لست ادري لما نحن مصممون علي ثقافة حب الواحد فقط؟ ففي أي موقف يتواجد فيه الصغار لابد من أن نوجه لهم السؤال الخالد: ( من تحب أكثر، بابا أم ماما؟) وتجلي سخف هذا السؤال وسذاجته في برنامج خاص بالأطفال حينما أصرت المذيعة علي طرح هذا السؤال وتوجيهه إلي الضيفة الصغيرة، وهي تمسح شعرها بكف يدها الثقيلة, قائلة:
(تحبي بابا أكثر أم ماما؟) وبالرغم من أن هذه الطفلة كانت تعتقد بأنها كبيرة بما فيه الكفاية لكي تكون ضيفة علي هذا البرنامج المتخصص، خاصة وان مظهرها ينبئ علي أنها قد تجاوزت العاشرة من عمرها ، إلا أنها تفاجأت بهذا السؤال الساذج، ولم تجد بدا من الإجابة عنه بتعبيرات وجهها التي تخبر المذيعة بأنه سؤال ( غير لطيف بالمرة) وحينما لم تفهم المذيعة تعبيرات الوجه المستنكرة، اضطرت الصغيرة إلي الإجابة بكلمات واثقة تتحدى سنواتها الغضة قائلة: ( حتى لو كنت أحب واحدا أكثر من الآخر فكيف أقول هذا في وجهه؟) ولم تضف شيئا آخر، واكتفت بتلك النظرة الصامتة التي تقول: ( ما الذي يجبرني علي الإجابة عن سؤال يكرره كل الناس دون تفكير في تغييره) ولم تيأس المذيعة من محاولاتها في تكرار السؤال نفسه علي طفل أخر يجلس قربها، فهي مستميتة من أجل الحصول علي إجابة تشفي غليلها، وتجلي غموض الموازنة بين محبة الأب والأم، وايهما يحوز حبا أكثر من الأخر في قلب الصغير، لذلك كررت السؤال: ( من تحب أكثر بابا أم ماما؟) ولم تثنيها إجابة الطفل المتضامن مع صديقته ومع موقفها الرافض للاستهانة بعقليته المتفتحة علي تقنيات القرن الواحد والعشرين, و رغم مناوراته للتهرب من الإجابة إلا انه وأمام إلحاح المذيعة اضطر للإجابة بفضاضة قائلا: (ماذا يهمكم إن كان حبي لاحدهما أكثر من الآخر؟ أليسوا سواء؟ هذا أبي وتلك أمي!!) وبالرغم من ضيقي من أسلوب المذيعة الذي يستهين بعقلية الاطفال ويتعامل معهم وكأنهم لا يفهمون شيئا، إلا أنني تساءلت بيني وبين نفسي: هل حقا كلنا نتصرف مثل هذه المذيعة مع الاطفال من حولنا؟؟ وأعتقد بأننا كلنا نفعل الشيء نفسه وكلنا نفتح الحوار مع الاطفال باستخدام هذا السؤال الساذج الذي يسهم في غرس ثقافة التفرقة وحب الواحد في قلوب أطفالنا. نحن في حاجة حقيقية لنعلم أطفالنا حب الجميع، وفي حاجة أكثر إلي أن نغير السؤال من ( ايهما تحب أكثر)، إلي ( من ومن تحب؟) وبذلك نحول كل الضمائر إلي صيغة الجمع ثم نترك لأطفالنا حرية التعبير كي يسردون علينا قائمة من يحبونهم تحتوي علي بابا وماما وعمي عمتي وخالي خالتي وجاري جارتي وصديقي صديقتي ومدرستي ومعلمي.وبذلك نعلمهم حب الجميع دون تفرقة، ونغرس في نفوسهم هذا الحب كي نفتح عيوننا في الصباح فنجد حولنا أناسا نحبهم كلهم، ونسير في الشارع بابتسامة نهديها للجيران والمارة والبائع والسائق، ونكمل مشاوير فرحنا وصولا إلي المدرسة والجامعة, ومكان العمل، إذ أن كل ما نحمله من حب للآخرين يضع عل وجوهنا علاماته الحلوة. فيصير للعيون بريق من حب، وتلتمع الشفاه بابتسامات المودة, وتتسع شرايين القلب بهجة ويصير الجسد أخف حركة , وأكثر اتساقا، فحب الآخرين هو مفتاح الحياة القادر علي تحويل أيامنا إلي بهجة متصلة ، فلماذا نصر علي أن نحصره في واحد من أثنين، ونضعه في ميزان الاختيار المجحف؟ نحن في حاجة إلي أن نعلم أطفالنا شمولية الحب، ليمتد هذا الحب فيشمل الآخرين والكون وكل الموجودات، ونعلمهم تنوع هذا الحب، وكيف هو ناعم بين الوليد وأمه، وكيف يكون مرادفا للهناء بين المحبين, وكيف يمتد ليصير معني "للضنا" عند الأم ، وهو يصير أعز من الولد عند الجد. الحب أنواع ومعاني تمتد بامتداد حبنا لكل شيء، فما أجمل أن تحب حجرتك وبيتك ولون جدرانك وملابسك، والحي الذي ولدت فيه و البيت الذي تسكن فيه، والبلد الذي احتواك وأسكنك. كثيرة هي أنواع الحب وما أجملها, فلماذا نصر علي طرح السؤال والمفاضلة بين شيئين، ونكرر في كل لحظة: ( ايهما تحب أكثر؟)
العرض العادي
