بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفسير سورة الكافرون
سورة الكافرون مكية عدد آياتها ستة .
سبب نزولها :
نزلت ردا على اقتراح تقدم به بعض المشركين و هم الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل السهمي و الأسود بن المطلب و أمية بن خلف , مفاده أن يعبد النبي صلى الله عليه و سلم معهم آلهتهم سنة و يعبدون معه إلهه سنة مصالحة بينهم و بينه و إنهاء للخصومات في نظرهم , و لم يجبهم الرسول صلى الله عليه و سلم بشيء حتى نزلت هذه السورة ( قل يا أيها الكافرون ) .
فضلها :
جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( ... " و قل يا أيها الكافرون " تعدل رُبع القرآن ) حسن لغيره . صحيح الترغيب و الترهيب ( 2 / 1477 ) .
( قل يا أيها الكافرون ) شمل كل كافر على وجه الأرض , و لكن المواجهون بهذا الخطاب هم كفار قريش .
( لا أعبد ما تعبدون ) أي تبرَّأ مما كانوا يعبدون من دون الله , ظاهرا و باطنا .
( و لا أنتم عابدون ما أعبد ) لعدم إخلاصكم لله في عبادته , فعبادتكم له المقترنة بالشرك لا تسمى عبادة .
( و لا أنا عابد ما عبدتم و لا أنتم عابدون ما أعبد )
" و لا أنا عابد " أي فيما أستقبل " ما عبدتم " أي فيما مضى " و لا أنتم عابدون " أي فيما تستقبلون أبدا " ما أعبد " أي الآن و فيما أستقبل , هكذا فسره الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى , ثم قال : و إنما قيل ذلك كذلك , لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين , قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا , و سبق لهم ذلك في السابق من علمه , فأمر نبيه صلى الله عليه و سلم أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه و حدثوا به أنفسهم , و إن ذلك غير كائن منه و لا منهم في وقت من الأوقات , و آيس نبي الله صلى الله عليه و سلم من الطمع في إيمانهم , و من أن يفلحوا أبدا , فكانوا كذلك لم يفلحوا و لم ينجحوا , إلى ان قتل بعضهم يوم بدر بالسيف , و هلك بعضٌ قبل ذلك كافراً .
( لكم دينكم و لي دين )
" لكم دينكم " تقرير لقوله تعالى ( لا أعبد ما تعبدون ) و قوله تعالى ( و لا أنا عابد ما عبدتم ) كما أن قوله تعالى " و لي دين " تقرير لقوله تعالى ( و لا أنتم عابدون ما أعبد ) و المعنى أن دينكم , الذي هو الإشراك , مقصور على الحصول لكم , لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضا , كما تطمعون فيه , فإن ذلك من المحالات , و أن ديني الذي هو التوحيد , مقصور على الحصول لي , لا يتجاوزه إلى الحصول لكم , فلا مشاركة بينه و بين ما أنتم عليه .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة النازعات
و تسمى سورة الساهرة , و الطامة , و هي مكية و آيها ست و أربعون .
( و النّازعات غرقا ) أي الملائكة تنزع أرواح الفجار و الكفار عند الموت بشدّة
( و الناشطات نشطا ) أي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين الصالحين نشطا أي تسلها برفق .
( و السابحات سبحا ) أي الملائكة مترددات في الهواء صعودا و نزولا .
( فالسابقات سبقا ) أي الملائكة تبادر لأمر الله , فتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل الله حتى لا تسترقه .
( فالمدبرات أمرا ) الملائكة , الذين و كلهم الله أن يدبروا كثيرا من أمور العالم العلوي و السفلي , من الأمطار , و النبات , و الأشجار , و الرياح , و البحار , و الأجنة , و الحيوانات , و الجنة , و النار , و غير ذلك .
هذه الآيات الخمس قسم من الله تعالى عظيم , أقسم به على أنه لابد من البعث و الجزاء و أنه واقع لا محالة , حيث كان المشركون ينكرون ذلك حتى لا يقفوا عند حد في سلوكهم فيواصلوا كفرهم و فسادهم جَرْيا وراء شهوتهم كل أيامهم و طيلة حياتهم قال تعالى " بل يريد الإنسان ليفجر أمامه " .
و تقدير جواب القسم بل تبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم إذ هو معهود في كثير من الإقسام في القرآن كقوله تعالى " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم و ذلك على الله يسير " .
( يوم ترجف الراجفة تتبعها الرّادفة ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هما النفختان الأولى و الثانية , قال الحسن : أما الأولى فتميت الأحياء , و أما الثانية فتحيي الموتى , ثم تلا " و نُفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلاّ من شاء الله ثمّ نُفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " .
( قلوب يومئذ واجفة ) أي شديدة الإضطراب ,خوفا من عظيم الهول النازل .
( أبصارها خاشعة ) أي أبصار أهلها ذليلة حقيرة , مما قد علاها من الكآبة و الحزن , من الخوف و الرعب .
( يقولون أئنا لمردودون في الحافرة , أءذا كنّا عظاما نّخرة ) يعني : مشركي قريش و من قال بقولهم في إنكار المعاد , يستبعدون وقوع البعث بعد المصير إلى القبور , و بعد تمزق أجسادهم و تفتت عظامهم , و نخورها قال ابن عباس : و هو العظم إذا بلى و دخلت الريح فيه .
( قالوا تلك إذا كرّة خاسرة ) يعنون أنهم إذا عادوا إلى الحياة مرة أخرى فإن هذه العودة تكون خاسرة , قال ابن زيد : و أي كرة أخسر منها ؟ أحيوا ثم صاروا إلى النار , فكانت كرّة سوء . و قال أبو السعود : هذا حكاية لكفر آخر لهم ,متفرع على كفرهم السابق ... أي قالوا ذلك بطريقة الإستهزاء , مشيرين إلى ما أنكروه من الردة في الحافرة .
( فإنما هي زجرة واحدة ) أي صيحة واحدة , و هو أن يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث , فإذا الأولون و الآخرون قيام بين يدي الربّ عز وجل ينظرون . قال تعالى " و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " و قال تعالى " و ما أمر السّاعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب " .
( فإذا هم بالسّاهرة ) أي على ظهر الأرض أحياء , فيجمعهم الله و يقضي بينهم بحكمه العدل و يجازيهم . و هذه الأرض لم يعمل عليها خطيئة , و لم يَهرَاق عليها دم قال تعالى " يوم تُبدل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار " .
( هل آتاك حديث موسى ) أي : هل سمعت بخبره ؟
( إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ) أي ناداه الله تعالى بالوادي المطهر المبارك – المسمى طوى - , و هو واد في أسفل جبل طور سيناء من برية فلسطين . و كلمه فيه , و امتنّ عليه بالرسالة و اختصه بالوحي و الإجتباء فقال له :
( إذهب إلى فرعون إنه طغى ) إذهب إلى فرعون إنه عتا و تكبر و ظلم فأفحش في الظلم و الفساد .
( فقل له هل لّك إلى أن تزكّى ) أي : هل لك في خصلة حميدة , و محمدة جميلة , يتنافس فيها أولوا الألباب , و هي أن تُزكّي نفسك و تطهرها من دنس الكفر و الطغيان , إلى الإيمان و العمل الصالح ؟
( و أهديك إلى ربك ) أي : أدلك إلى عبادة ربك , و أُبَيّن لك مواقع رضاه , من مواقع سخطه .
( فتخشى ) فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشيا بعد ما كان قاسيا خبيثا بعيدا من الخير . قال الزمخشري : ذكر الخشية لأنها ملاك الأمر , من خشى الله أتى منه كل خير , و من أَمِن اجترأ على كل شر .
( فأراه الآية الكبرى ) فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية , و دليلا واضحا على صدق ما جاء به من عند الله , و هي على ما قاله مجاهد , عصاه و يده . أي عصاه إذ تحولت ثعبانا مبينا , و يده إذ أخرجها بيضاء للناظرين . و إفرادهما لأنهما كالآية الواحدة في الدلالة , أو هي العصا لأنها كانت المقدمة و الأصل , و البقية كالتبع .
( فكذّب و عصى ) فكذب فرعون موسى فيما أتاه من الآيات المعجزة , و دعاها سحرا , و عصاه فيما أمره به من طاعة ربه و خشيته إياه .
( ثم أدبر يسعى ) أي يجتهد في مبارزة الحق و محاربته . و هو جمعُهُ السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى , عليه السلام , من المعجزة الباهرة .
( فحشر ) جمع رجاله و جنده .
( فنادى ) أي ناداه ليعدهم إلى حرب موسى .
( فقال أنا ربكم الأعلى ) يعني أنه لا ربّ فوقه , و بالتالي لا طاعة إلاّ له .
( فأخذه الله نكال الآخرة و الأولى ) أي : انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة و نكالا لأمثاله من المشركين في الدنيا .
( إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى ) أي في أخذه لفرعون و ما أحل به من العذاب و الخزي , عظة و معتبرا لمن يخاف الله و يخشى عقابه , و يعلم أن هذه سنته في كل من يقاوم الحق و يحاربه , فإن نبأ الأولين عبرة للآخرين .
يقول الله تعالى محتجا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه :
( أأنتم ) أيها الناس ( أشدُّ خلقا أم السماء ) ؟ يعني : بل السماء أشدّ خلقا منكم , فإن من رفع السماء على عظمها , هيّن عليه خلقهم و خلق أمثالهم , و إحياؤهم بعد مماتهم , كما قال سبحانه " لَخلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس " و قوله تعالى " أوليس الذي خلق السماوات و الأرض بقادر على أن يخلق مثلهم " .
و الإستفهام هنا استفهام تقريري و هو إلجاؤهم إلى الإقرار و الإعتراف بأن خلق السماء أعظم من خلقهم إذًا كيف ينكرون البعث و الحياة الثانية .
( بناها ) قال ابن جرير : أي رفعها فجعلها للأرض سقفا .
( رفع سمكها فسوّاها ) أي : جعلها عالية البناء , بعيدة الفناء , مستوية الأرجاء , مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء .
( و أغطش ليلها ) أي : جعل ليلها مظلما أسود حالكا , قال ابن جرير : أضاف الليل إلى السماء , لأن الليل غروب الشمس , و غروبها و طلوعها فيها , فأضيف إليها لما كان فيها .
( و أخرج ضُحاها ) أي : جعل نهارها مضيئا مشرقا نيرا واضحا , و الضحى انبساط الشمس و امتداد النهار . و إيثار الضحى لأنه وقت قيام سلطان الشمس و كمال إشراقها .
( و الأرض بعد ذلك دحاها ) أي بعد تسوية السماء على الوجه السابق , و إبراز الأضواء , بسط الله تعالى الأرض و مهدها لسكنى أهلها , و تقلبهم في أقطارها . أما خلق نفس الأرض ,فمتقدم على خلق السماء كما قال تعالى " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " إلى أن قال " ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " .
( أخرج منها ماءها ) بأن فجر منها عيونا و أجرى أنهارا .
( و مرعاها ) و هو ما يرعى من سائر الحبوب و الثمار و النبات و الأشجار .
( و الجبال أرساها ) أي قررها و أثبتها و أكّدها في أماكنها , لتستقر الأرض بأهلها .
( متاعا لكم و لأنعامكم ) أي انتفاعا لكم و لأنعامكم في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد , و ينقضي الأجل .
( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) أي الداهية العظمى التي تطمّ – أي تلو و تغلب أمثالها من الأحداث الجسام – على كل هائلة من الأمور , فتغمر ما سواها بعظيم هولها كما قال تعالى " و الساعة أدهى و أمرّ " , و هي القيامة للحساب و الجزاء .
( يوم يتذكّر الإنسان ما سعى ) حينئذ يتذكر ابن آدم جميع عمله خيره و شره , و ذلك بعرضه عليه .
( و بُرِّزت الجحيم لمن يرى ) أظهرت للناظرين فرآها الناس عيانا .
( فأمّا من طغى ) أي أفرط في تعديه و مجاوزته حد الشريعة و الحق , إلى ارتكاب العصيان و الفساد و الضلال .
( و آثر الحياة الدنيا ) أي قدمها على أمر دينه و أخراه .
( فإن الجحيم هي المأوى ) فإن مصيره إلى الجحيم , و إن مطعمه من الزقوم , و مشربه من الحميم .
( و أمّا من خاف مقام ربّه ) أي : خاف القيام بين يدي الله عز و جل , و خاف حُكمَ الله فيه ,فأدى الفرائض و اجتنب النواهي .
( و نهى النفس عن الهوى ) أي : نهى نفسه عن هواها , فلم يجيبها في هوى يبغضه الله و لم يطعها في شيء حرمه الله , بل صار هواه تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم .
( فإنّ الجنّة هي المأوى ) أي : منقلبه و مصيره و مرجعه إلى الجنة الفيحاء .
( يسألونك عن السّاعة أيّان مرساها ) أي يسألك يا رسولنا المتعنتون المكذبون المنكرون للبعث عن الساعة متى وقوعها و قيامها .
( فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها ) ليس علمها إليك و لا إلى أحد من الخلق , بل مَردها و مرجعها إلى الله عز و جل , فهو الذي يعلم وقتها على التعيين , كما قال تعالى في آية أخرى " يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات و الأرض لا تأتيكم إلا بغته يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله و لكن أكثر الناس لا يعلمون " .
( إنما أنت منذر من يخشاها ) إنما بعثتك لتنذر الناس و تحذرهم من بأس الله و عذابه , فمن خشي الله و خاف مقامه ووعيده , اتبعك فأفلح و أنجح , و الخيبة و الخسار على من كذبك و خالفك .
( كأنّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) كأن هؤلاء المكذبين بها , و بما فيها من الجزاء و الحساب , يوم يشاهدون وقوعها , من عظيم هولها , لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور إلا ساعة من نهار , بمقدار عشية – و هي ما بين الظهر إلى غروب الشمس - , أو ضحاها – و هي ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار - .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة النبأ
و تسمى سورة عمّ يتساءلون , و هي مكية و آيها أربعون .
( عمّ يتساءلون ) عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات الله ؟ قال ابن جرير : و ذلك أن قريشا جعلت , فيما ذكرعنها , تختصم و تتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم , من الإقرار بنبوته , و التصديق بما جاء به من عند الله تعالى , و الإيمان بالبعث . فقال الله تعالى لنبيه : فيما يتساءل هؤلاء القوم و يختصمون ؟
ثم بيّن ما يتساءلون عنه فقال : " عن النبأ العظيم , الذي هم فيه مختلفون " .
( عن النبأ العظيم ) أي : الخبر الهائل المفظع الباهر , و هو أمر القيامة و البعث بعد الموت .
( الذي هم فيه مختلفون ) يعني : الناس فيه على قولين : مؤمن به و كافر .
( كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ) أي : سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ما كانوا به يكذبون , حيث يُدَعُّون إلى نار جهنم دَعَّا , و يقال لهم " هذه النار التي كنتم بها تكذبون " .
ثم شرع الله تعالى يُبَيِّن قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة و الأمور العجيبة , الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد و غيره , فقال :
( ألم نجعل الأرض مِهَادَا ) أي : ممهدة مهيأة لكم و لمصالحكم , من الحروث و المساكن و السبل .
( و الجبال أوتادا ) أي : جعلها للأرض أوتادًا , أرساها بها و ثبتها و قرّرها حتى سكنت و لم تضطرب بمن عليها .
( و خلقناكم أزواجا ) أي ذكورا و إناثا . قال الإمام : ليتم الإئتناس و التعاون على سعادة المعيشة و حفظ النسل و تكميله بالتربية .
( و جلعنا نومكم سباتا ) أي : قَطْعًا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد و السعي في المعايش في عرض النهار .
( و جلعنا الليل لباسا ) أي كاللباس بإحاطة ظلمته بكل أحد , و ستره لهم .
( و جلعنا النهار معاشا ) أي : جعلناه مشرقا منيرا مضيئا ليتمكن الناس من التصرف فيه و الذهاب و المجيء للمعاش و التكسب و التجارات , و غير ذلك .
( و بنينا فوقكم سبعا شدادا ) أي : السموات السبع في قوتها و صلابتها و شدّتها , و في اتساعها و ارتفاعها و إحكامها و إتقانها , و تزيينها بالكواكب الثوابت و السيارات , و قد أمسكها الله بقدرته , و جعلها سقفا للأرض , لا تفنى و لا تزول إلى أن يأذن سبحانه و تعالى بزوالها .
( وجعلنا سراجا وهّاجا ) يعني : الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلهم .
( و أنزلنا من المعصرات ) أي السحابات التي حان لها أن تمطر .
( ماءً ثَجَّاجا ) أي منصبّا متتابعا .
( لنخرج به حبًّا و نباتا ) أي لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المُبارك " حبّا " من بُرٍّ و شعير , و ذرة و أرز , و غير ذلك , يدخر للأناسي و الأنعام , و " نباتا " يشمل سائر النبات .
( و جنّاتٍ ألفافا ) أي حدائق ملتفة الشجر , مجتمعة الأغصان , فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة .
فالذي أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة , التي لا يقدر قدرها , و لا يحصى عدها , كيف تكفرون به و تكذبون ما أخبركم به من البعث و النشور ؟! أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه و تجحدونها ؟!!
( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) يخبر تعالى عن يوم الفصل , و هو يوم يفصل بين الناس و يفرق السعداء من الأشقياء , باعتبار تفاوت الأعمال , و هو يوم القيامة , و أنه مؤقت بأجل معدود , لا يزاد عليه و لا ينقص منه , و لا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز و جل , كما قال " و ما نُؤَخرُه إلا لأجل معدود " .
( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) يوم ينفخ إسرافيل نفخة البعث فتأتون أيها الناس جماعات , جماعات , كل جماعة مع إمامهم , على حسب تباين عقائدهم و أعمالهم و توافقهم , قال تعالى " يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم " .
( و فُتحت السماء فكانت أبوابا ) و تشققت السماء حتى تكون طرقا و مسالك لنزول الملائكة منها .
( و سيرت الجبال فكانت سرابا ) أي : رفعت من أماكنها في الهواء , و ذلك يكون بعد تفتيتها و جعلها أجزاء متصاعدة كالهباء , فترى كأنها جبال و ليست بجبال , بل غبار غليظ متراكم , يرى من بعيد كأنه جبل , ثم يذهب ذلك بالكلية , فلا عين و لا أثر كما قال تعالى " و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا , فيذرها قاعا صفصفا , لا ترى فيها عوجا و لا أمتا " .
( إن جنهم كانت مرصادا ) أي موضع رصد , يرصد فيه خزنتها من كان يكذب بها و بالمعاد .
( للطّاغين مأبا ) أي تكون للذين طغوا في الدنيا , فتجاوزوا حدود الله استكبارا على ربهم , منزلا و مرجعا يصيرون إليه .
( لابثين فيها أحقابا ) أي ماكتين فيها دهورا متتابعة إلى غير نهاية , كقوله تعالى " خالدين فيها أبدا " .
( لا يذوقون فيها بردًا و لا شرابا ) لا يجدون في جهنّم ما يبرد جلودهم , و لا ما يدفع ظمأهم .
( إلا حميما ) أي ماء حارًّا إنتهى غليانه , يشوي وجوههم , و يقطع أمعاءهم .
( و غسّاقا ) و هو صديد أهل النار , الذي هو في غاية النتن , و كراهة المذاق , يجمع في حياض , ثم يسقونه .
( جزاءًا وفاقا ) أي : جوزوا بذلك جزاءً موافقا لما ارتكبوه من الأعمال , و قدموه من العقائد و الأخلاق .
( إنهم كانوا لا يرجون حسابا ) أي : لم يكونوا يعتقدون أن ثَم دارًا يجازون فيها و يحاسبون , لذلك أهملوا العمل للآخرة .
( و كذبوا آياتنا كذابا ) أي : و كانوا يكذبون بحجج الله و دلائله على خلقه التي أنزلها على رسله , فيقابلونها بالتكذيب و المعاندة .
( و كل شيء أحصيناه كتابا ) أي : وقد عَلِمنا أعمال العباد كلهم , و كتبناها عليهم , و سنجزيهم على ذلك , إن خيرا فخير , و إن شرا فشر . قال تعالى : " ووضع الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك أحدًا " .
( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) يقال لأهل النار تقريعا و غضبا و تأنيبا لهم من تخفيف العذاب , ذوقوا ما أنتم فيه , فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه . قال عبد الله بن عمرو : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه : " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا " . قال : فهم في مزيد من العذاب أبدا .
( إن للمتقين مفازا ) إن الذين اتقوا سخط ربهم , بالتمسك بطاعته , والإنكفاف عما يكرهه , لهم مفاز و منجى , و بُعد عن النار .
( حدائق و أعنابا ) أي : بساتين جامعة لأصناف الأشجار الزاهية . و خص الأعناب بذكره لشرفه و كثرته في تلك الحدائق .
( و كواعب أترابا ) أي حور نواهدهن مستديرة مع ارتفاع يسير , لشبابهن و قوتهن و نضارتهن , و هن في سن واحدة .
( و كأسا دهاقا ) أي ملأى من خمر لذة للشاربين .
( لا يسمعون فيها لغوا و لا كذّابا ) لا يسمعون في الجنة باطلا من القول و لا كذابا .
( جزاءً من ربّك عطاءً حسابا ) هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به جزاءا كافيا وافيا شاملا كثيرا و أعطاهموه , بفضله و منّه و إحسانه و رحمته .
( ربّ السماوات و الأرض و ما بينهما الرحمن ) يخبر تعالى عن عظمته و جلاله , و أنه رب السماوات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما – أي مالكهما و المتصرف فيهما – و أنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء .
( لا يملكون منه خطابا ) أي : لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه كقوله تعالى " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " , و كقوله " يوم يأت لا تكلَّم نفس إلا بإذنه " .
( يوم يقوم الرُّوح ) أي جبريل عليه السلام و هو المعبّر عنه بروح القدس في آية أخرى .
( و الملائكة صفا ) قال القاشاني : أي صافّين في مراتبهم , كقوله تعالى : " و ما منّا إلاّ له مقام معلوم " . و قال الرازي : يحتمل أن يكون المعنى صفًّا واحدا , و يحتمل أنه صفان , و يجوز صفوفا... و رجح بعضهم الأخير , لآية " و جاء ربُّك و الملك صفًّا صفًّا " .
( لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا ) أي : لا يتكلمون في الشفاعة كقوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " و الضمير للملائكة أو أعمّ كقوله " يوم يأت لا تكلَّم نفس إلا بإذنه " قال الزمخشري : هما شريطتان أن يكون المتكلّم منهم مأذونا له في الكلام , و أن يتكلّم بالصواب , فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى " و لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى " .
( ذلك اليوم الحق ) أي الواقع الذي لا يمكن إنكاره و هو يوم الفصل , الذي لا يروج فيه الباطل , و لا ينفع فيه الكذب .
( فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآبا ) أي فمن شاء اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحق , و الإستعداد له و العمل بما فيه , مرجعا حسنا يؤوب إليه . و نجاةً له من أهواله .
( إنّا أنذرناكم عذابا قريبا ) أي : خوفناكم عذابا قريبا جدا – و كل ما هو آت فهو قريب – يبتدئ بالموت و لا ينتهي أبدا .
( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ) أي : يعرض عليه جميع أعماله , خيرها و شرها , قديمها و حديثها , كقوله " ووجدوا ما عملوا حاضرا " , و كقوله " يُنَبَّأُ الإنسان يومئذ بما قدّم و أخّر " .
( و يقول الكافر ياليتني كنت ترابا ) أي يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا , و لم يكن خُلِقَ , و لا خرج إلى الوجود . و ذلك حين عاين عذاب الله , و نظر إلى أعماله الفاسدة قد سطِّرت عليه بأيدي الملائكة السَّفرة الكرام البررة . و قيل : إنه لم يرى البهائم بعد القصاص لها صارت ترابا , يتمنى الكافر و هو في عذايه أن لو كان ترابا مثل البهائم , و لولا العذاب و شدته و دوامه لما تمنى أن يكون ترابا أبدا .