحديث بما فشا فيه من فلسفات مادية إلحادية قد شهد إنتهاكات كبيرة لمعنى إنسانية الإنسان ولقيمة هذا المعنى وعناصر تكوينه إذ قد إنتهكت فطرته بمذاهب لا ترى فيه فطرة ثابتة وإنما الإنسان هو الذي يصنع هويته بنفسه كما في الفلسفة الوجودية وإنتهكت كرامته فتعرض للظلم والقهر بل للإبادة .. وإذا كان الأمر كذلك فهل لا يكون من الواجب أن يبرز في مقاصد الشريعة هذا المقصد الضروري منها متمثلا في حفظ إنسانية الإنسان بعناصرها المختلفة ..".

كما ضرب الدكتور النجار مثلا آخر بقوله : " فإن الحياة الحضارية الحديثة أسفرت عن أزمة في غاية الخطورة أصبحت تهدد مصير البشرية بأكملها بالدمار وتلكم هي الأزمة البيئية " ثم بين أن ذلك يمكن أن يكون مقصدا قائما بذاته غير مندرج ضمن المقاصد الخمس الضرورية المعروفة وأن في الإسلام ما يؤيد ذلك بقوة وأنه لا تثريب على الأقدمين الذين لم يكن هذا المقصد قد ظهر لهم بمثل ما ظهر لنا اليوم.

كما يستعيد الدكتور النجار هنا ما ذكره مرات في بعض تآليفه الأخرى على عادة أغلب من كتب في المقاصد حديثا وهو أن الصياغة المقاصدية التقليدية القديمة كان بناؤها على الفرد بالأساس وليس على المصلحة الجماعية حتى لو كانت تؤدي إليها بالضرورة كما توحي بذلك الأمثلة التي يسوقها المؤلفون وفق ذلك النحو وهو ما دعا إبن عاشور إلى صياغة مقاصدية جديدة تراعي ذلك البعد الجماعي " إنتظام أمر الأمة ".

وسيتبين للقارئ ـ قارئ الكتاب أصالة ـ بأن الدكتور النجار إهتبل هذا المبحث من رأيه في تصنيف المقاصد لتهيئة طالب العلم إلى حسن التفاعل مع بعض التجديدات الأصولية التي إجتهد في إدراجها بغير سابق مثال ولذلك جاء هذا المبحث مطولا نسبيا.

فمن ذلك مثلا أنه ينعي على بعض السابقين عدم إحكامهم للإنطباق بين مختلف مستويات المقاصد الثلاثة المشهورة وذلك على نحو تكون فيه " المقصدية الضرورية قسيما للحاجية والتحسينية وتكون هذه الثلاثة مندرجة كلها تحت معنى الحفظ " أي حفظ المال الذي ضربه مثالا لذلك. واضح إذن أن الدكتور النجار يؤسس ( أو يذكر ) لضرب جديد من التكامل بين تلك المستويات الثلاثة المشهورة ولكنه تكامل على أساس تظافر المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية معا لخدمة أي مقصد من المقاصد الشرعية الثابتة.

ثم ينتهي الدكتور النجار بعد تلك الجولة المعمقة مع التقسيمات التقليدية السائدة إلى إعتماد تقسيم " يقوم على تصنيفها بناء على معالجتها لقضايا الإنسان في دوائر حياته ". من ص 49 حتى 56 من الكتاب.

شكلت المباحث آنفة الذكر مقدمة الكتاب. وفيما يلي جوهره القائم على باب مخصص لمقاصد حفظ قيمة الحياة الإنسانية ( حفظ الدين وحفظ إنسانية الإنسان ) وباب مخصص لمقاصد حفظ الذات الإنسانية ( حفظ النفس وحفظ العقل ) وباب مخصص لمقاصد حفظ المجتمع ( حفظ النسل وحفظ الكيان الإجتماعي ) وباب مخصص لمقاصد حفظ المحيط المادي ( حفظ المال وحفظ البيئة).

مقاصد الشريعة في حفظ قيمة الحياة الإنسانية.

أمران يثبتهما الدكتور النجار في التمهيد لتأكيد أول مقصدين ( الدين والإنسانية ) يستنبطان من إستقراء الشريعة في إتجاهها لحفظ قيمة الحياة الإنسانية وهما :

... خصوصية التكوين الإنساني المفارق للتكوين الملكي ( نسبة إلى الملك بفتح اللام ) وللتكوين الجني وهي خصوصية الإزدواج بين الصلصال وروح الله سبحانه وهو بذا مكرم مفضل إلى درجة أسجد الله له ملائكته.

... تحديد الإسلام بجلاء رسالة ذلك الإنسان " الخاص " وهي رسالة العبادة.
والمقصود من ذلك هو أن قيمة الحياة البشرية تتحدد بحسب حفظ ذينك المعيارين ( المعيار الفطري و المعيار الرسالي ).

حفظ الدين : مقصد الشريعة الأول.

المقصود بالدين هنا هو الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من جهة وهو معنى التحمل بالطاعة من جهة أخرى جمعا بين المعنى اللغوي والإصطلاحي وذلك على معنى الشمول طبعا جمعا بين العقيدة وبين التطبيق العملي أي التدين.
ينتهج الدكتور النجار نهجا فيه قدر كبير من الجدة وذلك حين يرسم مقصد حفظ الدين من خلال " تيسير التدين ودفع العوائق عنه .. فكما يحفظ الدين على سبيل المثال بأن يتمكن المسلم من التدين بإقامة الصلاة ودفع العوائق دون ذلك فإنه يحفظ أيضا بأن يتمكن المجتمع من التدين بإقامة حياته الجماعية على أساس من الدين في التعامل الإجتماعي ودفع العوائق دون شك ".

مسالك حفظ الدين :

أ ــ حفظ الدين بتوفير أسبابه.

... سبب التيسير. لا يند هذا السبب عن قارئ للقرآن والسنة أبدا حتى أصبح محل قطع لا خلاف عليه وذلك على أساس أن إنبناء الدين على اليسر يغري النفس دوما بالإقبال عليه وعدم النفور عنه كما أخرج البيهقي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ". وقال الشاطبي في المعنى ذاته " إعلم أن الحرج مرفوع من المكلف لوجهين : أحدهما الخوف من الإنقطاع من الطريق وبغض العبادة وكراهة التكليف ".

... سبب الإجتهاد. أصل ذلك أن " أحكام الشريعة أكثرها كلي عام وليس جزئيا تفصيليا إلا فيما يتعلق بالعبادات وأحوال الأسرة .. " ومقتضى ذلك هو أن نوازل الحياة لا يسعها ما هو منصوص عليه من تلك الأحكام ولذا وجب الإجتهاد واجبا كفائيا بل هو واجب للفرد حظه منه فيما يليه من حوادث فردية صغيرة من مثل جبر السهو في الصلاة وأكبر أصل لذلك الإجتهاد هو حديث معاذ المعروف عندما بعث إلى اليمن قاضيا فيما أخرجه أبو داود " .. أجتهد رأيي ولا آلو".

... سبب التبليغ. تبليغ الدين إلى الناس كافة واجب كفائي هو الآخر وقد يكون واجبا عينيا في بعض الحالات والأدلة على ذلك من القرآن الكريم نفسه كثيرة وبالتبليغ مظنة للهداية ولتكثير سواد المسلمين وتحصيل نوع من القوة ونوع من الفقه الذي يحفظ للدين شبابه " رب مبلغ أوعى من سامع ".

... سبب السلطان. حاجة الدين للسطان يذب عنه وينشره بسبب شمول الإسلام لكل مناحي الحياة ولذلك جاءت تعاليم الإسلام تحث المسلمين على القوة والمنعة والإمارة وأكثر ما ورد من واجبات عامة إنما تقوم بوازع السلطان من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فلا يتصور أحد مجتمعا لا سلطان فيه يقيم العدل وينتصف للمظلوم.
تلك أسباب أربعة حددها الدكتور النجار لحفظ الدين بتيسيره للناس يسرا وإجتهادا وتبليغا وسلطانا يحميه.

ب ــ حفظ الدين بدفع العوائق.

تعرض للدين عوائق داخلية من نفس الإنسان كما تعرض له عوائق خارجية.

... عائق الهوى. قال الشاطبي " المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبدا لله إختيارا كما هو عبد لله إضطرارا ". وذلك بسبب إزدواجية التكوين الإنساني " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ". هوى النفس لصيق بالإنسان وهو كفيل بإضلاله لو إتبعه وأكثر ما يجر الناس إلى الإنحراف والظلم إتباع الهوى والشهوات دون رادع ولا زاجر.

... عائق الإستبداد الفكري. " التدين إختيار مبني على حرية الإرادة كما هو مبني على حرية التفكير .. وبما أن الدين كله بعقائده وشرائعه لا يناقض أحكام العقل فإن التفكر بالمنهج الصحيح لا يمكن إلا أن يفضي إلى الإيمان .. ولذلك فإن الفكر الحر هو مسلك أساسي من المسالك إلى التدين ".
وقد تعرض لذلك الفكر الحر عوائق تحيد به عن طريقه فتضله ومنها الإرهاب الفكري بمثل ما قال فرعون " ما أريكم إلا ما أرى " وقد يتخذ ذلك الإرهاب مسالك خفية من مثل بعض العادات والتقاليد وتقفي أثر الأسلاف دون تدبر وبذا يتبين بأن دفع عائق الإستبداد الفكري عن الإنسان يحفظ الدين من جور الأسلاف ومن طغيان الأخلاف سواء بسواء.

... عائق التحريف. أصل ذلك هو أن أحكام الدين ليست منصوصا عليها كلها بحيث تكون بينة لكل متدين زد إلى ذلك أن ما هو منصوص عليه قد يكون ظنيا بل الظني منه أكثر من القطعي وإذا كان المجال أمام الإجتهاد بسبب ذلك فسيحا كما ترى فإن مجال التحريف لأي سبب أمر ممكن وفي التاريخ شاهد بل شواهد ولذلك جاء قوله سبحانه محذرا " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله ". وبمثله جاء الحديث الكريم " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله : ينفون عنه تحريف الغالين وإنتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ".

... عائق الإرجاف. إذا كان التحريف قد يعرض للدين في تفاصيله فإن آفة الإرجاف تعرض له في محكماته وقطعياته ( هذه حملة خارجية وتلك داخلية ) والإرجاف عادة ما يحمل لواءه المنافقون " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ". لنغرينك بهم معناها : لنسلطنك عليهم. والردة ـ سيما في بعض وجوهها ومظاهرها ـ ضرب من ضروب الإرجاف ولذلك جاء الوعيد عليها شديدا ومعلوم أن الردة الجماعية إستخدمت في صدر الدعوة الإسلامية سبيلا من سبل تفريق الدين وتفريق شمل أهله " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وأكفروا آخره لعلهم يرجعون " ولذلك تكون بعض وجوه الردة في عصرنا بمثابة جريمة الخيانة العظمى في القوانين الوضعية. ويكون حد الردة سواء كان تعزيريا أو غير تعزيري متجها نحو جريمة التخذيل الكيدي لوحدة الصف وليس متجها نحو جريمة الكفر نفسها.

... حفظ الدين بالجهاد. " حينما يتعرض المسلمون لغزو خارجي فإن هذا الغزو سيكون مآله سيطرة الغزاة على الحياة العامة .. ومصداق ذلك في الغزو الإستعماري للأمة الإسلامية .. وتناسبا مع هذا الخطر الجسيم .. فقد جاءت في التشريع الإسلامي أحكام تدفع هذا الإهدار للدين وعلى رأسها الحكم بوجوب الجهاد لمدافعة الغزاة .. فرضا كفائيا فإن لم تف الكفائية كان فرض عين " إنفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ". وما كان سابقا في التاريخ مما سمي جهاد طلب فإنه لم يخرج عن ذلك السياق بسبب أنه إيصال للدعوة الإسلامية إلى شعوب ضرب عليها حصار رهيب من قبل متسلطين مستبدين فإن أمكن تبليغ الدين إلى الناس دون ذلك ( جهاد الطلب ) كما هو الحال اليوم بوسائل الإعلام لم يعد هناك مبرر لذلك الضرب من الجهاد.
تلك هي إذن أهم سبل حفظ الدين من جهة تيسير أسبابه ومن جهة دفع العوائق التي تعرض طريقه.

حفظ إنسانية الإنسان : مقصد الشريعة الثاني.

تختلف الصياغة المقاصدية التقليدية القديمة " حفظ النفس " عما يريد الدكتور النجار تجديده هنا إختلاف بعد أي أنه أضاف إلى ذلك البعد الجماعي " حفظ النفس كما شرحه المقاصديون ينحو منحى النفس الفردية حفاظا عليها من التلف بأنواعه .. ومقصد حفظ إنسانية الإنسان أوسع من ذلك إذ هو يتعلق بحقيقة الإنسانية في كل فرد من أفراد الإنسان ..". ثم يشرح المقومات الكفيلة بحفظ تلك الإنسانية :

... حفظ الفطرة الإنسانية. يعتمد الدكتور النجار السبق الذي أنجزه إبن عاشور في كتابه اليتيم في الموضوع بعد الشاطبي وذلك حين يؤكد الإمام إبن عاشور " إبتناء المقاصد على وصف الشريعة الأعظم وهو الفطرة ". الفطرة هي : " البنية التي خلق عليها الإنسان في بعديها المادي والروحي". وعرفها إبن عاشور بقوله " الفطرة : الخلقة أي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق". والمقصود هنا هو طبعا الخوف من العدوان على تلك الفطرة بتحريفها من خلال العبث بتوازناتها المختلفة كالتوازن بين الروح والجسد مثلا.

مسالك حفظ الفطرة :

أ ـ حفظ الفطرة من التبديل. نبه الوحي إلى ذلك بقوله " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ". وقد فسر إبن عاشور ذلك بمثل قولك " لا تقتلون أنفسكم". أي لا تبدلوا فطرتكم. وهو في معنى قوله سبحانه " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ". وفي معنى قوله عليه الصلاة والسلام : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله " ( البخاري ). وفي معنى قوله عليه الصلاة والسلام :

" ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ومن تشبه بالنساء من الرجال ". ( أحمد ). ويؤكد الدكتور النجار ذلك بقوله " فإذا كان الإعتداء على الفطرة الإنسانية في بعدها الجسمي أمرا منهيا عنه على هذا النحو من التغليظ فإن النهي عن الإعتداء على الفطرة النفسية هو أشد غلظة ". ومن مظاهر تبديل الفطرة النفسية للإنسان قوله سبحانه " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون " أي أنهم تنكبوا العقل فحرموا الفهم والتدبر فكانوا أشبه بالأنعام " بل هم أضل ".

ب ــ حفظ الفطرة بالتوازن. خلق الله الإنسان متوازن الفطرة : جسد وروح وعواطف وأحاسيس وبعد فردي وآخر جماعي إلخ .. وعبر عن ذلك بقوله " ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ". ونظير ذلك في السنة قوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء : " إن لنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولضيفك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه " ( البخاري ).

ج ــ حفظ الفطرة بالإشباع. قال الدكتور النجار " هذه المطالب ـ من غرائز وعواطف وشهوات وتطلعات ـ إنما تشبه أن تكون غذاء للفطرة به تثبت وتقوى ..". وهي مطالب مشروعة أقرها الوحي الكريم فقال : " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ". وقوله عليه الصلاة والسلام " وفي بضع أحدكم صدقة " ( مسلم ). ومن ذلك نهي الشارع عن الخصاء وهو نهي يشمل الإنسان والحيوان سواء بسواء. " وليس معنى تلبية مطالب الفطرة أن يكون ذلك بإرسال غير محدود " ويستوي في ذلك الإشباع المسرف في العبادة تلبية لأشواق الروح والإشباع المسرف في الشهوات البدنية تلبية لمطالب البدن وكلاهما غلو يجاوز الإشباع المطلوب ويأتي على التوازن في الفطرة.

... حفظ الكرامة الإنسانية. قرر الإسلام كرامة الإنسان بأعلى توجيه " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا".

ذلك التكريم الذي إختص به الإنسان هو الذي يميزه عن بقية المخلوقات. المقصود بالكرامة هو ذلك الشعورالفطري الداخلي بالعزة والقوة النفسية ونبذ المذلة والهوان والوهن. وذلك يجرح النفس تماما بمثل ما تجرح السنان بدنه. وتخولت الشريعة إلى حفظ كرامة الإنسان بما لا يحصى من التشريعات من مثل كفالة القريب وتحريم الغيبة والنميمة والهمز واللمز والقذف والمثلة بالأعداء وحرمة الميت إلخ ..

... حفظ غائية الحياة. من أهم ما يميز الإنسان هو أنه " لحياته غاية ولوجوده معنى مستقبلي يتجاوز به لحظته الراهنة إلى أمد مقبل ". ومما جاء يؤكد ذلك من الوحي الكريم قوله سبحانــــــــــــــه " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " وقوله " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ". وجاء القرآن الكريم ببيان واف يحدد تلك الغاية " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" وقوله " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " إلخ .. " مضمون الخلافة في الأرض يشتمل على عنصرين إثنين : أولهما ترقية الذات الإنسانية .. وثانيهما التعمير في الأرض علما بقوانينها وإستثمارا لخيراتها ..". وشرع الشارع تعليمات تحفظ تلك الغائية لرسالة الإنسان فوق الأرض ومنها على سبيل الذكر لا الحصر بعث الأمل فيه ونبذ اليأس والقنوط كائنا ما كانت ذنوبه " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله .." ومنها نبذ الإنتحار " لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " وقوله عليه الصلاة والسلام " من قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم " ( البخاري ).

... حفظ الحرية الإنسانية. قال الدكتور النجار " كل الموجودات الكونية خلقت مسوقة إلى مصائرها على سبيل الحتم إلا الإنسان فقد خلق بإرادة حرة يختار بها مصيره وهو معنى قوله " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ".

الحرية معناها : أن يكون متصرفا في نفسه بمحض إختياره سواء فيما تعلق بتفكيره أو بأقواله أو بأفعاله .. وحينما تطرأ على النفس عوامل الإستبداد فإنها تفقد قدرتها على الإنطلاق فيما تريد لتبدع في الفكر أو في القول والعمل وتنكمش على ذاتها مترقبة أوامر وتوجيهات المستبد .. وخير تصوير لتلك النفس هو قوله سبحانه " ضرب الله عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ". وبذلك تبين أن " حفظ الحرية مقصد شرعي " وقال فيه إبن عاشور الذي كان سباقا في تأكيد ذلك " إن إستواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة وذلك هو المراد بالحرية ". ومعلوم أن الأصوليين قرروا أن " الإسلام متشوف إلى الحرية " وذلك من خلال إستقراء أدلته جزئية وكلية. كما كان الإسلام سباقا إلى تجفيف منابع الرق في الوجود البشري فوق الأرض ورسم لذلك تشريعات معروفة لكل دارس.

رسم الإسلام حرية المعتقد فقال " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " كما رسم حرية التفكير وحرية الرأي فقال " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير .." ورسم حرية العمل. ووصل الإسلام بتعليماته التحريرية أعلى القمة حين أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام أن إمرأة دخلت النار في هرة وأن أخرى دخلت الجنة في كلب إلخ .. ولما تشبع الأصحاب بذلك أعلن الفاروق عليه الرضوان نداءه الذي تجاوبت معه الدنيا " متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ".

مقاصد الشريعة في حفظ الذات الإنسانية.

أصل هذه المقاصد هو أن الإنسان مكلف بالخلافة والعبادة والعمارة وبقدر ما يكون سويا من جميع جوانبه يتأهل لتلك التكاليف ومعلوم أن الإنسان مزدوج التكوين على نحو ما أسلف الدكتور النجار في هذه الدراسة.

مقصد حفظ النفس : مقصد الشريعة الثالث.

" حفظ النفس مقصدا من مقاصد الشريعة يتعلق بمجمل الكينونة الإنسانية بعناصرها المختلفة".

أ ــ الحفظ المادي للنفس.

... حفظ النفس بأسباب البقاء والقوة. شرعت لذلك تشريعات من مثل الزواج والنسل ورعاية الطفولة من حمل ورضاع وحضانة وشدد الإسلام فيها حتى قال عليه الصلاة والسلام " أيما أهل عرصة ( حي ) أصبح فيهم إمرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله " ( الحاكم ). ومن ذلك الإرشاد إلى تعاطي المآكل النافعة والمشارب والملابس والمساكن وتجنب خبائثها ومن ذلك رعاية البدن بالرياضة البدنية " علموا أبناءكم السباحة والرمي " ودفع السآمة والكسل الذهني " يا حنظلة ساعة بساعة ".

... حفظ النفس بدفع العوادي. من ذلك أن الشارع علم دفع العدوان على النفس وشرع القصاص الذي عده حياة وتحريم العدوان على البدن بأي ضرب من ضروب العدوان وتحريم المآكل والمشارب الخبيثة من مثل الخمر والميتة والخنزير ودفع الأمراض والدعوة إلى التداوي حتى عد الدواء قدرا من أقدار الله سبحانه وفي سبيل دفع العوادي حفظا للنفس رخصت الشريعة في أكل الميتة وما في حكمها عند الضرورة ورخصت في التيمم ورعاية حق الجسم بصفة عامة حتى في العبادة فما بالك في العادة.

ب ــ الحفظ المعنوي للنفس.

" كما للجسم أسباب يكون بها ضعفه ووهنه وهلاكه وأسباب تكون بها نقائض ذلك فإن للروح أيضا أسبابا بها تقوى وأخرى بها تضعف ". ولذلك إمتن سبحانه على عباده بأن " أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ". ويؤكد الدكتور النجار أن القدامى لم يعطوا هذا الأمر حقه من البحث فكان أكثر عكوفهم على سبل حفظ النفس حفظا ماديا من خلال شريعة القصاص وغير ذلك.

... حفظ النفس بالتزكية. " قد أفلح من تزكى ". التزكية هي " إختيار كمالات النفس ودفع رذائلها".

... حفظ النفس بالأمن النفسي. " لا تكون النفس سوية قوية إلا إذا نعمت بالطمأنينة والأمن ". ولذلك جاءت الشريعة لتضمن الأمن النفسي للإنسان " كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله ". وورد التشديد مغلظا في الحديث النبوي على من يروع الإنسان مجرد ترويع. كما غلظ في عقوبة بث الفزع والعدوان على أعراض الناس وأموالهم وأنفسهم " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ".

مقصد حفظ العقل : مقصد الشريعة الرابع.

العقل هو أحد قوى النفس ولكن أفرده الدكتور النجار لكونه " أعلى قوة من قوى النفس وأرقاها ولكونه مناط التكليف فالإنسان إنما هو إنسان بالعقل ". العقل هو قوة الإدراك والتمييز والحكم وهي قوة فطرية مثل العلم بأن الكل أكبر من الجزء وأن لكل حادث سببا إلخ .. أما الفكر فهو كما قال الجرجاني " ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول " ولكن درج الناس على إطلاق الفكر على العقل وهو من باب إطلاق إسم السبب على المسبب. يكون حفظ العقل ماديا ومعنويا.

... الحفظ المادي للعقل. " يتمثل البعد المادي للعقل في الدماغ وما يتبعه من أعصاب " ولكنه يتأثر بحال الجسم كما قال المثل العربي المشهور " العقل السليم في الجسم السليم ". وقد توضح حفظ العقل ماديا في أثناء الحديث على الحفظ المادي للجسم البشري وما شرع له الإسلام من تشريعات من مثل تحريم الخمر والمخدرات وسائر الخبائث إلخ ..

... الحفظ المعنوي للعقل. لم يهتم الأصوليون كثيرا بهذا الضرب من الحفظ. فإذا كانت وظيفة العقل هي الفكر فإن حفظ العقل معنويا هو تيسير أسباب تنشيط الحركة العقلية في الإنسان.

أ ــ حفظ العقل بتحرير الفكر. تحرير الفكر معناه إطلاق العقل ليعمل دون قيود وحواجز تحد من حركته ليدرك أقصى ما يمكن من الحقائق وشرع الإسلام لذلك أمورا منها التحرر من قيود العادات والتقاليد الفاسدة التي يسلطها المجتمع على أفراده وهو الأمر الذي شنع عليه الوحي تشنيعا فقال " قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ". ومن ذلك التحرير المطلوب كذلك التحرر من سطوة السلطان السياسي أو الكهنوت الديني أو تأثيرات الشعوذة والعرافة والسحر ومن ذلك أيضا الهروع إلى الهجرة لأمن الفتنة وإلتقاط أنفاس حرية جديدة كما يتحرر الفكر من جانب آخر بمدافعة الهوى ومن الهوى الإقتصار على التقليد الذي قال فيه الإمام الرازي " القول في الدين بمجرد التقليد حرام ". وقد يشغب الهوى على صاحبه فيعدل عن قول الحق وتبني القسط حيال قرابته " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ". ومن وجوه تحرير الفكر كذلك نبذ الخرافات والأوهام والتطير والتنجيم.

ب ــ حفظ العقل بالتعلم. " وإنما يكون العقل قادرا بالعلم على أن يقود الإنسان إلى أداء مهمته لأن تلك المهمة هي الخلافة في الأرض وهذه الخلافة تستلزم علما بالأرض ..". وغني عن القول بأن الوحي الكريم مدح العلم وأهله بما لا يحصى من الأدلة حتى غدا ذلك معلوما بالضرورة. وكشف الدكتور النجار عن بعض صور ذلك التعلم :

... التعلم الإستيعابي. " هو التعلم الذي تنكشف به الحقائق الموضوعية سواء كانت متعلقة بالغيب أو بالكون أو بالإنسان بحيث يحصل في العقل جملة من تلك الحقائق تعكس الواقع في تلك المجالات في الوعي العقلي ". وأهم مسالك ذلك العلم الإستيعابي هما : الوحي والحواس ولذلك أمرت الشريعة كثيرا بالنظر والتدبر والتفكر من أجل الإلمام بالعلم الإستيعابي الكفيل بإدارك الحقائق في النفس وفي الآفاق.

... التعلم التفكري. " هو ضرب يتجاوز إستيعاب الحقائق إلى التأمل فيها تأملا عميقا من حيث أسبابها وعللها ومن حيث أبعادها ودلالاتها ومن حيث علاقاتها ببعضها ومن حيث مآلاتها وإستثماراتها ..". وذلك من أجل التفقه الذي هو " التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد ".

... التعلم المنهجي. " تمرين العقل على أن تكون حركته الفكرية جارية وفق قواعد منهجية وتراتيب منطقية من شأنها أن تعصمه أكثر ما يمكن من الوقوع في الخطإ وأن توجهه أكثر ما يمكن إلى إصابة الحقيقة ". وقد شرع الوحي صورا لذلك منها قوله سبحانه " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " أي ضرورة لزوم التبين لتجنب الضلال. كما شرع مبدأ الواقعية أي أن يكون " منطلق العقل في بحثه عن الحقيقة هو الواقع المشهود من آيات الكون أو من مشاهد التاريخ أو من أوضاع النفوس ". وذلك هو الذي يكسب الناظر الموضوعية المطلوبة.
وبذلك يمر العقل بمرحلة الإستيعاب ثم مرحلة التفكر من خلال ترتيب منهجي يتأدى إلى إصابة الحقيقة وتجنب الخطإ قدر الإمكان وتتحصل لديه الملكية العلمية المنافية للظن والهوى والتقليد.

مقاصد الشريعة في حفظ المجتمع.

تستند مقاصد الشريعة في حفظ المجتمع إلى " كون المجتمع هو المحضن الضروري لقيام الإنسان بمهمة الخلافة التي كلفه بها الدين " وذلك بخلاف الديانات السابقة التي فرضت على أتباعها تكاليف فردية لا علاقة لها بالجماعة.

مستند تلك المقاصد بكلمة : الجماعة في الإسلام وسيلة ومقصد في الآن ذاته لحسن تفعيل التدين يتكامل بعدها مع البعد الفردي حتى يضحى لكل مكانه ودوره.

مقصد حفظ النسل : مقصد الشريعة الخامس.

النسل هو الخلق أو الولادة ويطلق على الولد إطلاق مسبب على سبب. وكعادة الدكتور النجار في هذه الدراسة ينحو إلى التوسع في تعميق وتمديد الأبعاد المقاصدية التفصيلية وفي هذا الصدد فإنه ينعي كالعادة على بعض السابقين حصرهم لهذا المقصد ( النسل ) على الإنجاب وحفظ النسب وفي كل الأحوال فإن ذلك لا يتجاوز التربية وغير ذلك.

ومن تلك الأبعاد المطلوب إثراؤها : ضمان إستمرار النسل الذي به يحفظ المجتمع فينجو من أدواء الإنقراض والتهرم وغير ذلك مما يفصل لاحقا.

أ ــ مسالك حفظ النسل.

... بالإنجاب. تعين ذلك في أوامر الشريعة بالإنجاب دون ترك الأمر لرغبة فطرية قد تغتصبها عوارض توهن عراها وذلك بإعتبار أن الإنجاب في الإسلام بالنسبة للمجتمع حق واجب حتى لو كان في حق الأفراد يتراوح بحسب حالهم بين الأحكام التكليفية الخمسة المعروفة. وجاء ذلك بالحث على الزواج " يا معشر الشباب من إستطاع منكم الباءة فليتزوج " ( البخاري ). وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام " تزوجوا الولود الودود فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة " ( أبوداود). ومما يؤكد ذلك ويدعمه نهي الإسلام عن التبتل والإخصاء بأي شكل من أشكاله سواء تعلق بالذكر أم بالأنثى كما حرم اللواط وغلظ فيه وإتيان النساء في أدبارهن وكل ما فيه تصريف للشهوة في غير موضعها " الحرث ".

... بحفظ النسب. يقصد منه نسبة الولد ( ذكرا وأنثى ) إلى أبويه ( ذكرا و أنثى ). وقد يبدو لغير المحققين أن حفظ النسب بذلك المعنى لا يساهم في حفظ النسل من حيث إستمراره وتكاثره ولكن ذلك وهم واهم بسبب أن مجهول النسب في هذا المستوى من البحث تحديدا قد يلجأ بسبب ذلك إلى العمل على تدمير نفسه وتدمير المجتمع من حوله كما أكد ذلك علم النفس المعاصر وهو الأمر الذي لم ينتبه إليه بعمق بعض الأصوليين السابقين ومنهم إبن عاشور نفسه الذي عده مقصدا حاجيا رغم أنه رفع من قيمته كثيرا بالمقارنة مع بعض من سبقه. كما عمد الشارع إلى حفظ النسب حفظا للنسل من خلال إقرار أنكحة معروفة وإبطال أخرى وبما وجه الناس إلى أحكام أخرى في النكاح منها الإشهار نبذا لنكاح السر الذي يلبس في صحة هذا النسب أو ذاك ومن ذلك أيضا تعليمات الشارع فيما يخص العدد ( جمع عدة ) إستبراء للرحم كما حرم التبني في صيغة قوية شديدة وخصص لها سورة كاملة وإختار لذلك أشرف الخلق محمدا عليه الصلاة والسلام وواحدا من أشرف الأصحاب الكرام عليهم الرضوان جميعا زيدا إبن حارثة كما حرم الزنا ورتب عليه عقوبة شديدة وهي الجلد والرجم وفي هذا العقاب الغليظ معان غزيرة يمكن إستثمارها للتدليل على أن حفظ النسب يعضد حفظ النسل بقوة ومن ذلك أن الزنى غرضه قضاء الوطر النهم العاجل وليس الذرية فيتلافى الإنجاب إضافة إلى ما تخلفه جهالة النسب في الولد من أضرارا نفسية عميقة غائرة.

مقصد حفظ الكيان الإجتماعي : مقصد الشريعة السادس.

إذا كانت مصالح الإنسان الفرد لا تتحقق بأمثل صورة ممكنة إلا في رحم مجتمع إنساني بسبب طبيعة الإسلام المختلفة عن طبيعة الديانات السابقة فإن حفظ الكيان الإجتماعي يتم عبر أمرين : أولهما المؤسسة الإجتماعية وثانيهما العلاقات السارية بين أعضاء تلك المؤسسة.

1ــ حفظ المؤسسة الإجتماعية. " نعني بالمؤسسة في هذا المقام بناء المجتمع على أساس أن يكون مكونا من كيانات ذات نظام يحكمها في ذاتها ويحكمها في علاقاتها بالكيان الأكبر الذي هو كيان المجتمع ". يؤكد الدكتور النجار أن من يستقرئ أحكام الشريعة يلفاها تفيد على وجه القطع بأن قيام البنية الإجتماعية على المؤسسة هو مقصد يفضي إلى تحقيق مقصد أعلى هو حفظ المجتمع.
وهي مبادئ وأحكام توزعت على مجالات عدة منها الثقافي ومنها السياسي ..

... ثقافة المؤسسة. لعل أبين دليل على شدة إهتمام الإسلام بالجماعة قوله عليه الصلاة والسلام :

" إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم " ( أبو داود ). ومن ذلك أيضا ـ رغم أن الدلائل على ذلك لا تحصى حقا لفرط كثرتها وتشعبها وعمقها ـ ورود حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي عده بعض المسلمين فريضة ركنية خامسة إلى جانب الصلاة والصيام والزكاة والحج. ولعل أبلغ شيء في ذلك هو قيام العبادات ذات الطبيعة الشخصية الفردية الخاصة من مثل الصلاة والصيام على قوام الجماعة ( صلاة الجماعة وصلاة الجمعة وغير ذلك ). ووصل الإسلام حدا في ذلك بلغ الأمر بإقامة السلطان لحراسة الدين كما عبر عن ذلك الأصوليون القدامى وحدد لذلك القيام شروطا منها الشورى والحكم بالحق والعدل إلخ ..

... مؤسسة الأسرة. مما يلفت الإنتباه في الشريعة قيامها على التفصيل في قضية الأسرة دليل عناية كبيرة بها بوصفها اللبنة الأساسية الأولى التي يقوم عليها المجتمع البشري فكأنها هي قلب الجسم الإنساني الذي يصلح بصلاحه ويفسد بفساده. وبذا يتبين أن الشريعة جعلت الأسرة شأنا جماعيا لا شأنا فرديا حتى ورد الخطاب فيها ـ وفي الإسلام كله في الحقيقة ـ بصيغة الجماعة لا بصيغة الفرد.

... مؤسسة الدولة. " جاء الأمر بإقامة مؤسسة الدولة ". هما إذن مؤسستان تحفظان المجتمع واحدة من أسفله وهي الأسرة وواحدة من أعلاه وهي الدولة ولم يختلف الأمر بينهما سوى في طبيعة التشريع الذي جاء في اللبنة التحتية تفصيليا بسبب ثباته بينما جاء الآخر عاما بسبب تغيره.

وبمثل ما كانت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند بعض المجتهدين المسلمين في السابق واللاحق فريضة تتاخم الفرائض الركنية المعروفة من صلاة وصيام كانت فريضة إقامة الدولة على أساس من الدين الإسلامي فريضة عقدية عند بعضهم الآخر. ولعل من أبلغ ما يبين ذلك فعله عليه الصلاة والسلام لما هاجر من مكة إلى المدينة وهو الأمر الذي أحسن الأصحاب إلتقاطه علما عمليا وثقافة عملية حتى أسندوا أمر القيام على تجهيز دفنه عليه الصلاة والسلام إلى بعضهم بينما عكفوا جميعا على الحوار في سقيفة بني ساعدة على كيفية مواصلة إرث النبوة فيما يتصل بالدولة التي بناها عليه الصلاة والسلام.

ثم يفصل الدكتور النجار في مؤسسة الدولة سبيلا لحفظ المؤسسة التي تصون الكيان الإجتماعي للناس فيثبت قيامها على ما يلي :

أ ــ المجتمع هو مصدر السلطات. يؤكد ذلك بقوله " ومن البين أن الأمة حينما تكون وصية على نفسها ويكون خيارها بيدها فإنها سوف يكون خيارها موافقا لدينها وذلك وعد نبوي قال فيه عليه الصلاة والسلام " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإن رأيتم إختلافا فعليكم بالسواد الأعظم " ( إبن ماجة ). ولقد أطنب الدكتور النجار في هذا الأمر إطنابا فيه اليسر وفيه العمق ويجدر الرجوع إليه.

ب ــ الشورى آلية الدولة. " وقد جاء مبدأ الشورى في مؤسسة الدولة أمرا صريح الوجوب في القرآن الكريم لا يحتمل تأويلا ..". أنظر قوله " وشاورهم في الأمر " وقوله " وأمرهم شوى بينهم ".

بذينك المبدأين ( سلطة المجتمع والشورى ) يحفظ المجتمع نفسه ( الأمة ) من غوائل داخلية وخارجية.

2 ــ حفظ العلاقات الإجتماعية. " إذا كانت المؤسسية ثقافة وكيانات سببا من أسباب حفظ المجتمع كما بينا فإنها ليست سببا كافيا في ذلك .. ولكي يكون الكيان الإجتماعي محفوظا ينبغي أن يحفظ أيضا بسلامة العلاقات التي تسود بين مكوناته ". ومن تلك العلاقات الحافظة :

أ ــ رابطة الأخوة. يؤكد الدكتور النجار ذلك بقوله " الأمم والشعوب التي لا تربطها روابط عاطفية من أي نوع والتي لا تقوم العلاقات بين أفرادها وجماعاتها إلا على المصلحة فقط لا يكون لها في الغالب دوام بقاء كما لا يكون لها تقدم عمراني مذكور ". ويضرب لذلك مثلا " كما يرتبط الأخوان برابطة الإنتماء إلى ذات الأب والأم ". ولذلك بادر النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام منذ فجر هجرته إلى المدينة إلى عقد رباط الأخوة بين المهاجرين والأنصار رباطا عمليا يتقاسمون فيه ما لديهم بالسوية بل بالإيثار العجيب. كما يؤكد الدكتور النجار أن رابط الأخوة لا يقتصر على المؤمنين بل " يمتد ليشمل كل أعضاء المجتمع من مسلمين وغير مسلمين " فهناك رابطة أخوة إيمانية ورابطة أخوة إنسانية رحبة رحابة الإسلام نفسه.

