فلسفة الحياة بين ابي العلاء وابن الرومي

[أفاق الفكر]

فلسفة الحياة بين ابي العلاء وابن الرومي


العقل البشري في عالم الحياة يخضع لفلسفة خاصة يمتاز بها عن الآخرين ، ولكل عقل في هذه الحياة فلسفة يرتكز عليها ، ويسير بها في هذا الوجود ، ولاشك أن فلسفة الحياة والنظر الى كنهها يختلف من شخص لآخر ، بحيث تستطيع أن تحدد هذا الاختلاف ، وترتكز على أسراره لكي يتبين لك العمق الباطني لجذور الحياة .



العقل البشري في عالم الحياة يخضع لفلسفة خاصة يمتاز بها عن الآخرين ، ولكل عقل في هذه الحياة فلسفة يرتكز عليها ، ويسير بها في هذا الوجود ، ولاشك أن فلسفة الحياة والنظر الى كنهها يختلف من شخص لآخر ، بحيث تستطيع أن تحدد هذا الاختلاف ، وترتكز على أسراره لكي يتبين لك العمق الباطني لجذور الحياة .
ونجد أنفسنا .. الآن أمام اثنين من عمالقة الشعراء في العالم العربي قد اتخذ كل واحد منهما لنفسه فلسفة خاصة ارتكز عليها ، وعُرف بها .. ولنقف معهما وقفة قصيرة .

فلسفة الحياة عند أبي العلاء :
كلنا يعرف أن أبا العلاء المعري كون لنفسه معياراً خاصاً قيم الحياة من خلاله .. ونستطيع أن نستشف هذا المعيار من خلال شعره الفلسفي .. ففيه تتضح الرؤيا الكاملة لهذا الشاعر ، ومن خلال صفة التشاؤم التي اشتهر بها .. ولهذا أطلق هذه الابيات تأكيداً واضحاً وتحديداً لفلسفته في هذه الحياة فهو يقول :

أعجبُ إلا من راغب في ازدياد تعبٌ كلهـا الحيــاة فما
أضعاف سرور في ساعة الميلاد إن حزناً في ساعة الموت


من الواضح أن هذه الابيات تكفينا وغيرها من الابيات الكثيرة في دواوينه ، لأن نحدد هذه الفلسفة العلائية ..، ولهذا اتهم الرجل بالتشاؤم من قبل البعض ، وأنه من الناقمين على الحياة والمغالين في كرهها .. ولكن يقف العقاد ليوضح لهؤلاء العمق الباطني لفلسفة التشاؤم بصورة رائعة حيث يقول ( على أن هذا الارتباط بين الشعور بتنازع البقاء والشعور بحب البقاء يفسر لنا سر فلسفة المغالين في التشاؤم المبالغين في النقمة على الوجود فليسوا هم بأشد الناس كرهاً للحياة كما قد يتبادر الى الذهن للوهلة الأولى ولكنهم أشد الناس حباً لها وضناً بها ) .
اذن .. فلسفة الحياة عند أبي العلاء اصبحت واضحة .

ودعنا الآن نسترسل مع ابن الرومي ومع فلسفته للحياة .. يعتبر ابن الرومي النقيض الأول لأبي العلاء في فلسفته ، فهو يمثل العكس تماماً بما تعني هذه الكلمة ، لأن الحياة عند ابن الرومي هي الشباب الذي يطلبه وهي الدنيا التي يريدها ولايريد سواها ، فهو الذي أقبل على جميع الملذات بنهم تجد فيه الغرابة التامة ، وتجد فيه الحيرة التي لاتفارقك ، ففترة الشباب تستحوذ عليه لأنها هي الحياة عنده وتراه يقول في إحدى قصائده :

إذا فقد الشباب سوى عذاب لعمرك ماالحياة لكل حي
إذا ولى بأسهمها الصياب فقل لبنات دهري فلتصبني


اذن .. حبه للشباب ليس الا حباً في الدنيا ، وفي خلودها الذي يرتضيه لنفسه ، فهو في بعض الأحيان ينعى الشباب إذا كان ملازماً للفقر والحاجة والعوز ، لأنه لايجد فيه خيرا .

فابن الرومي .. اذن .. عاشق الحياة .. بكل معنى ، وبكل صورة تتصورها ، ولكن .. لو سألنا هنا : هل كان ابن الرومي فيلسوفاً ؟
في تصوري .. أن ابن الرومي لم يكن فيلسوفاً ، بعكس أبي العلاء الذي يجرد الأشياء وينظر اليها بمنظار وبعين الفكر .. أما ابن الرومي فهو يجسم كل شيء ليراه بعين الفنان في هذا العالم ، ولهذا لانستطيع أن نطلق على ابن الرومي اسم الفيلسوف ، وهنا يلّح علينا سؤال وهو :
أيهما أجدى للحياة وأنفع .. الفيلسوف كأبي العلاء أم الفنان كابن الرومي ؟

قد يقول قائل : لكل واحد مضماره الخاص به وطريقه الذي يسير فيه ، ونحن لسنا نختلف مع هذا القائل ، ولكن التفاوت بالطبيعة والفطرة موجود ، وإذا نظرنا بصورة عامة ، نجد أن طريق الفيلسوف أعمق من طريق الفنان ، والطريق الأعمق بلاشك هو الأجدى وهو الأنفع ، لأن الفيلسوف يجرد الأشياء وينظر إليها بعين العمق الباطني .. أما الفنان فنظرته تختلف عن الفيلسوف ، فهو يجسم كما قلنا الأشياء ليخرجها بصورة جميلة ..

اذن .. الأمور التي يصورها الفنان .. ظاهرية وليست باطنية وماعليه إلا أن يبحث عنها ويجسمها .. أما الفيلسوف فهو يغوص في بواطن الحياة ليستخرج لنا أمراً عميقاً يعجز الفنان عن اكتشافه .

وهذا لايعني نفي الفائدة عن الفنان بل هو مصور ومجسم يظهر لك جمال الحياة ويظهر لك اموراً في غاية الدهشة .

اذن .. نظرة أبي العلاء إلى الحياة هي الأعمق وهي الأفضل من نظرة ابن الرومي .. وقد يقول قائل .. إن طريق ابن الرومي في الحياة وفلسفته هي فلسفة ( أبيقورية ) والواقع وإن كانت الفلسفة الأبيقورية هي الإقبال على الملذات والابتعاد عن الآلام بصورة مسرفة تشابه طريقة ابن الرومي ، لكن الفلسفة الأبيقورية كانت تقبل على الملذات بإحساس فاتر وضئيل .
أما ابن الرومي فهو يقبل على هذه الملذات بنهم يتدفق منه الإحساس المرهف اليقظ الذي يدلك على الشعور الحي وهذا هو الفرق .

وإذا رجعنا إلى أبي العلاء وإلى تشاؤمه ، نجد أنه وكما يطلق عليه البعض بأنه إمام المتشائمين .. ولكن .. ماهو الفرق بين تشاؤمه وتشاؤم ابن الرومي ؟

أتصور هنا .. أن مزاجهما واحد ، ولكن عقليتهما مختلفة اختلافا بينا .. فتشاؤم أبي العلاء صادر من الإسراف المفرط في رهافة الحس التي تطغى على رهافة ابن الرومي ، فإفراط رهافه الحس في أبي العلاء جعلته يدبر عن الدنيا وعن مستلذاتها أما رهافة الحس في ابن الرومي لاتصل إلى مستوى تشاؤم أبي العلاء الذي طغى بتشاؤمه على الجميع .
كذلك لاننسى أنه كان محباً للموت .. كارها للحياة .. يقول :

الجسم فيها والعيش مثل السهاد ضجعة الموت رقدة يستريح

وهناك غيرها من الأبيات .. اما ابن الرومي فهو يرى أن الموت شر وأكبر الخير أن يحيا الإنسان ، وأن حياة الانسان مرهونة بموته حيث تراه يقول في إحدى قصائده :
وصحته رهنا كذلك بالسقم رأيت حياة المرء رهنا بموته
بصدق يقيني أن سيذهب كالحلم إذا طاب لي عيش تنقصت طيبه
فذلك في بؤس وإن كان في نعم ومن كان في عيش يراعي زوالهج

اذن .. فلسفة الحياة تختلف من شخص لآخر .. وكلا الشاعرين يختلفان تماماً ، فكل واحد منهما له طريق خاص يسير فيه في هذه الحياة .

منقول
Cant See Links

التوقيع :

لا اله الا الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم