هذه آية عظيمة قد بيناها في كتاب المشكلين ، وفي قانون التأويل ، وأوضحنا المراد منها على أقوال العلماء ; وهذا الحرف منها ذكره بعض الأحكاميين ، فرأينا ألا نخلي هذا المختصر منه . واختلف في هذه الشجرة على ستة أقوال :
الأول : أنها ليست من شجر الشرق دون الغرب ، ولا من شجر الغرب دون الشرق ; لأن الذي يختص بإحدى الجهتين كان أدنى زيتا ، وأضعف ضوءا . ولكنها ما بين الشرق والغرب ، كالشام ; لاجتماع الأمرين فيه ; وهو قول مالك .
وفي رواية ابن وهب عنه قال : هو الشام ، الشرق من هاهنا والغرب من هاهنا ، ورأيته لابن شجرة أحد حذاق المفسرين .
الثاني : أنها ليست بشرقية تستر عن الشمس عند الغروب ، ولا بغربية تستر عن الشمس وقت الطلوع ; بل هي بارزة ; وذلك أحسن لزيتها أيضا ; قاله قتادة . [ ص: 404 ]
الثالث : أنها وسط الشجر ، لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت ، وذلك أجود لزيتها : قاله عطية .
الرابع : أنها ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها قاله يحيى بن سلام .
الخامس : أنها من شجر الجنة لا من الدنيا قاله الحسن .
السادس : أنها مؤمنة ، ليست بنصرانية تصلي إلى الشرق ، ولا يهودية تصلي إلى الغرب ، وهو قول ابن عمر .
قال الفقيه القاضي أبو بكر رضي الله عنه : لا خلاف بين المحققين الذين ينزلون التفسير منازله ، ويضعون التأويل مواضعه من غير إفراط ولا تفريط ، أن هذا مثل ضربه الله لنوره ، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض خلقه ; لأن الخلق بقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم ، ولولا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده ، وأنور المصابيح في الدنيا مصباح يوقد من دهن الزيتون ، ولا سيما إذا كانت مفردة قد تباعد عنها الشجر فخلصت من الكل ، وأخذتها الشمس من كل جانب ، فذلك أصفى لنورها ، وأطيب لزيتها ، وأنضر لأغصانها ، وذلك معنى بركة هذه الشجرة التي فهمها الناس حتى استعملوها في أشعارهم ، فقالوا :
بورك الميت الغريب كما بورك نضر الرمان والزيتون
وقد رأيت في المسجد الأقصى زيتونة كانت بين محراب زكريا وبين باب التوبة والرحمة الذي يقولون : إنه المراد بقوله : باب باطنه فيه الرحمة يعني المسجد الأقصى ، وظاهره من قبله العذاب بشرقيه دون السور ، وادي جهنم ، وفوقه أرض المحشر التي تسمى بالساهرة ، فكانوا يقولون : إنها الشجرة المذكورة في هذه الآية . وربك أعلم .
ومن غريب الأثر أن بعض علمائنا الفقهاء قال : إن هذا مثل ضربه الله لإبراهيم ، ومحمد ، ولعبد المطلب ، وابنه عبد الله ، فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة ، فشبه عبد المطلب بالكوة فيها القنديل ، وهو الزجاجة ، وشبه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة ، ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما ، وكأنه كوكب دري وهو المشترى ، يوقد من [ ص: 405 ] شجرة مباركة يعني إرث النبوة ، من إبراهيم ، وهو الشجر المباركة ، يعني حنيفة لا شرقية ولا غربية ، لا يهودية ولا نصرانية ، يكاد زيتها يضيء ، ولو لم تمسسه نار .
يقول : يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحى إليه ، نور على نور إبراهيم ثم محمد .
قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله : وهذا كله عدول عن الظاهر ، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه ، ولكن على الطريقة التي شرعناها في قانون التأويل لا على الاسترسال المطلق الذي يخرج الأمر عن بابه ، ويحمل على اللفظ ما لا يطيقه ، فمن أراد الخبرة به والشفاء من دائه فلينظر هنالك .