ب ــ ميزان العدل. " المقصود بالعدل : أن يتساوى أفراد المجتمع في التعامل بينهم أو في معاملتهم من قبل غيرهم في ثلاثة أشياء أساسية : وحدة الميزان في تقييمهم وفي المفاضلة بينهم كأن يكون ذلك الميزان هو الكفاءة أو التقوى أو الإخلاص والمساواة في الحقوق والمساواة في الواجبات ..". ولا غرو فالإسلام إنما قوامه على العدل في أجلى وأبلغ صورة " إن الله يأمر بالعدل ". والعدل هو مقصد الرسالات " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ". كما أن العدل مطلوب في كل علاقة وكل مستوى وكل لبنة من الأسرة والمجتمع وعلاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المتخاصمين والمتعادين حتى علاقة الأمة بغيرها فيما جاء من دستور عظيم في سورة الممتحنة في آيتين حددتا ذلك الدستور الخارجي. عدل تميز بالأصالة وقوة التقرير كما تميز بالتفصيل والشمول والأخلاقية.

ج ــ التكافل. " المقصود بعلاقة التكافل أن يقوم أفراد المجتمع وهيئاته ومؤسساته بتلبية حاجات كل من يكون محتاجا ممن يعيش في دائرة ذلك المجتمع وذلك سواء من الناحية المادية أو من الناحية المعنوية ". التكافل الإجتماعي بين الناس كفيل بنسج خيوط المودة والرحمة بينهم جميعا من جهة وبنزع سخائم القلوب وأسباب الشحناء بينهم جميعا كذلك من جهة أخرى.
سنت الشريعة أحكاما لا تحصى في ذلك التكافل من مثل الحض على طعام المسكين بل على سبيل التحاض وليس مجرد الحض وهو الأمر الذي ورد في الخطاب المكي ولم يكن تشريعا مدنيا ورد متأخرا وبلغ الخطاب في ذلك مبلغا عظيما وشأوا متقدما جدا وتلمس ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام " ليس المؤمن من يشبع وجاره جائع إلى جنبه " ( البيهقي ). كما صور عليه الصلاة والسلام المجتمع تصويرا فنيا بديعا يسلب الألباب لفرط جمعه بين جمال المبنى البليغ وجمال المعنى العظيم " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر " ( مسلم ). وأوجب الإسلام التكافل في كل الدوائر من الأسرة الصغيرة والكبيرة والضيقة والموسعة ( الأرحام والأقارب ) فضلا عن الجيران وفي دائرة المجتمع وبلغ التشريع في ذلك أدبا رفيعا جدا لا يقف عليه متأمل حتى يمتلأ إعجابا ودهشة ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من زاد له وعدد من أصناف المال ما عدد حتى قال أبو سعيد الخدري : حتى رأينا أنه لا حق لأحدنا في فضل " ( مسلم ).
وليس التكافل في الإسلام حسنة أو صدقة أو شأنا في حياة الأفراد والمجتمعات بل هو شأن حكومي عام قال فيه عليه الصلاة والسلام " من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا فإلينا ". ( البخاري ). وهو توجيه من مقام الإمامة والرياسة موجه إلى كل من يخلفه في ذلك أو في شي من ذلك من المسؤولين والحكام وولاة كل أمر.

مقاصد الشريعة في حفظ المحيط المادي.

مبرر وجود هذا الضرب من المقاصد هو أن " المهمة التي كلف الإنسان بأدائها وهي الخلافة في
الأرض لا يمكن أن يؤديها إلا في محيط مادي يتيسر معه ذلك الأداء متمثلا في بيئة كونية تسمح
بمقدرات أرضها وإعتدال مناخها وإستقرار توازنها بأن يقوم فيها الإنسان بأعمال التعمير ..".
والحقيقة أن الله سبحانه خلق الكون كذلك بدليل قوله سبحانه " وسخر لكم ما في السماوات وما
الأرض جميعا منه " ولكن هذا الإنسان قد تكون له تصرفات " مناقضة لذلك بحيث تفضي إلى
إحداث فساد كبير أو صغير فيما خلقه الله صالحا لممارسة الحياة في سبيل التعمير ". ولذلك أمر

سبحانه بالحفاظ على تلك البيئة صالحة لأداء تلك الرسالة في قوله " ولا تفسدوا في الأرض بعد
إصلاحها ".

المحيط الذي يعيش فيه الإنسان ويزاول فيه رسالته أي الخلافة في الأرض يتكون من عنصرين

إثنين : أولهما المال عينا ونقدا أي " حصيلة ما إستثمره الإنسان من موجودات الكون فأصبح
ينتفع به على سبيل التملك من مزروعات ومصنوعات وعمارات وآلات ..". وثانيهما البيئة
الطبيعية العامة بما فيها من موجودات كمية كالجبال والأنهار والغابات والهواء .

ويكون حفظ المحيط المادي للإنسان بحفظ ذينك العنصرين : رقبة المال ومنفعة المال.

مقصد حفظ المال : مقصد الشريعة السابع.

المال في أصله " ناشئ من المحيط المادي على إعتبار أنه جزء منه إستخرج منه ". ولكن المال
رغم أصله الطبيعي ذاك فإنه " ذو خصوصية ينفرد بها عن سائر المكونات المادية للبيئة
الطبيعية وذلك أنه جزء مادي معالج بالسعي الإنساني على سبيل الكسب فأصبحت علاقته

بالإنسان علاقة تملك ..". وجاءت الشريعة تحفظ المال بذلك المعنى الواسع من خلال تعليمات

وتشريعات كثيرة منها :

... حفظ المال بالكسب والتنمية. جاء الإسلام صريحا يحرض على كسب المال " فإذا قضيت الصلاة فإنتشروا في الأرض وإبتغوا من فضل الله ". ومن معاني كسب المال : تكثيره وتنميته
وذلك بسبب أن تجميد المال يأتي عليه بالنقص ثم بالفناء حتى أن النبي الأكرم عليه الصلاة
والسلام قال " إتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة " ( مالك ). وذلك بسبب أن المال
وسيلة وغاية في نفس الوقت فهو وسيلة إلى كسب المال وهو غاية من ذلك الكسب. ولا عبرة
بما ورد في بعض وجوه التراث من تهوين من شأن كسب المال الحلال الطيب بإسم الزهد
إذ أن الزهد الإسلامي هو الثقة بما في أيدي الله سبحانه ونبذ الطمع فيما أيدي الناس وهو الزهد
الذي يورث السعي والعمل ونبذ الطمع ( الفقر الحاضر ) والتواكل.

... حفظ المال من التلف. قال عليه الصلاة والسلام " نعم المال الصالح مع العبد الصالح "
( إبن حبان ). وحفظ المال من التلف يشمل معنيين : حفظه أن يتلف دون هدف وحفظه أن
يتلف فيما يضر ولا ينفع. ويأخذ التلف صورا عديدة جاءت الشريعة تنهى عنها :

أ ــ حفظ المال من التلف العبثي. من مثل أن يقتل الإنسان الغنم والنعم ويحرق المزروعات عبثا

أو يبدد المال عينا أو نقدا دون قصد إلا قصد العبث أو تفاخرا وتباهيا أو إحتكارا. وقد نهت
الشريعة عن ذلك بشدة سواء أتلف الإنسان ماله أو أتلف مال غيره وقال عليه الصلاة والسلام
" من أخذ أموال اليتامى يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " (البخاري)

بل سدت الشريعة السبل التي قد تفضي إلى تلف المال فقال سبحانه " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"

ب ــ حفظ المال من التلف المفسد. من مثل تناول الخمر والتبغ وما شابه ذلك من المحرمات

والخبائث التي تأتي على الجسم بالأذى والضرر وهو أشد من إتلاف المال عبثا دون قصد.
ومنعت الشريعة ذلك في مثل ما ورد في قوله عليه الصلاة والسلام " إن الله كره لكم ثلاثا :
قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " ( البخاري ). ولك أن تقارن بين هذه الشريعة التي
تنهى عن إضاعة المال ولو إسرافا في الخير ( غير التبذير في الشر ) وبين فلسفات وضعية
تتفاخر بالإستهلاك وتنفق ملايين مملينة من أجل الإعلان عليه والتحريض حتى غدا مؤشر
الإستهلاك علامة من علامات أخرى على التقدم الإقتصادي والرقي الحضاري.

ج ــ حفظ المال من التلف السرفي. أي إنفاقه في المباحات بدون حد ولا قيد. وجاءت الشريعة

تنهى عن ذلك " كلوا وإشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ". وقوله " ولا تبذر تبذيرا
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ". ومعلوم أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن ثلاث مرة مرة
ولكن يسأل عن الرابعة أي ماله مرتين : من أين إكتسبه وفيم أنفقه. كما جاءت الشريعة تضع
التعليمات من أجل الحجر على السفهاء أن يتصرفوا في أموالهم بحرية أن يبددوها ثم يصبحوا
عالة على الناس يتكففونهم.

... حفظ المال بحماية الملكية. عد الإسلام الملكية شهوة فطرية " زين للناس حب الشهوات من

النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ".
" وجماع الأحكام التي تحفظ المال الحكم بتحريم أكل أموال الناس بالباطل أي الإستيلاء على
مال الغير بغير وجه حق يرضى به صاحب المال لما فيه من مصلحة لذلك ". وهو تحريم شامل
لكل أنواع الإستيلاء سواء كان غشا أو غصبا أو قمارا أو ربا أو سرقة أو تحايلا ". وجاءت
الشريعة بعقاب مشدد ضد السرقة لأنها أظهر أنواع الإستيلاء على أموال الناس " والسارق
والسارقة فأقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ". وذلك بقصد حفظ المال وحفظ ملكيته
لأصحابه بما يرغبهم في السعي لكسبه بطريق حلال ويسد الطريق أمام من تسول له نفسه العيش
كما تعيش الطفيليات تقتات من مص الدماء. كما جاءت الشريعة بتعليمات تخص كتابة الدين والإشهاد عليه وأخذ الرهن ضمانا له ودفعت الشريعة أصحاب المال إلى الدفاع عن أموالهم وملكياتهم فقال عليه الصلاة والسلام " من قتل دون ماله فهو شهيد ".( البخاري ).

... حفظ المال بحفظ قيمته. للمال قيمة يعبر عنها الآن بما يناسبها من حظ من معدني الذهب والفضة أي المال النقدي. ذلك هو السبب الطبيعي لقيمة المال. وجماع حفظ قيمة المال أي قيمته الطبيعية قوله سبحانه " ولا تبخسوا الناس أشياءهم ". بل ورد النهي عنه عليه الصلاة والسلام عن سوم الأشياء المعروضة للبيع بأقل من قيمتها التي يقدرها المقتني. كما نهى عليه الصلاة والسلام عن مسالك أخرى تبخس السلعة وتهون من قيمتها الطبيعية ومنها " لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق " ( البخاري ). وصورة الأمر أن فريقا من السماسرة يعترضون الباعة الذين يأتون من مكان بعيد قبل وصولهم إلى السوق ليشتروا منهم السلعة بأقل من ثمنها ثم يبيعونها بأزيد من ذلك أضعافا مضاعفة. وبخس السلع كما قال إبن عاشور لا يكون بخسا ماديا فحسب ولكن يكون بخسا معنويا كذلك من مثل إشاعة كذبة عن سلعة كذا بأنها معيبة بكذا وما هي كذلك.

... حفظ المال بالتداول والترويج. منعت الشريعة كنز المال وإحتكاره لئلا ينتفع به الناس بدون وجه حق. فقال سبحانه " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ". ولذلك فرضت الزكاة والإنفاق الواجب وحرض كثيرا على إتيان ذي القربى والمساكين والفقراء واليتامى والثكالى والأرامل والمحتاجين بصفة عامة وعلل كل تلك المعاملات ما كان منها مفروضا وما كان منها مستحبا بقوله " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ". وذلك رغم إختلاف الفقهاء في المال المكنوز بعد أداء زكاته وغير ذلك مما لا يدخل في صلب الموضوع الآن بعدما تبين أن المقصد العام للشريعة هو فتح كل أسباب تداول المال ورواجه بين الناس كافة بيسر بكل الطرق المشروعة.

مقصد حفظ البيئة : مقصد الشريعة الثامن.

البيئة هي " المحضن الطبيعي الذي يعيش فيه الإنسان ". البيئة هي تلك المهاد التي سخرها الله سبحانه للإنسان ليؤدي دور الخلافة فيها بكل موجوداتها ومعطياتها. هي المحيط المادي الطبيعي.ولم يهتم الأصوليون القدامى بهذا الضرب من المقاصد بسبب أنهم لم يكونوا يتصورون أن يحدث الإنسان خللا في الطبيعة التي أودعها الله محضنا دافئا آمنا لحياة الإنسان. ولكن تبين لنا اليوم أن الإنسان قادر على أن يلحق بالبيئة ضررا بل أضرارا. وجماع ذلك هو النهي عن الفساد في الأرض الذي تكرر في القرآن الكريم مرات. ذلك الفساد شامل فهو فساد أخلاقي ومادي وديني ولكنه يشمل الفساد الذي يلحقه الإنسان بالبيئة التي يعيش فيها وعليها وهي ممهدة صالحة لأداء رسالته أي العبادة والخلافة والعمارة كما أحسن إجمال ذلك الراغب عليه الرحمة. بل نبه القرآن الكريم إلى أن سوء تحمل العقيدة الإسلامية مخها التوحيد الصافي الخالص يفضي إلى الفساد في الأرض والكون فقال سبحانه " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ".

... حفظ البيئة من التلف. قد يكون التلف هنا تلفا عبثيا وقد يكون تلفا مفسدا يمنع البيئة من ولادة تلك الثمرة التي قطعها الإنسان أن يستفيد بها الإنسان ولو كان ظل سدرة أو نقبها. وذلك بسبب أن الله سبحانه قد خلق كل شيء بقدر مقدر لصالح سعادة الإنسان وتهيئة الظروف الطبيعية لمساعدته على القيام بوظيفته. وصف الله سبحانه عمل المنافقين بأنه إفساد في الأرض ويكفيك ذلك زجرا عن الفساد في الأرض " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ". حتى لو قتل الإنسان عصفورا لا يحتاج إلى قتله عد ذلك فسادا في الأرض وعدوانا على البيئة فقال عليه الصلاة والسلام " من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة ".( النسائي ). وقوله عليه الصلاة والسلام " من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار " ( أبوداود ). ومعلوم أن إمرأة دخلت النار في هرة حسبتها فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض. والهرة مفردة من مفردات الطبيعة والبيئة. ومن دقائق وعجائب الإسلام أنه أشار إلى نوح عليه السلام لما جاء ميعاد عقاب قومه بأن يأخذ معه في السفينة من كل زوج إثنين إبتغاء إستئناف الحياة بجمع مكوناتها الزوجية وذلك قبل أن يعمهم الطوفان فيغرقوا وتموت الحياة بموت أسبابها. كما أخبر عليه الصلاة والسلام بأن الكلاب أمة من الأمم ولولا ذلك لأمر بقتلها ولكن لما كانت ضرورية ـ أمة الكلاب ـ لتوازن الكون والبيئة الطبيعية لخلافة الإنسان عدل عن ذلك. وبمثل ذلك جاء النهي عن صيد البر في الحرم لئلا يفنى صيد الحرم الذي يتقاطر عليه الناس من كل فج عميق وفي ذلك عدوان على البيئة وإفساد في الأرض.

... حفظ البيئة من التلوث. تلوث البيئة قضية معاصرة لم تكن معروفة في السابق. ولم تهمل الشريعة هذا الضرب من الحفظ فأمرت بطهارة الثوب واللباس والجسم والفناء والآنية والأماكن العامة ناهيك أن الصلاة ـ أم العبادات ـ شرطت لها شروط منها الطهارة وبذلك تكون الطهارة الشاملة في كل الأبعاد والإتجاهات هي أبين التعليمات لحفظ البيئة من التلوث الذي تحدثه القاذورات والسموم والفوضى في المآكل والمشارب والملابس والمنازل والمراكب .. حتى أن الإسلام منع من أكل ثوما أو بصلا من قربان المساجد التي يغشاها الناس لئلا يؤذيهم بالريح الكريه وجاء قوله عليه الصلاة والسلام في حفظ الأماكن العامة من التلوث " إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله " ( أبو داود ). وقال في الأمر نفسه " إتقوا الملاعن الثلاث : البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل " ( أبو داود ). وأخبرنا عن أن أغلب عذاب القبر يكون من عدم التنزه أو الإستتار من البول " إنهما يعذبان وما يعذبان من كبير : أما هذا فكان لا يستنزه من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " ( البخاري). كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه سأل عن إمرأة سوداء كانت تقم المسجد ( تنظفه ) فأخبر بأنها ماتت فقال : هلا آذنتموني؟ ثم جاء إلى قبرها وصلى عليها.
ليس التلوث مقصورا على المفهوم التقليدي أي إرسال السموم في بعض مواد البيئة والطبيعة ولكنه يتعدى إلى عدم رعاية التناسق العام الذي أودعه الله الكون وذلك بالعبث ببعض موازين ذلك التناسق وإنخرام مقاديره حتى لو أرسل الإنسان الماء بدون حساب في الأرض بدون قصد.

... حفظ البيئة من فرط الإستهلاك. المعنى من ذلك هو أن الإنسان مطالب بالإستهلاك بمقتضى العدل والقصد أي وسطا بين التقتير والإسراف فضلا عن التبذير. وقد عدت الشريعة الإسراف في التمتع بمرافق البيئة إستهلاكا محرما " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فأتقوا الله وأطعيون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذي يفسدون في الأرض ولا يصلحون ". وليس الأمر متعلقا بالوفرة أو بالقلة ولكنه أدب إسلامي في الحالين ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام مر بسعد وهو يتوضأ فقال : ما هذا السرف يا سعد؟ فقال : أفي الوضوء يا رسول الله. قال : نعم وإن كنت على نهر جار" ( إبن ماجة ). وليس الماء في هذا السياق إلا رمزا من رموز البيئة. ويكون ترشيد الإستهلاك حتى في الموائد الأرضية المائجة بالمعادن النفيسة لأنها تكون مهددة بالنضوب. وكذا يكون ذلك الترشيد في المساكن وغيرها حتى قال عليه الصلاة والسلام " يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا في التراب أو قال البناء " ( البخاري ) وعلق إبن حجر قائلا " ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر".

وبذلك يلتقط المستقرئ للشريعة مقصدا عاما أكيدا في حفظ البيئة من فرط الإستهلاك بقطع النظر عن وفرة الشيء أو فقدانه.

... حفظ البيئة بالتنمية. بعض موارد الطبيعة يجبر إستهلاكها بالنماء وبعضها لا يجبر بذلك. ومن ذلك حث الإسلام على الزراعة والغراسة والعمارة بكل وجوهها في الأرض وفي البحر إستخراجا لذخائرها ونفائسها وبلغ ذلك التحريض درجة يصبح معه كل ما يتناوله إنسان أو عصفور أو دابة من ذلك الغرس وذلك الزرع صدقة على صاحبه حتى لو لم يعلم عن ذلك شيئا.كما دفعت الشريعة إلى إحياء موات الأرض من أجل الإنتفاع بها فقال عليه الصلاة والسلام" من أحيا أرضا مواتا فهي له " ( الترمذي ). وقال " من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه " ( البخاري ). ولا يقتصر النماء على الأرض والبحر ولكن يتعدى ذلك إلى الثروة الحيوانية في ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وسائر ما ينتفع به منها بشتى صنوف الإنتفاع.ولذلك نهى عن خصي الحيوان حتى ينتفع به وبولده. وأمر بحماية النعم الصحيح من العليل فقال " لا يورد الممرض على المصح " ( البخاري ). ولعل أبلغ تشريع وتعليم في ذلك هو قوله عليه الصلاة والسلام " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن إستطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها " ( أحمد ).

حفظ البيئة بكل تلك الصور والسبل مقصد من مقاصد الشريعة بسبب أن البيئة هي ذلك المحضن الطبيعي الدافئ الآمن المخصص للإنسان حتى يزاول فيه رسالته عبادة وعمارة وخلافة فبحفظ البيئة تحفظ الرسالة ويفحظ الإنسان وبتدميرها يؤول ذلك إلى الدمار.

تفعيل مقاصد الشريعة :

إلى هنا يكون الدكتور النجار قد أنهى الجزئين الأوليين من دراسته وهما :

أ ــ مقدمات في مقاصد الشريعة ( معالجة مجموعة من البحوث المقاصدية المعروفة إلى جانب قراءة في تصنيفها ).

ب ــ تعيين المقاصد الشرعية الضرورية العليا بحسب دورانها حول الإنسان حفظا لحياته ثم حفظا لذاته ثم حفظا لبعده الجماعي ثم حفظا لمحيطه المادي فكانت تلك المقاصد ثمانية وهي :

ــ حفظ الدين
ــ حفظ إنسانية الإنسان.
ــ حفظ النفس الإنسانية.
ــ حفظ العقل الإنساني.
ــ حفظ النسل الإنساني.
ــ حفظ الكيان الإجتماعي للإنسان.
ــ حفظ المال الإنساني.
ــ حفظ البيئة.


ومعلوم أنه عالج كل ذلك بمنهج يجمع بين الضبط للمفهوم من ناحية وتوسيع مدلوله من ناحية أخرى وبين التفريع والتفصيل فيما يتلعق بتعيين المقاصد الوسائلية الكفيلة بحفظ المقصد الأعلى في كل مجال.
والآن إلى الجزء الثالث الأخير من الدراسة كما هو مثبت في العنوان أعلاه.
يثبت الدكتور النجار في مقدمة هذا البحث الجديد أن العلم بمقاصد الشريعة مهم وضروري في الحالين : أي حال الإجتهاد الفقهي حتى " يوجه الحكم نحو مقصده " بغض النظر عما إذا كان ذلك المقصد منصوصا عليه بشكل جلي أو خفي أو مستنبط بوجه من وجوه الإستنباط. ولكن العلم بالمقصد له دور آخر وهو حال : التنزيل. ذلك أن الحكم الشرعي قد يتقرر مقصده نظريا ولكن لا يكون له تحقق في الواقع بما يقتضيى تأجيلا أو إستثناء أو إستبدالا وضرب المثل المعروف لعمر عليه الرضوان في حد السرقة عام المجاعة.
كما ينعي الدكتور النجار على الذين " يحصل عندهم العلم بالمقاصد الشرعية من الدارسين والمشتغلين بالفقه والمفتين في صورته النظرية ولكن الكثير منهم لا يعملون علمهم المقاصدي في نظرهم الفقهي " أي أن ما علموه لا يكون فاعلا في إجتهاداتهم وفتاويهم. وضرب لذلك مثلا من أحداث العنف والتقتيل الجارية اليوم في أرضنا.
يقول الدكتور النجار " وتفعيل مقاصد الشريعة في النظر الفقهي فعل مركب لا يتحقق إلا بتحقق جملة من العناصر ..". ثم يذكر بأن الشاطبي هو من أكبر من أكد على تحقيق المناط الذي هو إجتهاد لا بد منه إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه.
نظرية التفعيل لمقاصد الشريعة عند الدكتور النجار تقوم على أمرين : أولهما التحقيق في ذات المقاصد وثانيهما التحقيق في أيلولة تلك المقاصد.

التحقيق في ذات المقاصد.

يتجه ذلك التحقيق إلى جهتين : جهة تكون غايتها " تحديد درجات المقاصد وتنسيبها إلى أنواعها فيعلم إذن ما هو قطعي وما هو ظني وما هو ضروري وما هو حاجي .." وجهة تكون غايتها " أولوية المقاصد التي وقع تحديد درجاتها وذلك بأن تقع المقارنة بين تلك المقاصد في حال تزاحمها فيعلم إذن ما هو أقوى منها وما هو أعم وما هو أقطع ..".

تحديد درجات المقاصد.

يضرب لذلك مثلا " .. فإذا مقصد حفظ العقل الذي يقتضيه حكم تحريم الخمر يدرج ضمن درجة الحاجة أو التحسين وهو في حقيقته ضروري ومقصد الحيلولة دون الخيلاء الذي يقتضيه الحكم بمنع إطالة الثياب وجر الذيول يدرج ضمن الحاجة أو الضرورة وهو في حقيقته تحسيني وذلك ما ينجر عنه خلل كبير وهو ما يقع منه اليوم شيء كبير ".
كما يستند إلى مثال آخر " ومن أمثلة ذلك ما إنتهجته عائشة عليها الرضوان في ردها خبر إبن عمر في أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه رادة ظاهر الحكم الذي يتضمنه مرجحة عليه الحكم الذي يتضمنه قوله سبحانه " ولا تزر وازرة وزر أخرى ".

وأورد الدكتور النجار شكوى الإمام إبن عاشور " وهو مبحث مهم لم يف المتقدمون بما يستحقه من التفصيل والتدقيق .. سوى ما ذكر في كتاب القواعد لعزالدين إبن عبد السلام وما زاده شهاب الدين القرافي في الفرق الثامن والخمسين ".
ويضع الدكتور النجار قاعدة لتحديد درجات المقاصد " قياس ما يكون عليه المقصد من درجة القوة في المصلحة التي يتضمنها فبحسب قوة تلك المصلحة يلحق المقصد بنوعه ودرجته وقوة المصلحة قد تقاس بحسب القوة في ذاتها فيما إذا كانت ضرورة لحياة الفرد والمجتمع أو حاجة رافعة للمشقة أو تحسينا وتكميلا للحياة .. وذلك كأن يدرج مقصد تحقيق الكرامة والحرية الإنسانية في درجة الضرورة لقوة المصلحة التي يتضمنها ..".
وقد تقاس قوة المصلحة في تقدير المقصد الشرعي بحسب درجة الوضوح في الدلالة عليه ..
من مثل وضوح دلالة الآيات القرآنية الكريمة على مقصد اليسر.
وقد تقاس قوة المصلحة بحسب ما تصنف به من الكلية والجزئية .. على أن العلم بمدى قوة المصلحة التي تضمنتها المقاصد الشرعية المبتغاة .. ليس بالأمر المنضبط من خلال قواعد معلومة على وجه القطع ولا حتى غالب الظن فنصوص الشريعة لم يرد فيها مثل ذلك الضبط وعلماء المقاصد لم يفصلوا القول في ذلك ...

ثم يذكر بعض القواعد في ذلك من أجل الإستنارة.

الإستدلال بقوة الأمر والنهي. ولذك بسبب أن الأوامر والنواهي مختلفة في درجات قوتها فلا يستوي مثلا الأمر من حيث قوته بترك الزنى بالأمر بوجوب الإشهاد على عقد النكاح ولذلك يعد الأول مقصدا ضروريا ولكن يعد الثاني حاجيا ويورد مقولة ذهبية للإمام الشاطبي " أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى إعتبار المقاصد الأصلية وكبائر الذنوب إذا إعتبرت وجدت في مخالفتها ".

الإستدلال بقوة العقاب. من مثل ذلك أن المخالفات التي عوقب عليها في الدنيا بحدود يترتب عليها إستنباط مقاصد ضرورية من حفظ المال والعقل والنفس ولكن ذلك لا يعني " أن كل المقاصد المبتغاة من الأحكام التي لم تحدد فيها عقوبات هي من المقاصد الدنيا في قوة المصلحة وهي بالتالي الأدنى في السلم المقاصدي " ذلك أنه لم ترد عقوبات على كل المخالفات ومن ذا جاء التعزير الذي قد تكون عقوبته مناسبة لعقوبة الحد نفسه.

الإستدلال بقوة الوعد والوعيد. من ذلك مثلا أن الوعد على فضيلة الجهاد جاء كبيرا " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " وجاء الوعيد على الكذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام شديدا " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ( البخاري ). يستدل إذن بقوة ذلك الوعد وذاك الوعيد على مصلحة ضرورية هي حفظ الدين. على أنه على الفقيه أن يميز بين درجات ذلك الوعد وذاك الوعيد فيما إذا كان حكما شرعيا لازما أو هو من قبيل الترغيب والترهيب وكمالات الأخلاق والفضائل وغير ذلك وذلك من مثل ما يستفاد من نصوص كثيرة وردت لترتيب وعود كبيرة على الذكر مثلا فإن المقصود منها هو حال الذاكر وتشرب قلبه لتلك الحال بالذكر لينصلح أمره ثم ينطلق مصلحا في الناس بقوله وعمله ومن مثل ما ورد من وعيد على تعذيب بعض الحيوان فإن المقصود هو حال الرحمة التي يجب أن يكون عليها قلب المؤمن وذلك هو ما أراده إبن عاشور حين قال " على العالم المتشبع بالإطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطابها فإن منها مقامات موعظة وترغيب وترهيب ومنها مقام تعليم وتحقيق فيرد كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق ".

الإستدلال بقوة المنفعة والضرر. يضرب لذلك مثلا بقوله " إن الأفعال التي تلحق بالبيئة ضررا يخل بتوازنها وينتهي بها إلى الدمار فتصبح غير صالحة للحياة هي على سبيل المثال أفعال لا يمكن أن يحكم عليها شرعا إلا بالتحريم والمقصد الشرعي من هذا الحكم لا يكون إلا مقصدا كليا ضروريا وهو حفظ البيئة ". أدرج ذلك كذلك نظرا لقوة الضرر.

تحديد أولويات المقاصد.

إذا تحددت درجات المقاصد بمثل ما أنف ذكره فإن الخطوة اللاحقة هي تحديد أولويات تلك المقاصد بما ييسر تنزيلها ويصيب مقصد الشارع الحكيم. وحدد الدكتور النجار بعض القواعد يستنار بها لتحديد أولويات المقاصد.

الموازنة بحسب قوة الثبوت. ثبوت المقاصد ليس على درجة واحدة فمنه القطعي ومنه الظني ومنه الوهمي وعلى الفقيه حسن تدبر ذلك لوضع كل شيء في موضعه المناسب. وهي موازنة تتم من جهتين :

الموازنة بالتحقق النظري. " معناه أن ينظر الفقيه في المقصد الشرعي الذي بدا له مقصدا للحكم الذي يريد تقريره فيتبين الأدلة الواردة في شأنه إذا ما كانت أدلة منصوصا عليها بصفة مباشرة أو مضمنة في التصرفات الشرعية المطردة ..". ومن أمثلة المقاصد الوهمية التي قد تلتبس على طالب العلم ضرب الدكتور النجار مثل إستحلال بعض المسلمين لأموال أقلية غير مسلمة في بلاد مسلمة وحال الفقيه في مثل هذه الحال لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث فإما أن يتصدى لذلك ويمنعه ومقصده محاربة المنكر ودفع الشوائب عن الإسلام أو أن يمتنع عن التصدي له ومقصده عدم الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة وإما أن يمد العون لأولئك اللصوص ومقصده تقوية المسلمين على غيرهم. ولا شك في أن الفقيه البصير سيتجه إلى الحكم الأول والمقصد الأول.

الموازنة بالتحقق العملي. الداعي إلى ذلك هو أن المقاصد إنما تقررت في الإسلام لتكون ذات رصيد عملي ينتفع منه الناس وليس لتبقى في عقول الفقهاء والأصوليين حبيسة الجدالات العلمية. كما يؤكد الدكتور النجار أن الصورة المقاصدية لا تستكمل سوى بعد حسن الإستنباط النظري وتحديد درجات المقاصد ومثله في تتبع أيلولات تلك المقاصد ومدى تحقيقها لمراد الشارع. ويضرب الدكتور النجار لذلك مثل عمر والسرقة فيقول " لقد كان أمام عمر عام الرمادة حكمان شرعيان متزاحمان أحدهما الحكم بتطبيق حد السرقة وثانيهما الحكم بالإمتناع عن تطبيق هذا الحد والمقصد الأول مقصد نظريا قطعي ولكنه في الواقع لن يكون له تحقق في الواقع بسبب المجاعة .. ".

الموازنة بسبب قوة الأثر. كما أن المقاصد مختلفة درجاتها من حيث الثبوت ولذلك يلجأ إلى الموازنة بينها لتحديد أولوياتها فإن تلك المقاصد ذاتها تكون مختلفة الدرجات من حيث قوة الأثر في الواقع بما يعدل في ميزان أولوياتها. ولكن مبنى هذه الموازنة هو ما قرره الشاطبي من ضرورة تلازم المنفعة والضرر في أكثر المقاصد " إن المصالح الدنيوية لا يتخلص كونها مصالح محضة لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت كما أن المفاسد ليست بمفاسد محضة ..". وذات الأمر تقريبا ذهب إليه العز .. ومن ذا وجبت الموازنة على أساس قوة الأثر في الواقع وهو ترجيح يعتمد على بعض القواعد منها :

الترجيح بغلبة النفع على الضرر. يبتين ذلك من خلال هذا المثال : إذا ما تعرض إنسان للغرق مثلا فإن في محاولة إنقاذه مصلحة تبرز في ذهن كل أحد بأنها غالبة على ضرر بسبب ما يضيع من جهد ووقت وغير ذلك من المنقذ بسبب أن إحياء النفس له أدلة كثيرة في الوحي الكريم تبلغ درجة القطع والكلية والضرورة.

تغليب درء الضرر على جلب النفع. صاغ الأصوليون ذلك في قاعدة معلومة " درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة " وهي القاعدة المنصوص عليها بالنص في القرآن الكريم بمناسبة تحريم الخمر والميسر بعلة غلبة الضر فيهما على النفع. وعلى ذلك تقاس أحكام أخرى كثيرة.

تغليب أقوى المصلحتين. كما صاغ الأصوليون ذلك بقولهم " متى تعارضت المصلحتان رجحت المصلحة العظمى ". ويضرب الدكتور النجار لذلك مثالا يوازن فيه بين طلب العلم وبين طلب الكسب المادي بالنسبة لوالد يطلب حسنة ولده. كلاهما مصلحة دون شك ولكن مصلحة طلب العلم مقدمة على مصلحة الكسب المادي وذلك بسبب أن حفظ العقل مقدم في الضروريات على حفظ المال.

تغليب درإ أكبر المفسدتين. يضرب لذلك مثل الإقدام على تغيير سلطان جائر يعيث في الأموال والنفوس فسادا فإنها مفسدة دون ريب ولكن يجب توقي المفسدة الأكبر منها التي قد تترتب على محاولة التغيير أي إحلال الفتنة بما يعرض تلك الأموال والنفوس إلى عيثان أكثر وأكبر.

الموازنة بحسب عموم الآثار. أي تقديم المقصد الذي تكون آثاره أعم وأوسع من المقصد التي تكون آثاره أقل عموما وتوسعا. وعادة ما تكون تلك الآثار متضمنة إما في الكمية أو في الزمن.

الموازنة بحسب العموم الكمي. من المقاصد ما هو عموم مطلق من مثل حفظ الدين بالجهاد ومنها ما هو خاص بفئة من مثل توثيق المعاملات فإذا ما وازن الفقيه بين منع إحتكار الطعام وبين إجازته فإنه سينحاز إلى المقصد الأول بسبب عموم ضره للناس بينما تكون المنفعة في المقصد الثاني خاصة بفئة منهم. وكذلك لو تردد بين منع قطع أشجار الغابات لصنع الخشب وبين إجازتها فإنه يجب أن ينظر في مصلحة حفظ البيئة وما يترتب عن ذلك. وهذا المعنى موجود في القرآن الكريم أي إعتبار قوة المقصد بحسب عموم أثره " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ".

الموازنة بحسب العموم الزمني. يضرب الدكتور النجار لذلك مثل إنبناء عقد الزواج على الدوام أو على التأقيت ويبين أن الفقيه مطالب بالإنحياز إلى المقصد الأول بسبب قوة العموم الزمني لمقاصد كثيرة في النكاح المؤبد من مثل الود والرحمة والسكن وهي أمور أعم من مقاصد النوع الأول الذي عادة ما يكون مقصورا على اللذة. كما يضرب لذلك مثل فقيه يرد عليه حكمان أحدهما بقتل صنف من الحيوانات التي تغير على نوع آخر من الحيوانات لتفترسها والآخر بمنع ذلك القتل لضمان توازن البيئة ثم يبين بأن الفقيه مطالب بالإنحياز إلى المقصد الذي يضمن توازن البيئة بسبب الحاجة إلى ذلك في عموم الزمان ولكن يمكن إتخاذ إجراءات فيها من الحيطة والحذر وغير ذلك للحيلولة دون تخلف المقصد الأول أي إصابة الحيوانات الأهلية مثلا بالإفتراس وضياع الأموال.

التحقيق في مآلات المقاصد.

تحقيق المقصد المستنبط نظريا لمآلاته الملطوبة منه في الواقع لا يقع بصورة تلقائية في كل الأحوال بسبب التعقيد والتشابك في حياة الناس وفي مصالحهم. يضرب الدكتور النجار لذلك مثلا يقول فيه بأنك لو شاهدت لصا يسرق أموال الناس فإن المقصد المطلوب منك تحقيقه هو التصدي لذلك اللص حفظا لمال الناس ولكن إذا علمت أن ذلك اللص مدجج بسلاح وغلب على ظنك أنه يقتلك إذا هممت بردعه أو نهيه فإنه عليك أن تقدم حفظ النفس ـ نفسك ـ على حفظ المال لأن حفظ النفس مقدم. وبذلك تكون قد قرأت مآل المقصد وعملت بمقتضاه وحققت مراد الشارع منك. وقد عبر الشاطبي عنه بقوله " هو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة ".
ثم أورد الدكتور النجار أمورا تساعد على حسن تفعيل المقاصد بحسن التحقيق في مآلاتها.
العلم بالمؤثرات في أيلولة المقاصد. وهي مؤثرات مختلفة تكون أحيانا خاصة وأخرى ظرفية وثالثة عرفية ورابعة واقعية.

الخصوصية الذاتية. بمثل ما يكون في بعض النفوس من سوء خلق وغلظة فاحشة وكبر بحيث تتأبى عن سماع النصيحة والموعظة لخصوصية ذاتية فيها وذلك هو المعنى الذي إلتقطه الإمام إبن تيمية حين قال " إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم ". والقصة معروفة في سيرته رحمه الله.

الخصوصية الظرفية. بمثل ما يكون في بعض الحالات من مثل حالة الحرب مثلا التي تمنع إقامة الحد بسبب ظرف الحرب وما قد يثيره ذلك من مضار أخرى جانبية من مثل إفشاء السر إلى العدو أو اللحاق به أو غير ذلك ( أو ربما كسر معنوياته بما لا يثير فيه الحمية الإسلامية اللازمة).

الخصوصية العرفية. بمثل ما يجب على الداعية تبصره إذا كان في بيئة درجت على مصافحة النساء عرفا معروفا " لا سيما أن هناك إحتمالا بأن النهي النبوي في هذ الشأن هو نهي على سبيل المنع التنزيهي وليس على سبيل المنع التحريمي ".

الخصوصية الواقعية. بمثل ما تصرف عليه الصلاة والسلام مع البائل في المسجد إذ لو منعه في أثناء بوله لتعرض المكان إلى مزيد من التنجس بطبيعة واقعة البول وطبيعة المكان لا سيما أن القاعدة الأصولية تقول بأنه يغتفر في الأنتهاء ما لا يغتفر في الإبتداء.
ومعلوم أن الفقهاء يبحثون كثيرا من ذلك تحت قولهم " تغير الفتوى وإختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات والعوائد ". وكلها مؤثرات تساعد على حسن تنزيل المقصد لمعرفة حسن أيلولته المرادة منه.

مسالك الكشف عن مآلات المقاصد.

هذه قضية لم يقف الدكتور النجار عليها لا قديما ولا حديثا بما يتطلب جهدا كبيرا لمحاولة الكشف عن مسالك الكشف عن مآلات المقاصد. ثم بين الدكتور النجار المسالك التالية :

مسلك الإستقراء الواقعي. ضرب لذلك مثل إفتاء إبن تيمية وإبن القيم بطلقة واحدة لمن طلق ثلاثا بلفظ واحد بخلاف ما كان عليه إجتهاد عمر وذلك لأنهما رأيا بأن ذلك يشيع التحليل بسبب ضائقة في الدين على الناس وبسبب رقة في الدين عندهم وهي مفسدة أكبر عندهما من مفسدة الإستهتار بالطلاق التي بنى عليها عمر فتواه. وفي عصرنا الحاضر " أصبح إستقراء الوقائع علما قائما بذاته يقوم على قوانين وقواعد دقيقة منضبطة في الإحصاء والتصنيف والإستنتاج وأصبحت تبنى على نتائجه الخطط والبرامج والمشاريع ..".
مسلك الإستبصار المستقبلي. " إصبح اليوم إستشراف المستقبل علما قائم الذات ". وهو علم غير قطعي النتائج ولكن تبنى نتائجه بالظن الغالب. وضرب الدكتور النجار لذلك مثل الخليفة الراشد الخامس عليه الرضوان عندما إستعجله ولده في إصلاح الأمر فقال له " أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة ويكون من ذا فتنة ".
مسلك الإسترشاد بالعادة الطبيعية. مبنى ذلك هو أن إرتباط المقدمات بالنتائج ترابطا سببيا ينسحب على الكون وعلى الخلق سواء بسواء وهو ما كشف عن كثير منه علم النفس الفردي والإجتماعي وعلم الإجتماع. ويعود الدكتور النجار إلى إجتهاد عمر عام الرمادة ليستنبط منه عادة طبيعية منعت عمر من إنفاذ الحد وهي أن الجوع كافر لا يردعه حد ولا قانون في عام مجاعة كعام الرمادة وهو ما يجعل الفقيه بصيرا بالعوائد الطبيعية للناس والعلوم التي لا بد منها له لمعرفة أحوالهم وما يصلحها وما يفسدها.
مسلك الإسترشاد بالعادة العرفية. أشار القرآن الكريم إلى ذلك حين قال " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ". إذ قامت عادة الناس على سب الساب كائنا من كان بما أصبح من عرف متمكن في حياتهم وبما يستوجب على الفقيه معرفة عوائد الناس وما ترجع به عليهم وذلك أيضا نهى عليه الصلاة والسلام أن يسب الرجل أباه فلما قيل له كيف يسب الرجل أباه بين لهم أنه يسب أبا الرجل فيسب أباه. أي إستخدم العادة العرفية المعهودة يومها بأن من سب أبا الرجل فقد تسبب بالضرورة في سب أبيه فيمتنع عن ذلك.
مسلك الإسترشاد بقصد الفاعل. مبنى ذلك أن نية الإنسان تحدد تصرفه فيما يلي من أمره ولذلك منع نكاح المتعة بسبب أن مبناه ظرفي مؤقت يقصد به الفاعل متعة. وذلك بمثل ما أفتى به أحد الأصحاب سائلين عن توبة القاتل فقال لأحدهما له توبة وقال للآخر ليس له توبه وذلك بسبب ما حفت من قرائن بسؤال كل من الرجلين نفذ إليها حس ذلك الصحابي وحدسه فأخبر العازم على القتل بأنه لا توبة له وأخبر الآخر الذي فرغ من القتل بأن له توبة.

وبذلك ينهي الدكتور النجار دراسته عن مقاصد الشريعة على نحو لم يتناوله بهذا الشكل الموسع في أي من كتبه ولا بحوثه ويختتمها كما مر بنا بالبحث الأخير المتعلق بتفعيل مقاصد الشريعة تفعيلا يكون على مستويين إثنين :

مستوى التحقق في ذات المقاصد لكشف درجاتها قوة وضعفا في كل الإتجاهات ثم لترتيب أولوياتها تقديما وتأخيرا.
مستوى التحقق في مآلات تلك المقاصد ليتحقق أثرها في واقع الناس وحياتهم مبينا جملة من المسالك التي تكشف عن تلك المآلات في بحث جديد.
وبذلك ننهي عرض الكتاب لنتفرغ إلى إدارة حوار حوله إن شاء الله تعالى.


Cant See Links


التوقيع :

لااله الا الله محمد رسول الله
laa ilaaha ilaa allaah muhameed rasoolullah

which means
None is Worthy of Worship But Allah and Muhammed is
the Messenger of Allah

قال تعالى:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي
الألْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ*)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ))

ذكرى الله في الصباح والمساء
remembrance allah at morning and evening
Fortress of the Muslimحصن المسلم باللغة الانجليزية

ONLINE ISLAMIC BOOKS
http://www.kitabosunnah.com/islamibo...he-muslim.html




http://dalil-alhaj.com/en/index.htm









رد مع اقتباس
قديم 09-24-2012, 05:37 AM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

OM_SULTAN

المشرف العام

OM_SULTAN غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








OM_SULTAN غير متواجد حالياً


رد: مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة " الدكتور عبد المجيد عمر النجار



ثانيا : دعوة إلى الحوار حول الكتاب.


1 ــ مواضع التجديد في البحث.

إلى هنا نكون قد إنتهينا من عكس صورة عن كتاب " مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة " للد. عبد المجيد عمر النجار ولكن لا مناص لكل طالب علم جاد من دراسة هذا البحث المقاصدي المهم وقديما قالت العرب : ليس من رأى كمن سمع. فلنتفرغ الآن بإذنه سبحانه إلى إدارة حوار يتصل بالكتاب كليا وجزئيا معا من ناحية وبهذا العلم الإسلامي الأصيل من ناحية أخرى.
يشتمل هذا الجزء الثاني الأخير من هذا العمل ( عرض الكتاب وإدارة حوار فيه ) على أمرين أولهما تتبع جوانب التجديد في هذا البحث وثانيهما التنبيه إلى مواضع الحوار المقدمة على غيرها في رأيي حول الإجتهاد المقاصدي بصفة عامة.

كلمة بين يدي هذه الفقرة :

يتبين بيسر لكل طالب علم مطلع على هذا البحث الجديد بأن الدراسة تؤطر نفسها ضمن سقف في الإجتهاد المقاصدي الأصولي ظل يظل الباحثين في هذا العلم ـ إن وجدوا أصلا لندرة فادحة ـ. سقف شيده علامتان لم يرق إليهما فحل نحرير حتى يوم الناس هذا وليس ذلك لكمال عملهما أبدا ولكن لقعود طلبة العلم عن ذلك المرقى العالي. ( الإمام الشاطبي والإمام إبن عاشور ) اللذين ظل إنتاجهما يتيما بل آل إلى ما يشبه ما آلت إليه إجتهادات أصولية وفقهية كبيرة في الماضي إذ لم يسعف خلفها نفسه ـ في الأعم الأغلب ـ سوى بتمطيط الشروح وإنشاء الحواشي ورب حاشية زادت أصلها إستغلاقا فوق إستغلاقه بما لا يتناسب مع المقصد من كل علم أي تيسيره للعمل فالعمل هو المقصود من العلم.

يخص الإمامان الشاطبي وإبن عاشور بذلك في علم المقاصد تحديدا وليس في المباحث والدراسات المقاصدية سواء العامة أو ذات الإرتباط الوثيق بأصول الفقه أو أصول الشريعة أو أصول الدين وذلك من مثل أعلام كثيرة في تاريخنا لها فضل وفير متصل بهذا العلم ولكن ليس بشكل مباشر يتجه نحو إرساء أسس علم المقاصد وذلك من مثل العلامتين العظيمين : إبن تيمية وتلميذه إبن القيم والعلامة العز والعلامة القرافي والعلامة الجويني والعلامة الغزالي وسائر أوائل من إتجهوا نحو هذا الإتجاه.

ولذلك فإن مواضع التجديد في هذا البحث المقاصدي الجديد تستند في منهجها العام وليس في التفاصيل والجزئيات إلى ذلك السقف المنيع ولكنها خطوة بعد خطوة ولبنة بعد لبنة تتراكم في مجال الإجتهاد المقاصدي حتى يبعث ربك سبحانه من يكمل مشروعا يتيما في حضارتنا العلمية بدأه الإمام الشاطبي تأصيلا وتقعيدا وبحثا ثم تلاه الإمام إبن عاشور ثم إبتلي باليتم والغربة مرة أخرى حتى صح فيه قول القائل بحق بأن الإجتهاد المقاصدي قارب من قوارب النجاة وشراع من أشرعتها تهمله الأمة في فترة رخائها ليقضي الله أمرا كان مفعولا ثم تهرع إليه أيام الشدة لينجدها الله به ويقضي سبحانه أمرا آخر كان هو أيضا مفعولا.


الموضع الأول : تعزيز الإتجاه الإنساني في الصياغة المقاصدية.

ذاك هو أكبر موضع تجديد ـ في رأيي ـ تضمنه بحث الدكتور النجار والمقصود منه هو إعادة الصياغة المقاصدية على قاعدة ترجمة صياغة المقصد الإسلامي الأسنى التقليدي العام أي إصلاح الإنسان في معاشه والمعاد أو جلب المصلحة للإنسان ودرأ المفسدة عنه .. ترجمة تسبر أغوار الإنسان فطرة مادية وروحية وفردا وجماعة وفي علاقة بالمال وبالسلطان وبالإنسان.

ظهر ذلك التجديد في الصياغة لمناسبة فحوى الفكرة ولكن ظهوره في الفكرة ذاتها كان هو الأبرز بل الأدق وما من شك في أن عوامل كثيرة جعلت الدكتور النجار ينحاز إلى هذا الضرب من الصياغة المقاصدية ذات المنحى الإنساني لعل أهمها بالنسبة لطالب العلم هو تهيئة بعض العلوم الشرعية لخدمة قضية الإسلام الأولى في عصرنا أي : حسن عرض دعوته العالمية للناس كافة بلغة العصر لحما ودما وما من شك في أن الإتجاه الإنساني في كثير من الدراسات والبحوث الفلسفية الغربية وغيرها يكون دافعا من بين دوافع كثيرة. ( فقه المقارنة ).

لقد ساهم الدكتور النجار في هذا البحث مساهمة معتبرة في إعادة تبوئة الإنسان مكانه المناسب في علم المقاصد الإسلامية على قاعدة أن الإسلام إنما جاء له هو ولم يأت لكائن آخر أي جاء لمصلحته في كل أبعاد شخصيته ماديا ومعنويا وفرديا وجماعيا وغير ذلك فإذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي سخر له كل شيء في الكون والخلق تسخير إبتلاء وهداية وتوفيق ليكون الخليفة المستأمن المستعمر المعلم المسؤول .. فإن علم المقاصد ما ينبغي له إلا أن تعاد صياغته بل وبحوثه ودراساته كذلك على أساس ذلك ولم يمنع تلك الصياغة الإنسانية أن تأخذ طريقها إلى دراسات وبحوث عتيقة سوى ما درج عليه العلماء يومها من لغة عصرهم ولا غرو فالبيئة تصنع أهلها صنعا ولا يعني أن كل تلك الدراسات والبحوث عتيقها وحديثها قد تخلصت من ثنائية ناءت بحملها علوم إسلامية كثيرة تسللت إلينا من أثر الغزو الفكري اليوناني القديم وهي ثنائية : الألوهية مقابل الإنسانية وذلك بالرغم من أن الإسلام في مصدريه الأوليين كان صريحا صحيحا في تأكيده نفي مثل تلك الثنائيات فكان بديله عليها هو أن الإنسان عبد حر في الآن ذاته فهو عبد لربه الحق سبحانه ولكنها عبودية حرة على معنى أن الحرية تغذيها بل تنشئها وهو بديل كما ترى ليس فيه ثنائية بين إله وعبد ولا مقابلة بينهما.
ومعلوم أن الدكتور النجار له إهتمام بالإتجاه الإنساني في دراساته الشرعية والفكرية وذلك من خلال تخصيصه لإصدارين عن الإنسان ضمن مكتبته مثلا.

الموضع الثاني : إضافة البيئة مقصدا ضروريا ثامنا جديدا.

كان يمكن في الحقيقة أن يكون هذا الموضع في رأس هذا المبحث أي مبحث مواضع التجديد في دراسة الدكتور النجار ولكن جعلته هنا في مرتبة ثانية بعد تعزيز الإتجاه الإنساني في الصياغة المقاصدية بسبب كونه ـ رغم أهمية هذا الموضع من التجديد ـ جزئيا وليس كليا.



كون البيئة بكينونتها الطبيعية والمادية والمالية مقصدا شرعيا ضروريا .. هو تجديد كبير جدا بل هو الأكبر في الدراسة وهو الموضع الوحيد الذي لم يسبق إليه مطلقا من قبل ولكنه تجديد يثير المداد للتأكيد مرة أخرى ـ وهو تأكيد يظل يتابعنا في كل موضع تجديد ـ على أن الدكتور النجار كان يكتب بحثه المقاصدي الجديد وعينه على تحديات زمانه ومعطيات مكانه ولغة عصره وتلك هي علامة نجاح كل مجتهد وكاتب وباحث في كل علم مطلقا طرا إذ ليس هناك علم خاص بالدنيا ولا علم خاص بالآخرة ولا علم خاص بالقلب وآخر خاص بالبدن إلا عند من حبسوا أنفسهم في سجون غليظة ثخينة من حياة الأسلاف أو حياة الأخلاف ناسبين إلى أنفسهم العبودية والإحتلال من بعد ما أكرمهم سبحانه بالحرية والإستقلال.



أجل. لم يكن هذا البحث لينشأ ثم ليكون لبنة على درب إجتهاد مقاصدي مازالت زخات غيثه تتهاطل شحيحة جدا .. لو لم يهتم بأكبر مشترك بين البشرية اليوم أي البيئة التي لا يسلم من أذى تلويثها إنسان اليوم كائنا ما كان بعده عن مواطن التمدن القاسي والتكدس البشري المكوم بعضه على بعض.



البيئة بكلمة أخرى هي : لغة الناس المشتركة اليوم بمثل ما ستكون ربما بعد عقود أخرى لغة الإنترنت أو ما تكشف عنه الإندياحات الإعلامية الثائرة.



وإذا كان ذلك كذلك فإن الإسلام الذي جاء للناس كافة في كل زمان ومكان وحال وعرف لم يكن ليخطئ هذا الإهتمام ولكن يبرز من ثناياه بإجتهاد رجال جمعوا بين فقه الإسلام وفقه الحياة أما فقه الإسلام وحده فلا يكون إجتهادا إلا مجتهدا لنفسه من النار ينجيها وفقه الحياة وحده لا يكون كذلك إجتهادا إلا مجتهدا لنفسه من الإرهاق النفسي والإنتحار المعنوي يعفيها.



الموضع الثالث : مقاربة نظرية لتفعيل المقاصد الشرعية.



معلوم أن الإمام الشاطبي إهتم بهذا الجانب أي جانب تنزيل المقاصد ولم يعرف عمن سبقه فضلا عمن لحق به ( ولم يلحق به سوى الإمام إبن عاشور حتى يومنا هذا ) إهتمام بهذا الجانب ولكني ألفيت أن الدكتور النجار في هذا البحث إتجه نحو مقاربة نظرية متكاملة في تفعيل المقاصد النظرية للشريعة الإسلامية وربما كان ذلك على غرار كتاب أصولي عظيم له معروف عند طلبة العلم إسمه " فقه التدين " الذي نحا فيه منحيين أصليين : أولهما النحو الفقهي النظري وثانيهما النحو الفقهي التنزيلي. كيف لا وهذا من ذاك وهل ينتج الضرع الواحد لبنين؟



لو حاولت فهم المسألة لما أعوزني القول بأن الدكتور النجار متأطر ضمن حركة الإحياء الإسلامي المعاصرة أي حركة النهضة الإسلامية المعاصرة وحركة الصحوة الدينية التي تجمع بين الهم العلمي والهم العملي وذاك هو الذي ساقه ويسوقه دوما إلى إنتاج علم عامل وذاك هو ما يميزه ويميز كثيرا من أمثاله على كثير من علماء العصر وفقهائه ممن حبسوا العلم في مجالس العلماء كما فعل الأثينيون ( نسبة إلى أثينا اليونانية القديمة ) بالديمقراطية التي حبسوها على النبلاء.



الجديد في موضع التجديد هذا هو كونه جاء مبحثا ثانيا للكتاب يحتل شطره الثاني ولم يكن مبحثا فرعيا فيه أو إشارة مقتضبة أو حتى متوسعة إلى كيفيات التنزيل وغير ذلك.



الجديد هنا هو أن المؤلف بسط مقدمة علمية مهمة جدا من حيث منطقيتها وتماسكها وترابطها تصلح لأن تكون فعلا مقاربة علمية نظرية لفقه تنزيل المقاصد الشرعية على واقع الناس أن تفضي تحقيقاتها النظرية إلى غير ما شرعت له فتكون النكبة مضاعفة وينفر الناس عن الدين بسبب أنه يجر إلى الشر والضر والأذى والضعف ومخالفة السنن والفطرة والعلم وغير ذلك.



الجديد هنا هو تقدم تلك المقاربة إلى درجة أنها بحثت في مسالك الكشف عن مآلات المقاصد وهو أمر لا أعلم أن أحدا قبل الدكتور النجار كتب فيه إذا كانت الكتابات القديمة ( إلا الإمام الشاطبي الذي إنتهج منهجا آخر ربما يأتي الحديث عنه في القضية المقاصدية عامة وفي منهج التنزيل خاصة وفضلا عن ذلك فإنه الدكتور النجار يجدد تحت سقف الإمامين : الشاطبي والنجار في العموم لا في التفصيل ) كلها تقريبا مبلغها من العلم : الكشف عن مسالك الكشف عن المقاصد نظريا ولكن الكشف عن مسالك المآلات عمليا بحثا نظريا لم يسبق أن كتب فيه باحث مقاصدي.



مرة أخرى يتأثر الدكتور النجار بمعطيات زمانه ومكانه حيث أن فوضى الفتاوى والإجابات في زماننا من حيث تأدية المقصد الإسلامي الرفيع إلى إحداث حرج للناس أو إهدار قيمة ضرورية من ضرورات الحياة المقدسة في الإسلام تقديسا ( حياة الإنسان بصفة خاصة ) وغير ذلك مما يتلبس ظاهرا بلبوس العلم ولكن الفقه يخطئه ألف مرة ومرة بما يسيء إلى الدعوة الإسلامية المعاصرة .. ذلك عامل من عوامل أخرى كثيرة جعلت الدكتور النجار يعكف على صياغة مقاربة علمية لفقه تنزيل المقاصد أو فقه المآلات علما نظريا ومسلكا عمليا.



من دواعي التفعيل للثروة المقاصدية العظمى في الإسلام حتى بصياغاتها التقليدية القديمة فضلا عن جوانب التجديد المعاصرة فيها .. هو فض الإشتباك بين موضعي تنازع معاصر بين فئتين في الأمة أو منها. فئة حصرت المقاصد في جانب ما فكانت إلى إلغائها جملة وتفصيلا أقرب وجاءت تبعا لذلك إجتهاداتها الفقهية المعاصرة جامدة ميتة تناسب عصورا خلت ولا تناسب عصرنا الحاضر وخاصة في بيئاته الأشد تعقيدا وتشابكا من مثل الوجود الإسلامي في الغرب عامة وأوربا خاصة وفئة إنفضت عن الشيوعية وبناتها الغربية إنفضاض كلاب تصدع قحفها فسقى الأرض منه لبنا وإضطرت إلى الإسلام إضطرارا إضطرار المنافق عليم اللسان عندما تدلهم الأرض في وجهه وتمتلأ وهادها ونجادها دينا حيا متحركا ووجدت في مقاصد الإسلام ذريعة إلى بث سمومها وتوهين عرى أصول التدين من مثل الوحدة والهوية وغير ذلك ربما لفراغ علمي في هذا العلم أو لطبيعة العلم المقاصدي ذاته أو لأسباب أخرى لا يهمنا أمرها الآن.



عندها يكون التصدي لهؤلاء وأولئك حماية لمقاصد الإسلام أن تجمد فتشق الحياة أو تميع فيفقد الإنسان فطرته .. فريضة إسلامية ولكنها فريضة إسلامية بمنطق علمي يقتضي بالضرورة إنجاز مقاربة أولية تضبط علاقة النظرية بالتنزيل في الموضوع المقاصدي كما تضبط أسس التنزيل نفسه لا تخريجا وتهذيبا وتحقيقا فحسب ولكن رصدا لمعطيات في الإنسان وفي الزمان وفي المكان تساعد على حسن أيلولة لتثبت هذا وتستثني ذاك وتؤجل ذلك وتقرر خلو مكان تلك.



معنى كل ذلك هو أن الخلاف في الجملة والعموم ليس في تخريج المقاصد كليا أو جزئيا ولكن الخلاف هو في فقه تنزيلها لتبدأ عملها المرسومة له أو بتعبير علمي أدق : ضبط محلها ضبطا دقيقا وضبط ما يتحمله منها وإحداث الموازنة بين المصالح بعضها بعضا وبين المفاسد بعضها بعضا وإستبصار مقادير المصلحة والمفسدة من كل مصلحة ومن كل مفسدة عادة ما تتلبس فيهما هذه بتلك كما قرر ذلك جهابذة هذا الفن قديما أما الموازنة بين المصالح والمفاسد جملة فهي أمر لا يكاد الخلاف فيه في دائرة معلومة من أهل العلم يكون ذا بال. ولنا في قالة إبن تيمية خير نبراس علمي " ليس العاقل من يعلم الخير من الشر ولكن العاقل من يعرف خير الخيرين وشر الشرين " ذاك هو الميزان الذي أشار إليه سبحانه منزلا منه مع الكتاب ( القرآن الكريم ) جنبا إلى جنب في سورة الحديد. ذلك هو الميزان الذي وهنت عراه في أيدي الناس والأمة فلم يفعل الكتاب الكريم فعله المطلوب في حياتنا لأنهما صنوان توأمان شقيقان لا ينفصلان ( الكتاب والميزان).



الموضع الرابع : إبراز البعد الجماعي في الإجتهاد المقاصدي.



هذا موضع تجديد كبير جدا بل هو الأهم إلى جانب البعد الإنساني مباشرة في مقاربة الدكتور النجار وهو ذات طابع كلي وليس جزئي من مثل التجديد في مسألة إعتبار حفظ البيئة مقصدا عاليا ولكني أخرته هنا لأسباب منها أن التزاحم بين كل تلك المواضع التجديدية في دراسة الدكتور النجار كان على أشده فمن أقدم ومن أؤخر ومنها أن البعد الجماعي في البحث العلمي الحاضر ربما لم يشدني كثيرا ولم يفعل في فعل تجديدات أخرى بسب الإلف والعادة إذ أن البعد الجماعي لما درجت عليه فعاليات الصحوة الإسلامية المعاصرة علما وعملا أضحى أمرا مسلما بدهيا بل هو أس المشروعية ومحل نكير على فعاليات أخرى تختار أو يختار لها منهج التمزيق والشرذمة لجسم الإنسان الواحد وجسم الإسلام الواحد وجسم الأمة الواحد وغير ذلك.



أعني أن هذا الموضع من التجديد في دراسة الدكتور النجار رغم عظمته وهيبته لم يفاجئني لما أعرفه عن توجه الكاتب وتوجه الباحثين المعاصرين ممن أنتجتهم الصحوة الإسلامية المعاصرة أو كانوا لها أو فيها بوجه من الوجوه نصراء ونقباء ولذلك أخرته ولكنه في التجديد في هذا الموضع مقدم مقدم.



لقد أشرت في هذه التلخيص للكتاب في أكثر من موضع على ما أذكر إلى أن الدكتور النجار كان من السباقين إلى نقد الصياغات المقاصدية التقليدية القديمة ينعي عليها كما ينعي عليها رجال سبقوه وآخرون لحقوا به قصر نفسها على البعد الفردي وإهمال البعد الجماعي وإنك لتعجب حقا والله كيف غاب هذا المقصد الأبرز الأعظم عن أمثال أولئك الجهابذة ـ جهابذة بأتم معنى الجهبذة ـ والآيات والأحاديث والأعمال النبوية والراشدية التي تنطق بها نطقا لا تكاد تحصى فعلا وحقيقة. إنه دون شك إلف وعادة وتأثير للبيئة على تكوين الإنسان وإتجاهه العلمي إلا قليلا جدا فيما ندر من الناس لا بل قل إنه أثر من آثار ذلك الإنقلاب الأموي الغاشم جدا الذي حقق نذارة محمد عليه الصلاة والسلام في قوله " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة كلما نقضت عروة تشبث الناس بالتي بعدها ". عكف كثير من العلماء على حسبان ذلك نبوءة وغفلوا عن كونها نبوءة في الظاهر ونذارة خطيرة من نذير عريان في الحقيقة والجوهر. ولقد أحسن المفكر الإسلامي الكبير الدكتور عبد الله فهد النفيسي حين سمى ذلك الحدث قبل عقود طويلة في كتاب كامل " إنقلاب أموي " وهو إنقلاب فعلا أكره الناس على الإهتمام بخويصة النفس ونبذ الشأن العام فتأثرت بذلك الإجتهادات العلمية حتى في المادة المقاصدية التي هي مادة منهجية أصولية يعول عليها في توصيب الحكم وحسن توجيه البوصلة الإسلامية العامة.



كان الدكتور النجار إذن من السباقين إلى نقد الصياغات المقاصدية التقليدية القديمة بسبب توجهها الفردي وإهمالها للبعد الجماعي ( للإنسانية وللأمة سواء بسواء إذ الإسلام دين العالمين كما أن ربه سبحانه هو رب العالمين ورسوله عليه الصلاة والسلام هو رسول العالمين ) وها هو اليوم ينفذ ذلك النعي وذلك النقد في دراسة تولي ذلك البعد ما يستحقه من إهتمام يكفيك منه أن الوحي الكريم ( القرآن الكريم أساسا ) لم يوجه خطابا واحدا للناس في كل المناحي حتى التقوى والصيام والعبادات القلبية الخاصة الشخصية الباطنية جدا .. بصيغة الفرد ولكن جاءت كل خطاباته بصيغة الجماعة في كل الأحوال وكل الحقول لم يخص منها حتى حاكما أو إماما أو فقيها أو عالما ولكن كانت موجهة دوما بشكل مفتوح إلى الناس ثم إلى المؤمنين أي إلى الأمة والبشرية إلا ما كان خطاب جنس من مثل ( يا أيها الإنسان ) أو كان خطابا خاصا به عليه الصلاة والسلام وحتى في هذا الخطاب الأخير فإن الصيغة في كثير من المواضع ـ إن لم يكن أكثرها ـ تكون بصيغة الإفراد ولكن المعنى هو بصيغة الجمع وذلك على أساس أنه عليه الصلاة والسلام ولي المؤمنين والناس أجمعين فهو خطاب للمؤسسة الحاكمة ولكن الغالب هو الخطاب الجماعي العام. أجل. إنك لتعجب كيف طغت رغم ذلك الصياغة الفردية. ولكن لكل علم نصيب ولكل علم نصيب ولكل عصر نصيب.



جاء إهتمام الدكتور النجار بهذا المستوى التجديدي الجماعي مؤسسا حقا وضافيا حقا وذلك على واجهتين : واجهة التنظير الكيفي المعرفي للقيم التي تخدم ذلك المعنى من مثل العدل والحرية والكرامة والشوى والتكافل والتآخي وكلها مقاصد إسلامية ناصعة ظاهرة نص عليها بالنص القرآني الصحيح الصريح وبذا تكون تلك هي أعلى المقاصد طرا مطلقا ولا يهم بعد ذلك أن كانت مقاصد أصلية أو تبعية بتعبير الإمام الشاطبي أو مقاصد غائية أو وسائلية بتعبير الدكتور النجار. وواجهة تعيين المؤسسات الحاضنة لذلك التوجه الجماعي في فقه المقاصد الإسلامية من مثل الإسرة والدولة وما بينهما من مؤسسات نقابية وعلمية وعشائرية تحفظ التوازن بين الأدنى والأعلى.



الدكتور النجار إذن يعتبر أن الجماعة في الإسلام ( جماعة الأمة أساسا ) مقصد شرعي قطعي ضروري أعلى وهو عين الحق والله وهو موضع تجديد مقاصدي كبير يعزز جبهة المصالح الضرورية في الشريعة الإسلامية : يحفظ القديم ويثبته ويغذي شرايينه الداخلية أي الدين والنفس والعقل والمال والنسل ثم يلحق به مقصدين إثنين : الجماعة والبيئة.



الموضع الخامس : مسلك العمل النبوي ضمن مسالك الكشف عن المقاصد.



قبل الإطلاع على هذا يجدر بطالب العلم الإطلاع على دراستين لكل من الدكتور أحمد الريسوني والدكتور النجار في هذا الموضوع ( الكشف عن مسالك الكشف عن المقاصد ) لا بسبب إتصال الموضوع ولكن بسبب أنه لا يعلم إلى حد الساعة من رصد ذلك سواهما من منهج إمامي المقاصد طرا مطلقا : الشاطبي وإبن عاشور.



قد تجد أحيانا من يحاول إلحاق كتاب المرحوم الفاسي بشيء من ذلك ولكنه في الحقيقة إذا كان مؤلفا بذلك أولى فهو كتاب الذريعة للراغب عليهم رحمة الله سبحانه جميعا ولكن كلاهما ( الفاسي والراغب ) ينتميان إلى المكارم والمحاسن والمحامد ضمن بحث يغلب عليه الطابع الأدبي الخلقي التحسيني رغم إحتوائه على لقطات أصولية ومشاهد علمية بالمعنى التدقيقي الصارم.



بل إن الراغب وفق توفيقا كبيرا جدا في ضبط ثلاثة أصول مقاصدية عظمى كبرى يتأطر تحتها كل إجتهاد في السابق وفي اللاحق وهي الكلمات المأثورة عنه : العبادة والخلافة والعمارة.



طبعا لا يتسع المجال هنا لتلخيص محاولتي الريسوني والنجار في ضبط منهج الكشف عند كل من الإمامين الشاطبي والنجار سيما أنهما إختلفا في تحديد ذلك ولكن المقصد من إثارة ذلك هو تنبيه طالب العلم إلى ذلك ليكون على علم أشمل وأدق بالموضوع.



إهتم الإمامان بالسنة ( بكل مفاهيمها الأصولية والفقهية ) مسلكا للكشف عن المقاصد ولكن ذلك الإهتمام جاء على سبيل الضم إلى القرآن الكريم أي أنهما إعتمدا الأمر والنهي وعللهما سواء كانا من القرآن أو من السنة وربما كان الإمام إبن عاشور أوسع إطنابا في ذلك من حيث إيراد الحديث والتوسع في الإستنباط منه بخلاف الإمام الشاطبي الذي يمكن أن نقول بإطمئنان كبير إلى أن بحثه المقاصدي نحا في إتجاه ضبط منهج أصولي ولذلك تجده يتقصد بناء القاعدة ويجتهد في بنائها كما إعتمدا الإستقراء في الأدلة الجزئية والكلية من المصدرين الأوليين كذلك إضافة إلى توخي اللغة العربية لحسن فقه ذلك كما بين الإمام الشاطبي في مقدمة ذلك كله.



ولكن الإعتماد على العمل النبوي سواء كان قولا أو فعلا أو إقرارا أو حتى صفة لمن يريد إلحاق الصفة لم يكن مستقلا في عمل الإمامين والحقيقة أنه عند الدكتور النجار لم يكن كذلك مستقلا بسبب أنه لم يتوسع في هذا المبحث ولكن العنوان ( عنوان هذا المسلك ) كان ينبئ على أن الدكتور النجار ربما يهدف ضمن إجتهاده المقاصدي إلى إدراج السنة بمفهومها الواسع أصوليا وفقهيا مسلكا مستقلا من مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة الإسلامية.



إذا كان ذلك كذلك فإنه باب واسع للتجديد في مسالك البحث عن مقاصد الشريعة إذ لا شك فيه أن السنة هي التي تولت لا بيان القرآن فحسب ولكن كذلك تولت غرس المقاصد الإسلامية في النفوس وفي واقع الحياة البشرية في ذلك الوقت بما تتيحه الظروف يومها بطبيعة الحال لأن المقاصد الإسلامية علم يجمع بين النظرية وبين التطبيق بل يكون التطبيق شاهدا على النظرية ومثبتا لها.



ربما يكون المطلوب في الإجتهاد المقاصدي المعاصر هو إفراد العمل النبوي بدراسة منهجية شاملة ودقيقة لإستنباط مسالك الكشف عن المقاصد الشرعية كليا وجزئيا وفي مختلف أدوار ترتيبها وتصنيفها من تنوع ذلك العمل النبوي الكبير ولا شك في أن فقه مقامات المشرع كفيل بجزء كبير من ذلك.



أما جمع منهج الكشف من القرآن والسنة معا دون تمييز لا بين القرآن والسنة من ناحية ولا بين القول والفعل في السنة من ناحية أخرى ولا بين السنة والسيرة من ناحية ثالثة ولا بين مختلف المقامات التشريعية له عليه الصلاة والسلام من ناحية رابعة ولا بين معطيات زمانه ومكانه وما كانت تتيحه من حرية تصرف من ناحية خامسة .. ذلك منهج يصلح في الجملة ولكنه لا يسعف البحث المقاصدي المعاصر عندما يريد التخصص والتمنهج ونشدان بناء علم للمقاصد يكون خادما حرا مستقلا لأصول الفقه وليس تابعا لا ينفك عنه فيما يدور تحت الإستصلاح والإستحسان والإستعراف والإستصحاب وغير ذلك من المصادر التشريعية المقاصدية العظمى.



بكلمة مختصرة مفيدة : التعمق والتوسع في مسلك العمل النبوي بإستقلال إرتباطي عن القرآن الكريم يحيل على مسلك آخر مهم جدا هو مسلك حسن فقه الواقع المعيش وما تتيحه ظروفه المختلفة المتنوعة من إمكانات تنزيل وحسن أيلولة ولكن كذلك لحسن فقه للمقاصد نظريا عندما تكون عين على المتن المكتوب وأخرى على المتن المعيش بآماله وآلامه ولكن ذاك أمر دونه مجاهدات علمية أخرى كبيرة ومغالبات فقهية يقيض الله الجهابذة إن شاء الله تعالى.



الدكتور النجار في بحثه المقاصدي هذا يقصر العمل النبوي مسلكا من مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة ( الإسلام ) على مقام التبليغ ولكن بسبب عدم توسعه في ذلك بصفة عامة فإن موضع التجديد فيه ثابت من ناحية ومواضع الإجتهاد في ذلك أكثر إلحاحية لبناء علاقة بين القرآن والسنة خاصة بمفهومها الأصولي من ناحية في الإجتهاد المقاصدي المعاصر ولبناء علاقة داخلية أخرى بين مختلف المقامات النبوية إستئناسا على الأقل قد يرقى مراقي أعلى من ناحية أخرى.



الموضع السادس : إثراء الأوعية المقاصدية الداخلية وضبطها.



هذا موضع تجديد كبير واسع ومهم في منهج التأليف العلمي والفكري عند الدكتور النجار بصفة عامة وفي تآليفه الشرعية بصفة خاصة وفي هذا البحث المقاصدي الجديد بصفة أخص وأشد.



يتخذ هذا الموضع التجديدي في البحث مظاهر كثيرة أبرزها ما يلي :



أولا : الإهتمام بمسالك الحفظ لكل مصلحة ضرورية عليا من المصالح الثمانية التي إنحاز إليها الدكتور النجار وذلك بطريقة منطقية علمية تعتمد على أمرين :



... الكشف عن مسالك الحفظ بتيسير الأسباب وجلب العوامل المساعدة وغير ذلك.



... الكشف عن مسالك الحفظ بدفع العوائق وإزالة الأشواك وغير ذلك.



لك أن تأخذ مثلا أول مقصد ضروري أعلى أي حفظ الدين لتلاحظ بأن ما جاء به الدكتور النجار لم يكن مسبوقا إليه خاصة من حيث القدرة العجيبة الفائقة على الضبط والترتيب والتوزيع والإدارة وتحري الشمول والدقة وإعتماد المقارنة وغير ذلك من التخطيط العلمي.



المجني من ذلك هو تنزيل المقاصد الشرعية في واقع الناس وأفكارهم منزلة معروفة معلومة يسيرة مفصلة يلمسها القارئ العادي فضلا عن طالب العلم بسبب ما يحيط به قلم الدكتور النجار من تجسيد كيفي وكمي تكاد تلمسه بأصبعيك.



القول العلمي في ذلك هو أن الدكتور النجار إهتم بالمقاصد الوسائلية إهتماما كبيرا لم يسبق إليه خاصة فيما يتعلق بأسلوبه في الكتابة والتأليف أي الإعتماد على الضبط الكمي والترتيب النوعي والإنبساط الشمولي.



ذلك أن المقاصد العليا لا خلاف عليها ولكن الخلاف ربما يكون فيها لطائفة من طلبة العلم أو طائفة من الناس وذلك بسبب بقائها متعالية متأرجحة في مظانها العليا كمن ينظر إلى عروس حسناء في هودجها العالي المذهب لا يكاد يدرك عن تفاصيلها شيئا كثيرا فهو يعجب بها ولكن لا يستمتع بالقرب منها ولا بشم ريحها ورغم ذلك يظل الإعجاب بها يشدهه ويغريه كما يظل العجز عن الوصول إلى تفاصيلها حائلا دون الإستمتاع بها في حياته اليومية.



يمكن في هذا الصدد لطلاب العلم النجباء أن يجمعوا بين نظرية الإمام الشاطبي التي لم يسبق إليها في مسألة إحداث مقاصد للمكلف من الشريعة إلى جانب مقاصد للشريعة من المكلف وبين هذا الموضع التجديدي للد. النجار وذلك لمزيد من التوسع في التفصيل بما يقرب المقاصد عمليا من المسلم العادي وبما يعين طالب العلم على مزيد من الكشف عن مقاصد وسائلية أخرى يجود بها العصر الحديث لحماية المقصد الأصلي الضروري الكلي سواء بطريق تيسير السبب أو بطريق سد ذريعة الفساد.



كل ذلك العمل الإجتهادي من شأنه أن يغذي الأوعية المقاصدية الداخلية ويساعد على التنزيل وقبل ذلك على حسن الفهم وبذلك تتغير الحياة ويأخذ الإصلاح طريقه بيسر إلى الناس.





ثانيا : الإهتمام بهيئة بناء المقاصد ترتيبا وأولوية وضبط معايير لذلك.



لقد مر بنا فيما سبق أن محاولة الدكتور النجار إتخذت لها الإنسان محورا مقاصديا تدور حوله كل المقاصد مناسبة لمنهج ومقصد شريعة إنما تنزلت من عالم الغيب غيرة على هذا المخلوق الجديد أن يضل الطريق وليس الجديد في الفكرة ولكن الجديد هنا هو في إلتقاط المشهد الشرعي حين يلتقي مع المشهد المعاصر في الإتجاه الإنساني لبيان علوية الدين وصلاحيته لهذا الزمان ومعطياته كذلك.



كانت الأولوية المنهجية المقدمة إذن في فكر الدكتور النجار هي أولوية الإنسان مطلقا طرا.



ولكنه لم يقتصر على ذلك بل غذاه بترتيب آخر بنى على مقتضاه مقاصده الضرورية الثمانية وهو ترتيب يؤطر الإنسان ضمن دوائره كلها أولا بأول من الدين الذي يوجه بوصلته العامة نحو إتجاهها الفطري الصحيح حتى البيئة الطبيعية المادية التي يترجم فيها الإنسان حياته ويدير فوق أديمها رسالته في العبادة والخلافة والعمارة أي أنه ربط بين السماء التي أعلنت هذا الدين وبين الأرض التي فيها وعليها يطبق ذلك الدين.



إعادة الترتيب وفق معيار قديم ليس أمرا في متناول كل من هب ودب ولكنه يسير على من وفقه الله سبحانه إلى الجمع دوما بين الأصل والعصر أما من تنكب أحدهما فهو إلى الحول أقرب.



إعادة الترتيب ليست عملا إداريا مهملا أو مستقلا عن خلفية فكرية ثقافية فلسفية ولكنه صياغة جديدة لموروث قديم آن أوان تجديده.



إعادة الترتيب هي بكلمة واحدة بمثل عمل المخرج في الفنون السنمائية وغيرها والناس كلهم أجمعون اليوم بحكم الواقع الفني يعلمون دور الإخراج في تهذيب العقول والأذواق وإستقرار الفطرة أو في تعذيبها.



كان الترتيب عند الدكتور النجار يعتمد ثلاثة معايير كبرى : أولها الإنسان وثانيها الحاجة المعاصرة وثالثها الجماعة وعاء واسعا يحتضن تنفيذ مقاصد الشريعة.



ولذلك جاءت محاولته جذابة.



لا يتسع المجال هنا لألقاء أضواء أخرى كاشفة لما أسماه الدكتور النجار إعادة تصنيف المقاصد الشرعية ولكن بالرجوع إلى الكتاب يتبين لكل طالب علم بأن إعادة التصنيف مهمة جدا لمن يريد إعادة بناء عقله بناء إسلاميا صحيحا سليما يجنبه الوقوع في أحد مطبين خبيثين : إما الترحيب بإحتلال السلف لعقولنا أو بإحتلال الخلف لها أما الإستمتاع بشخصية مستقلة فردية وجماعية في الآن نفسه فلا سبيل إليه.



إعادة التصنيف الذي إعتمده هذا الكتاب يراعي حاجات الواقع المعاصرة وجوانب القوة والضعف في الحضارات والثقافات والتجارب النمائية الراهنة وبذلك يجد فيه طالب العلم والقارئ العادي حاجته ونهمه ثم يدفعه إلى إجتهاد جديد يبتغي التطوير والتحسين دوما.



أما التكديس للمقاصد سواء تعلق التكديس في مجالاتها الكلية أو الجزئية فهو أمر لا يبني منهجا علميا ولا يؤسس نظرية للمقاصد فضلا عن علم ولكن يضيف معلومات مكومة بعضها على بعض لا علاقة لها بالعصر وحاجاته ولا حتى بهندسة الإسلام من حيث قيامه على ترتيب عقلي منطقي في كل بعد من أبعاده وعبادة من عباداته وسلوك من مسالكه.



ثالثا : الإهتمام بالشمول المقاصدي بلغة معاصرة.



كان يمكن للد. النجار أن ينحاز إلى تصنيف مقاصدي أو إعادة ترتيب ينحو في إتجاه إعتماد التقسيم المعاصر بوجه ما لحياتنا المعاصرة أي بناء المقاصد وفق مقاصد سياسية وأخرى إقتصادية وثالثة إجتماعية ورابعة خارجية وغير ذلك ولكنه جمع بحسب رأيي بين ذلك وبين منهج آخر لم يبتعد فيه كثيرا عن الصياغات المقاصدية التقليدية القديمة من جهة ولكنه في الآن نفسه لم يبتعد فيه كثيرا عن الإلتحام بمثل تلك الحاجة التي تدعو إلى بيان المقاصد السياسية للإسلام وكذلك الإقتصادية والإجتماعية ( سيما الأسرة ) وغير ذلك.



هنا موضع تجديد كذلك رغم إنحيازه لمنهج تناول محدد من لدن المؤلف ولذلك جاءت المحاولة متوازنة بين التأليف التقليدي القديم وبين بعض المحاولات المعاصرة. عيب الأولى أنها ليست في بعض مفاصلها فضلا عن صياغاتها لعصرنا والحقيقة أن العيب عيبنا وليس عيبها لأن العيب يتحمله من يلتقط ما وجد بين يديه دون تعقل وتدبر وتجديد وعيب الآخرة أنها جارت في صياغة التجديد جورا جعلها إلى الإنشاء الفكري أقرب من التحقيق العلمي.



خذ إليك مثل مقصد الجماعة في الإسلام في هذا البحث وكيف بناه الدكتور النجار في الأسرة وفي المؤسسة الدولية الحاكمة ومختلف الدوائر الإجتماعية التي يأوي إليها الفرد بالضرورة ليتأكد لك ذلك الشمول المقاصدي بلغة معاصرة تجمع بين التحقيق العلمي والإنشاء الفكري كما تجمع بين الفرد والأسرة والجماعة مؤسسة حكومية ومهنية وغير ذلك.



وهو شمول يتخذ له وجوها عدة منها أنه يعتمد على ترتيب نوعي للمقاصد أي بحسب إنتمائها لنوع ما من أنواع الحياة وهو تقسيم في الجملة والأصل بطبيعة الحال معياري تقتضية الضرورات الدراسية العلمية سيما أن منهج الدكتور النجار يقوم أول ما يقوم على الضبط الصارم متأثرا بتكوينه الفلسفي الكلامي.



الإهتمام بالمادة في محاولة الدكتور النجار لا تكاد تجد له أثرا كبيرا في محاولات سابقة.



ذلك مظهر ثالث من مظاهر تغذية الأوعية الدموية لعلم المقاصد الشرعية وبذلك يكون الدكتور النجار قد جدد في الأصول العظمى ( البيئة ) وفي الفروع والشرايين الداخلية ولكن تجديده هنا كان هو الأبرز والأكثر بسبب تتبعه للتفاصيل والجزئيات.



مثلته في عمله ذلك بطبيب دعي إلى إجراء عملية جراحية على إنسان في غرفة العناية المركزة فهو في نظر بعضهم قد فارق الحياة وفي نظر بعضهم الآخر تستوي حياته مع موته فلما جاء ذلك الطبيب هرع إلى تغذية الأوعية الدموية الداخلية وتتبع الشرايين التي تبث الحياة في الجسم فصبر على ذلك التتبع جزئية جزئية حتى ملأت الحياة ذلك الجسم الذي كان يظن قبل قليل أنه فارق الحياة أو هو على وشك ذلك.



تلك مواضع تجديد ستة كبرى معلومة لكل طالب يدرس الكتاب بتأن وحسن فقه ولكن مواضع التجديد الأخرى أدنى مرتبة جديرة هي الأخرى بالإشارة ولكن لا يتسع المجال هنا لضيقه عنها وربما تكفي الإشارة إلى موضع واحد منها وهو موضع تيسير هذا العلم للمسلم العادي بما لا يجعله حكرا على طالب العلم وهو الأمر الذي تعرض له الدكتور النجار في هذه المحاولة بلسان القلم صريحا مرات.



ضرب لذلك أمثلة لمسلم عادي يجتهد في دينه من مثل الصلاة والقبلة وغير ذلك وهو إتجاه محمود جدا إذ أنه يجمع بين وطر طالب العلم من خلال تحري لهجة علمية مقاصدية تتميز بالضبط الصارم التي كثيرا ما تكون في مواضع التفعيل مثلا قاعدة إنطلاق لإنتاج قواعد مقاصدية منضبطة قطعية مات الإمام إبن عاشور دون أن يدرك أجلها ولكن كان له سبق المناداة بها حسما لخلاف لا مقبول ولا مفهوم في هذا العلم .. وما يمكن أن يفيده المسلم العادي في حياته اليومية عندما يكون واعيا بالحد الأدنى لمقاصد الإسلام.







2 ــ مواضع الحوار حول الكتاب خاصة والإجتهاد المقاصدي عامة.





الموضوع الأول : دعوة الدكتور الريسوني بقيت مؤجلة بمثل دعوة الإمام إبن عاشور.



دعا الدكتورالريسوني منذ سنوات إلى الإهتمام بمقاصد العقيدة بمثل ما تلفى مقاصد الشريعة من إهتمام على الأقل ولكن لم تجد لها الفارس المغوار ولكني لا أتفق مع الدكتور النجار فيما كتبه في بحثه هذا فيما يتعلق بهذا الموضوع حيث قال : " ... وإن كانت هذه المقاصد أبين في الأحكام الشرعية العملية والحاجة إلى العلم بها أوكد لدوران الإجتهاد عليها وأما العقائد فإن مجال الإجتهاد فيها مجال محدود ضيق ".



ربما يشفع للد. النجار أنه ساق ذلك في سياق الدعوة إلى التعبير بمقاصد الشريعة عن مقاصد الإسلام عقيدة وشريعة ولكن عند التفصيل نلفى أمورا كبيرة منها :



أولا : مقاصد العقيدة أولى بالإستنباط من مقاصد الشريعة لأسباب كثيرة منها :



... العقيدة الإسلامية تتعرض اليوم ـ كما تعرضت من قبل ومن بعد إبتلاء ـ لهجومات عقدية كاسحة من داخل الأمة ومن خارجها سواء بسواء وتحمل العقيدة الإسلامية الصحيحة بالمنهج الإسلامي في مصدريه الأوليين لا يكتمل حتى يكون المسلم على بينة من العقيدة نصا وروحا كما يقال أي متنا ومقصدا ولقد أثبتت الأيام أن تلك الهجومات الكاسحة ( الغربية المعاصرة منها على وجه الخصوص ) أثمرت إنسلاخات وإرتدادات وذهبت بآلاف مؤلفة من خيرة شباب الأمة حين شغبت عليهم تلك الفلسفات المادية ببريقها الخادع في زمن إندحرت فيه العقيدة الإسلامية في النفوس ولو أحصيت عدد من آبوا بعد ذلك لألفيتهم قليلا جدا مقارنة مع جيش لجب إغتالتهم تلك العقائد الغربية المادية إغتيالا عقليا بل جعلت منهم أسيافا ماضية في خاصرة الأمة وهويتها.




... العقيدة هي الحاكمة على الشريعة وخاصة من حيث المنهج فإن الإسلام يكثف منهجه في الحياة في العقيدة بأكثر مما يفعل في الشريعة بسبب أن الشريعة حتى في وحدتها فهي متفرقة بحكم طبيعة الأشياء تفرقا نوعيا كما سماه الدكتور النجار في بحثه أما العقيدة فهي الأمر الذي دعا إليه الإسلام على مدى عقد كامل لم تنزل فيه شريعة واحدة ولكن سارت حياة ذلك المجتمع الإسلامي الصغير في ذلك الوقت بما قدم من شهداء على درب تلك العقيدة أو ذلك الدين الذي لم يكن يتوافر سوى على العقيدة كما قدم قوافل هجرة متعددة ومصابرات بل توحدت الأمة في ذلك الوقت على العقيدة وليس على الشريعة التي لم ينزل منها شيء أبدا وبذا كانت الجماعة هي المقصد الأسنى من مقاصد الإسلام الأولى دون أدنى ريب وكانت العبادة الأولى دون أدنى ريب كذلك. العقيدة بالنسبة للشريعة كلها هي ذلك الجذر الذي يتولد عند الجذع بأغصانه وأوراقه وثمره وظلاله.



... الدعوة الإسلامية المعاصرة وهي تشق طريقها في طريق محفوف بمكاره لا تحصى من الداخل ومن الخارج سواء بسواء لا يمكن لها أن تتقدم وتنتصر سوى بتعريف الناس بالعقيدة وخاصة من حيث مقاصدها العامة في تحرير الإنسان وتكريمه وحفظ شخصيته المعنوية موحدة لا تشتيت فيها و بناء الحياة على أساس أخلاقي دوما وغير ذلك مما تجده متناثرا في الشريعة بل عليه إعتراضات لا تحل سوى في مجالس العلم الهادئة مما هو محل خلاف بين العلماء حتى في فروع كبرى وبالتالي فإن العقيدة وحدها الكفيلة بتقديم الإسلام إلى الناس كافة من كل دين وملة ونحلة وطائفة صافيا نقيا رقراقا يجلبهم إلى نور الحق وعدل الإسلام.



ثانيا : أما كون مقاصد العقيدة أقل بيانا من مقاصد الشريعة بحسب ما ذكر الدكتور النجار فأظن أن الأمر ليس على إطلاقه ولا على دقته المطلوبة إذ أن من يقرأ القرآن الكريم وكثيرا من الحديث النبوي الشريف يلفى بيسر أن العقيدة معللة مقصدة ببيان صريح صحيح واضح جلي سواء بالأدوات اللغوية من مثل " كي وحتى ولعل ولام التعليل ومن أجل ذلك وغير ذلك .." أو بالسياقات الكثيرة جدا حتى أن الله سبحانه قليلا ما يدعونا إلى عبادته وحده سبحانه دون أن يعلل ذلك ويقصده بجلب مصلحتنا ودرإ المفسدة عنا أو بمقصد إسداء الشكر له سبحانه ولو وقفت عند سورة قصيرة واحدة يحفظها الملايين من المسلمين وهي سورة قريش لألفيت بأنه سبحانه يعلل إفراده بالعبودية دون إشراك بأنه " أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " ومثل ذلك لا تكاد تنفك عنه آية عقدية واحدة بل هو مخ القرآن الكريم.



بل إني أجد أن مواضع التعليل والتقصيد في الآي العقدية أبين وأجلى منها في الآي التشريعية وذلك معلل بإبتدائية العقيدة بالنسبة للشريعة وبدورها في تحرير الإنسان وتكريمه وإنقاذه من مختلف العبوديات التي تهدم شخصيته وحريته وكرامته وتجعل منه لقمة سائغة لكل مستكبر في الأرض حتى لو كانت نفسه التي بين جنبيه.



ثالثا : وكذلك الأمر في كون مقاصد الشريعة أوكد من مقاصد العقيدة بمثل ما قال الدكتور النجار بسبب دوران الإجتهاد عليها.



إذا كان ذلك دقيقا فهو في داخل الأمة في حال قوتها وإزدهارها أما في حالنا اليوم مثلا فإن مقاصد العقيدة أوكد بالعلم بسبب أن الأمة مخترقة من كل جانب بعقائد جاهلية بعضها من تراث ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام حتى إستحال الإسلام في كثير من مواطن الأمة إلى شركيات جاهلية تكاد لا تختلف في شيء عن الجاهليات الشركية القديمة أو إلى طرق تعبدية موغلة في التحريف من مثل الصوفية المتفلسفة أو المغرقة في البدع العملية أما خارج الأمة فإن الأمر معلوم والعقائد التي تعمل اليوم على إختراقنا أكثر من أن تحصى تتغلف مع مطلع كل شمس جديدة بغلاف جديد وكل ذلك يحتاج إلى مقاومة علمية فكرية وهي مقاومة لا يقدر عليها علم في الشريعة بمثل ما يقدر عليها علم المقاصد الإسلامية العقدية بسبب وضوحه وجلائه وقيامه على التعليل والتقصيد القطعي الذي لا مجال فيه لقولين أو أكثر من ذلك أو أقل.



ربما نظر الدكتور النجار إلى دوران عجلة الإجتهاد العملي وهذا صحيح مطلقا ولكن من حيث الحاجة فإن الأمر مختلف ومن حيث منطقية الأمر كذلك فإن الأمر مختلف.



المعيار المحكم في ذلك هو : تأهيل الأمة لإستعادة عافية عقدية صحيحة تمكنها من القيام بدورها علميا ودعويا على جبهتين : جبهة داخلية تمكن للعقيدة الإسلامية الصحيحة المبرأة من بدع وفلسفات إلى التحريف أقرب وجبهة خارجية تمكن العقيدة الإسلامية من مناظرة عقائد عالمية لا تحصى وخاصة الفلسفة الغربية التي مازالت تغوي وتغري وتفرخ رغم صعود الصحوة الإسلامية وبروز تشوهات خلقية كبيرة وغائرة على وجه تلك العقيدة المادية الغربية.



إن ذلك في نظري من باب تقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير ولا ريب عند كل باحث أو طالب علم بأن العقيدة مقدمة على الشريعة وليس التقديم بالتحمل النظري فحسب تحملا يلقن أركانها ثم يحيل أركانا فرعية أخرى إلى الإختلاف بين المدارس قديما وحديثا ولكنه تحمل يجمع بين النص العقدي ومقصده.



ولو جاز التوسع هنا لبان بأن العقيدة نفسها رغم طابعها النظري الإجمالي لها أحكام عملية تستدعي الإجتهاد العملي وذلك فوق كونها حاكمة على ذلك العمل وموجهة له وكفى العقيدة تقديما أن الخلاف فيها خطير إلى درجة أنه يميز بين المؤمن والكافر ولكن الشريعة ليست كذلك خاصة إذا تلبست بالفقه البشري رغم أن الأمرين بينهما برزخ ما ينبغي هدمه ليحتفظ كل منهما بخصائصه.



وبالخلاصة فإن دعوة الدكتور الريسوني لبذل الإهتمام المطلوب بمقاصد العقيدة بقيت معلقة وليس من مبرر لذلك حتى لو كان المبرر هو المزيد من الإهتمام بمقاصد الشريعة تماما كما بقيت دعوة الإمام إبن عاشور في مواصلة الإجتهاد المقاصدي من أجل إستنباط قواعد أصولية مقاصدية قطعية ( ينكر على الشاطبي قوله بقطعية المقاصد ) محكمة تكون مرجعا لأولي العلم زمن الإختلاف وذلك على غرار قواعد أصول الفقه التي بحسب الإمام إبن عاشور لم تسعف الخلاف في مواضع كثيرة.



الكلمة الأخيرة هنا هي أنه بالرجوع إلى الدراسة القيمة جدا للد. النجار نفسه في موضوع دور العقيدة في إحداث النهضة المعاصرة .. يمكن لطالب العلم أن ينتصر من الدكتور النجار ولكن بالدكتور النجار نفسه.



الموضوع الثاني : حسن تحرير المصطلحات وضبطها يقرب المسافة.



هذا موضوع مزعج في هذا العلم بسبب ضربين من الباحثين : ضرب لا يعير مصطلحاته الأصولية أي إهتمام فهو يخبط خبط عشواء ويستخدمها في سلة واحدة غير عابئ بإختلافاتها ولا بضرورة التحرير الجامع المانع بما يقتضيه البحث العلمي في كل مادة وعلم وضرب يتمحل فيها تمحلا بينا ظاهرا فيصرفها تارة إلى مصرفها اللغوي ثم يعود بعد قليل إلى صرفها مصرفا أصوليا وبذلك يفسد عليك لذة طلب العلم.



ذلك أن الكلمات حتى في عمومها اللغوي تتشابه بقدر إشتراكها في الجذر وتختلف بقدر ذلك فإذا أضفت إلى ذلك محمولات علمية طارئة وخاصة في مجال أصولي من مثل علم المقاصد ما زال يتعثر ليستقل عن أصول الفقه وبصفة أخص في زمن إكتسبت فيه كثير من تلك المصطلحات في أذهان الناس مفاهيم أخرى مشتركة ومختلفة مع ما ورث بسبب وفرة العلوم وإندياحها وإشتهارها بين الناس وإزدهار الإنتاج العلمي في كل مجال وفن ومهارة .. إذا كان ذلك كذلك فإن حسن تحرير المصطلحات أمر لا مناص عنه.



كل طالب علم في هذا الفن يدرك جيدا أن المعاناة بسبب الإختلاف في تحديد كلمات من مثل العلة والسبب والمناط والحكمة والمقصد والغاية والسر وغير ذلك مما لا يكاد يحصى .. أمر يشوش على حسن فقه طالب العلم وعلى أدائه من بعد ذلك.



ربما كان الإمام إبن عاشور موفقا جدا في هذا الخصوص عندما أتجه نحو قصر العلة على دائرة القياس جليه وشبيهه أو خفيه فإذا كانت المسألة خارج نطاق القياس ( إلا المرسل منه طبعا ) إستبدل مصطلح العلة بالمقصد ومنه قريب ومنه بعيد كما ذكر رحمه الله سبحانه.



أما التعبير عن العلة ( دائرة القياس ) أو عن المقصد ( دائرة الإستصلاح والإستحسان والإستصحاب والإستعراف " نسبة إلى العرف " والذرائعية فتحا وسدا ) بالحكمة فهو في ميزان فن علمي من مثل مقاصد الشريعة ليس دقيقا.



أما إذا جدت مصطلحات حديثة من مثل الغاية والهدف وغير ذلك فإن الأمر يتوجب توقفا وبحثا.



أما مصطلح السر فربما يكون هو المصطلح الوحيد الذي ليس له من داع في هذا المقام.



إذا تواضعنا على ما نحا إليه الإمام إبن عاشور في خصوص التمييز بين مجالي العلة والمقصد بالرغم من أن الإمام الشاطبي يعلن أن التعليل هو التقصيد ومؤداه أن العلة هي المقصد .. فإنه يحسن بنا أن نتواضع بعد ذلك على التمييز بين الحكمة وبين المقصد من جهة وبين الحكمة وبين العلة من جهة أخرى كما يحسن بنا أن نستبعد مصطلحات الغاية والهدف وما في حكمهما فضلا عن كلمة السر.



ذلك أن الحكمة من الحكيم سبحانه في شريعته نؤمن بها كما نؤمن بإرتباطها بالمشيئة ولكننا لا ندركها بالتفصيل حتى لو أدركنا كثيرا منها بالجملة وربما يتراءى ذلك خاصة في مقاصد العقيدة أكثر منه في مقاصد الشريعة ولكن المقصد من أوامره ونواهيه بأي صيغة لغوية وردت أو في أي سياق جاءت يتنزل علينا فرضا البحث عنه لحسن أيلولة الأمر إليه يستوي في ذلك ما نص عليه نصا جليا أو خفيا وما نص على جزء منه متعلق بأمر برز في تلك الأيام ( أيام التشريع ) دون أن ينص على كل أجزاء المقصد وما لم ينص عليه أصلا كما يستوي في ذلك الدليل الجزئي مع الدليل الكلي بناء متناسقا متراكما حتى بلوغ المقصد الأسنى من الإسلام عقيدة وشريعة.



قد تخفى الحكمة ولكن ما يجب أن يخفى المقصد وخاصة خارج دائرة العلة أي القياس الذي عادة ما يكون في مجال التعبديات التوقيفية وما في حكمها مما يدور بها من قريب.



لا يجديك نفعا هنا أن تقتصر على اللغة بمثل أنه لا يجديك نفعا أن تستصحب الموروث في تلك التحديدات سواء عند من يحددها أو عند من يجمعها في سلة واحدة ولكن الذي يجديك نفعا هو الجمع بين كل ذلك أي إعتماد اللغة وإعتماد سياقاتها وخاصة في المصدرين الأوليين للإسلام والإستفادة من ذلك الموروث والمقصد هو : حسن تحرير تلك المصطلحات لتكون مجسدة للمفهوم مستوعبة له بصورة أقرب إلى الجماع والمنعة.



أضرب لك مثلا : درج كل من كتب في المقاصد وأصول الفقه تقريبا دون أدنى إستثناء على القول تبعا للشاطبي وغيره في الحقيقة من قبله بأن العبادات غير معللة وهو قول صحيح ولكن تنقصه الدقة كثيرا وفي فن مثل فن المقاصد لا يكون الصحيح صحيحا حتى يكون دقيقا لأن الدقة هنا هي الكفيلة بحصد ضربين من الإجتهاد الفاسد في عصرنا وفي كل عصر : الجامدون على إجتهاد السلف والجامدون على إجتهاد الخلف.



العبادات مقصدة في أصولها بنص القرآن الكريم ونص الحديث الصحيح ولكن غير المقصد فيها هي هيئاتها وصورها وأشكالها وموازينها ومكاييلها وتآقيتها الزمانية والمكانية وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة ولا يداخله الإجتهاد أبدا مطلقا بسبب أنه غيب محض ولكنه غيب غير معلل لأن هناك غيبا معللا مقصدا بل إن العقيدة وكلها غيب تقريبا معللة مقصدة مفهومة المعنى ولا يشغب على ذلك أن ذلك بإجمال بسبب أن العقيدة ذاتها مجملة لا مفصلة.



كل الفقهاء تقريبا أوردوا كلمات الشاطبي وكلمات من سبقه في ذلك الشأن ولم أجد من أشار إلى مقصد الطاعة من خلال إتباع تلك الهيئات والصور والأشكال والتآقيت والموزونات وغير ذلك مما يستعصي عن فهم العقل.



ذاك مثل يجسد نوعا من الخلط المصطلحي الذي غشي كلمات فنية لا بد منها في هذا الفن.



وبالخلاصة في هذا الموضوع الحواري الثاني في الموضوع المقاصدي عامة وحول كتاب الدكتور النجار خاصة فإنه يجب العكوف على حسن تحرير مصطلحات هذا الفن على الأسس التالية :



... إعتماد نحو إبن عاشور في التمييز بين العلة والمقصد أي بين الإجتهاد القياسي والإجتهاد الإستصلاحي بصفة عامة ويمكن توفير منطقة وسطى بينهما إن شئت هي منطقة المقصد القريب كما سماها إبن عاشور رحمه الله سبحانه.



... التمييز بين الحكمة الإلهية وبين المقصد وذلك على قاعدة أن الحكمة هي صفة للحاكم الحكيم سبحانه فهو حاكم وحكيم في الآن ذاته والحكمة والمشيئة وجهان لقطعة واحدة ولكن ليس شرطا للعبادة أن نعلم الحكمة في كل شيء ولكن نؤتى منها على قدر الإخلاص والإجتهاد أما المقصد فهو فرض علينا الإجتهاد لمعرفته لسبب بسيط معلوم هو أنه بدون ذلك يقع التصرف منا على وجه قد يؤسس للحرج والعنت فنكون عابدين في الظاهر وعصاة في الحقيقة. أي أن الحكمة من شأن الحكيم سبحانه نؤمن بها ولكن قد نظفر بها وقد نخطئها ولكن المقصد من شأننا نحن ويجب علينا إيقاع العمل على مقتضاه نظرا وعملا فإذا وقع ذلك منا فتلك هي الحكمة.



... إستبعاد ألفاظ رجراجة فضفاضة لا تجسد روح هذا الفن من مثل الغاية والهدف والسر ويكفي أن نصوص الوحي جاءت بمصطلحات المقصد مشتقا وكذلك الحكمة ولكنها لم تستخدم مثل هذه الكلمات ولو مرة واحدة ولا بأس أن يحتفظ هذا الفن بمصطلحاته الفنية التي إشتهر بها والتي جاء الوحي بها وليست بمستعصية عن فهم الناس ولا غريبة عن إستخداماتهم اليومية.



الموضوع الثالث : التنظير التعليلي الإستصلاحي أس علم المقاصد.



إذا بقي البحاثة المقاصديون والأصوليون عامة يتعرضون في كل مرة إلى ظاهرة نفي التعليل والتقصيد عن الإسلام شريعة أو عقيدة .. فإن الإجتهاد المقاصدي يتعثر لأنه يجر إلى معارك أصبحت اليوم بسبب التطورات العقلية الإنسانية المعاصرة إلى حد ما وهمية وإذا كان لا بد من مواجهة شيء من ذلك اليوم بسبب صعود صحوة دينية يغلب عليها الجهل والأمية الدينية مما دفع رموزها إلى نفي التعليل والتقصيد جملة وتفصيلا فإن تلك المواجهة يجب أن تكون هجومية كاسحة لا دفاعية إعتذارية بله أن تؤسس لذلك الإختلاف بين النفاة والمثبتين كأنما هو إختلاف إسلامي سائغ مقبول.



المراد من هذا الموضوع هو أن علم المقاصد الإسلامية إنما يتأسس على بحوث ودراسات نظرية عميقة شاملة لحمتها التعليل وسداها الإستصلاح وهي بحوث لا تكتفي بالمصدرين الأوليين ولا بحجج وبراهين المثبتين من الإسلاميين في العلوم الشرعية ولكنها تستعين على ذلك بالإنتاج البشري للإسلاميين ولغير الإسلاميين ( الإسلاميون هنا بحسب تعبير الأشعري وليس بحسب التعبير الإعلامي الشائع ) من مثل علوم الإجتماع وعلوم الإنسان بصفة عامة وخاصة علم المنطق الذي يلتقي مع علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة إلتقاء كبيرا حتى قال إبن خلدون رحمه الله سبحانه " علم أصول الفقه منطق الإسلام ".



لقد عد العلامة إبن القيم في القرآن الكريم وحده أكثر من ألف موضع للتعليل والتقصيد.



ومن المؤلفات التي إبتليت باليتم في هذا الفن هي الأخرى المؤلف العظيم للمرحوم شلبي الذي لم يكتب في موضوعه حتى يومنا هذا وهو موضوع التعليل.



المقصود من هذا الموضوع الحواري بإختصار شديد هو التأسيس لعلم مقاصد الإسلام عقيدة وشريعة من خلال بسط البحث عميقا مؤصلا في قول الحق وقول الخلق معا ومعهما تصاريف الواقع إثباتا لنظرية التعليل والإستصلاح في الخلق الكوني والإنساني فإذا تم ذلك وغدا ثقافة إسلامية عند طلبة العلم على الأقل يندحر القول بنفي المقاصدية عن الإسلام عقيدة أو شريعة ثم يستوي أمر الحياة طورا بعد طور ويستقيم على مراد الرحمان سبحانه ومن مراده سبحانه تلازم الحق والباطل والرذيلة والفضيلة والخير والشر حتى تقوم الساعة تلازم إبتلاء وتدافع.



ولربما لا يقف حجر عثرة معتبرة في وجه ذلك الإثبات سوى العلامة الفقيه إبن حزم عليه رحمة الله سبحانه ولكن يجب على طلبة العلم حسن إستيعاب الدوافع التي جعلت ذلك الفقيه الكبير الثائر الموسوعي علما وعملا يهجم بلسانه السليط جدا على القياس وعندما يدرك طلبة العلم ذلك يتفهمون الأمر حتى لو لم يوافقوا إبن حزم الذي نفي القياس وإستخدمه في الآن نفسه. لم يجن عليه في ذلك سوى نزعته العاطفية الثائرة الهائجة رد فعل قاس على آلية القياس التي حولها الإنحطاط في الشروح والحواشي على المتون المستغلقة إستغلاقا إلى ما يشبه الآلة الميكانيكية الجامدة التي تستخرج منها الأحكام والفتاوى بمثل ما تستخرج اليوم علبة سجائر أو قطعة حلوى أو مشروب في المدن من آلة صماء منصوبة في شارع أو في حانة أو مقهى إذ بمجرد أن تقذف فيها قطعة نقدية تلبي لك حاجتك ولا يتسع المجال هنا لإنصاف ذلك الفقيه الأصولي الكبير ولكن يجب أن نميز بينه وبين من ينفي التعليل أو الإستصلاح إما عن جهل بالشريعة أو عن تحكم حزبي وتعصبا لفرقة أو مدرسة كلامية أو أصولية أو فقهية أو غير ذلك.



كما يمكن لمبحث آخر عادة ما يطرقه البحاثة الأصوليون أن يجد طريقه تابعا وتاليا لنظرية التعليل والتقصيد والإستصلاح وهو مبحث الحاجة إلى العلم بالمقاصد حاجة علمية وحاجة عملية ولكن ذلك العلم يجب أن يكون منطلقا من إثبات نظرية التعليل منطقيا ثم شرعيا وواقعيا كذلك عملا بأن الأمر كله من مشكاة واحدة وسبحان من له الخلق وله الأمر وسبحانه من هو في السماء إله وفي الأرض إله.



الموضوع الرابع : توصيف الإجتهاد العمري.



من أراد أن يدرك حقيقة الثورة العاطفية التي يحدثها الإسلام في الإنسان فإن أقصر سبيل إلى ذلك هو دراسة شخصية عمر إبن الخطاب قبل الإسلام ( حادثة وأد إبنته مثلا وحادثة صنع إله من الحلوى ثم أكله مثلا آخر ) وبعد الإسلام ( حادثة التحدي في الهجرة مثلا ثم تدبيره إماما للمسلمين يوم لم تكن تشرق الشمس ولا تغرب إلا على مملكة واسعة مترامية الأطراف يديرها ذلك الرجل الكبير الذي جدد في الفقه الأصولي بمثل ما جدد في الفقه الإداري بمثل ما جدد في فتح الأرض بالإسلام ).



إجتهد الرجل في حوادث كثيرة إجتهادا فقهيا أصوليا ولم يجد وقتا لتدوين ذلك الإجتهاد وتحبيره ولم يجد من حوله كذلك وقتا لذلك فلما جثم الإنحطاط على الناس نفوسا وواقعا لجأ الناس إلى التدوين ولكنهم ظلوا متفرقين في صياغة أدبية تحسم بينهم توصيف فعله عليه الرضوان في مثل حادثة حد السرقة عام الرمادة.



لو لم يصبنا من الإنحطاط الذي جلب الإحتلال والغزو علينا سوى ذلك لكفانا : الرجل يجتهد ويمضي ثم يختلف الناس في توفير كلمة تجسد إجتهاد الرجل. الرجل يحل المعضلات بعقله الفقهي الأصولي العظيم ومن جاء بعده لا تسعفهم كلماتهم حتى من أجل توصيف فعل ذلك الرجل العظيم. أي نكبة أشد من هذه النكبة؟



حتى لا أطيل عليك سيدي القارئ الكريم أرشدك إلى الرجوع إلى مؤلفات الإمام القرضاوي ذات الموضوع المقاصدي أصالة أو من خلال بحوث داخلية لتدرك أصل المشكلة وربما تكون دراسته الأخيرة حول المقاصد ( 2007 ) كفيلة بذلك وذلك لنتفرغ في هذا الموضوع إلى ما يتصل به من الكتاب الذي نحن بصدد حشد الحوار حوله.



قال الدكتور النجار في هذا الشأن : " .. حينما أجل تطبيق حد السرقة في المجاعة .. أي تأجيل التنزيل ". يستخدم الدكتورالنجار آلية التأجيل في هذا الصدد منذ زمن بعيد والحقيقة أنه عند تعميق البحث في هذا الأمر فإن توصيف الدكتور النجار وتوصيفات أخرى كثيرة ليست دقيقة بل ولا صحيحة أصلا أو مناسبة لصنيع عمر.



المسألة هنا ليست مسألة مصطلحات يمكن التغاضي في شأنها ولكنها مسألة دقة في التوصيف توصد الباب أمام من يريد إهتبال صنيع عمر عليه الرضوان للقول بتأجيل نفاذ حكم قطعي بات من أحكام الشريعة وهو إتجاه معروف اليوم في الأمة أو منها ونحن معه في معركة حامية الوطيس.



ودون إطالة فإن خير من بحث في هذه التوصيفات هو الإمام القرضاوي الذي تبنى توصيفا دقيقا مناسبا وصحيحا للشيخ المدني.

وخلاصة ذلك التوصيف هو أن عمر لم يؤجل تطبيق الحكم عام الرمادة ولكن كل ما فعله عمر عليه الرضوان هو أنه إجتهد لتطبيق الحكم فلم يجد محله.



التوصيف الصحيح المناسب الدقيق هو : " غياب المحل ". وواضح الفرق بين هذا التوصيف وبين القول بالتأجيل أو الإستثناء أو غير ذلك مما قد يكون صحيحا في مواضع أخرى ولكنه في هذه الحادثة لا ينطبق عليها حبة خردل.



إن هذا الأمر يلبس على الناس دينهم وليس ذلك قاصرا على طلبة العلم بل يتعداه بسبب إندياح العلوم وإنتشارها على ألسنة الشبكة العنكبوتية والفضائيات وغير ذلك من وسائل الإعلام الهادرة المائجة .. إلى عموم الناس وبذلك نساهم بعدم إلتزامنا للتحرير العملي الدقيق الصحيح الثابت المناسب لأي إجتهاد في السابق أو اللاحق في زلزلة فكرية وخلخلة عقدية خطيرة تصيب أولئك الذين يتلقون دينهم عن مثل تلك الوسائل أو عن كل متحدث هنا أو هناك دون تمحيص ولا تبين ومعلوم كما ذكرت آنفا أن جبهة العلمانيين يجدون في كل ذلك مرتعهم الخصب سيما عندما يتلبس داعروهم بلباس الدين ويتمسحون على أعتاب علومه الشرعية ليهدموه من الداخل.



لذلك أدعو الدكتور النجار إلى تبني نتيجة التحقيق الذي يفرز بأن أحكام الشريعة لا تحتمل تأجيلا ولا إستثناء ولكن كل ما في الأمر هو أن محل التنفيذ يغيب فيغيب معه التطبيق بشكل آلي مفهوم أما مواصلة القول بالتأجيل والإستثناء وغير ذلك من الآليات فإنه إذا كان له مساغ في صفوف طلبة العلم فإنه يحدث أثرا سيئا جدا عند غيرهم ثم يهتبله أعداء المشروع الإسلامي شر إهتبال وأظن أننا في سعة أدبية وعلمية وفي غنى كذلك عن تيسير تلك الآثار. والله أعلم.



الموضوع الخامس : لا بد من الأخذ بكل التقسيمات في علم المقاصد.



وجد هذا الموضوع حظه في كتاب الدكتور النجار الذي عرض علينا مقترحات أخرى لفقهاء معاصرين يتبنون إعادة التقسيم الداخلي لسلم المقاصد الشرعية على أسس جديدة منهم الدكتور العلواني صاحب النظرات الثاقبة جدا في العلوم الشرعية شأنه في ذلك شأن الدكتور الترابي وكلاهما يمتاز بإتساع وشمول الإستيعاب المنهجي الصحيح والدقيق للقرآن الكريم ولكنهما يختلفان عن الإمام القرضاوي ببسط ما إنقدح لهما في إجتهادهما دون رعاية بعض المعطيات الواقعية وهذا معروف لطلبة العلم الذين يتابعون إنتاج هؤلاء الثلاثة وغيرهم ولا فائدة الآن في الإنبساط فيه لأنه ليس من صلب موضوعنا.



إنحاز الدكتور النجار لضرب محدد من إعادة تقسيم المقاصد الشرعية في علاقاتها الداخلية وذلك على أساس محورية الإنسان كما بينا آنفا ( أول موضع من مواضع التجديد في دراسة الدكتور النجار).



ولكن الذي أريد قوله هنا هو أن التقسيم الذي أشار إليه الدكتور النجار ولم ينحز إليه جدير حقا بالعناية والإهتمام وهو التقسيم الذي يصنف المقاصد على أساس أنها مقاصد سياسية وأخرى إقتصادية وأخرى إجتماعية وغير ذلك.



أهمية هذا التقسيم تكمن في كونه تقسيما مناسبا جدا لحياتنا المعاصرة من ناحية وكذلك من حيث أن المجال السياسي اليوم في الحياة الدولية والمحلية وفي كل تجمع تقريبا حتى لو كان جمعية ثقافية .. تغول وهيمن على ما سواه فهو الذي يقود ويخطط وينفذ ويراقب ويتابع ويجازي ويعاقب ويصحب الناس في أذواقهم وفي بيوتهم وحجراتهم الداخلية فضلا عن أماكن عملهم وأسواقهم ولا أظن أنه يمكن لواحد أن يعترض على تضخم ذلك الجانب تضخما كنز الأمر كله تقريبا في المجالين الدولي والعربي والمحلي في جهاز الدولة حتى إنك لتلاحظ اليوم بأن كل الناس ـ لم أجد إستنثاء إلى حد الساعة أبدا ـ عندما يتكلمون عن البلاد يعبرون بمصطلح الدولة. أجل. الناس ولا أقول وسائل الإعلام التي تهدم التركيب اللغوي لبنة بعد لبنة بفأس صلب من حديد. ذلك مؤشر لو أردت إلتقاطه من أفواه المتكلمين وأقلام الكتاب لأعياك الأمر لأنك لن تظفر بواحد على وجه الأرض يقول لك : البلاد أو البلد بل يقول لك : زرت دولة كذا وذهبت إلى دولة كذا ورجعت من دولة كذا وكل الناس يقصدون البلاد وليس الدولة ولكن بسبب تضخم الجانب السياسي وإحتكار الدولة له إحتكارا ألغى كل شيء من قبله ومن بعده .. وقر في لا وعي الناس ولا شعورهم بأن البلاد هي الدولة والدولة هي البلاد والحقيقة أن الدولة جزء من البلاد وليس العكس.



لا يهمنا ذلك بقدرما يهمنا تقرير هذه الحقيقة وهي تسلط السياسة على كل شيء تقريبا فأصبح الإقتصاد خادما والإجتماع رهينة والثقافة ساعية وكل ما في الأرض يخدم السياسة والسياسيين وإذا كان ذلك كذلك فإنه مناسب لعلم مقاصد الشريعة أن يبين للناس من طلبة علم وغيرهم مقاصد الإسلام السياسية ومقاصده الإجتماعية ومقاصده الإقتصادية ومقاصده الحربية والعسكرية وبخاصة مقاصد المقاومة اليوم ومقاصد الجهاد فيه بسبب إلحاحية الموضوع المطروح دوليا على أوسع مدى ممكن ومقاصده الثقافية والفكرية ومقاصده التربوية والتعليمية ومقاصده الإعلامية وغير ذلك مما لا يحصى من مجالات.



ذاك تقسيم بالخلاصة جدير بالبحث والإهتمام.



ولكن مخ هذا الموضوع هو : كل تلك التقسيمات التي تبناها الدكتور النجار والتي أقترحها الدكتور العلواني وغيرهما كثير مما لا يكاد يحصى ( مقاصد العقيدة بمثل ما إقترح الدكتور الريسوني كذلك)

كل تلك التقسيمات جديرة بالبحث والتدوين والإجتهاد وذلك لبسط أوسع منطقة ممكنة ومساحة فكرية وعلمية ممكنة عن علم مقاصد الشريعة سيما أن الناس من طلبة علم وغيرهم وعلمانيين مهتمون بموضوع المقاصد فلم لا نلقتط إهتمامهم ونبسط لهم إجتهادنا في مقاصد الإسلام بحسب المجالات التي يعيشونها اليوم بشكل معروف متميز كثيرا عما عاشه من سبقنا قبل عقود أو قرون.



معنى ذلك هو أن ندخل على الناس بمقاصد الشريعة ( عقيدة وأحكاما ) من كل باب ممكن ليجد كل مهتم بمجال ما ضالته فيه لعله يزداد علما أو فقها أو إنضباطا سلوكيا أو تندفع عنه شبهة أو غير ذلك مما ييسره ربك سبحانه.



أعني أنه يمكن الجمع بين طريقتين في الإجتهاد المقاصدي : طريقة تقدم لطلبة العلم وهي الطريقة التي ألف بها الإمامان الشاطبي وإبن عاشور وشبيها بها ما كتبه الدكتور الريسوني والدكتور النجار والإمام القرضاوي وغيرهم وهي طريقة تتسم بالمنهجية العلمية والضبط المصطلحي والبحث التنقيبي بما يتطلبه من جدال وتعقيب وتحرير وطريقة تقدم لغيرهم من عموم الناس وهي الطريقة التي تبسط هذا العلم لكل الناس بلغة عصر مناسبة مفهومة سلسة تدون فيها مقاصد الإسلام السياسية والإجتماعية والجهادية والمالية وفي كل حقل نشاط.



الموضوع السادس : تفعيل مقاصد الشريعة لخدمة أكبر التحديات المعاصرة.



لحسن إستيعاب مدلول التفعيل لا بد من الرجوع إلى الشطر الثاني من كتاب الدكتور النجار ولكن المقصود من هذا الموضوع الحواري الجديد هو تحديدا :



إعداد خارطة طريق لأكبر التحديات العظمى التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم من أجل الإستعانة عليها بوسائل شتى منها : تفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية تفعيلا يبين أولا مقاصد الإسلام في تلك الحقول من التحديات ويبين ثانيا كيفيات الإستعانة بالمقاصد لحل تلك المشكلات الكبرى يوما بعد يوم إذ ما من شك في أن المشكلة في جانب كبير منها مشكلة فكرية عقلية ذهنية مصداقا لقوله سبحانه " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ".



لا أظن أن التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة اليوم تخرج عن هذا النطاق التالي :



... تحدي المقاومة تحريرا للأرض المحتلة في فلسطين خاصة لخصوصية الأرض هناك دينيا وتاريخيا وحضاريا ولخصوصية المحتل هناك كذلك ناهيك أن القرآن لم يتمحض لقضية بعد التوحيد تمحضه لتلك القضية. يكمن تقديم ذلك التحدي على كل التحديات التالية بسبب أن ميزان التحرر والإستعباد في الكيانات القطرية التابعة عربيا وإسلاميا إنما يتحرك في كل الإتجاهات تبعا لنبض المقاومة هناك فكأنما العالم العربي والإسلامي اليوم وعوالم أخرى كثيرة في الحقيقة منها أوربا ولو جزئيا ونسبيا والوجود الإسلامي فيها وفي الغرب بشكل عام .. كأنما كل ذلك يتغير في كل الإتجاهات التي نريد والتي لا نريد إستجابة لوقع النبض هناك فهي قضية مقدمة بل هي مفتاح التحرر هنا ومفتاح النماء هناك وكل تنكب عن تلك القراءة المنهجية هو تنكب عن المسك بأم المنهاج الأسلم والأبقى في حلقة التغيير الطويلة العريقة. بكلمة مختصرة جدا : نتحرر من الإستبداد الداخلي في تلك الكيانات العربية والإسلامية التابعة الذليلة بقدر تحرر الأرض المحتلة وتقدم المقاومة لسبب بسيط مفهوم معلوم وهو أن الذي يحتلنا هناك هو الذي يفرض إرادته على أذيال الخيبة في تلك الكيانات العربية والإسلامية بحكم فقدانها للشرعية والمشروعية معا ولكن كل ذلك لا يعني سوى أن بناء ميزان يخدم التحرير هناك والتحرر هنا هو المعول عليه في دفع حركة الحرية هنا وهناك مع مطلع كل شمس إلى الأمام.



... تحدي الإستبداد السياسي الداخلي وهو تحد مرتبط بأمرين أولهما ما أشرت إليه آنفا في تحدي الإحتلال الصهيوني لفلسطين وثانيهما هو أن الإستبداد السياسي هو العقبة الكأداء التي تطحن الحريات في كل مجال وحقل حتى لو كانت حريات شخصية خاصة جدا بسبب تسلط السياسة والدولة على كل نشاط وحقل في الحياة دون تمييز بين شأن عام وشأن خاص أما من يريد تجاهل ذلك فقد حكم على حركته بجني ثمار قليلة جدا لا تكاد تسمن ولا تغني من جوع ولو كان ذلك بإسم النأي بالنفس عن مشاكل المعارضة السياسية أو توفير ملجإ آمن للدعوة ولو كانت في شكل حلقة لتحفيظ القرآن الكريم التي لا تستأمن على نفسها إلا بحماية سياسية أخرى تفوقها ولكن على كل حال يجب التوازن في ذلك لخدمة سنة التكامل بين الأشياء وبذلك نحقق أفضل منهج في التغيير نص عليه ربك سبحانه في قصة يوسف عليه السلام " إدخلوا من أبواب متفرقة ". هو تفرق في الزمان والمكان وحقول النشاط ولكن القائمين على كل ذلك يجب أن يكونوا على أدق الوعي بأنه تفرق تفرضه المعطيات الواقعية ولكنه تفرق مفروض ستلتئم حلقاته إن شاء الله تعالى بعد عقود أو قرون عندما تنضج تلك الظروف ويلتقط العمل جيل آخر وأجيال أخرى.



... تحدي الثقافة العلمانية والتفكير اللائكي وهو تحد متركب من جانبين : جانب سياسي وجانب ثقافي. الجانب السياسي فيه يعني أن كثيرا من أولئك يستخدمون السلطة والدولة وقواتهما المعنوية والمادية لضرب المشروع الإسلامي من موقع التمترس أما الجانب الثقافي فيه فيعني أن الإجتهاد الفكري والشرعي والعلمي من لدن الإسلاميين من علماء وفقهاء وطلبة علم وغير ذلك فريضة العصر ما ينبغي التأخر عنها لأن التأخر الفكري سبب كبير جدا من أسباب إنحطاطنا وتأخرنا ووجودنا اليوم في ذيل القافلة بل خدمة أذلة لأسياد القافلة فلا يغرنا أن ذلك التحدي هو إلى زوال بسبب سقوط الشيوعية ومذاهبها الغربية وبناتها الشرقية ذلك أن العلمانية التي هيمنت على قطاعات التوجيه والتربية والإعلام والتعليم في كل بلاد عربية وإسلامية تقريبا إنما تصنع المستقبل للناشئة المسلمة وتبني العقول وتصدر صورة عن الإسلام أدناها أنه دين لا دنيا فيه أو أنه مصحف لا قوة فيه فالمعركة إذن ليست في محو الدين فالدين تكفل به ربك سبحانه ولكن المعركة معهم هي معركة عقلية ذهنية قوامها أن المسلم يظل طول حياته مسلما ولكن مسلما جزئيا في عقيدته وعبادته وبعض من أحواله الشخصية .. يظل كذلك في أحيان كثيرة ومناطق كثيرة فكرا وثقافة فإذا ما قامت حركة إسلامية عارضها وقاومها أو وقف حيالها موقف السلبية والسبب هو أن عقله كان وسيظل عقلا علمانيا لائكيا وذلك هو مدلول قوله عليه الصلاة والسلام في شأن الذرية " يولد الولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " أي يهودان عقله وينصران فكره ويمجسان خلقه رغم أنه يحمل إسما عربيا إسلاميا ويلتزم ببعض عبادات الإسلام ولكن عقله صنع بعيدا عن فكر الإسلام وثقافة الإسلام. المعركة إذن مع العلمانية هي حول الإسلام وليس حول الدين.



... تحدي الحركة الإسلامية المقاومة سلميا للإستبداد الداخلي ومظاهر التخلف المختلفة وهو تحد شديد الإرتباط بالتحديات السابقة : تحدي العلمانية على أساس أن الذي يقاوم المد العلماني المتمترس بقوى السلطة وعصا الدولة وتحدي المقاومة على أساس أن الصحوة الإسلامية المعاصرة هي العمق الخلفي النابض لحركة المقاومة العسكرية في الأرض المحتلة تعزرها بالفكر والثقافة والفن ومقاومة التطبيع وغير ذلك مما لا يدخل الآن في موضوعنا وتحدي الإستبداد السياسي على أساس أن الحركة الإسلامية هي رأس الحربة في مقاومة ذلك الإستبداد تقدم الشهداء والمساجين والملاحقين والمنفيين قربات بعضها فوق بعض عربون صدق وإخلاص وتصحيح مسار حافل بالجهاد والمجاهدة حتى تنبلج أنوار الفجر الإسلامي الصادق شعاعا بعد شعاع. هذا التحدي مطلوب منه التركيز على وحدة الصحوة ووحدة الحركة في الأهداف الكبرى والإستراتيجيات العظمى مع ضمان حق الإختلاف في الخطط والبرامج وتنوع الأعمال والتخصصات وغير ذلك ولكنه يبقى دوما تحديا على طبقة العلماء والفقهاء رعايته وتنضيجه.



... تحدي الوحدة الإجتماعية لكل شعب ثم للأمة بأسرها بالتدرج لبنة بعد لبنة ذلك أن وحدة الأمة مهددة فعلا بالإنقسامات التي يغذيها الإحتلال وأعداء الإسلام ومشروعه في أروبا وأمريكا وبخاصة السرطان الصهيوني المتمكن من أجهزة التنظير والتخطيط في مناطق النفوذ في العالم ولا شك أن وحدة الأمة مقدمة على كل ما سواها إذ لا صون لهوية الأمة دون صون لوحدتها وهو مقصد إسلامي ضروري عال لا مجال للإختلاف فيه ولا حوله وقد أشار إليه الدكتورالنجار في دراسته هذه إشارات جيدة قيمة جلية من خلال مقاربة مقصد ضروري أسماه حفظ المؤسسة الإجتماعية ولا مشاحة في المصطحات في هذا المضمار.



لو نخلت كل الإجتهادات لألفيت مخها وزبدتها أمرين لا ثالث لهما : الوحدة والحرية. هما قاربا النجاة للأمة ولا شيء سواهما بسبب أنهما يشكلان المنهج الأقوم لرفع التحديات الأخرى. الوحدة والحرية أغلى مقاصد الإسلام المنهجية أي التي يمكن تفعيل بقية المقاصد فيهما وليس على هامشهما ولا خارجهما أي أنهما الإناء الذي لا بد منه قبل الحديث عن أي مقصد.



... تحدي التعليم والإعلام والتربية وما يمكن حصره في تلك العائلة. عائلة العقل وثمرته الفكر. وذلك بسبب أن مشكلتنا فكرية بالأساس فلا تتحقق وحدة الأمة ولا تحررها دون أن يكون ذلك أولوية فكرية في العقول والأذهان ولذلك يمكن أن يفرط أي نظام في أي شيء ولكنه لا يفرط في مقود التعليم الذي يضمن هويته أو يمكنه من الهوية التي يريد بناءها أو فرضها وليس صحيحا أن النظم تتمسك بالمقاود الأمنية والعسكرية فحسب أو تقدمها فتلك قراءة المتعجلين أو المستخفين ولكنك إذا دققت النظر في البلاد العربية وخارجها فإنك لاف بأن كل نظام لا بد له أن يضمن لنفسه تواصلا بحماية منهج التعليم والتربية والإعلام الذي يريد حفظه لا يشغب على ذلك أنه أطلق الحرية الإعلامية أو أغلقها.



التحدي التعليمي وما في حكمه من تربية وعلم وإعلام وغير ذلك هو تحدي المستقبل أو هو الأمانة التي نريد تسليم مشعلها للأجيال القادمة فإذا فرطنا في ذلك فرطنا في كل شيء وإذا ضمنا حدا أدنى من ذلك ضمنا اللقاح الأصيل الذي يحفظ كل المقاصد الشرعية.



تلك بعض التحديات المركزية الكبرى.



المقصود من هذا الموضوع الحواري الجديد هو :



ترتيب الإجتهاد المقاصدي المعاصر على أساس تقديم أولوية خدمة تلك التحديات الكبرى حتى يتطابق العلم فينا مع العمل فلا ينفصلان إذ أن العلم يعتبر صحيحا إذا خدم الناس في مصالحهم ووجه عقولهم إلى تقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير وذلك هو العلم النافع أي الذي يتصدى للمشكلات الواقعية المعاصرة جامعا بين أصالة الإسلام الذي شمل كل شيء وبين متطلبات العصر وبذلك يجد الإجتهاد العلمي مكانه فلا يضطر أحدنا ليكون بوقا لسلف أدى ما عليه وقضى إلى ربه وأفضى له ما كسب وعليه ما إكتسب ولا بوقا لخلف يخدم الآن أمته وشعبه وقيمه التي تتناقض بالضرورة مع قيمنا نحن.



ليس في المسألة تطويع علمي أو شهادة زور ولكن المسألة هي حسن إلتقاط متطلبات العصر والبحث في الإسلام عن شفاء لها لا أكثر من ذلك ولا أقل.



الموضوع السابع : إجتهادان مقاصديان ناقصان : العقيدة والعبادة.



أما موضوع مقاصد العقيدة التي نادى بها الدكتور الريسوني منذ سنوات فقد تم التعرض له ولكن بقيت كلمة أخرى في المستوى ذاته وهي : ضرورة إفراد العبادة في الإسلام بمقاصدها الخاصة ضمن شبكة المقاصد الإسلامية العامة ومقصدها الأسنى المعلوم عند الناس كافة.



لا يشفع لنا قولنا أن مقاصد الشريعة تضم إليها مقاصد العقيدة ومن باب أولى وأحرى مقاصد العبادة لأن ذلك تعميم لا يسمن ولا يغني من جوع من ناحية ولكن الأهم من ذلك هو أن خصوصية كل من العقيدة والعبادة في الإسلام عن الشريعة بمعناها العام والخاص معا تستوجب إفراد ذينك الجانبين بدراسة تبحث مقاصدهما.



مسوغ آخر هو أن مقالة الإمام الشاطبي ومن قبله ومن بعده في أن العبادات تمضى وفق توقيفياتها دون حاجة إلى البحث عن عللها ومقاصدها بخلاف المعاملات .. تلك قالة كما بينت في بعض المواضع آنفة الذكر صحيحة من حيث الجملة خاطئة من حيث التفصيل. كيف لا والعبادات التوقيفية التي هي أركان الإسلام بنص أحاديث مشهورة منصوص على مقاصدها في القرآن الكريم نفسه والحديث الشريف ذاته؟



الحقيقة أن الله سبحانه عندما يعين مقصدا في القرآن الكريم ( مقصد العبادات مثلا ) إنما يريد منا التشبث بذلك المقصد ثم بناء مقاصد أخرى عليه فوقه أو تحته إجتهادا في توسيع تلك الدائرة ولو ضربت لك مثلا واحدا لكفاك ( الصلاة مثلا التي عين مقصدها بكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر مرة وبكونها للذكر مرة أخرى ومقاصد أخرى معينة .. تحتمل مقاصد أخرى وخاصة تلك المقاصد التي يجنيها المصلي والجماعة المصلية في الدنيا إذ يعلم كل واحد منا اليوم أن الصلاة مدرسة في الحياة بأتم معنى كلمة مدرسة في الحياة فيها مقصد الزمن من خلال إرتباطها بتآقيت زمنية وفيها مقصد المكان من خلال إرتباطها بمآقيت مكانية وفيها مقصد الجماعة بل ربما هو أبرز مقاصدها في المستوى الكلي من خلال فرض صلاة جماعة مرة في الأسبوع هي صلاة الجمعة وفيها مقصد الطهارة النفسية والبدنية وطهارة الثياب والمكان وفيها مقصد الزينة من خلال التطيب والغسل وكراهة أو حرمة أكل ما يبث روائح كريهة حتى من غير الثوم والكراث والبصل وفيها مقصد التنظيم والترتيب من خلال تسوية الصفوف وفيها مقصد الحق والإذعان له من خلال إصلاح خطإ الإمام بالتسبيح أو بتصحيح القراءة وفيها مقصد حرمة الفرد حتى لو كان مأموما لا إماما من خلال حقه في الإصلاح وفيها مقصد الجماعة من خلال التأسي بالإمام حتى في حال خطئه قبل ورود مظان الإصلاح وفيها مقصد الجبر للأعمال ومقصد التوبة وعدم اليأس من خلال جبر بعض أعمالها وأقوالها بالسجود أو غير ذلك وفيها مقصد العلم بالقرآن الكريم تلاوة وقراءة من خلال الإمامة وشروطها وفيها مقصد العلم مطلقا وشتى صنوف العرفان والإهتمام بالشأن العام من خلال خطبة الجمعة التي هي جزء من صلاة الجمعة ومقاصد أخرى لا تكاد تحصى وكلها مقاصد لم يذكرها الوحي الكريم وهي متحققة فينا بالضرورة والمطلوب هو التشبث بالمقصد العام الذي ذكره الوحي في عبادة الصلاة مثلا ثم الإجتهاد من خلال معافسة الواقع وتلمس أثره الصلاة والجماعة والعلم في النفوس وفي الواقع من أجل الكشف عن مقاصد أخرى وكلها معلومة معروفة لا نكير عليها ).



الأمر ذاته ينسحب على العبادات التوقيفية الأخرى من مثل الزكاة والصيام والحج والذكر والتلاوة وغير ذلك مما ينتمي إلى دائرة العبادة التوقيفية من مثلا صلاة الجنازة وصلاتي الخسوف والكسوف وصلاة العيدين وصلاة الحاجة وصلاة الإستخارة إلخ ..



المهم هنا ليس الإحصاء والضبط ولكن المهم هو أن العبادات التوقيفية المعروفة التي هي أركان ركينة في الإسلام بنص القرآن والحديث والإجماع لها مقاصدها الخاصة وليست مما يمكن دمجه في مقاصد الشريعة أو مقاصد العقيدة بطريق الخصوص إلا بطريق العموم وطريق العموم ليس خاصا بالإسلام دينا ولكنه عام يشمل الإنسان والجان والملك والكون وكل موجود مخلوق أبدا طرا مطلقا.



لا يشفع لنا تغييب ذلك كون العبادات مبناها العلة بتعبير الإمام إبن عاشور لا المصلحة والمقصد كما لم يشفع لنا كون العبادات غير معللة ولا مقصدة وهي كلمة صحيحة ولكنها مضللة إذا لم يحسن طلبة العلم حسن فقهها.



كل ذلك من أجل أن ننتهي إلى مقصد الطاعة التي لم يوفه باحث حقه لا في القديم ولا في الحديث إلا الإمام الشاطبي الذي جدد في الأمر بقوله : مقاصد المكلف من الإسلام ولكن ذلك البحث الجديد توقف من بعده توقفا شنيعا ولم يجد من يحييه.



التعلل بكون العبادات غير معللة ولا مقصدة تذرع إلى الجهل أقرب منه إلى حسن الفقه ولم يكن البحث يوما في الإسلام جريمة بل فريضة إلا أن يكون بحثا في ما ند عن العقول من مثل بعض حقائق العقيدة تكييفا وتجسيما وتشبيها أو أن يكون بحثا تائها في الهيئات والصور والأشكال والتآقيت الزمانية والمكانية والموازين والمكاييل والمقادير وغير ذلك مما يكون في المعدودات والكفارات ومما لا يداخله الإجتهاد أبدا وما عدا ذلك فإن الإجتهاد فيه مطلوب وأدل دليل على ذلك هو أن الله سبحانه سمى لتلك العبادات كلها ( التوقيفية الخمسة فضلا عن الذكر والصدقة عامة ) مقصدا بل مقاصد فبأي حق نظل نردد بأن العبادات لا يداخلها الإجتهاد المقاصدي.



إن المقصد الأسنى من كل ذلك هو أن ننتهي إلى أمرين : أولهما غلق مجال العبادات في مناطقها المغلقة أن يطأها الأجتهاد العلماني الحديث حفظا لإجماع الأمة ولدينها وهو مطلب معاصر مهم جدا وثانيهما هو أن نقر بأن الطاعة بالغيب لله سبحانه وحده من لدن الإنسان العبد الحر وهو مكسب كبير جدا بل إن آيات الكتاب ومتون الحديث تنطق به نطقا فكيف لا يجد ذلك طريقه المناسب إلى تقريراتنا الأصولية المقاصدية؟ هل لكونه ملعوما من الدين بالضرورة لا يحتاج إلى تقرير أم لكوننا غفلنا عن مقاصد العقيدة ومقاصد العبادة؟



أجل. ذلك ما أعتقده. غفلنا عن مقاصد العقيدة وعن مقاصد العبادة معا وظللنا نجتهد ـ إن صح أننا نجتهد ـ في مقاصد الشريعة متعللين بأن الشريعة تضم العقيدة والعبادة والمعاملة وذلك كلام عام لا يغني من الحق شيئا في هذا الموضوع وتلك هي طبيعة كل عموم مع خصوصياته.





الموضوع الثامن : شروط الأخذ بالمصلحة المرسلة.



هذا موضوع حدد له الإمام الغزالي شروطا ثلاثة ( أن تكون ضرورية بالمعنى الخماسي التقليدي للمصالح الضرورية وأن تكون كلية وأن تكون قطعية ) ثم جاء الإمام الشاطبي فتوسع وقال هي شروط ثلاثة ( أن تكون معقولة في ذاتها خاجة عن دائرة التعبديات وأن تكون ملائمة لمقاصد الدين في الجملة غير مصادمة لأصل أو دليل وأن ترجع إلى حفظ ضروري أو حاجي أي أنها مما يتم به الواجب فهو واجب أو هي وسائلية لا مقاصدية ) ثم جاء الإمام القرضاوي فوافق الإمام الشاطبي وزاد شرطا رابعا ( أن تكون مصلحة حقيقية لا وهمية ينعي بذلك على العلمانيين الذين يمرقون من الإسلام بإسم مقاصده مروق السهم من رميته ).



الدكتور النجار في بحثه القيم هذا أتى بأمرين جديرين جدا بالإهتمام :



أولهما أنه نفذ طلب فقهاء كثر معاصرين نادوا منذ سنوات طويلة منهم الريسوني والقرضاوي والعلواني بل منهم جهابذة هذا الفن من مثل إبن تيمية وإبن القيم وغيرهما وكل أولئك نادوا منذ قرون وعقود بأن حصر المصالح الضرورية في ذلك التركيب الخماسي المعروف ليس أمرا توقيفيا ولا نهائيا بل يحتاج إلى إجتهاد ... الدكتور النجار كان من بين المنادين بذلك هو الآخر منذ سنوات طويلة وها هو ينفذ ذلك الطلب في الزمان المناسب من خلال إضافة مقصد البيئة مقصدا ضروريا وربما قارب الإجتهاد ذاته عندما تحدث عن المؤسسة ولكني لم أنسجم بالكلية مع صياغاته التي نبذت مصطلح الجماعة وإستبدلته بالمؤسسة وكان يمكنه أن يعكف حول الجماعة مقصدا إسلاميا ضروريا أصليا أصيلا ولكن بلحم ودم المصطلح القرآني ذاته وكذلك مصطلح السنة أي الجماعة وليس ذلك من قبيل أنه لا مشاحة في المصطلح إذ القاعدة الأصولية تلك ليست على إطلاقها ولكن على كل حال نفذ الدكتور النجار إلى المطلب الذي عمره قرون طويلة من خلال مقصد البيئة أولا ومن خلال مقصد الجماعة ثانيا.



ثانيهما أنه وفر علاقة ( هي جديدة علي أنا على الأقل ) بين العمود الفقري لعلم المقاصد والتسمية له هو كذلك ( أي كون وجه التقسيم الأشهر والأقدم للمقاصد هو العمود الفقري لها أي الذي يتكون من الضروري والحاجي والتحسيني ). وفر علاقة يعجز قلمي عن وصفها وهي بدون أدنى مبالغة أشد ما شدني في كتابه هذا إلى جانب مقصد البيئة بطبيعة الحال وبنائه للمقاصد بناء محوره الإنسان. علاقة لا بد من الرجوع إليها في مظانها في الكتاب من لدن كل طالب علم مهتم بهذا العلم جاد في طلبه. علاقة تجعل إرتباط تلك الدوائر الثلاث في شكل يجتمع فيه الوصل مع الفصل معا وبين أن حفظ الضروري لا يكون إلا بحفظ الحاجي ولكن ليس في الحاجي بل في الضروري نفسه وذلك من خلال إعتماده طريقا علميا يقوم على حشد أسباب الحفظ ووضع أسباب التلاشي.



الذي جرنا إلى هذا الحديث هو معالجة هذا الموضوع الحواري الجديد وذلك على أساس أن الدكتور النجار فيما تبين لي لم يفرد لهذا الموضوع ( المصلحة المرسلة دون المصلحتين المعتبرة والملغاة وشروط الأخذ بها ) بحثا ولا دراسة داخل الدراسة ولكنه أخذ بما وقر في ذهنه من ذلك وما وقر في ذهنه ـ بحسب ما فهمت ـ هو أن شروط الأخذ بالمصلحة المرسلة أكثر توسعا مما ضبطه الإمامان الغزالي والشاطبي ولولا ذاك لما أخذ الدكتور النجار بكون البيئة مقصدا ضروريا.



الحقيقة أن معالجة هذا المبحث يتطلب توسيع الإهتمام بالمقاصد من ناحية وما يرتبط بها من علوم شرعية ومن ناحية أخرى بواقعنا المعيش.



ضيق الإمام الغزالي تضييقا شديدا جدا كما ترى إذ قصر الإستصلاح بمعناه الإجتهادي العام على الضروري ( والضروري في عهده هي الخمس المعروفة ) وعلى الكلي وعلى القطعي أي أنه لا داعي للأخذ بمصلحة حاجية مثلا فضلا عن تحسينية سيما أن المصالح الضرورية أعلن عنها الشارع الحكيم سبحانه بالنص تقريبا وأنه لا داعي للأخذ بمصلحة جزئية تهم فريقا من الناس أو ردحا من الزمن ولا داعي للأخذ بمصلحة ظنية ومعلوم أن المصالح في حياتنا كلها ظنية بخلاف المصالح المعتبرة والملغاة فهي وحدها تقريبا تكون قطعية النفع أو الضر. وهذه بدورها تشترك فيها المنافع مع الأضرار بمثل ما قرر الشاطبي وغيره وهو ليس تقريرا نظريا لا ينبني عليه عمل وهذا هو مقصد إبن تيمية من قوله آنف الذكر " .. إنما العاقل من يعرف خير الخيرين وشر الشرين ".



لذلك جاء إجتهاد الإمام الشاطبي أوفق بكثير ولكنه لم يخط الخطوة المطلوبة إذ تجاوز الضروري إلى الحاجي ولكنه لم يعلن عن التحسيني إذا ما كانت لنا فيه مصلحة بينما أبدع إبداعا لم يسبق إليه عندما وضع الشرطين الأوليين وهما محل إجماع مطلقا أي أن تكون المصلحة المرسلة معقولة المعنى من ناحية وملائمة لمقاصد الإسلام عامة وغير مصادمة لا لدليل ولا لمصلحة.



أما الإمام القرضاوي فإن كل إنتاجه المقاصدي يعكف على هم واحد حتى وهو يخصص لذلك دراسة مفردة به فضلا عما يتناوله في كتبه المتفرقة الكثيرة وهو هم مواجهة طرفي الغلو في أمتنا قديما وحديثا ( وخاصة حديثا ) أي عبيد السلف وعبيد الخلف. ( هو يسميهم عبيد الفكر الغربي ) بينما يسمي الآخرين ( أصحاب الفكر المتجمد ).



لذلك لم يكن تطوير الإمام القرضاوي في مستوى شروط الأخذ بالمصلحة المرسلة مهما جدا إذا أنه لم يزد على أن وافق الشاطبي وزاد عليه شرطا هو ألا تكون المصلحة وهمية والحقيقة أن ذلك متضمنا في شرطي الإمام الشاطبي وخاصة الشرط الثاني أي أن تكون المصلحة المرسلة ملائمة لمقاصد الشريعة وغير مصادمة لدليل ولا لمصلحة أخرى ويكفي ذلك شرطا ينفي الوهمية ولكن الهم الذي يلازم الإمام القرضاوي جعله يشترط ذلك وهو يواجه في الحقيقة مشكلة حقيقية من مشاكلنا الراهنة حيث يكاد الإسلام يختطف ـ لمن لا يطلع على العلوم من مظانها ولا على تاريخ الأمة ومسائل أخرى كثيرة ـ من لدن طائفتين تسيئان إليه : طائفة عبيد السلف الذين جمدت عقولهم عند قرون خلت فهم حول رجالها يعكفون طوافين وطائفة عبيد الخلف أو عبيد الفكر الغربي الذين تنصلوا من الشيوعية الحمراء فأنقضوا على الإسلام يخربونه من الداخل ووجدوا في المقاصد ضالتهم ولكنها ضالة تضلهم هم أول ما تضلهم إذا لم يؤوبوا إلى المنهج العلمي في الإثبات والنفي.



التحسينيات في حياتنا هي أيضا مجال خصب لإعمال المصلحة المرسلة.



أضرب لك مثلا دون كثير كلام.



تخصيص جانب أو جوانب من الشواطئ العامة في مكان ما وزمن ما للنساء أو للزوجين ومن شاءا من محارمها. هذا أمر تحسيني فليس هو ضروري لا تقوم الحياة دونه ولا هو حاجي تكون دونه مشقة وحرج ويغيب اليسر المطلوب. وهو إلى جانب ذلك مصلحة مرسلة أي أنه لم يأت أمر بإرتياد الشواطئ للسياحة أو الإستحمام أو السباحة أو غير ذلك ولم يأت كذلك نهي عن ذلك فليس هو مصلحة معتبرة ولا مصلحة ملغاة بل مصلحة مرسلة تركت لإجتهاد الناس يملؤونها على ضوء ما تحقق عندهم قبل ذلك من أدلة ونصوص ومصالح معتبرة وأخرى ملغاة.



إذا قلنا بأن المصلحة المرسلة لا تطأ منطقة التحسينيات فمعناه ألا نجتهد في ذلك لا بالتحليل والإبقاء على أصل الإباحة ولا بالتحريم فضلا عما دونها من إستحباب وكراهة وذلك بدعوى أن ذلك العمل ليس ضروريا للحياة ولا هو حاجة من حاجات الناس ولكن هو من باب ما يزين حياتهم ويحسنها ويجملها ( يجعلها جميلة ).



لا شك أنك تقول الآن : ولكن هذا الأمر وارد في أصول الفقه.



عند هذه النقطة نلتقي. نلتقي لنتواضع على حقيقة تغيب على كثير من طلبة العلم وهي أن علم المقاصد متأخر كثيرا عن علم أصول الفقه وهذا دليل كاف أي أن أصول الفقه يحل هذه المشكلة أي مشكلة إرتياد النساء لشواطئ السباحة ولكن المقاصد لا تحلها حلا أصوليا جار على تحديد شروط الأخذ بالمصلحة المرسلة وفق ما بان لنا عند الإئمة الغزالي والشاطبي والقرضاوي.



لذلك فإنه لم يعد مناسبا أن نقول أن المصلحة المرسلة لا يؤخذ بها عندما تكون تحسينية والحقيقة أن الأمثلة على ذلك لا تحصى بل هي مما تعم به البلوى في حياتنا لو أن موضوعها هو موضوعنا الآن.



المناسب لشريعة الإسلام ولكرامة الإنسان ولمصلحة الدعوة الإسلامية المعاصرة هو أن نخترق بالمصالح المرسلة كل مجال وكل حقل سواء كان ضروريا أو حاجيا أو تحسينيا والمعيار في ذلك هو : حاجة الإنسان إلى ذلك مهما تكن تلك الحاجة ومهما يكن مستواها ومهما يكن بعدها فرديا أو أسريا أو جماعيا أو إنسانيا عاما غير ناسين أننا في زمن أصبحت فيه قيم الفن والجمال والزينة والحسن مناهج ومنارات وشغلا شاغلا للبشرية ولنا في ديننا الحنيف بشكل صحيح صريح ما يؤيد ذلك بمثل ما تأيد من ذلك الدكتور النجار لإلتقاط مصلحة البيئة مقصدا شرعيا عاليا مقدما.



تحكيم الفطرة والسنن أولى لعلم المقاصد.



المسألة الثانية ـ الأخيرة ـ في هذ الصدد بما يجعل الفقهاء يراجعون تلك الشروط التي إنتهت بحسب علمي عند الإمام القرضاوي هي تطوير صياغة الإمام الشاطبي في شروطه الثلاث تلك أو إضافة شرط آخر ( ولا عبرة بالصياغات هنا ) من أجل بناء سقف لا تجاوزه المصلحة المرسلة وهي سقف الفطرة البشرية بمثل ما أشار إلى ذلك الدكتور النجار في بحثه القيم هذا أي فطرة مادية وفطرة معنوية وقد أطنب في ذلك رغم العبارات الوجيزة له بحسب أسلوبه المعروف.



ذلك أن الفطرة هي أسبق من الدين وليس الدين في النهاية إلا تقويما لحياة الناس وفق الفطرة وهو الأمر الذي أبدع فيه قبل الدكتورالنجار وقبل كل أحد مطلقا في الحقيقة الإمام إبن عاشور.



الفطرة هي ذلك الوعاء الخلقي والخلقي الكبير الواسع الذي يحفظ الدين ولذلك سمى الله دينه فطرة مفطورة وخاصة كما أشار الدكتور النجار أن عصرنا هذا ـ ربما سوى بمثل عصر قوم لوط وليس من قبله ولا من بعده أحد ـ شهد عدوانات على الفطرة بشكل لا يكاد يصدق من مثل الزواج المثلي وإنبناء أعشاش الزوجية عليه والإعتراف بالولد منه وإستقبال ذلك في المحافل الرسمية في ألمانيا مثلا وأمثلة أخرى يكاد يستنكف القلم المسلم أن يكتب عنها بسبب فجاجتها وصفاقتها.



لقد أكد القرآن الكريم في أكثر من موضع بأن العدوان على الفطرة أشد عقابا وإيلاما من العدوان على الدين نفسه لأن العدوان على الدين أي على التدين قد يكون بسبب الغفلة وعمل الشيطان وزور النفس وغير ذلك ولكن العدوان على الفطرة لا يكون إلا من معتد أثيم يريد العداوة على البشرية جمعاء فعلا لا هزلا ولا كرها.



الأمر الثاني الذي يحسن إضافته لصياغة الإمام الشاطبي بعد مسألة الفطرة هو سقف السنن أي تلك القوانين التي أودعها سبحانه كونه وخلقه. بل دعنا نقول أن الفطرة هي سنة الإنسان أما سنة الكون فهي السنة. هي سنن كثيرة إجتماعية ومادية وغير ذلك ويعد العدوان عليها عدوانا على خلق الله سبحانه ومنها العدوان على المرافق كما بين ذلك الدكتور النجار.



لا يحسن الإطناب هنا كثيرا لأننا لسنا في وارد التحرير ولكننا في وارد إبداء ملاحظتين على صياغة الإمام الشاطبي ( دون الإمامين الغزالي المضيق جدا والقرضاوي الذي لم يهتم بالموضوع في شموله كما بينا آنفا وليته يفعل قبل موته لنغنم علما نافعا طول الله في عمره وأصلح الله في عمله وختم له ولنا جميعا بالشهادة والسعادة ).



ملاحظة سبقت مخها : ضم التحسيني إلى دائرة المصلحة المرسلة.



ملاحظة نحن بصددها مخها : توسيع الدائرة التي نصبها الإمام الشاطبي في شروطه الثلاثة أو ربما يحسن إعلانها إضافة وهي : ألا تكون المصلحة المرسلة مصادمة لفطرة إنسانية لا مادية ولا معنوية وألا تكون مصادمة كذلك لسنة كونية لا إجتماعية ولا مادية.



فإذا لم تصادم المصلحة المرسلة لا فطرة ولا سنة ولا نصا ولا دليلا ولا مصلحة معتبرة وكانت معقولة المعنى تحرس المنطقة التعبدية التي لا يداخلها الإجتهاد في هيئاتها وتآقيتها ومعدوداتها وما إلى ذلك وكانت تشمل الضروري والحاجي والتحسيني معا دون قصر لها على هذا دون ذلك فإنها مصلحة مرسلة مقبولة بل تكون في عداد المعتبرة ولكن بطريق الإجتهاد وليس بطريق النص.



الموضوع التاسع : توسيع دائرة شبكة الكشف عن مسالك الكشف عن المقاصد.



ربما يكون هذا الموضوع من أهم مواضيع علم المقاصد طرا مطلقا أي مباشرة بعد إثباتها في الإسلام عامة ( عقيدة وعبادة وشريعة ). تطور هذا العلم مرتهن إلى حد كبير جدا بتطوير دائرة الكشف عن مسالك الكشف عن المقاصد الشرعية أي تطوير إجتهاد إذ القضية إجتهادية ليس فيها نص ولا أثر ولكنها أعمال بشرية يصيبها الصواب والخطإ ولذلك إختلف الإمام إبن عاشور بشدة مع الإمام الشاطبي حول قول هذا بقطعية المقاصد بينما دعا الآخر إلى مزيد بذل الإجتهاد العلمي من أجل إنتاج قواعد مقاصدية قطعية تكون مرجعا للخلاف على غرار ما هو موجود في أصول الفقه رغم أنه عليه الرحمة لا يقر لأصول الفقه أي لقواعده بتلك القطعية التي تبوؤه منصب حل النزاع.



لا يتسع المجال هنا لتلخيص منهج الإمامين في مسالك الكشف عن المقاصد ولكن يمكن إجمالها كما بينت آنفا في اللغة العربية أولا ثم الأمر والنهي ثانيا ثم تتبع علل الأوامر والنواهي ثالثا ثم الإستقراء للأدلة الجزئية والكلية رابعا وقد تكون إضافة الدكتور النجار للعمل النبوي بتلك الصياغة رغم عدم توسعه في ذلك إضافة نوعية إذا وجدت من يطورها على أساس أن تكون السنة بما فيها السيرة أي قولا وفعلا وإقرارا وربما حتى صفة مسلكا مستقلا ( طبعا إستقلال خدمة وتكامل ) للكشف عن المقاصد. مع ما يستلزم ذلك من إجتهاد في قول الدكتور النجار في أن المقصود هنا هو مقام التبليغ.



إهمال أكبر كميات القرآن الكريم إهمال لمجال الكشف عن المقاصد.



معلوم عند كل مسلم يقرأ القرآن الكريم بأن أكبر كمية في القرآن الكريم هي للقصة ويمكن إدماج المثل فيها رغم إمكانية إستقلاله ولمشاهد الكون ولمشاهد النفس ويجدر الرجوع هنا ربحا للوقت إلى كتاب عظيم الفائدة جدا في هذا الموضوع وهو كتاب المحاور الخمسة للقرآن الكريم للشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله سبحانه.



حتى دون رجوع للكتاب رغم فائدته العظيمة فإنه لا خلاف في كون الأوامر والنواهي وعللهما بل حتى الأدلة الجزئية والكلية بحسب ما يحصرهما أكثر الأصوليين في خارج دائرة القصة والمثل ومشاهد الكون والنفس والقيامة وغير ذلك .. لا خلاف إذن في أن كل ذلك مما أعتمد عليه قديما وحديثا في جعله مسلكا أو مجالا لمسالك الكشف عن المقاصد .. هو صغير الحجم كميا بنسبة كبيرة جدا بالنسبة للكم الأكبر أي : القصة والمثل ومشاهد الكون والنفس والقيامة.



كيف نبرر أن مسالك المقاصد إنحبست في الأوامر والنواهي أو في إستقراء عللهما وفي إستقراء الأدلة الجزئية والكلية؟



ما هي مهمة أكبر كمية إذن أي القصة والمثل ومشاهد الكون والنفس والقيامة؟ هل هي مهمة التربية فحسب ومعلوم أن مهمة التشريع فيها ضيئلة جدا؟



ربما يكون ذلك مبررا عندما تكون القصة والمثل والمشهد بكل مواقفه في القرآن الكريم خالية من العبرة أو قل بعبارة أدق خالية من موضع الدرس بنص القرآن الكريم ومعلوم أن كل قصة وكل مثل تقريبا وكل مشهد لا بد أن يتضمن سواء في أوله أو في وسطه أو في آخره وربما أحيانا في سياق بعيد عنه نسبيا .. الدرس المراد من ذلك الإيراد بالنص وهو إيراد عادة ما يكون بصيغة العموم وأداة العموم بما يجعل القصة والمثل والمشهد متوجها إلى كل الناس في كل زمان وكل مكان وكل حال وكل عرف ولذلك خلا القرآن الكريم من ذكر كل مواقف المشهد إلا مشهد الحدث بحسب ما يطيقه السياق والموضوع ومشهد العبرة والدرس أي خلا من ذكر الزمان والمكان والإسم وغير ذلك وذلك بقصد حشر الأذهان في إلتقاط الدرس المناسب وهو درس لم يدعه ولو مرة واحدة محل إجتهاد بل نص عليه نصا.



يمكن لك أن تقول لي معترضا بأن كل تلك الدروس والعبر في القصة والمثل والمشاهد بكل مواقفها تنتمي لمقاصد العقيدة ومقاصد السنن ومقاصد الفطرة وغير ذلك مما لا يندرج في موضوعنا أي مقاصد الشريعة ولكني عندها أراجعك بقولك أن مقاصد الشريعة هي مقاصد الإسلام.



أحرر كلامي دوما طبقا على أساس أن مقاصد الإسلام هي مقاصد العقيدة ومقاصد العبادة وهما غائبان عن ثقافتنا الأصولية المقاصدية وهي مقاصد الشريعة التكليفية في كل مجال كما هو معروف عند كل واحد منا.



كما أبني رأيي على أساس أن محور التشريع الذي يكشف له عن مسالك لا يجاوز خمس الوحي أي القرآن الكريم تحديدا ولكنه خمس نوعي وليس كميا إذ بالتعبير الكمي فإن محور التشريع في القرآن الكريم لا يجاوز كما قال الإمام القرضاوي جزء من عشرين جزء.



إذا كان ذلك كذلك فكيف نهمل أربعة أخماس الكتاب العزيز أو تسعة عشر جزء من عشرين جزء من إهتمامنا في مجال الكشف عن مسالك الكشف عن مقاصد الإسلام؟



ليس هنا محل تحرير في الحقيقة ولذلك لا بد من كبح جماح الإستطراد الذي ليس هنا محله ولكني أوجز رأيي في أن القصة والمثل والمشهد الكوني والنفسي وغير ذلك من محاور القرآن العظمى والكبرى لا يقبل إستثناؤهم من أن يكونوا مجالا خصبا للكشف عن مسالك للكشف عن مقاصد الإسلام إذ الأكيد أن ذلك تضمن دروسا وعبرا منها دون ريب أن تكون مجالا وحقلا للكشف عن مسلك هنا أو مسلك هناك إلا أن تقول لي إن ذلك خاص بالعقيدة أو بالخلق أو بالسنن أو بالفطرة وعندها يكون خلافنا منهجيا كبيرا لا جزئيا صغيرا.



بقيت كلمة واحدة هنا هي أن تجزئة البحث المقاصدي ليس أمرا يخدم المهمة العلمية إلا أن يكون تيسيرا للبحث ولكن الأكيد أن إغفال مقاصد العقيدة ومقاصد الخلق ومقاصد الفطرة ومقاصد السنن ومقاصد العبادة وغير ذلك كما إغفال مجال القصة والمثل والمشهد .. كل ذلك يساهم في تجزئة علم المقاصد بشكل سلبي بل يؤثر في الحصيلة النهائية والميزان الختامي لشبكة المقاصد الإسلامية عندما ننصبها في خارطة واضحة جلية منظمة لها جذرها الأوحد وجذوعها التي تتحمل أغصانها التي تحمل بدورها ورقها وثمرها وكل ذلك يشكل ظل أرضها.



طبعا ذلك عمل موسوعي من يطالب به يطالب بما يشبه المستحيل ولكن المطلوب هو بناء تلك الخارطة بإنتظامها وتناسقها وهيكلتها ذات الأولويات المعلومة بما يجعل كل لبنة قادمة تأخذ مكانها دون شغب ولا عناء.



ذلك أمر لا أظن أنه يكون دون البدء بمقاصد العقيدة ثم مقاصد العبادة ثم مقاصد الخلق ثم مقاصد الشريعة كما لا أظن أنه يكون دون التسوية بين القرآن الكريم كله في أمره ونهيه وفي قصته ومثله وفي مشهده الكوني والنفسي والغيبي إذ كل ذلك هو الكفيل ببناء شجرة المقاصد الإسلامية بناء متناسقا مع البناء القرآني الذي لا يستغني فيه أمر ولا نهي عن قصة ولا عن مثل مهما بدا في عقولنا الآن أن الأمرين مخلتفان. ذلك فقه في القرآن يجب أن يأخذ طريقه إلينا.



الموضوع العاشر : ماهو دور الواقع في إثراء وتعميق مسالك الكشف.



لتناول هذا الموضوع الحواري العاشر لا بد من كلمتين :



أولهما : بعد تطوير مسلك العمل النبوي بمثل ما أشرنا إلى ذلك آنفا مرات في إثر إعتماد الدكتور النجار لذلك بصياغة جديدة لا بد من الإنفتاح على مسلك جديد هو مسلك : منهج الخلافة الراشدة في الكشف عن المقاصد ومنهج تفعيلها والحقيقة أن ذلك لم يخل من الإهتمام بالمرة ولكن العيب فيه أنه كان شبه مقتصر على فتوحات الفاروق العقلية في هذا العلم ولكن يمكن صياغة منهج كامل لتفكير الخلافة الراشدة في الكشف والتنزيل وجعله مسلكا مستقلا إستقلال إرتباط أو تكامل وخدمة إن صح التعبير والعمدة في ذلك أن الخلافة الراشدة في منهجها العام وليس في تفاصيلها التي يمكن أن يتسرب إليها الخطأ ككل عمل بشري غير معصوم .. هي مصدر إستئناسي كبير جدا للتشريع. كيف لا وقد جاء الحديث في ذلك صحيحا ـ على ما أظن في علم الحديث ـ وهو وارد في الأربعين النووية " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وفي روايات أخرى شبيهة ومماثلة. أما الوقوف بذلك المسلك عند الإجتهاد العمري على عظمته وعظمة صاحبه عليه الرضوان فهو يحرم الإجتهاد المقاصدي من حوادث أخرى عظيمة الفائدة ولكن المقصود دوما هو : إنتخاب منهج راشدي وليس الإستشهاد بحوادث.



هنا وصلنا إلى مفصل مهم جدا يصل أول الكلام بآخره في هذا الموضوع الحواري العاشر. مخ ذلك المفصل المهم هو أن الخلافة الراشدة في منهجها المقاصدي العام في موضوع الكشف عن مقاصد الشريعة تحديدا إنما تعتمد أمرين : أولهما النص ومنه العمل النبوي بطبيعة الحال وثانيهما هو الإستبصار بواقعها والأمثلة هنا لكل طالب علم من سيرة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم الرضوان لا تخفى ( الردة وجمع القرآن ـ السرقة والمؤلفة قلوبهم والفتوحات الإدارية الأخرى في عهد عمر من مثل صك العملة والبريد والسجون والأمصار ـ ضوال الإبل ـ الخوارج حركة معارضة مسلحة إلخ ... ).



مخ هذا المفصل هو إذن : الواقع المستهدي بالنص في حركة إجتهاد مقاصدية مستنيرة بالشورى والجماعة تقريرا للمصلحة المرسلة .. مسلك من مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة.



ثانيهما : سأعتمد على دراسة الدكتور النجار في زيادة تكريس ذلك المعنى ومخ ذلك أن مسألة البيئة في الوحي الكريم لم يكتشفها الدكتور النجار فهي موجودة في نصوص من القرآن والسنة كثيرة لا تكاد تحصى خاصة في السنة أي الحديث ولكن الدكتور النجار إنما وضع عينا على الكتاب وأخرى على واقعه ولذلك جاء لنا بمقصد ضروري جديد هو مقصد البيئة أي حفظها بمثل ما بين في بحثه الذي نحن بصدده.



ما ذا يعني ذلك.؟ ألا يعني أن الواقع يساهم في إثارة مسالك الكشف ولو على سبيل الإثراء أو التعميق أو لفت النظر أو قل ما شئت إذا كنت متحرجا من تعبيرة الواقع وضمه إلى الدين.



وما كشف عنه الدكتور النجار هنا إنما جاء لأن موضوع البيئة ملح دوليا ولكن سيجيئ زمان على الناس تلح فيه قضايا أخرى وسيجتهد المجتهدون مستهدين بالوحي الكريم ويكتشفون من خلال النظر في الكتاب وفي الواقع بتحدياته مقاصد أخرى ولتكن ضرورية أو حاجية أو تحسينية أو كلية أو جزئية أو عامة أو خاصة أو سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية أو غير ذلك .. المهم أنها مقاصد وقع الكشف عنها بسبيل الواقع ولا نحتاج إلى القول هنا ـ وليس خارج هنا ـ وبسبيل القرآن كذلك أو السنة والحديث أو السيرة بسبب أن الوحي بمعناه الشامل لم يدع شيئا لم يقل فيه كلمة أبدا مهما دق أو عظم سواء بسبيل النص المباشر أو النص الخفي أو ما يحققه الإجتهاد إنطلاقا من النص. التعويل هنا في الإطار العلمي الذي نحن بصدده هو على نص الواقع ومعافسة تحدياته وإستخدام الكتاب لحل مشاكله ولكن بعقل مجتهد لاعقل خامل.



لقد سبقت الإشارة آنفا إلى أن الدكتور النجار يقول بأن الأقدمين لم يكشفوا عن البيئة مصلحة ضرورية بسبب أن الأمر لم يكن لهم تحديا يصل حد الضرورة ولا حتى الحاجة ربما ومعنى كلامه ذاك هو أن الواقع يساهم مساهمة كبيرة عندما يكون مستهديا بالقرآن أو قل بالوحي في الكشف عن مسالك المقاصد ولو على سبيل الإثراء والتغذية والتعميق أو قل بسبيل غير مباشر.



أهم درس نستخلصه من كل ذلك هو أن الإجتهاد المقاصدي ليس له حد فيغلق دونه حتى بعد إنتصاب شجرته العظمى فإنها تحتاج إلى تجديد وإعادة إجتهاد للرعاية والزبر والخرص وكل العمليات التي تتطبها كل شجرة أو نوع خاص من الشجر.



الدرس النفيس هنا هو أن الإجتهاد المقاصدي أرض خصبة تنتظر المجتهدين والمجددين بسبب أن الواقع مسلك من مسالك الكشف عن المقاصد بحسب ما بينا آنفا ولكن لا ينتبه لذلك سوى العلماء العاملون والفقهاء المجتهدون أي الذين يهتمون بالكشف عن المقاصد وبالكشف عن سبل تفعيل تلك المقاصد أما غيرهم فيقنع بالتقليد ومن كان منا يظن ـ قبل أن يقرأ لأبن تيمة مثلا ـ أن المقاصد الضرورية يمكن أن توسع أو تضيق أو يجتهد فيها. كنت أظن أن ذلك أصلا مؤصلا لا إجتهاد فيه وأردده مع المرددين حتى قرأت غير ذلك للد. النجار وغيره.



الدرس النفيس الأعلى من كل ذلك هو : مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة فيها الثابت وفيها المتغير والإجتهاد يأتي على الثابت لتوسيع دائرته حتى لا يهمل القصة والمثل والمشهد بمثل ما بينا آنفا إذ لا مناص من القول بأن مصادر التشريع هي مصادر الكشف عن مقاصد الشريعة وهو أمر منطقي مفهوم معقول ولكن بما أن مصادر التشريع نفسها تختلف قوة وأولوية ودليلا فكذلك يجب أن تختلف مسالك الكشف كما يأتي الإجتهاد على المتغير من تلك المسالك ومنها الواقع أما السنة العملية أو السيرة وكذا منهج الخلافة الراشدة فيمكن ضبط منهجهما بحيث يكونان إلى الثبات أقرب.





تلك عشرة مواضيع حوارية يمكن لطلبة العلم أن يقتلوها بحثا كما يقال ولكن منعني الخوف من مزيد من الكتابة عن طرق مواضيع حوارية أخرى ربما تكون أقل أهمية ولكنها مهمة من مثل التأليف في علم المقاصد على طريقة الجمع بين المنهج الكلامي الفلسفي المنطقي وبين المنهج الأصولي الفقهي وذلك بالرغم من أن المنهج الأول في هذا العلم لم يكتب به إلى حد الآن ولكنه مهم خاصة في تقرير بحوث أصولية مبدئية عادة ما تتقدم هذا العلم وتوطئ له من مثل إثبات مقاصد للإسلام ودحض تراهات النفاة وتأطير إجتهاد إبن حزم في إطاره التاريخي الحضاري المعروف دون تطبيل كبير على ذلك ولا شك أن المنطق يؤيد كثيرا من تلك البحوث ويلتقي معها ولست مع نبذ التأليف الكلامي الفلسفي المنطقي لا في أصول الفقه ولا في مقاصد الشريعة بمعناها العام الواسع الذي يشمل الإسلام كله طبعا ولكني مع تعدد المناهج حتى يلفى كل صاحب إهتمام ومزاج نفسه في منهج ما فالدخول إلى الناس بعلوم الإسلام من أبواب متفرقة كفيل بتعديد مسارب الهداية والإهتمام بالإسلام ومن ذا يكون خير إن شاء الله تعالى.



ومن المواضيع الحوارية المهمة كذلك إعادة ضبط بعض مقولات هذا العلم من مثل مقولة أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد وذلك خشية سوء فهمها بسبب تأرجحها بين مجالين ففي مجال العبادات التوقيفية مثلا تكون الوسائل مقاصد بالضرورة أي مقاصد عملية سواء فقه المسلم المقصد أم تنكب عن حسن فقهه حتى لا نقع فيما وقعت فيه الصوفية المغالية أو مثيلاتها من العلمانية المعاصرة التي تريد إسقاط العبادات بسبب إمكانية تعويضها برياضات روحية أخرى تضمن الطاعة والزكاة وغير ذلك من مقاصد العبادات كما يزعمون ولكن في مجال آخر لا تأخذ الوسائل حكم المقاصد وذلك من مثل التمييز بين مقصد النص وبين وسيلته والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى فالمسبحة مثلا وسيلة للذكر ولكنها لا تأخذ حكم مقصدها وكذلك عود الأراك وغير ذلك مما لا يأتي تحت حصر وليس هو غرضنا الآن.



ومن بين تلك المقولات التي تحتاج إلى ضبط قالة أن المصلحة دليل وهي كذلك إذا توفرت فيها الشروط التي ذكرها الإمام الشاطبي خاصة وهي قالة تجد لها خصوما من كل جانب فمن جانب اليمين تجد لها خصوما لا يقرون بدليل المصلحة حتى لو كانت مصلحة مرسلة معتبرة بعد إجتهاد وإقرار من أهل العلم والفقه كما تجد من الشمال خصوما يقرون المصلحة دليلا مهما كانت منفلتة عن كل شرط بل حتى لو صادمت نصا صحيحا صريحا أو مصلحة أقوى منها أو إجماعا ثابتا أو غير ذلك من الأدلة العظمى الحاكم.



ومن بين تلك المواضيع الحوارية المقترحة ما عرف في التراث بنظرية الطوفي حول المصلحة والحقيقة أن الإمام القرضاوي وفى القضية حقها في أكثر من كتاب ورغم ذلك ما زال ذلك المشجب منتصبا يعلق عليه العالمانيون فشلهم المنهجي في إثبات الأمر ونفيه إن كانوا جادين غير هازلين في الإجتهاد المقاصدي والمقصود من ذلك هو إثبات أن الطوفي عليه رحمة الله سبحانه حمل كلامه ما لا يحتمله فهو قد قال بالحرف الواحد لمن يريد البحث النزيه بأن المصلحة التي تخصص النص إنما تستهدف النص الظني وليس النص القطعي وهذا لا خلاف عليه ولكن النص القطعي لا يخصص بشيء أبدا مطلقا كلما كان قطعيا حقا صحة وصراحة أما قضية التنزيل فأصدق ما قيل فيها هو حضور المحل أو غيابه والأمران مختلفان كما ترى رغم الإشتراك.



ومن تلك المباحث الحوارية المهمة كذلك رغم تعلقها بأصول الفقه أكثر من تعلقها بالمقاصد ولكن لا ضير كلما كان العلمان مشتركين بل شقيقين لأم وأب .. هو مبحث دلالة الأمر في الحديث النبوي الصحيح الصريح على الوجوب بمثل إيجاب أمر القرآن الكريم ودلالة النهي فيه على الحرمة بمثل دلالة القرآن الكريم أي عند تساوي المؤثرات التي تجعل من الأمر والنهي في القرآن وفي السنة ( مع شرط أن يكون الموضوع للأمر والنهي في القرآن والسنة مختلفا ) يفيد الوجوب أو الحرمة فإنه لا يفيد ذلك في السنة في كل الحالات وهو مذهب أصولي معروف ولكنه يشترك في جزء ما مع مبحث إستقلال السنة بالتشريع عند القائلين بذلك.



المبحث مهم جدا رغم إتصاله بأصول الفقه أكثر من إتصاله بالمقاصد ولكن عند البحث النظري والتنزيل العملي تجد أن العلاقة كبيرة جدا بين الأمرين ولا يتسع المجال هنا لذكر أمثلة.



وكذلك إتصاله بالعمل النبوي مما قد يعد محصورا في مقام تشريعي واحد خارجا عن دائرة التبليغ وخاصة مقام الإمامة والقيادة والسياسة وهو أمر تضمن أمثلة عديدة منها الردة ومازال المداد فيه سيالا والإجتهاد فيه رحبا.



بقيت كلمتان :



الكلمة الأولى : لا بد في رأيي من تصويب الإجتهاد المقاصدي المعاصر في إتجاه تلبية نداء الإمام إبن عاشور من أجل حراسة هذا العلم الناشئ بطاقم قاعدي متين فيه القطعي والظني يكون موئلا لطلبة العلم ( علماء وطلبة وباحثين وفقهاء ومفتين وغير ذلك في تلك الأسرة الواسعة ) ليس لحسم الخلاف في الضروري فحسب مما يدفع عن الأمة خلخلة أركانها الداخلية من جانب طائفة العلماء بعد ما تخلخلت من جانب طائفة الأمراء ولكن كذلك لإقتطاع منطقة قطعية ثابتة في هذا العلم تعزر بلغة المقاصد منطقة أصول الفقه الثابتة وبذلك يتعاون العلمان على خدمة الثابت القطعي في الشريعة لتكون دوما دوحة آمنة ظليلة لا يستعصي عليها حال ولا يجترئ عليها شاذ من شذاذ الآفاق. هو عمل كبير وطويل دون أدنى ريب ولكن له الجهابذة كما كانت في علم الرجال تغربل الضعيف من القوي حتى إستقر الأمر على ما هو عندنا اليوم والعلوم خادمة لبعضها بعضا فلا يستقيم عود هذا حتى يستقيم عود ذاك كلما كانت من مشكاة واحدة.



الكلمة الثانية : دعوة من الدكتور النجار منذ سنوات طويلة ( دعوة مكتوبة ) لا زالت ترن في أذني ولكن دونها مجاهدات علمية ومغالبات فقهية مخها : صياغة الفقه الإسلامي ( الفقه الفروعي يقصد ) على أساس تلازم بين مطالب ثلاث : مطلب تحرير الحكم الإسلامي فقها بلغة معاصرة ومطلب بيان المقصد من ذلك الحكم ومطلب صياغته بلغة روحية. هي نقلة في الفقه وتدوينه لا شك دونها عقبات فوق الكأداء ولكن لك أن تتصور معي أن أحكام الفقه الإسلامي اليوم مخرجة وفق ذلك النحو حتى يجد فيها المتصوف المعتدل نفسه وإلى جانبه الفقيه دقيق العبارة من يعيش هم عصره وإلى جانبهما حول المائدة نفسها الأصولي المقاصدي. عندها يصبح فقهنا جامعا بين الأصالة والمعاصرة للناس جلابا ولهم مرغبا مفهوما وتنداح الثقافة الفقهية وتزهر في القلوب ورعا وفي اللسان عروبة منسابة وفي العقل منهجا إسلاميا حصيفا أريبا وفي الجماعة وحدة وفي إختلافاتها تنوعا خادما مسؤولا وفي الدعوة سماحة.





خاتمــــــــــــــــــــــــــــــــة :



تلك هي إذن فقرات هذا الكراس الثلاث : محاولة لتلخيص كتاب الدكتور النجار ولكنه تلخيص لا يغني إلا الكسالى عن الرجوع إلى أم الكتاب دراسة جادة وأخص طالب العلم لا غيره.



ومحاولة إدارة قراءة في الكتاب وفيها مبحثان :



... بيان مواضع التجديد في الكتاب.



... الدعوة إلى حوار حول موضوعات مقاصدية بعضها متصل بالكتاب وبعضها مفصول عنه.



إن كنت أصبت فمنه وحده سبحانه وإن كنت أخطأت فمني وأسأله سبحانه أن يجعلني والقارئ الكريم من خير من تعلم القرآن وعلمه وممن يرزقهم الله سبحانه فقها في الدين وإجتهادا فيه وجهادا به وأشكر الدكتور النجار الذي أتاح لي هذه الفرصة معتذرا عما يكون قد بدر مني في حقه أو حق جهده مما يبدر من التلاميذ الكسالى نحو معلميهم وشيوخهم.



كما لا يفوتني أن أنبه دار النشر أو الدكتور النجار نفسه والقارئ الكريم إلى بعض الأخطاء المطبعية في الكتاب وهي ( صفحة 103 وقع خطأ في رسم آية الزمر إذ كتبت " قل لعبادي " والصحيح هو " قل يا عبادي " و صفحة 117 في قوله لم يؤدي ( زيدت الياء خطأ ) وصفحة 242 في قوله وقع والصحيح ( وقد ) وفي صفحة 259 في قوله درء المصلحة مقدم على جلب المصلحة والصحيح هو ( درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ).



والله تعالى أعلم.



الهادي بريك ـ ألمانيا.

Cant See Links


رد مع اقتباس
قديم 09-29-2012, 11:06 PM   رقم المشاركة : 3
الكاتب

أفاق : الاداره

مراقب

مراقب

أفاق : الاداره غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









أفاق : الاداره غير متواجد حالياً


رد: مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة " الدكتور عبد المجيد عمر النجار

مدخل إلى علم المقاصد (2/5)

د. فارس العزاوي
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 8/6/2009 ميلادي - 14/6/1430 هجري
زيارة: 8930

أهمية المقاصد:


تتجلى أهمية معرفة مقاصد الشريعة في عدة أمور، منها[1]:
- بيان الإطار العام للشريعة، والتصور الكامل للإسلام، وتوضيح الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام، لتتكون النظرة الكلية الإجمالية للفروع، وبذلك يعرف الإنسان ما يدخل في الشريعة وما لا يدخل فيها.

- إبراز علل التشريع وحكمه وأغراضه ومراميه الجزئية والكلية العامة والخاصة في شتى مجالات الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة.

- إبراز أهداف الدعوة الإسلامية التي ترمي إلى تحقيق مصالح الناس، ودفع المفاسد عنهم، وذلك يرشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق السعادة في الدنيا والفوز برضوان الله في الآخرة.

- فهم النصوص وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع واستنباط الأحكام منها.

- تعين على ترجيح ما يحقق المقاصد ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد.

- التوفيق بين خاصيتي الأخذ بظاهر النص، والالتفات إلى روحه ومدلوله على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض.

- تأكيد خصائص صلاحية الشريعة ودوامها وواقعيتها ومرونتها وقدرتها على التحقق والتفاعل مع مختلف البيئات والظروف والأطوار.

- التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي والتعصب المذهبي، وذلك باعتماد علم المقاصد في عملية بناء الحكم، وتنسيق الآراء المختلفة، ودرء التعارض بينها.

- إدراك علماء الشريعة الإسلامية أن نصوصها وأحكامها معقولة المعنى، ومبنية على النظر والاستدلال، فالمسلم وإن كان يتلقى التكاليف بروح القناعة واليقين بأحقيتها، ويطبقها وهو تملؤه الثقة بخيريتها، إلا أن ذلك لا يمنع من التماس الحكمة من تشريعها.

قال ابن عاشور موضحاً أهمية المقاصد فيما عنون له: احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة: "إن تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء:
النحوالأول: فهم أقوالها، واستفادة مدلولات تلك الأقوال، بحسب الاستعمال اللغوي، وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي. وقد تكفل بمعظمه علم أصول الفقه.

النحو الثاني: البحث عما يعارض الأدلة التي لاحت للمجتهد، والتي استكمل إعمال نظره في استفادة مدلولاتها، ليستيقن أن تلك الأدلة سالمة مما يبطل ويقضي عليها بالإلغاء والتنقيح. فإذا استيقن أن الدليل سالم عن المعارض أعمله، وإذا ألفى له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً، أو رجحان أحدهما على الآخر.

النحو الثالث: قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه بعد أن يعرف علل التشريعات الثابتة بطريق من طرق مسالك العلة المبينة في أصول الفقه.

النحو الرابع: إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولا له نظير يقاس عليه.

النحو الخامس: تلقي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلقي من لم يعرف علل أحكامها ولا حكمة الشريعة في تشريعها. فهو يتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها، ويستضعف علمه في جنب سعة الشريعة، فيسمي هذا النوع بالتعبدي.

فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها"[2] .

تعريف المقاصد:
المقاصد في اللغة جمع مقصد، مشتق من الفعل قصد يقصد قصداً، وأصل (ق ص د) ومواقعها في كلام العرب الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور، هذا أصله في الحقيقة وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، والقصد يطلق ويراد به عدة معاني، ومنها: إتيان الشيء، استقامة الطريق، الاعتماد والأم، العدل، الكسر في أي وجه كان[3].

وأما في الاصطلاح فإننا نجد أن العلماء لم يحددوا معنى القصد أو المقصد اصطلاحاً على الرغم من أنهم نصوا على جملة من المقاصد في مصنفاتهم، وذكروا بعضاً من تقسيماتها: كذكرهم للكليات المقاصدية الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وذكر المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية وبعض الحكم والأسرار والعلل[4]، كما أنهم عبروا عن المقاصد بألفاظ مختلفة وتعابير متباينة على الرغم من كونها دالة عليها وهذا يفهم من سياقها، فقد عبر بعضهم عنها بالحكمة المقصودة بالشريعة من الشارع، وبعضهم أطلق عليها لفظ المصلحة، وجاء البعض الآخر بلفظ نفي الضرر ورفعه وقطعه، ومنهم من عبر عنها بلفظ دفع المشقة ورفعها أو رفع الحرج والضيق وتقرير التيسير والتخفيف، وتارة يسمونها الكليات الخمس الكبرى كما أشرنا إليها سابقاً، وتارة أخرى بالعلل وغير ذلك[5].

وقد رجح بعض أهل العلم من المعاصرين أن أول من عني ببيان معنى المقاصد اصطلاحاً هو العلامة محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية)[6]، وسنسوق بعضاً من التعاريف التي وضعها العلماء للمقاصد حتى يتسنى لنا إدراك معناها ومفهومها لأن المفاهيم مفاتيح للفهم ولها تأثيرها في البناء المعرفي[7]:
- عرف المقاصد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بقوله: " مقاصد التشريع العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها "[8].

- وعرفها الأستاذ علال الفاسي بقوله: " بأنها الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها "[9].

- وعرفها الأستاذ يوسف حامد العالم بقوله: "هي المصالح التي تعود إلى العباد في دنياهم وأخراهم، سواء أكان تحصيلها عن طريق جلب المنافع أو عن طريق دفع المضار"[10].

- وعرفها الدكتور يوسف القرضاوي بقوله: "الغايات التي تهدف إليها النصوص من الأوامر والنواهي والإباحات، وتسعى الأحكام الجزئية إلى تحقيقها في حياة المكلفين، أفراداً وأسراً وجماعات وأمة "[11].

- وعرفها الدكتور أحمد الريسوني بقوله: "هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد"[12].

- وعرفها الدكتور نور الدين بن مختار الخادمي بقوله: " المقاصد هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكماً جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين "[13].

- وعرفها الدكتور عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني بقوله: " المعاني الغائية، التي اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه "[14].

وظاهر من التعاريف السابقة أن هناك اتفاقاً بين العلماء على كون المقاصد دائرة مع المصالح والغايات والحكم التي قصد الشارع تحقيقها عند وضعه الشريعة، وهذا شامل للمقاصد العامة والخاصة وسيأتي مزيد بيان في مباحث لاحقة حول هذا الأمر.

نشأة وتطور علم المقاصد:
عند حديثنا عن نشأة وتطور علم المقاصد فإننا نشير إلى المرحلة التاريخية التي أضحت فيها المقاصد قواعد وأسساً تستند عليها، وأصبحت علماً قائماً بذاته له دلالاته وحقائقه ومناهجه، وإلا فإن أساس هذا العلم ونشأته كانت مع نزول الوحي ووضع الشريعة، وعلى الرغم من أهمية علم المقاصد وتأكيد نصوص الشريعة عليه كتاباً وسنة، إلا أنه لم يأخذ مداه في الفضاء الفقهي والفكري الإسلامي - كغيره من العلوم وخاصة أصول الفقه - وإن وجد اهتماماً لدى ثلة من العلماء الذين تناولوا موضوعه بصورة نظرية، حيث ظلت قضية المقاصد أحد الأبعاد الغائبة عن الدراسات الإسلامية أزمنة طويلة، ويقف في مقدمة أسباب هذا الغياب هيمنة النظر الكلامي المجرد والاختلاف في التعليل والغائية[15] ، ولعلنا في إشارة سريعة بحاجة إلى استقراء المراحل التي مر بها هذا العلم، وتقديم نبذة مختصرة عن كتابات علماء المقاصد[16]:
- على الرغم من أن هناك إسهامات تقدمت في هذا الباب تمثل طليعة الكتابات في باب المقاصد كإسهام الحكيم الترمذي في كتبه التي أظهر فيها اهتمامه بالمقاصد ككتاب: الصلاة ومقاصدها، وكتابه علل الشريعة، وإسهام أبي بكر القفال الشاشي في كتابه محاسن الشريعة، وغيرهما من العلماء، إلا أن إسهام إمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت 478هـ) يمثل منطلقاً حقيقياً في باب المقاصد من خلال كتابه (البرهان في أصول الفقه) حيث خصص جزءاً من كتابه للحديث عن المقاصد وعنون له بقوله: في تقاسيم العلل والأصول التي بها تظهر المقاصد ويكشف عن المصالح. قال السبكي: " وضع إمام الحرمين في أصول الفقه كتاب البرهان على أسلوب غريب لم يقتد فيه بأحد "[17]، وقد تضمن كتاب البرهان شواهد على عناية الجويني بالأصول وبالمقاصد الشرعية[18] .

- ثم جاء من بعده تلميذه الغزالي (ت 505هـ)، حيث تعددت كتبه، وتميزت إسهاماته، وأظهر تصورات جديدة في علمي الأصول والمقاصد، يمكن تلمسها بصورة خاصة في كتبه: شفاء الغليل، والمنخول، والمستصفى الذي يمثل أنضج كتبه وأكثرها وضوحاً، ولعل من أبرز ما قدمه الغزالي في باب المقاصد حديثه عن المصالح التي جعلها ثلاث مراتب: ضرورية، وحاجية، وتحسينية.

- ثم يأتي جهد الإمام العز بن عبد السلام (ت 660هـ) ليضيف بعداً آخر لعلم المقاصد من خلال كتابه المميز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، فقد وضعه على أسلوب بديع جعل جماع القواعد الشرعية محصوراً في جلب المصالح ودرء المفاسد[19]، حتى كاد كتابه يكون خاصاً في مقاصد الشريعة سواء باعتبار كلامه الصريح في مقاصد الأحكام، أو باعتبار أن الكلام في المصالح والمفاسد إنما هو كلام عن المقاصد الشرعية[20].

- ثم أتى تلميذه الإمام شهاب الدين القرافي (ت 685هـ)، فقد اقتفى طريق شيخه في ضبط القواعد وتحرير المقاصد في جملة من كتبه، وبخاصة كتابه: الفروق، الذي مثل بياناً لأصول الشريعة في ضوء ما سماه بأسرار الشرع وحكمه، ومن إضافاته تمييزه بين المقامات المختلفة للتصرفات النبوية[21].

- أما شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) فلا يخلو كلامه عن الشريعة وأحكامها وبيان مقاصدها، وكان يكثر من بيان تعليل الأحكام وإظهار مقاصدها الشرعية، فالشريعة عنده " جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما "[22]، ولابن تيمية استدراك على الأصوليين في حصرهم لمقاصد الشريعة الخمسة المعروفة إذ يقول: " وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة‏‏ وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق‏ ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح‏ "[23].


- ثم جاء من بعده تلميذه ابن القيم (ت 751هـ) ليؤكد نهج شيخه وامتداد مدرسته المقاصدية، ومن أبرز كتبه في هذا الباب كتاب: إعلام الموقعين عن رب العالمين، إذ يقول فيه: " الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل "[24]، وقال في موضع آخر مبيناً مكانة القرآن الكريم وما فيه من تعليلات وأحكام: " وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتب الجزاء على الشرط والمعلول على العلة والمسبب على السبب وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع "[25] .

- أما الإمام الشاطبي (ت 790ه-) فيعد شيخ علم المقاصد، حيث صنف فيه كتابه: الموافقات، تناول فيه موضوع المقاصد باستفاضة وعمق في القسم الثاني من الكتاب: تحت عنوان (كتاب المقاصد)، وصاغه بأسلوب أصولي فذ، لا يوجد في غيره من المصنفات التي سبقته، وإن من مظاهر الإبداع والتجديد التي أضافها الشاطبي إلى علم المقاصد، إيراده لكثير من القواعد العامة التي تعبر عن معان تشريعية مقاصدية، أي أنه صاغ المقاصد على شكل قواعد، بحيث تشكل المعالم الأساسية التي راعاها الشارع في تشريعه[26]، قال الشاطبي مبيناً الغاية من وضع الشريعة: " وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً... والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء.. فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل، وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [27]، ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [28] ، وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [29]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [30]، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [31].

وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى؛ كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ} [32] . وقال في الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [33] ، وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [34]، وقال في القبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [35]، وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [36]، وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [37]، وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [38]، والمقصود التنبيه. وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة "[39].

قال ابن عاشور: " والرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين هو: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي، إذ عني بإبراز القسم الثاني من كتابه المسمى عنوان التعريف بأصول التكليف في أصول الفقه، وعنون ذلك القسم ب كتاب المقاصد. ولكنه تطوح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود، على أنه أفاد جد الإفادة. فأنا أقتفي آثاره "[40].

- وعلى الرغم من عظم الإسهام الذي قدمه الشاطبي في علم المقاصد، إلا أنه يصدق عليه ما قاله مالك بن نبي في ابن خلدون من أنه جاء متأخراً عن أوانه أو سابقاً عليه فلم تنطبع أفكاره في العقل المسلم، وكذلك لم تنطبع أفكار الشاطبي في العقل المسلم الذي كان يعيش بداية انحطاطه يومذاك، فظلت أفكاره مجهولة، وبعده أصيبت العلوم الإسلامية عامة والمقاصد خاصة بجمود كبير، وبما يشبه الغيبة في الإبداع والتجديد والاستمرار[41]، حتى اكتشفها علماء مصلحون معاصرون: الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والدكتور عبد الله دراز في المشرق، والعلامتان محمد الطاهر ابن عاشور وعلال الفاسي في المغرب، فأشادوا بها وكتبوا حولها - خصوصاً المغاربة منهم - كتابات حللت وأصلت وأضافت المزيد.

ثم بنى على ذلك التراث علماء وباحثون معاصرون في دراسات جادة منها: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية للدكتور يوسف العالم، ونظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للدكتور أحمد الريسوني، ونظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور للدكتور إسماعيل حسني[42] .

طرق إثبات المقاصد:
يصطلح على تسمية هذا المبحث بمسالك الكشف عن المقاصد، أو سبل إثبات المقاصد، أو طرق كشف وتعيين المقاصد، وغيرها، وقد عنون الشاطبي لهذا المبحث بقوله: (فصل: بيان الجهات التي يعرف بها مقاصد الشارع)[43]، وعنون لها ابن عاشور بقوله: (طرق إثبات المقاصد الشرعية)[44]، ويحسن بنا في هذا الموضع أن نسوق كلام العلامة ابن عاشور في مقاصده فقد بين باستفاضة طرق إثبات المقاصد ولخص كلام الشاطبي في هذا المبحث، فكل من كتب فيه يعتبر عالة على ما قاله، قال - رحمه الله -: " الطريق الأول: وهو أعظمها، استقراء الشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين: أعظمهما: استقراء الأحكام المعروفة عللها، الآئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة[45]، فإن باستقراء العلل حصول العلم بمقاصد الشريعة بسهولة، لأننا إذا استقرينا عللاً كثيرة متماثلة في كونها ضابطاً لحكمة متحدة أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة، فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يستنتج من استقراء الجزئيات تحصيل مفهوم كلي حسب قواعد المنطق. مثاله: أننا إذا علمنا علة النهي عن المزابنة[46] الثابتة بمسلك الإيماء[47] في قول رسول الله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لمن سأله عن بيع التمر بالرطب: (أينقص الرطب إذا جف ؟ قال: نعم، قال: فلا إذن).

فحصل لنا أن علة تحريم المزابنة، هي: الجهل بمقدار أحد العوضين، وهو الرطب منهما المبيع باليابس. وإذا علمنا النهي عن بيع الجزاف بالمكيل، وعلمنا أن علته جهل أحد العوضين بطريق استنباط العلة. وإذا علمنا إباحة القيام بالغبن، وعلمنا أن علته نفي الخديعة بين الأمة بنص قول الرسول عليه السلام للرجل - الذي قال له: إني أخدع في البيوع -: (إذا بايعت فقل لا خلابة). إذا علمنا هذه العلل كلها استخلصنا منها مقصداً واحداً، وهو: إبطال الغرر في المعاوضات. فلم يبق خلاف في أن كل تعاوض اشتمل على خطر أو غرر في ثمن، أو مثمن أو آجل فهو تعاوض باطل. ومثال آخر: وهو أننا نعلم النهي عن أن يخطب المسلم على خطبة مسلم آخر، والنهي عن أن يسوم على سومه، ونعلم أن علة ذلك هو ما في ذلك من الوحشة التي تنشأ عن السعي في الحرمان من منفعة مبتغاة، فنستخلص من ذلك مقصداً هو: دوام الأخوة بين المسلمين، فنستخدم ذلك المقصد لإثبات الجزم بانتفاء حرمة الخطبة بعد الخطبة والسوم بعد السوم، إذا كان الخاطب الأول والسائم الأول قد أعرضا عما رغبا فيه. النوع الثاني من هذا الطريق: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع. مثاله: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، علته طلب رواج الطعام في الأسواق.

والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة إذا حمل على إطلاقه عند الجمهور، علته أن لا يبقى الطعام في الذمة فيفوت رواجه. والنهي عن الاحتكار في الطعام لحديث مسلم عن معمر مرفوعاً: (من احتكر طعاماً فهو خاطئ)، علته إقلال الطعام من الأسواق. فبهذا الاستقراء يحصل العلم بأن رواج الطعام وتيسير تناوله مقصد من مقاصد الشريعة. فنعمد إلى هذا المقصد فنجعله أصلاً ونقول: إن الرواج إنما يكون بصور من المعاوضات، والإقلال إنما يكون بصور من المعاوضات، إذ الناس لا يتركون التبايع.

فما عدا المعاوضات لا يخشى معه عدم رواج الطعام. ولذلك قلنا: تجوز الشركة والتولية[48] والإقالة[49] في الطعام قبل قبضه. ومن هذا القبيل كثرة الأمر بعتق الرقاب الذي دلنا على أن من مقاصد الشريعة حصول الحرية. الطريق الثاني: أدلة القرآن الواضحة الدلالة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال العربي، بحيث لا يشك في المراد منها إلا من شاء أن يدخل على نفسه شكاً لا يعتد به. ألا ترى أنا نجزم بأن معنى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}: أن الله أوجبه.

ولو قال أحد: إن ظاهر هذا اللفظ أن الصيام مكتوب في الورق لجاء خطأً من القول. فالقرآن لكونه متواتر اللفظ قطعيه يحصل اليقين بنسبة ما يحتوي عليه إلى الشارع تعالى، ولكنه لكونه ظني الدلالة يحتاج إلى دلالة واضحة يضعف تطرق احتمال معنى ثان إليها. فإذا انضم إلى قطعية المتن قوة ظن الدلالة تسنى لنا أخذ مقصد شرعي منه يرفع الخلاف عند الجدل في الفقه، مثل ما يؤخذ من قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، وقوله: {أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. ففي كل آية من هذه الآيات تصريح بمقصد شرعي أو تنبيه على مقصد.

الطريق الثالث: السنة المتواترة. وهذا الطريق لا يوجد له مثال إلا في حالين: الحال الأول: المتواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة عملاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين. وإلى هذا الحال يرجع قسم المعلوم من الدين بالضرورة، وقسم العمل الشرعي القريب من المعلوم ضرورة، مثل مشروعية الصدقة الجارية المعبر عن بعضها بالحبس.

وهذا العمل هو الذي عناه مالك حين بلغه: أن شريحاً يقول بعدم انعقاد الحبس[50]، ويقول أن لا حبس عن فرائض الله. فقال مالك: (رحم الله شريحاً تكلم ببلاده - يعني الكوفة - ولم يرد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم [ لا يطعن فيها طاعن ]، وهذه صدقات رسول الله سبعة حوائط. وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرة) اه-. وأمثلة هذا العمل في العبادات كثيرة، ككون خطبة العيدين بعد الصلاة.

الحال الثاني: تواتر عملي، يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يستخلص من مجموعها مقصداً شرعياً.

ففي صحيح البخاري: عن الأزرق بن قيس قال: (كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء. فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فقام يصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس. فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته. وفينا رجل له رأي فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس. فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركت الفرس لما آت أهلي إلى الليل.

وذكر أنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأي من تيسيره). فمشاهدته أفعال رسول الله عليه السلام المتعددة استخلص منها أن من مقاصد الشرع التيسير. فرأي أن قطع الصلاة من أجل إدراك فرسه ثم العود إلى استئناف صلاته أولى من استمراره على صلاته مع تجشم مشقة الرجوع إلى أهله راجلاً. فهذا المقصد بالنسبة إلى أبي برزة مظنون ظناً قريباً من القطع، ولكنه بالنسبة إلى غيره - الذين يروي إليهم خبره - مقصد محتمل، لأنه يتلقى منه على وجه التقليد وحسن الظن به. ولقد جاء الشاطبي في آخر كتاب المقاصد من تأليفه الموافقات بكلام أرى من المهم إثبات خلاصته باختصار، قال: (بماذا يعرف ما هو مقصود للشارع مما ليس مقصوداً له ؟ والجواب: أن النظر بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يقال: إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا النص الذي يعرفنا به. وحاصل على هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقاً. وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.

الثاني: دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه.

ويطرد ذلك في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك تعرف منه مقاصد الشارع. وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة وهم الباطنية.

الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض. وهذا الذي أمه أكثر العلماء[51].

فنقول: إن مقصد الشارع يعرف من جهات:

إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي. فإن الأمر كان أمراً لاقتضائه الفعل، فوقوع الفعل عنده مقصود للشارع، وكذلك النهي في اقتضاء الكف.

الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمبيع.

الثالثة: أن للشارع في شرع الأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة. فمنها منصوص عليه، ومنها مشار إليه، ومنها ما استقرئ من المنصوص. فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما ذلك شأنه هو مقصود للشارع). انتهى حاصل كلامه "[52]، وقد أضاف إلى هذه الطرق طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة مع ضبطها بغيرها، حيث قال: " وهذا المبحث يتنزل منزلة طريق من طرق إثبات المقاصد الشرعية، ولكني لم أعده في عدادها من حيث إني لم أجد حجة في كل قول من أقوال السلف، إذ بعضها غير مصرح صاحبه بأنه راعى في كلامه المقصد، وبعضها فيه التصريح أو ما يقاربه، ولكنه لا يعد بمفرده حجة لأن قصاراه أنه رأي من صاحبه في فهم مقصد الشريعة.

ولكن مناط الحجة لنا بأقوالهم أنها دالة على أن مقاصد الشريعة على الجملة واجبة الاعتبار، وأن أقوالهم أيضاً لما تكاثرت قد أنبأتنا بأنهم كانوا يتقصون بالاستقراء مقاصد الشريعة من التشريع"[53]، أما الدكتور يوسف القرضاوي فقد بين الوصول إلى المقاصد من خلال أكثر من طريقة[54] - ولم يأت إلا على ذكر طريقتين -:
أولاً: تتبع النصوص التي جاءت بتعليلات في القرآن والسنة، لنعرف منها مقاصد الإسلام وأهدافه.

ثانياً: استقراء الأحكام الجزئية، وتتبعها والتأمل فيها، وضم بعضها إلى بعض من أجل الوصول إلى مقصد كلي أو مقاصد كلية، قصدها الشارع الحكيم من تشريع هذه الأحكام[55] .

علاقة المقاصد بغيرها من المصطلحات ذات الصلة:
أولاً: علاقة المقاصد بالعلة:
قد تقدم معنا مفهوم العلة وأن لها معنيين عند الأصوليين، وكلاهما له ارتباطه الوثيق في تعليل الأحكام، وخاصة المعنى الأول - أعني الوصف الظاهر المنضبط الذي يتعلق الحكم به -، والمقاصد علاقتها بالعلة وثيقة، كون التعليل ظاهراً بيناً في الكثير من الآيات والأحاديث النبوية، ومن ذلك قوله تعالى معللاً إيجاد العباد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [56] ، وقوله معللاً إرسال الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [57]، وعلل - سبحانه - تشريع القصاص بحفظ النفوس بقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [58]، كما علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموراً كثيرة نصاً وإيماء، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " كنت قد نهيتكم عن لحوم الأضاحي من أجل الدافة، فكلوا وادخروا "[59]، ومع ظهور قضية التعليل - كما في الأمثلة المتقدمة وغيرها مما لم يذكر - فإن هناك اختلافاً بين العلماء في إثباتها، وخلاصته:
- إن الأصل عدم التعليل، حتى يقوم الدليل عليه.

- إن الأصل التعليل بكل وصف صالح لإضافة الحكم عليه، حتى يوجد مانع عن البعض.

- إن الأصل التعليل بوصف، ولكن لا بد من دليل يميز الصالح من الأوصاف للتعليل وغير الصالح.

- إن الأصل في النصوص التعبد دون التعليل[60] .

ولسنا بصدد تفصيل القول في قبول أو رد هذه الأقوال، أو ترجيح الراجح منها، ولكن يكفي القول في مسألة التعليل: إن جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم ذهبوا: إلى أن أحكام الشرع معللة بجلب المصالح للعبد دنيوية أو أخروية، ودرء المفاسد عنه بكل أنواعها، سواء منها ما كان معقول المعنى، وما لم يكن كذلك، ولم يخالف في هذا إلا الظاهرية، وحتى هؤلاء عند التحقيق وتحرير موضع النزاع معهم بدقة، يؤول الخلاف معهم إلى اللفظ[61]، وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية منكر التعليل بقوله: " قد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر[62]، وأنكر ما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها "[63]، وطالما أن المقاصد دائرة مع الحكم والغايات فإن علاقتها بالعلل وثيقة، كون التعليل مرتبطاً ببيان الغاية من التشريع، فلا وجه للفصل والتفريق بينهما.

ثانياً: علاقة المقاصد بالمصلحة:
اختلط مفهوم المقصد بالمصلحة في الاستعمال، فيذكر أحدهما بمعنى الآخر ولذلك عقد ابن عاشور فصلاً للتعريف بالمصلحة[64]، فعرف المصلحة بقوله: " وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع منه دائماً أو غالباً للجمهور أو للآحاد "[65]، وهو قريب من تعريف الشاطبي الذي استنبطه ابن عاشور في كتابه بقوله: " وعرفها[66] الشاطبي في مواضع من كتابه عنوان التعريف - بما يتحصل منه بعد تهذيبه - أنها ما يؤثر صلاحاً أو منفعة للناس عمومية أو خصوصية، وملاءمة قارة في النفوس في قيام الحياة "[67]، وأضاف قائلاً: " إن المصالح كثيرة متفاوتة الآثار قوة وضعفاً في صلاح أحوال الأمة أو الجماعة، وأنها أيضاً متفاوتة بحسب العوارض العارضة والحافة بها من معضدات لآثارها أو مبطلات لتلك الآثار كلاً أو بعضاً. وإنما يعتبر منها ما نتحقق أنه مقصود للشريعة، لأن المصالح كثيرة منبثة "[68].


وعرفها الغزالي بقوله: " أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة "[69]، وقد بين الغزالي مقصوده من هذا التعريف بقوله: " ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة "[70]، وعرفها ابن قدامة بمثل تعريف الغزالي بقوله: " المصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة "[71]، وعرفها الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي تعريفاً جيداً بقوله: " المصلحة هي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم "[72]، وعرفها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بقوله: " والمصلحة فيما اصطلح عليه علماء الشريعة الإسلامية يمكن أن تعرف بما يلي (المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم، طبق ترتيب معين فيما بينها) "[73].



وارتباط الشرع بالمصلحة أمر ظاهر لا ينكر، كون الشريعة معللة بالمصالح التي تراعي مقاصد العباد في العاجل والآجل، قال ابن القيم مبيناً ارتباط الشريعة بالمصالح ورعايتها لها تحت عنوان: بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد: " هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتى به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها "[74] ، وإذا كانت الشريعة تراعي مصالح العباد فإنها - بلا شك - تقصد هذه المصالح وتهدف إلى تحصيلها، فالشارع أراد هذه المصالح وقصدها بتشريعه الأحكام، وهي تعود على المكلف وتؤول إليه[75] ، ومما تقدم ندرك أن المقاصد علاقتها بالمصلحة علاقة وثيقة بل هي تمثل أساساً نظرياً لها تنبني عليه، وقد أقر فقهاء الإسلام على مر العصور بأن الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة، فهي حاضرة في الأصول والقواعد التشريعية[76].

ثالثاً: علاقة المقاصد بالحكمة:
الحكمة عند الأصوليين: هي ما يترتب على ربط الحكم بعلته أو بسببه من جلب مصلحة أو دفع مضرة، أو تقليلها[77]، ولفظ (الحكمة) أكثر ما يستعمله الأصوليون لبيان المعنى المقصود من تشريع الحكم، وما يترتب عليه من جلب نفع أو دفع مضرة، كتحصيل مصلحة حفظ الأنساب بتحريم الزنى، وإيجاب الحد على الزاني، وكدفع المشقة بتشريع القصر والفطر للمسافر، والحفاظ على النفس الإنسانية من الاعتداء أو الإهدار بتشريع القصاص، وغير ذلك، وهو ما صرح به الطوفي بقوله: والحكمة غاية الحكم المطلوبة بشرعه[78].

وطالما أن المقاصد دائرة مع الحكم والغايات من التشريع، فالحكمة وفق المعنى المتقدم تتطابق مع المقصد الشرعي الذي أراده الحكم. قال ابن القيم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [79]: " والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح، وسمي حكمة لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما، وأوصلا إلى غايتهما، وكذلك لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصلاً إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة، فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هداهم ولا إيصالهم إلى سعادتهم ودلالتهم على أسبابها وموانعها، ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة، ولا تكلم لأجلها، ولا أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجلها، ولا نصب الثواب والعقاب لأجلها لم يكن حكيماً ولا كلامه حكمة "[80]، فكلام ابن القيم - رحمه الله - ظاهر في بيان معنى الحكمة، وربطها بمقاصد المتكلم - وهو الشارع سبحانه -، لتعبر عن مراده في وضع الشريعة، وهذا يثبت أن الشريعة لم توضع عبثاً ولا سدى، وأنها موضوعة كما قال الشاطبي في موافقاته: "لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً"[81]، وهذا يجعل لفظ الحكمة متطابقاً مع لفظ المقصد.




ـــــــــــــــــ
[1] انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص36، علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين بن مختار الخادمي، ص51، الاجتهاد المقاصدي، د. نور الدين بن مختار الخادمي، ج1 ص85، الأسس العامة لفهم النص الشرعي، د. عبد المجيد السوسوة، ص42، منهج التيسير المعاصر، عبد الله بن إبراهيم الطويل، ص24.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، ص40.
[3] انظر باب ( قصد ) في تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي، ج 9، ص35، لسان العرب لابن منظور، ج3، ص353.
[4] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، 15.
[5] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج1 ص48.
[6] بين علمي أصول الفقه و المقاصد، مرجع سابق، ص120.
[7] المفاهيم مفاتيح الفهم ومرايا الحضارة د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، مقال منشور في موقع إسلام أون لاين.
[8] مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، ص165.
[9] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، د. عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني، ص46.
[10] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص79.
[11] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، د. يوسف القرضاوي، ص20.
[12] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص16.
[13] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ص52، علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص17.
[14] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص47.
[15] من التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، د. طه جابر العلواني، إسلامية المعرفة، العدد 46-47.
[16] انظر للتوسع : مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص47، وعلم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص53، وبين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص81.
[17] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص84 نقلاً عن طبقات الشافعية للسبكي، ج5 ص192.
[18] المرجع السابق، ص85.
[19] المرجع السابق، ص89.
[20] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص48.
[21] المرجع السابق، ص49.
[22] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج20 ص48.
[23] المرجع السابق، ج32 ص234.
[24] إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ج3 ص3.
[25] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، ص16.
[26] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص14.
[27] النساء، آية 165.
[28] الأنبياء، آية 107.
[29] هود، آية 7.
[30] الذاريات، آية 56.
[31] الملك، آية 2.
[32] المائدة، آية 6.
[33] البقرة، آية 183.
[34] العنكبوت، آية 45.
[35] البقرة، آية 150.
[36] الحج، آية 39.
[37] البقرة، آية 179.
[38] الأعراف 172.
[39] الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، ص200.
[40] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص28.
[41] مقاصد الشريعة، مجموعة مؤلفين، تحرير عبد الجبار الرفاعي، ص199.
[42] من التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، مرجع سابق.
[43] الموافقات، مرجع سابق، ص442.
[44] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص67.
[45] العلة عند الأصوليين يراد بها معنيان : الأول : الوصف الظاهر المنضبط المناسب الذي جعله الشارع موجباً للحكم ومعرفاً له، ومثاله : الزنى الذي جعله علة للرجم أو الجلد، والقتل العمد الذي جعله علة مناسبة للقصاص، وعقد النكاح الذي جعله الشارع علة لحل الاستمتاع، فهذه جميعها أوصاف ظاهرة غير خفية. كذلك فهي أوصاف منضبطة، أي أنها غير مضطربة، بحيث لم تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، ولذا لم تجعل المشقة علة الفطر والتخفيف على المسافر بالقصر في رمضان، وإنما أناطه بالسفر، كونه منضبطاً ظاهراً. أما أن تلك الأوصاف مناسبة فمعناها : أن من شأن ترتب الحكم عليها أن تفضي إلى تحقيق مصلحة مقصودة للشارع. وأما أنها موجبة للحكم : فذاك لأنها تستدعي ما أناط الشارع بها من أحكام، وربط وجود الحكم بها، بحيث يدور الحكم معها وجوداً وعدماً، كالسرقة التي توجب حكم قطع اليد، والزنى الذي يوجب حكم الرجم إن كان محصناً، أو الجلد إن كان بكراً، والقتل العمد الذي يوجب القصاص. وأما المعنى الثاني للعلة : فهو المعنى المناسب لتشريع الحكم. وهو ما عبر عنه ( الشاطبي ) بقوله في تعريفه للعلة : " هي الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي. فالمشقة علة في إباحة القصر والفطر في السفر؛ فالعلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها مظنتها ظاهرة كانت أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة.
انظر : قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص49. وللتوسع في معنى العلة : يراجع البحر المحيط للزركشي، ج4ص111.
أما مسالك العلة فهي الطرق التي تدل على كون الوصف علة، وهي متعددة ذكر منها الفتوحي : الإجماع، والنص، والمناسبة، والشبه، والدوران. وأضاف إليها الرازي : الإيماء، والتأثير، والسبر والتقسيم، والطرد، وتنقيح المناط.
انظر : شرح الكوكب المنير، الفتوحي، ج4ص115، والمحصول، الرازي، ج5، ص137.
[46] المزابنة : هي بيع الرطب بما كان يابساً. انظر : المجموع شرح النووي، ج10 ص585، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني، ج2 ص504.
[47] الإيماء : هو دلالة النص على التعليل بالقرينة، لا بصراحة اللفظ. أو هو الذي يدل على العلية بالالتزام، لأنه يفهمها من جهة المعنى لا اللفظ.
انظر : البحر المحيط للزركشي، ج4، ص197، والموسوعة الفقهية، ج7 ص242.
[48] التولية : هي نقل جميع المبيع إلى المولى بمثل الثمن المثلي أو عين المتقوم القيمي بلفظ : وليتك أو ما يقوم مقامه. انظر : الموسوعة الفقهية، ج14ص196.
[49] الإقالة : هي رفع العقد، وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين. انظر الموسوعة الفقهية، ج5 ص324.
[50] وهي الأوقاف، والوقف : هو تحبيس الأصل وتسبيل المنافع.
[51] وهناك اتجاه رابع وهو اتجاه المتوسعين في المقاصد بغلو كبير إلى حد إهدار دلالات النصوص المحكمة وتجاوز ضروريات الدين ومبادئ الشريعة وأحكامها المؤكدة، وذلك بافتراضه لمصالح ومقاصد من خارج النصوص وتقديمها على نصوص الشريعة إذا تعارضت ولو كان النص قطعياً، كالذي يبيح الربا تحت مبرر المصلحة؛ مفسراً إياه في ضوء مقاصد التشريع، وهو في حقيقته تعسف في تفسير النصوص، وبناء المقاصد على مصالح موهومة.
انظر : الأسس العامة لفهم النص الشرعي، مرجع سابق، ص50.
[52] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص56.
[53] المرجع السابق، ص66.
[54] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، مرجع سابق، ص24.
[55] وهاتان الطريقتان قد دل عليهما كلام ابن عاشور المتقدم، وهو الذي دل عليه كلام الشاطبي في آخر كتاب المقاصد من الموافقات حين ختمه بطرق معرفة مقاصد الشريعة.
[56] الذاريات، آية 56.
[57] النساء، آية 165.
[58] المائدة، آية 32.
[59] أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، رقم 1971، والدافة : هم من يطرأ من المحتاجين.
[60] مقاصد الشريعة، د. طه جابر العلواني، ضمن كتاب : مقاصد الشريعة، مجموعة مؤلفين، تحرير عبد الجبار الرفاعي، ص69.
[61] المرجع السابق، ص76.
[62] يقصد التمييز بين المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر.
[63] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج11 ص354.
[64] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص132.
[65] مقاصد الشريعة الإسلامية، ص200. وهناك من انتقد تعريف ابن عاشور للمصلحة، وهو الدكتور محمد المختار السلامي بقوله : " ابن عاشور وضع المصلحة في إطار الفعل الإنساني. ولذا أخرج الذوات وأعراضها من ضابط المصلحة والمفسدة. إلا أنه جعل الوصف يتميز بأنه يحصل به الصلاح. والصلاح والمصلحة مادة واحدة. فأفضى تعريفه إلى أنه لا تفهم المصلحة إلا بفهم الصلاح. ولا يفهم الصلاح إلا بإدراك حد المصلحة. وهو دور مفسد للتعريف وكأنه استشعر هذه الصعوبة ففسر الصلاح بالمنفعة. فالمنفعة لفظ مساو للصلاح"، وهذا الذي دفع بعض الباحثين إلى القول : " إن المصلحة هو موضع الصلاح. وإذا تبين أن المصالح التي تعتبرها الشريعة هي المواضع المعنوية التي يحصل فيها الإنسان صلاحه، علمنا أن وظيفتها الأساسية وظيفة أخلاقية صريحة. إذ حد الصلاح أنه قيمة أخلاقية، بل هو رأس القيم الأخلاقية، وحد الأخلاق أنها تبحث في الصلاح ". انظر : مظاهر التجديد في المبحث المقاصدي، إبراهيم الكيلاني، ضمن كتاب : خطاب التجديد الإسلامي، مجموعة مؤلفين، ص258. ولا غرابة في هذا القول فإن النصوص قد أكدت عليه، وبينت المقصد من البعثة والتشريع، كما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام قوله : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
[66] أي المصلحة.
[67] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص200.
[68] المرجع السابق، ص230.
[69] المستصفى، الغزالي، ج2ص481.
[70] المرجع السابق.
[71] روضة الناظر، ابن قدامة، ص169.
[72] أصول مذهب الإمام أحمد، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ص459.
[73] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص27.
[74] إعلام الموقعين، مرجع سابق، ج3 ص3.
[75] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص23.
[76] مظاهر التجديد في المبحث المقاصدي، مرجع سابق، ص251.
[77] الموسوعة الفقهية، ج18 ص67.
[78] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص48.
[79] البقرة، آية 269.
[80] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن القيم، ص190.
[81] الموافقات، مرجع سابق، ص200.

رابط الموضوع: Cant See Links


رد مع اقتباس
قديم 03-29-2013, 08:21 PM   رقم المشاركة : 4
الكاتب

نداء البدوي

الاعضاء

نداء البدوي غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








نداء البدوي غير متواجد حالياً


رد: مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة " الدكتور عبد المجيد عمر النجار

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أفاق : الاداره Cant See Links
مدخل إلى علم المقاصد (2/5)

د. فارس العزاوي
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 8/6/2009 ميلادي - 14/6/1430 هجري
زيارة: 8930

أهمية المقاصد:


تتجلى أهمية معرفة مقاصد الشريعة في عدة أمور، منها[1]:
- بيان الإطار العام للشريعة، والتصور الكامل للإسلام، وتوضيح الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام، لتتكون النظرة الكلية الإجمالية للفروع، وبذلك يعرف الإنسان ما يدخل في الشريعة وما لا يدخل فيها.

- إبراز علل التشريع وحكمه وأغراضه ومراميه الجزئية والكلية العامة والخاصة في شتى مجالات الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة.

- إبراز أهداف الدعوة الإسلامية التي ترمي إلى تحقيق مصالح الناس، ودفع المفاسد عنهم، وذلك يرشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق السعادة في الدنيا والفوز برضوان الله في الآخرة.

- فهم النصوص وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع واستنباط الأحكام منها.

- تعين على ترجيح ما يحقق المقاصد ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد.

- التوفيق بين خاصيتي الأخذ بظاهر النص، والالتفات إلى روحه ومدلوله على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض.

- تأكيد خصائص صلاحية الشريعة ودوامها وواقعيتها ومرونتها وقدرتها على التحقق والتفاعل مع مختلف البيئات والظروف والأطوار.

- التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي والتعصب المذهبي، وذلك باعتماد علم المقاصد في عملية بناء الحكم، وتنسيق الآراء المختلفة، ودرء التعارض بينها.

- إدراك علماء الشريعة الإسلامية أن نصوصها وأحكامها معقولة المعنى، ومبنية على النظر والاستدلال، فالمسلم وإن كان يتلقى التكاليف بروح القناعة واليقين بأحقيتها، ويطبقها وهو تملؤه الثقة بخيريتها، إلا أن ذلك لا يمنع من التماس الحكمة من تشريعها.

قال ابن عاشور موضحاً أهمية المقاصد فيما عنون له: احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة: "إن تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء:
النحوالأول: فهم أقوالها، واستفادة مدلولات تلك الأقوال، بحسب الاستعمال اللغوي، وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي. وقد تكفل بمعظمه علم أصول الفقه.

النحو الثاني: البحث عما يعارض الأدلة التي لاحت للمجتهد، والتي استكمل إعمال نظره في استفادة مدلولاتها، ليستيقن أن تلك الأدلة سالمة مما يبطل ويقضي عليها بالإلغاء والتنقيح. فإذا استيقن أن الدليل سالم عن المعارض أعمله، وإذا ألفى له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً، أو رجحان أحدهما على الآخر.

النحو الثالث: قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه بعد أن يعرف علل التشريعات الثابتة بطريق من طرق مسالك العلة المبينة في أصول الفقه.

النحو الرابع: إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولا له نظير يقاس عليه.

النحو الخامس: تلقي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلقي من لم يعرف علل أحكامها ولا حكمة الشريعة في تشريعها. فهو يتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها، ويستضعف علمه في جنب سعة الشريعة، فيسمي هذا النوع بالتعبدي.

فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها"[2] .

تعريف المقاصد:
المقاصد في اللغة جمع مقصد، مشتق من الفعل قصد يقصد قصداً، وأصل (ق ص د) ومواقعها في كلام العرب الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور، هذا أصله في الحقيقة وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، والقصد يطلق ويراد به عدة معاني، ومنها: إتيان الشيء، استقامة الطريق، الاعتماد والأم، العدل، الكسر في أي وجه كان[3].

وأما في الاصطلاح فإننا نجد أن العلماء لم يحددوا معنى القصد أو المقصد اصطلاحاً على الرغم من أنهم نصوا على جملة من المقاصد في مصنفاتهم، وذكروا بعضاً من تقسيماتها: كذكرهم للكليات المقاصدية الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وذكر المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية وبعض الحكم والأسرار والعلل[4]، كما أنهم عبروا عن المقاصد بألفاظ مختلفة وتعابير متباينة على الرغم من كونها دالة عليها وهذا يفهم من سياقها، فقد عبر بعضهم عنها بالحكمة المقصودة بالشريعة من الشارع، وبعضهم أطلق عليها لفظ المصلحة، وجاء البعض الآخر بلفظ نفي الضرر ورفعه وقطعه، ومنهم من عبر عنها بلفظ دفع المشقة ورفعها أو رفع الحرج والضيق وتقرير التيسير والتخفيف، وتارة يسمونها الكليات الخمس الكبرى كما أشرنا إليها سابقاً، وتارة أخرى بالعلل وغير ذلك[5].

وقد رجح بعض أهل العلم من المعاصرين أن أول من عني ببيان معنى المقاصد اصطلاحاً هو العلامة محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية)[6]، وسنسوق بعضاً من التعاريف التي وضعها العلماء للمقاصد حتى يتسنى لنا إدراك معناها ومفهومها لأن المفاهيم مفاتيح للفهم ولها تأثيرها في البناء المعرفي[7]:
- عرف المقاصد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بقوله: " مقاصد التشريع العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها "[8].

- وعرفها الأستاذ علال الفاسي بقوله: " بأنها الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها "[9].

- وعرفها الأستاذ يوسف حامد العالم بقوله: "هي المصالح التي تعود إلى العباد في دنياهم وأخراهم، سواء أكان تحصيلها عن طريق جلب المنافع أو عن طريق دفع المضار"[10].

- وعرفها الدكتور يوسف القرضاوي بقوله: "الغايات التي تهدف إليها النصوص من الأوامر والنواهي والإباحات، وتسعى الأحكام الجزئية إلى تحقيقها في حياة المكلفين، أفراداً وأسراً وجماعات وأمة "[11].

- وعرفها الدكتور أحمد الريسوني بقوله: "هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد"[12].

- وعرفها الدكتور نور الدين بن مختار الخادمي بقوله: " المقاصد هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكماً جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين "[13].

- وعرفها الدكتور عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني بقوله: " المعاني الغائية، التي اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه "[14].

وظاهر من التعاريف السابقة أن هناك اتفاقاً بين العلماء على كون المقاصد دائرة مع المصالح والغايات والحكم التي قصد الشارع تحقيقها عند وضعه الشريعة، وهذا شامل للمقاصد العامة والخاصة وسيأتي مزيد بيان في مباحث لاحقة حول هذا الأمر.

نشأة وتطور علم المقاصد:
عند حديثنا عن نشأة وتطور علم المقاصد فإننا نشير إلى المرحلة التاريخية التي أضحت فيها المقاصد قواعد وأسساً تستند عليها، وأصبحت علماً قائماً بذاته له دلالاته وحقائقه ومناهجه، وإلا فإن أساس هذا العلم ونشأته كانت مع نزول الوحي ووضع الشريعة، وعلى الرغم من أهمية علم المقاصد وتأكيد نصوص الشريعة عليه كتاباً وسنة، إلا أنه لم يأخذ مداه في الفضاء الفقهي والفكري الإسلامي - كغيره من العلوم وخاصة أصول الفقه - وإن وجد اهتماماً لدى ثلة من العلماء الذين تناولوا موضوعه بصورة نظرية، حيث ظلت قضية المقاصد أحد الأبعاد الغائبة عن الدراسات الإسلامية أزمنة طويلة، ويقف في مقدمة أسباب هذا الغياب هيمنة النظر الكلامي المجرد والاختلاف في التعليل والغائية[15] ، ولعلنا في إشارة سريعة بحاجة إلى استقراء المراحل التي مر بها هذا العلم، وتقديم نبذة مختصرة عن كتابات علماء المقاصد[16]:
- على الرغم من أن هناك إسهامات تقدمت في هذا الباب تمثل طليعة الكتابات في باب المقاصد كإسهام الحكيم الترمذي في كتبه التي أظهر فيها اهتمامه بالمقاصد ككتاب: الصلاة ومقاصدها، وكتابه علل الشريعة، وإسهام أبي بكر القفال الشاشي في كتابه محاسن الشريعة، وغيرهما من العلماء، إلا أن إسهام إمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت 478هـ) يمثل منطلقاً حقيقياً في باب المقاصد من خلال كتابه (البرهان في أصول الفقه) حيث خصص جزءاً من كتابه للحديث عن المقاصد وعنون له بقوله: في تقاسيم العلل والأصول التي بها تظهر المقاصد ويكشف عن المصالح. قال السبكي: " وضع إمام الحرمين في أصول الفقه كتاب البرهان على أسلوب غريب لم يقتد فيه بأحد "[17]، وقد تضمن كتاب البرهان شواهد على عناية الجويني بالأصول وبالمقاصد الشرعية[18] .

- ثم جاء من بعده تلميذه الغزالي (ت 505هـ)، حيث تعددت كتبه، وتميزت إسهاماته، وأظهر تصورات جديدة في علمي الأصول والمقاصد، يمكن تلمسها بصورة خاصة في كتبه: شفاء الغليل، والمنخول، والمستصفى الذي يمثل أنضج كتبه وأكثرها وضوحاً، ولعل من أبرز ما قدمه الغزالي في باب المقاصد حديثه عن المصالح التي جعلها ثلاث مراتب: ضرورية، وحاجية، وتحسينية.

- ثم يأتي جهد الإمام العز بن عبد السلام (ت 660هـ) ليضيف بعداً آخر لعلم المقاصد من خلال كتابه المميز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، فقد وضعه على أسلوب بديع جعل جماع القواعد الشرعية محصوراً في جلب المصالح ودرء المفاسد[19]، حتى كاد كتابه يكون خاصاً في مقاصد الشريعة سواء باعتبار كلامه الصريح في مقاصد الأحكام، أو باعتبار أن الكلام في المصالح والمفاسد إنما هو كلام عن المقاصد الشرعية[20].

- ثم أتى تلميذه الإمام شهاب الدين القرافي (ت 685هـ)، فقد اقتفى طريق شيخه في ضبط القواعد وتحرير المقاصد في جملة من كتبه، وبخاصة كتابه: الفروق، الذي مثل بياناً لأصول الشريعة في ضوء ما سماه بأسرار الشرع وحكمه، ومن إضافاته تمييزه بين المقامات المختلفة للتصرفات النبوية[21].

- أما شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) فلا يخلو كلامه عن الشريعة وأحكامها وبيان مقاصدها، وكان يكثر من بيان تعليل الأحكام وإظهار مقاصدها الشرعية، فالشريعة عنده " جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما "[22]، ولابن تيمية استدراك على الأصوليين في حصرهم لمقاصد الشريعة الخمسة المعروفة إذ يقول: " وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة‏‏ وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق‏ ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح‏ "[23].

- ثم جاء من بعده تلميذه ابن القيم (ت 751هـ) ليؤكد نهج شيخه وامتداد مدرسته المقاصدية، ومن أبرز كتبه في هذا الباب كتاب: إعلام الموقعين عن رب العالمين، إذ يقول فيه: " الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل "[24]، وقال في موضع آخر مبيناً مكانة القرآن الكريم وما فيه من تعليلات وأحكام: " وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتب الجزاء على الشرط والمعلول على العلة والمسبب على السبب وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع "[25] .

- أما الإمام الشاطبي (ت 790ه-) فيعد شيخ علم المقاصد، حيث صنف فيه كتابه: الموافقات، تناول فيه موضوع المقاصد باستفاضة وعمق في القسم الثاني من الكتاب: تحت عنوان (كتاب المقاصد)، وصاغه بأسلوب أصولي فذ، لا يوجد في غيره من المصنفات التي سبقته، وإن من مظاهر الإبداع والتجديد التي أضافها الشاطبي إلى علم المقاصد، إيراده لكثير من القواعد العامة التي تعبر عن معان تشريعية مقاصدية، أي أنه صاغ المقاصد على شكل قواعد، بحيث تشكل المعالم الأساسية التي راعاها الشارع في تشريعه[26]، قال الشاطبي مبيناً الغاية من وضع الشريعة: " وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً... والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء.. فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل، وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [27]، ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [28] ، وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [29]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [30]، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [31].

وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى؛ كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ} [32] . وقال في الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [33] ، وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [34]، وقال في القبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [35]، وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [36]، وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [37]، وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [38]، والمقصود التنبيه. وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة "[39].

قال ابن عاشور: " والرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين هو: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي، إذ عني بإبراز القسم الثاني من كتابه المسمى عنوان التعريف بأصول التكليف في أصول الفقه، وعنون ذلك القسم ب كتاب المقاصد. ولكنه تطوح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود، على أنه أفاد جد الإفادة. فأنا أقتفي آثاره "[40].

- وعلى الرغم من عظم الإسهام الذي قدمه الشاطبي في علم المقاصد، إلا أنه يصدق عليه ما قاله مالك بن نبي في ابن خلدون من أنه جاء متأخراً عن أوانه أو سابقاً عليه فلم تنطبع أفكاره في العقل المسلم، وكذلك لم تنطبع أفكار الشاطبي في العقل المسلم الذي كان يعيش بداية انحطاطه يومذاك، فظلت أفكاره مجهولة، وبعده أصيبت العلوم الإسلامية عامة والمقاصد خاصة بجمود كبير، وبما يشبه الغيبة في الإبداع والتجديد والاستمرار[41]، حتى اكتشفها علماء مصلحون معاصرون: الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والدكتور عبد الله دراز في المشرق، والعلامتان محمد الطاهر ابن عاشور وعلال الفاسي في المغرب، فأشادوا بها وكتبوا حولها - خصوصاً المغاربة منهم - كتابات حللت وأصلت وأضافت المزيد.

ثم بنى على ذلك التراث علماء وباحثون معاصرون في دراسات جادة منها: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية للدكتور يوسف العالم، ونظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للدكتور أحمد الريسوني، ونظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور للدكتور إسماعيل حسني[42] .

طرق إثبات المقاصد:
يصطلح على تسمية هذا المبحث بمسالك الكشف عن المقاصد، أو سبل إثبات المقاصد، أو طرق كشف وتعيين المقاصد، وغيرها، وقد عنون الشاطبي لهذا المبحث بقوله: (فصل: بيان الجهات التي يعرف بها مقاصد الشارع)[43]، وعنون لها ابن عاشور بقوله: (طرق إثبات المقاصد الشرعية)[44]، ويحسن بنا في هذا الموضع أن نسوق كلام العلامة ابن عاشور في مقاصده فقد بين باستفاضة طرق إثبات المقاصد ولخص كلام الشاطبي في هذا المبحث، فكل من كتب فيه يعتبر عالة على ما قاله، قال - رحمه الله -: " الطريق الأول: وهو أعظمها، استقراء الشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين: أعظمهما: استقراء الأحكام المعروفة عللها، الآئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة[45]، فإن باستقراء العلل حصول العلم بمقاصد الشريعة بسهولة، لأننا إذا استقرينا عللاً كثيرة متماثلة في كونها ضابطاً لحكمة متحدة أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة، فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يستنتج من استقراء الجزئيات تحصيل مفهوم كلي حسب قواعد المنطق. مثاله: أننا إذا علمنا علة النهي عن المزابنة[46] الثابتة بمسلك الإيماء[47] في قول رسول الله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لمن سأله عن بيع التمر بالرطب: (أينقص الرطب إذا جف ؟ قال: نعم، قال: فلا إذن).

فحصل لنا أن علة تحريم المزابنة، هي: الجهل بمقدار أحد العوضين، وهو الرطب منهما المبيع باليابس. وإذا علمنا النهي عن بيع الجزاف بالمكيل، وعلمنا أن علته جهل أحد العوضين بطريق استنباط العلة. وإذا علمنا إباحة القيام بالغبن، وعلمنا أن علته نفي الخديعة بين الأمة بنص قول الرسول عليه السلام للرجل - الذي قال له: إني أخدع في البيوع -: (إذا بايعت فقل لا خلابة). إذا علمنا هذه العلل كلها استخلصنا منها مقصداً واحداً، وهو: إبطال الغرر في المعاوضات. فلم يبق خلاف في أن كل تعاوض اشتمل على خطر أو غرر في ثمن، أو مثمن أو آجل فهو تعاوض باطل. ومثال آخر: وهو أننا نعلم النهي عن أن يخطب المسلم على خطبة مسلم آخر، والنهي عن أن يسوم على سومه، ونعلم أن علة ذلك هو ما في ذلك من الوحشة التي تنشأ عن السعي في الحرمان من منفعة مبتغاة، فنستخلص من ذلك مقصداً هو: دوام الأخوة بين المسلمين، فنستخدم ذلك المقصد لإثبات الجزم بانتفاء حرمة الخطبة بعد الخطبة والسوم بعد السوم، إذا كان الخاطب الأول والسائم الأول قد أعرضا عما رغبا فيه. النوع الثاني من هذا الطريق: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع. مثاله: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، علته طلب رواج الطعام في الأسواق.

والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة إذا حمل على إطلاقه عند الجمهور، علته أن لا يبقى الطعام في الذمة فيفوت رواجه. والنهي عن الاحتكار في الطعام لحديث مسلم عن معمر مرفوعاً: (من احتكر طعاماً فهو خاطئ)، علته إقلال الطعام من الأسواق. فبهذا الاستقراء يحصل العلم بأن رواج الطعام وتيسير تناوله مقصد من مقاصد الشريعة. فنعمد إلى هذا المقصد فنجعله أصلاً ونقول: إن الرواج إنما يكون بصور من المعاوضات، والإقلال إنما يكون بصور من المعاوضات، إذ الناس لا يتركون التبايع.

فما عدا المعاوضات لا يخشى معه عدم رواج الطعام. ولذلك قلنا: تجوز الشركة والتولية[48] والإقالة[49] في الطعام قبل قبضه. ومن هذا القبيل كثرة الأمر بعتق الرقاب الذي دلنا على أن من مقاصد الشريعة حصول الحرية. الطريق الثاني: أدلة القرآن الواضحة الدلالة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال العربي، بحيث لا يشك في المراد منها إلا من شاء أن يدخل على نفسه شكاً لا يعتد به. ألا ترى أنا نجزم بأن معنى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}: أن الله أوجبه.

ولو قال أحد: إن ظاهر هذا اللفظ أن الصيام مكتوب في الورق لجاء خطأً من القول. فالقرآن لكونه متواتر اللفظ قطعيه يحصل اليقين بنسبة ما يحتوي عليه إلى الشارع تعالى، ولكنه لكونه ظني الدلالة يحتاج إلى دلالة واضحة يضعف تطرق احتمال معنى ثان إليها. فإذا انضم إلى قطعية المتن قوة ظن الدلالة تسنى لنا أخذ مقصد شرعي منه يرفع الخلاف عند الجدل في الفقه، مثل ما يؤخذ من قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، وقوله: {أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. ففي كل آية من هذه الآيات تصريح بمقصد شرعي أو تنبيه على مقصد.

الطريق الثالث: السنة المتواترة. وهذا الطريق لا يوجد له مثال إلا في حالين: الحال الأول: المتواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة عملاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين. وإلى هذا الحال يرجع قسم المعلوم من الدين بالضرورة، وقسم العمل الشرعي القريب من المعلوم ضرورة، مثل مشروعية الصدقة الجارية المعبر عن بعضها بالحبس.

وهذا العمل هو الذي عناه مالك حين بلغه: أن شريحاً يقول بعدم انعقاد الحبس[50]، ويقول أن لا حبس عن فرائض الله. فقال مالك: (رحم الله شريحاً تكلم ببلاده - يعني الكوفة - ولم يرد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم [ لا يطعن فيها طاعن ]، وهذه صدقات رسول الله سبعة حوائط. وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرة) اه-. وأمثلة هذا العمل في العبادات كثيرة، ككون خطبة العيدين بعد الصلاة.

الحال الثاني: تواتر عملي، يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يستخلص من مجموعها مقصداً شرعياً.

ففي صحيح البخاري: عن الأزرق بن قيس قال: (كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء. فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فقام يصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس. فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته. وفينا رجل له رأي فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس. فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركت الفرس لما آت أهلي إلى الليل.

وذكر أنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأي من تيسيره). فمشاهدته أفعال رسول الله عليه السلام المتعددة استخلص منها أن من مقاصد الشرع التيسير. فرأي أن قطع الصلاة من أجل إدراك فرسه ثم العود إلى استئناف صلاته أولى من استمراره على صلاته مع تجشم مشقة الرجوع إلى أهله راجلاً. فهذا المقصد بالنسبة إلى أبي برزة مظنون ظناً قريباً من القطع، ولكنه بالنسبة إلى غيره - الذين يروي إليهم خبره - مقصد محتمل، لأنه يتلقى منه على وجه التقليد وحسن الظن به. ولقد جاء الشاطبي في آخر كتاب المقاصد من تأليفه الموافقات بكلام أرى من المهم إثبات خلاصته باختصار، قال: (بماذا يعرف ما هو مقصود للشارع مما ليس مقصوداً له ؟ والجواب: أن النظر بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يقال: إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا النص الذي يعرفنا به. وحاصل على هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقاً. وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.

الثاني: دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه.

ويطرد ذلك في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك تعرف منه مقاصد الشارع. وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة وهم الباطنية.

الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض. وهذا الذي أمه أكثر العلماء[51].

فنقول: إن مقصد الشارع يعرف من جهات:

إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي. فإن الأمر كان أمراً لاقتضائه الفعل، فوقوع الفعل عنده مقصود للشارع، وكذلك النهي في اقتضاء الكف.

الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمبيع.

الثالثة: أن للشارع في شرع الأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة. فمنها منصوص عليه، ومنها مشار إليه، ومنها ما استقرئ من المنصوص. فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما ذلك شأنه هو مقصود للشارع). انتهى حاصل كلامه "[52]، وقد أضاف إلى هذه الطرق طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة مع ضبطها بغيرها، حيث قال: " وهذا المبحث يتنزل منزلة طريق من طرق إثبات المقاصد الشرعية، ولكني لم أعده في عدادها من حيث إني لم أجد حجة في كل قول من أقوال السلف، إذ بعضها غير مصرح صاحبه بأنه راعى في كلامه المقصد، وبعضها فيه التصريح أو ما يقاربه، ولكنه لا يعد بمفرده حجة لأن قصاراه أنه رأي من صاحبه في فهم مقصد الشريعة.

ولكن مناط الحجة لنا بأقوالهم أنها دالة على أن مقاصد الشريعة على الجملة واجبة الاعتبار، وأن أقوالهم أيضاً لما تكاثرت قد أنبأتنا بأنهم كانوا يتقصون بالاستقراء مقاصد الشريعة من التشريع"[53]، أما الدكتور يوسف القرضاوي فقد بين الوصول إلى المقاصد من خلال أكثر من طريقة[54] - ولم يأت إلا على ذكر طريقتين -:
أولاً: تتبع النصوص التي جاءت بتعليلات في القرآن والسنة، لنعرف منها مقاصد الإسلام وأهدافه.

ثانياً: استقراء الأحكام الجزئية، وتتبعها والتأمل فيها، وضم بعضها إلى بعض من أجل الوصول إلى مقصد كلي أو مقاصد كلية، قصدها الشارع الحكيم من تشريع هذه الأحكام[55] .

علاقة المقاصد بغيرها من المصطلحات ذات الصلة:
أولاً: علاقة المقاصد بالعلة:
قد تقدم معنا مفهوم العلة وأن لها معنيين عند الأصوليين، وكلاهما له ارتباطه الوثيق في تعليل الأحكام، وخاصة المعنى الأول - أعني الوصف الظاهر المنضبط الذي يتعلق الحكم به -، والمقاصد علاقتها بالعلة وثيقة، كون التعليل ظاهراً بيناً في الكثير من الآيات والأحاديث النبوية، ومن ذلك قوله تعالى معللاً إيجاد العباد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [56] ، وقوله معللاً إرسال الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [57]، وعلل - سبحانه - تشريع القصاص بحفظ النفوس بقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [58]، كما علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموراً كثيرة نصاً وإيماء، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " كنت قد نهيتكم عن لحوم الأضاحي من أجل الدافة، فكلوا وادخروا "[59]، ومع ظهور قضية التعليل - كما في الأمثلة المتقدمة وغيرها مما لم يذكر - فإن هناك اختلافاً بين العلماء في إثباتها، وخلاصته:
- إن الأصل عدم التعليل، حتى يقوم الدليل عليه.

- إن الأصل التعليل بكل وصف صالح لإضافة الحكم عليه، حتى يوجد مانع عن البعض.

- إن الأصل التعليل بوصف، ولكن لا بد من دليل يميز الصالح من الأوصاف للتعليل وغير الصالح.

- إن الأصل في النصوص التعبد دون التعليل[60] .

ولسنا بصدد تفصيل القول في قبول أو رد هذه الأقوال، أو ترجيح الراجح منها، ولكن يكفي القول في مسألة التعليل: إن جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم ذهبوا: إلى أن أحكام الشرع معللة بجلب المصالح للعبد دنيوية أو أخروية، ودرء المفاسد عنه بكل أنواعها، سواء منها ما كان معقول المعنى، وما لم يكن كذلك، ولم يخالف في هذا إلا الظاهرية، وحتى هؤلاء عند التحقيق وتحرير موضع النزاع معهم بدقة، يؤول الخلاف معهم إلى اللفظ[61]، وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية منكر التعليل بقوله: " قد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر[62]، وأنكر ما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها "[63]، وطالما أن المقاصد دائرة مع الحكم والغايات فإن علاقتها بالعلل وثيقة، كون التعليل مرتبطاً ببيان الغاية من التشريع، فلا وجه للفصل والتفريق بينهما.

ثانياً: علاقة المقاصد بالمصلحة:
اختلط مفهوم المقصد بالمصلحة في الاستعمال، فيذكر أحدهما بمعنى الآخر ولذلك عقد ابن عاشور فصلاً للتعريف بالمصلحة[64]، فعرف المصلحة بقوله: " وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع منه دائماً أو غالباً للجمهور أو للآحاد "[65]، وهو قريب من تعريف الشاطبي الذي استنبطه ابن عاشور في كتابه بقوله: " وعرفها[66] الشاطبي في مواضع من كتابه عنوان التعريف - بما يتحصل منه بعد تهذيبه - أنها ما يؤثر صلاحاً أو منفعة للناس عمومية أو خصوصية، وملاءمة قارة في النفوس في قيام الحياة "[67]، وأضاف قائلاً: " إن المصالح كثيرة متفاوتة الآثار قوة وضعفاً في صلاح أحوال الأمة أو الجماعة، وأنها أيضاً متفاوتة بحسب العوارض العارضة والحافة بها من معضدات لآثارها أو مبطلات لتلك الآثار كلاً أو بعضاً. وإنما يعتبر منها ما نتحقق أنه مقصود للشريعة، لأن المصالح كثيرة منبثة "[68].


وعرفها الغزالي بقوله: " أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة "[69]، وقد بين الغزالي مقصوده من هذا التعريف بقوله: " ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة "[70]، وعرفها ابن قدامة بمثل تعريف الغزالي بقوله: " المصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة "[71]، وعرفها الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي تعريفاً جيداً بقوله: " المصلحة هي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم "[72]، وعرفها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بقوله: " والمصلحة فيما اصطلح عليه علماء الشريعة الإسلامية يمكن أن تعرف بما يلي (المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم، طبق ترتيب معين فيما بينها) "[73].


وارتباط الشرع بالمصلحة أمر ظاهر لا ينكر، كون الشريعة معللة بالمصالح التي تراعي مقاصد العباد في العاجل والآجل، قال ابن القيم مبيناً ارتباط الشريعة بالمصالح ورعايتها لها تحت عنوان: بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد: " هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتى به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها "[74] ، وإذا كانت الشريعة تراعي مصالح العباد فإنها - بلا شك - تقصد هذه المصالح وتهدف إلى تحصيلها، فالشارع أراد هذه المصالح وقصدها بتشريعه الأحكام، وهي تعود على المكلف وتؤول إليه[75] ، ومما تقدم ندرك أن المقاصد علاقتها بالمصلحة علاقة وثيقة بل هي تمثل أساساً نظرياً لها تنبني عليه، وقد أقر فقهاء الإسلام على مر العصور بأن الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة، فهي حاضرة في الأصول والقواعد التشريعية[76].

ثالثاً: علاقة المقاصد بالحكمة:
الحكمة عند الأصوليين: هي ما يترتب على ربط الحكم بعلته أو بسببه من جلب مصلحة أو دفع مضرة، أو تقليلها[77]، ولفظ (الحكمة) أكثر ما يستعمله الأصوليون لبيان المعنى المقصود من تشريع الحكم، وما يترتب عليه من جلب نفع أو دفع مضرة، كتحصيل مصلحة حفظ الأنساب بتحريم الزنى، وإيجاب الحد على الزاني، وكدفع المشقة بتشريع القصر والفطر للمسافر، والحفاظ على النفس الإنسانية من الاعتداء أو الإهدار بتشريع القصاص، وغير ذلك، وهو ما صرح به الطوفي بقوله: والحكمة غاية الحكم المطلوبة بشرعه[78].

وطالما أن المقاصد دائرة مع الحكم والغايات من التشريع، فالحكمة وفق المعنى المتقدم تتطابق مع المقصد الشرعي الذي أراده الحكم. قال ابن القيم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [79]: " والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح، وسمي حكمة لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما، وأوصلا إلى غايتهما، وكذلك لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصلاً إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة، فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هداهم ولا إيصالهم إلى سعادتهم ودلالتهم على أسبابها وموانعها، ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة، ولا تكلم لأجلها، ولا أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجلها، ولا نصب الثواب والعقاب لأجلها لم يكن حكيماً ولا كلامه حكمة "[80]، فكلام ابن القيم - رحمه الله - ظاهر في بيان معنى الحكمة، وربطها بمقاصد المتكلم - وهو الشارع سبحانه -، لتعبر عن مراده في وضع الشريعة، وهذا يثبت أن الشريعة لم توضع عبثاً ولا سدى، وأنها موضوعة كما قال الشاطبي في موافقاته: "لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً"[81]، وهذا يجعل لفظ الحكمة متطابقاً مع لفظ المقصد.




ـــــــــــــــــ
[1] انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص36، علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين بن مختار الخادمي، ص51، الاجتهاد المقاصدي، د. نور الدين بن مختار الخادمي، ج1 ص85، الأسس العامة لفهم النص الشرعي، د. عبد المجيد السوسوة، ص42، منهج التيسير المعاصر، عبد الله بن إبراهيم الطويل، ص24.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، ص40.
[3] انظر باب ( قصد ) في تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي، ج 9، ص35، لسان العرب لابن منظور، ج3، ص353.
[4] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، 15.
[5] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج1 ص48.
[6] بين علمي أصول الفقه و المقاصد، مرجع سابق، ص120.
[7] المفاهيم مفاتيح الفهم ومرايا الحضارة د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، مقال منشور في موقع إسلام أون لاين.
[8] مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، ص165.
[9] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، د. عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني، ص46.
[10] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص79.
[11] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، د. يوسف القرضاوي، ص20.
[12] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص16.
[13] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ص52، علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص17.
[14] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص47.
[15] من التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، د. طه جابر العلواني، إسلامية المعرفة، العدد 46-47.
[16] انظر للتوسع : مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص47، وعلم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص53، وبين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص81.
[17] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص84 نقلاً عن طبقات الشافعية للسبكي، ج5 ص192.
[18] المرجع السابق، ص85.
[19] المرجع السابق، ص89.
[20] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص48.
[21] المرجع السابق، ص49.
[22] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج20 ص48.
[23] المرجع السابق، ج32 ص234.
[24] إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ج3 ص3.
[25] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، ص16.
[26] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص14.
[27] النساء، آية 165.
[28] الأنبياء، آية 107.
[29] هود، آية 7.
[30] الذاريات، آية 56.
[31] الملك، آية 2.
[32] المائدة، آية 6.
[33] البقرة، آية 183.
[34] العنكبوت، آية 45.
[35] البقرة، آية 150.
[36] الحج، آية 39.
[37] البقرة، آية 179.
[38] الأعراف 172.
[39] الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، ص200.
[40] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص28.
[41] مقاصد الشريعة، مجموعة مؤلفين، تحرير عبد الجبار الرفاعي، ص199.
[42] من التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، مرجع سابق.
[43] الموافقات، مرجع سابق، ص442.
[44] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص67.
[45] العلة عند الأصوليين يراد بها معنيان : الأول : الوصف الظاهر المنضبط المناسب الذي جعله الشارع موجباً للحكم ومعرفاً له، ومثاله : الزنى الذي جعله علة للرجم أو الجلد، والقتل العمد الذي جعله علة مناسبة للقصاص، وعقد النكاح الذي جعله الشارع علة لحل الاستمتاع، فهذه جميعها أوصاف ظاهرة غير خفية. كذلك فهي أوصاف منضبطة، أي أنها غير مضطربة، بحيث لم تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، ولذا لم تجعل المشقة علة الفطر والتخفيف على المسافر بالقصر في رمضان، وإنما أناطه بالسفر، كونه منضبطاً ظاهراً. أما أن تلك الأوصاف مناسبة فمعناها : أن من شأن ترتب الحكم عليها أن تفضي إلى تحقيق مصلحة مقصودة للشارع. وأما أنها موجبة للحكم : فذاك لأنها تستدعي ما أناط الشارع بها من أحكام، وربط وجود الحكم بها، بحيث يدور الحكم معها وجوداً وعدماً، كالسرقة التي توجب حكم قطع اليد، والزنى الذي يوجب حكم الرجم إن كان محصناً، أو الجلد إن كان بكراً، والقتل العمد الذي يوجب القصاص. وأما المعنى الثاني للعلة : فهو المعنى المناسب لتشريع الحكم. وهو ما عبر عنه ( الشاطبي ) بقوله في تعريفه للعلة : " هي الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي. فالمشقة علة في إباحة القصر والفطر في السفر؛ فالعلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها مظنتها ظاهرة كانت أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة.
انظر : قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص49. وللتوسع في معنى العلة : يراجع البحر المحيط للزركشي، ج4ص111.
أما مسالك العلة فهي الطرق التي تدل على كون الوصف علة، وهي متعددة ذكر منها الفتوحي : الإجماع، والنص، والمناسبة، والشبه، والدوران. وأضاف إليها الرازي : الإيماء، والتأثير، والسبر والتقسيم، والطرد، وتنقيح المناط.
انظر : شرح الكوكب المنير، الفتوحي، ج4ص115، والمحصول، الرازي، ج5، ص137.
[46] المزابنة : هي بيع الرطب بما كان يابساً. انظر : المجموع شرح النووي، ج10 ص585، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني، ج2 ص504.
[47] الإيماء : هو دلالة النص على التعليل بالقرينة، لا بصراحة اللفظ. أو هو الذي يدل على العلية بالالتزام، لأنه يفهمها من جهة المعنى لا اللفظ.
انظر : البحر المحيط للزركشي، ج4، ص197، والموسوعة الفقهية، ج7 ص242.
[48] التولية : هي نقل جميع المبيع إلى المولى بمثل الثمن المثلي أو عين المتقوم القيمي بلفظ : وليتك أو ما يقوم مقامه. انظر : الموسوعة الفقهية، ج14ص196.
[49] الإقالة : هي رفع العقد، وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين. انظر الموسوعة الفقهية، ج5 ص324.
[50] وهي الأوقاف، والوقف : هو تحبيس الأصل وتسبيل المنافع.
[51] وهناك اتجاه رابع وهو اتجاه المتوسعين في المقاصد بغلو كبير إلى حد إهدار دلالات النصوص المحكمة وتجاوز ضروريات الدين ومبادئ الشريعة وأحكامها المؤكدة، وذلك بافتراضه لمصالح ومقاصد من خارج النصوص وتقديمها على نصوص الشريعة إذا تعارضت ولو كان النص قطعياً، كالذي يبيح الربا تحت مبرر المصلحة؛ مفسراً إياه في ضوء مقاصد التشريع، وهو في حقيقته تعسف في تفسير النصوص، وبناء المقاصد على مصالح موهومة.
انظر : الأسس العامة لفهم النص الشرعي، مرجع سابق، ص50.
[52] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص56.
[53] المرجع السابق، ص66.
[54] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، مرجع سابق، ص24.
[55] وهاتان الطريقتان قد دل عليهما كلام ابن عاشور المتقدم، وهو الذي دل عليه كلام الشاطبي في آخر كتاب المقاصد من الموافقات حين ختمه بطرق معرفة مقاصد الشريعة.
[56] الذاريات، آية 56.
[57] النساء، آية 165.
[58] المائدة، آية 32.
[59] أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، رقم 1971، والدافة : هم من يطرأ من المحتاجين.
[60] مقاصد الشريعة، د. طه جابر العلواني، ضمن كتاب : مقاصد الشريعة، مجموعة مؤلفين، تحرير عبد الجبار الرفاعي، ص69.
[61] المرجع السابق، ص76.
[62] يقصد التمييز بين المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر.
[63] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج11 ص354.
[64] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص132.
[65] مقاصد الشريعة الإسلامية، ص200. وهناك من انتقد تعريف ابن عاشور للمصلحة، وهو الدكتور محمد المختار السلامي بقوله : " ابن عاشور وضع المصلحة في إطار الفعل الإنساني. ولذا أخرج الذوات وأعراضها من ضابط المصلحة والمفسدة. إلا أنه جعل الوصف يتميز بأنه يحصل به الصلاح. والصلاح والمصلحة مادة واحدة. فأفضى تعريفه إلى أنه لا تفهم المصلحة إلا بفهم الصلاح. ولا يفهم الصلاح إلا بإدراك حد المصلحة. وهو دور مفسد للتعريف وكأنه استشعر هذه الصعوبة ففسر الصلاح بالمنفعة. فالمنفعة لفظ مساو للصلاح"، وهذا الذي دفع بعض الباحثين إلى القول : " إن المصلحة هو موضع الصلاح. وإذا تبين أن المصالح التي تعتبرها الشريعة هي المواضع المعنوية التي يحصل فيها الإنسان صلاحه، علمنا أن وظيفتها الأساسية وظيفة أخلاقية صريحة. إذ حد الصلاح أنه قيمة أخلاقية، بل هو رأس القيم الأخلاقية، وحد الأخلاق أنها تبحث في الصلاح ". انظر : مظاهر التجديد في المبحث المقاصدي، إبراهيم الكيلاني، ضمن كتاب : خطاب التجديد الإسلامي، مجموعة مؤلفين، ص258. ولا غرابة في هذا القول فإن النصوص قد أكدت عليه، وبينت المقصد من البعثة والتشريع، كما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام قوله : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
[66] أي المصلحة.
[67] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص200.
[68] المرجع السابق، ص230.
[69] المستصفى، الغزالي، ج2ص481.
[70] المرجع السابق.
[71] روضة الناظر، ابن قدامة، ص169.
[72] أصول مذهب الإمام أحمد، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ص459.
[73] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص27.
[74] إعلام الموقعين، مرجع سابق، ج3 ص3.
[75] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص23.
[76] مظاهر التجديد في المبحث المقاصدي، مرجع سابق، ص251.
[77] الموسوعة الفقهية، ج18 ص67.
[78] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص48.
[79] البقرة، آية 269.
[80] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن القيم، ص190.
[81] الموافقات، مرجع سابق، ص200.

رابط الموضوع: Cant See Links
جازاك الله كل الخير الموضوع قيم جدا وأفادني كثيرا جعله الله في ميزان حسناتك


رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:34 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.4, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
سبق لك تقييم هذا الموضوع: