انتشار مراكز الأبحاث في الوطن الإسلامي أمر صحيّ يدل على وعي بحال الأمة وما تواجهه من أخطار محدقة على الصعيد الخارجي وما تواجهه من تحديات داخلية يفرضها التخلف العلمي والتكنولوجي والتقهقر السياسي، وتسلط العقلية البدائية في القيادة، وانتشار الفقر المدقع، وتفاقم حال البطالة المروع، وانفجار المشاكل الأخلاقية بسبب الانفتاح غير المدروس في مجتمعات غير مدركة لحقيقة دينها وأعراف مجتمعها، علاوة على بحر المخدرات والمسكرات المائج بالأوساط المخملية و(الخيشية = نسبة للخيش).
لقد سبقنا الغرب في عالمهم ثم قادهم هذا السبق إلى السيطرة علينا قادة وشعوباً ودولاً ومدخرات لأنهم يبنون سياساتهم على عقيدة راسخة ومبادئ واضحة ولا يضرهم إن اتخذوا لها الوسائل غير المشروعة في مكيافللية متناهية التطبيق لأن القوة التي يملكونها والذكاء الذي يخططون به والالتزام الذي يمشون عليه في تطبيق مخططاتهم كفيل بغسل العار الذي نغني به صباح مساء في جرائدنا وإذاعاتنا ومحطاتنا راجين أن يمتد صوتنا في الأفق لنوقظ به آذاناً لا تعرف لغتنا ولا تدين بديننا ولا ترتضي وجودنا ولا تحسبنا من أهل الحياة، وصدق الأول حين قال: أوسعتهم شتماً وأودوا بالإبل ..
لا يستطيع قائد غربي مهما بلغ من الذكاء والحنكة والقوة أن يستبد برأيه أو أن يبتكر خططاً طويلة الأمد ليست مطروحة من قبل قد مضى عليها سنوات قتلت من خلالها بحثاً ومدارسة عبر مكاتب متخصصة تحتوي على أكبر العقول في جميع المجالات، نعم قد تختلف طريقة التنفيذ وتختلف الأوقات والأمكنة وفق اختلاف المصلحة إلا أن المحور الأساس يبقى كما هو، والمخطط المستهدف لا يناله التغيير في جوهره، بينما في عالمنا الإسلامي المترامي الأطراف يكفي الرئيس أن يريد شيئاًً ليعتبر هدفاً أساسياً ومخططاً استراتيجياً وحتمية لا بد منها دون النظر في مشروعية الهدف أو إمكانية التحقيق أو المخاطر المحتملة والمضاعفات الواردة، والوزير الذكي والكاتب الحاذق والعالم المخلص من يعرف كيف ينتهز مثل هذه الفرصة ليقعد لذلك الهدف ويجعله مطلباً ربانياً تؤيده السماء وهبة مقدسة تسعد التعساء ومن بعد ذلك تأتيه الهبات والأعطيات في صورة وزارة متعثرة تنتظر فارسها العبقري أو في صورة أرض غالية الثمن في منطقة مهمة أو في صورة شيكات يتضخم بها الرصيد...
ولا عجب بعد ذلك كله أن نرى التخلف يسود روح الأمة ويبعث اليأس في نفوس أهلها، ويملأ قلوب ناسها بالخوف من المصير أو يشغل أوقاتهم بالبحث عن لقمة العيش، ولا عجب أن تضيع كرامة الإنسان وتهدر حريته ويصبح مجرد ظل يحجب من شعاع الشمس شيئاً، ولا عجب أن تسيطر أمريكا على العالم كله وتحلم بإمبراطورية لا يغيب عنها النفط ولا تند عنها شاردة ثروة ولا واردة ثراء، ولو قتلت الألوف، وشردت مثلهم، وهدمت بيوتهم وهتكت أعراضهم... ولا عجب أن تضيع فلسطين وأن تتشتت العراق، وتنتهك أفغانستان، وتموت الشيشان لأننا لا نملك شيئاً نقدمه رغم كل ما نملكه..!
من أجل ذلك وغيره نحن محتاجون لأمثال تلك المراكز ومحتاجون أكثر لأن تجتمع الدول العربية والإسلامية لتكون مركزاً خاصاً يحمل الطابع الخاص بها ويمثل اتجاهها العام ليبحث في مشاكلها ويوجد لها الحلول المستمدة من كتاب ربها وسنة نبيها وعقول علمائها وما اهتدت إليه الأمم الغربية مما لا يعارض ديننا ويسير في تعميق القواعد العامة المرعية للحفاظ على كيان الأمة وأفرادها، والنابعة من واقعها لا واقع غيرها كما يحاول أن يفعل بعض المنكوبين من أبناء الأمة المهزومين نفسياً وعقلياً وسياسياً..!
حتى تكون سياستنا واقعية لها هدف واضح وآلية علمية ومبدأ سام، وتفكير ناضج، يتحول بها واقعنا إلى واقع ناضج يعرف كيف يصرف شؤونه ويحمي مصالحه ويهتم بشعبه ويراعي دينه ومثله . ومهما تغيرت القيادات وتنوعت السلطات ستبقى الدولة بمنأى عن الضياع والتشتت والسلب لوقوفها على أرض صلبة وسياسة واحدة تلتف حولها الأيدي المخلصة وتتصافح القلوب النقية وتتلامس الأنفس المشرقة.
نعم لا بد من تلك المراكز العلمية لتحارب أول ما تحارب الجهل المستشري في عقل الأمة وروحها مُصيراً العادات عقائد لا تقبل التغيير ومقدسات لا يمكن المساس بها كي يقبل الناس بالواقع الأليم لأنه واقع، وما كان كذلك فيجب التسليم به على ما هو عليه دون تغيير، ورحم الله عبدالوهاب عزام يوم يقول "الأمة الجاهلة ترى الواقع أوضح حجة من أن يجادل فيه.. والأمة العالمة يستوي في رأيها الواقع وغير الواقع ويلتقي في عزمها ما وقع وينبغي أن يزول وما لم يقع وينبغي أن يكون، هذا تمحوه وذاك تثبته" هذا هو ما نريده من تلك المراكز وما يجب على الحكام العناية به.
العرض العادي
