بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفسير سورة العلق
مكية و آياتها تسع عشرة آية
( إقرأ باسم ربك الذي خلق , خلق الإنسان من علق , إقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم , علّم الإنسان ما لم يعلم )
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( كان أوّل ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم , فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح , ثمّ حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنّث فيه الليالي أولات العدد , قبل أن يرجع إلى أهله , و يتزوّد لذلك , ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها , حتى فَجَئَهُ الحق و هو في غار حراء , فجاءه الملك فقال : إقرأ . قال ما أنا بقارئ , قال فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجَهد . ثم أرسلني فقال : إقرأ . قال قلت : ما أنا بقارئ . قال فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد , ثم أرسلني فقال : إقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغ منّي الجهد . ثم أرسلني فقال : " إقرأ باسم ربك الذي خلق , خلق الإنسان من علق , إقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم , علّم الإنسان ما لم يعلم " فرجع بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ترجف بوادره ...) رواه البخاري و مسلم و غيرهما و اللفظ لمسلم . فأول شيء نزل من القرآن الكريم هذه الآيات الكريمات المباركات , و هنّ أول رحمة رحم الله بها العباد , و أول نعمة أنعم الله بها عليهم .
( إقرأ باسم ربك ) يأمر الله تعالى رسوله أن يقرأ بادئا قراءته بذكر اسم ربّه أي باسم الله الرحمن الرحيم .
( الذي خلق ) أي خلق الخلق كله و خلق آدم من طين . قال أبو سعود : ووصف الرب بقوله تعالى " الذي خلق " لتذكير أول النعماء الفائضة عليه الصلاة و السلام منه تعالى , و التنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة و ما يتبعها من الكمالات العلمية و العملية , من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلا عن سائر الكمالات , قادر على تعليم القراءة للحيّ العالم المتكلم .
( خلق الإنسان من علق )
" خلق الإنسان " من أولاد آدم عليه السلام .
" من علق " و العلق اسم جمع واحدة علقة , و هي قطعة من الدم غليظة , كانت في الأربعين يوما الأولى في الرحم نطفة ثم تطورت إل علقة تعلق بجدار الرحم ثم تتطور في أربعين يوما مضغة لحم , ثم إما أن يؤذن بتخلقها فتخلق و إما لا فيطرحها الرحم قطعة لحم .
و تخصيص خلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات , لاستقلاله ببدائع الصنع و التدبير و تفخيما لشأنه , إذ هو أشرفها و إليه التنزيل , و هو المأمور بالقراءة , قال الإمام : و من كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا , و هو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية , و يسخرها لخدمته , يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبي صلى الله عليه و سلم قارئا , و إن لم يسبق له تعلم القراءة , و جاء بهذه الآية بعد سابقتها ليزيد المعنى تأكيدا , كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ : أيقن أنك قد صرت قارئا بإذن ربك الذي أوجد الكائنات , و ما القراءة إلا واحدة منها .
( إقرأ و ربك الأكرم ) أي كثير الكرم و الإحسان , واسع الجود , الذي من كرمه أن علم بالعلم , قال الإمام : ... أن الله أكرم من كل من يرتجى منه الإعطاء , فيسير عليه أن يفيض عليك هذه النعمة , نعمة القراءة , من بحر كرمه , ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة , فوصف مانحها بأنه " الذي علّم بالقلم " .
( الذي علم بالقلم ) أي أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان , و القلم آلة جامدة لا حياة فيها , و لا من شأنها في ذاتها الإفهام , فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم و البيان , ألا يجعل منك قارئا مبيّنا و تاليا معلما و أنت إنسان كامل ؟؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه , و يبعد عنه استغراب أن يقرأ و لم يكن قارئا , فقال " علم الإنسان ما لم يعلم " .
( علم الإنسان ما لم يعلم ) أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا و أوجد فيك ملكة القراءة و التلاوة , و سيبلغك فيها مبلغا لم يبلغه سواك , هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم , و كان في بدء خلقه لا يعلم شيئا , فهل يستغرب من هذا المعلّم الذي ابتدأ العلم للإنسان و لم يكن سبق له علم بالمرة , أن يعلمك القراءة و عندك كثير من العلوم سواها و نفسك مستعدة بها لقبول غيرها .
( كلاّ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) أي حقّا إن الإنسان ليتجاوز حدّه و يستكبر على ربه , غذا رأى نفسه قد استغنى بماله أو ولده أو سلطانه أو بالكلّ و ما أصبح في حاجة إلى غيره , فيتجاوز حدّ الآداب و العدل و الحق و العرف فيتكبر و يظلم و يمنع الحقوق و يحتقر الضعفاء و يسخر بغيره . و أبو جهل كان مضرب المثل في هذا الوصف وصف الطغيان حتى قيل إنه فرعون هذه الأمة .
كذلك دلالة هذا الكلام فيه ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم بالكفران و الطغيان , أي ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان ينعم عليه ربه بتسوية خلقه و تعليمه ما لم يكن يعلم و إنعامه بما لا كفء له , ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك و يطغى عليه أن رآه استغنى .
( إنّ إلى ربك الرّجعى ) أي إلى الله المصير و المرجع في الآخرة , قال أبو سعود : تهديد للطاغي و تحذير له من عاقبة الطغيان .
( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) نزلت في أبي جهل , لعنه الله , توعد النبي صلى الله عليه و سلم على الصلاة عند البيت . روى البخاري عن ابن عباس : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه , فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم , فقال " لئن فعله لأخذته الملائكة " . و روى مسلم عن أبي هريرة , قال : قال أبو جهل : هل يُعَفِّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قال فقيل : نعم . فقال : و اللاّت و العزّى ! لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته , أو لأعفّرنّ وجهه في التراب . قال فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلّي. زعم ليَذأ على رقبته . قال فما فَجِئَهم منه إلاّ و هو ينكص على عقبيه و يتّقي بيديه . قال فقيل له : مالك ؟ فقال : إنّ بيني و بينه لخندقا من نار و هَوْلاً و أجنحة . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا " .
( أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى )
" أرأيت إن كان " أي المصلي الذي نُهي عن الصلاة و هو الرسول نفسه صلى الله عليه و سلم
" على الهدى " على الطريق المستقيمة الموصلة إلى سعادة الدنيا و الآخرة و كرامتهما
" أو أمر بالتقوى " أي أمر غيره بما يتقي به عذاب الدنيا و الآخرة فهل يحسن أن ينهي من هذا وصفه ؟ أليس نهيه من أعظم المحادّة لله و المحاربة للحق ؟ فإن النهي لا يتوجه إلا لمن هو في نفسه على غير الهدى , أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى .
( أرأيت إن كذّب و تولى ) أرأيت يا رسولنا إن كذب هذا الذي ينهى عبدا إذا صلى بالحق و الدين , و تولى عن الإيمان و الشرع , كيف يكون حاله يوم يلقى ربه ؟
( ألم يعلم بأن الله يرى ) أي : أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه و يسمع كلامه , و سيجازيه على فعله أتم الجزاء .
( كلاّ لئن لم ينته ) أي : لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق و العناد .
( لنسفعا بالناصية ) أي لنأخذنّ بناصيته , أخذا عنيفا و لنسحبنه بها إلى النار . و السفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة .
( ناصية كاذبة خاطئة ) يعني : ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعلها .
( فليدع ناديه ) أي قومه و عشيرته و أهل مجلسه و أصحابه ليدعهم يستنصربهم .
( سندع الزبانية ) و هم ملائكة العذاب , حتى يعلم من يغلب : أحزبنا أو حزبه .
( كلا لاتطعه واسجد و اقترب )
" كلا لاتطعه " يا محمد , لاتطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة و كثرتها , و صلّ حيث شئت و لا تباله , فإن الله حافظك و ناصرك , و هو يعصمك من الناس .
" و اسجد واقترب " أي صل لربك و قرب منه بالعبادة و تحبب إليه بالطاعة فإنها تُدني من رضاه و تقرب منه . روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد , فأكثروا الدعاء " .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفسير سورة التّين
مكية و آياتها ثمان
( التين و الزيتون و طور سينين و هذا البلد الأمين ) أقسم الله تعالى بالتين و الزيتون , و هو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك , و منها بُعث المسيح عيسى بن مريم و أنزل عليه فيها الإنجيل , و أقسم بطور سيناء و هو الجبل الذي كلم الله موسى و ناداه فيه , من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة , و أقسم بهذا البلد الأمين الذي جعله الله حرما آمنا و يتخطف الناس من حوله و هو مكة الذي أسكن فيها إبراهيم إبنه , و أمه هاجر فيه . و أرسل فيه محمدا صلى الله عليه و سلم .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( " و التين و الزيتون و طور سينين و هذا البلد الأمين " إقساما منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة , التي ظهر فيها نوره هذا , و أنزل فيها كتبه الثلاثة : التوراة و الإنجيل و القرآن ) .
( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) تام الخلق , متناسب الأعضاء , منتصب القامة , لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرا أو باطنا شيئا , و مع هذه النعم العظيمة , التي ينبغي منه القيام بشكرها , فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم , مشتغلون باللهو و اللعب , قد رضوا لأنفسهم بأسافل الأمور , و سفاسف الأخلاق , فردهم الله إلى أسفل سافلين .
( ثم رددناه إلى أسفل سافلين ) أي جعلناه أسفل من سفل , و هم أصحاب النار , لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين .
( إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ) إلا من منّ الله عليه بالإيمان و العمل الصالح , و الأخلاق الفاضلة العالية , " فلهم " بذلك المنازل العالية و " أجر غير ممنون " أي غير مقطوع , بل لذات متوافرة , و أفراح متواترة , و نعم متكاثرة في أبدٍ لا يزول , ونعيم لا يحول .
( فما يكذبك بعد بالدين ) أي شيء يا ابن آدم يحملك على التكذيب بيوم الجزاء على الأعمال , و قد رأيت من آيات الله الكثيرة ما به يحصل لك اليقين , و من نعمه ما يوجب عليك أن لا تكفر بشيء مما أخبرك به .
و جُوِّز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم فيكون ذلك إنكار توبيخي للمكذبين له صلى الله عليه و سلم , بعدما ظهر لهم من دلائل صدقه و صحة مدعاه .
( أليس الله بأحكم الحاكمين ) أي بأحكم من حكم في أحكامه الذي لا يجور و لا يظلم أحدا , و من عدله أن يقيم القيامة فينصف المظلم في الدنيا ممن ظلمه . قال أبو السعود " أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا و تدبيرا , حتى يتوهم عدم الإعادة و الجزاء , و حيث استحال عدم كونه أحكم الحاكمين , تعين الإعادة و الجزاء , فالجملة تقرير لما قبلها "
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة الشرح
مكية و آياتها ثمان آيات
( ألم نشرح لك صدرك ) أي نورناه و جعلناه فسيحا رحيبا واسعا لشرائع الدين و الدعوة إلى الله , و الإتصاف بمكارم الأخلاق , و الإقبال على الآخرة , و تسهيل الخيرات , فلم يكن ضيقا حرجا , لا يكاد ينقاد لخير , و لا تكاد تجده منبسطا .
و كما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا سمحا سهلا لا حرج فيه و لا إصر و لا ضيق .
( ووضعنا عنك وزرك ) النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن له وزر حقيقة , لأنه كان محفوظا بحفظ الله تعالى فلم يسجد لصنم و لم يشرب خمرا و لم يقل أو يفعل إثما قط .
فالأنبياء و الرسل معصومون من الكبائر , و من الصغائر على الراجح , إذا ماهي ذنوب الأنبياء ؟ قال العلماء : ذنوب الأنبياء هي ما كان خلاف الأولى عن اجتهاد يعني يجتهد و لا يصيب الأولى , مثلما اجتهد النبي صلى الله عليه و سلم في أسرى بدر حيث قبل الفدية و أطلق سراحهم , فكان هذا اجتهاد , الله تعالى عاتبه عليه و قال " لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم " قاله الشيخ عبد العظيم بدوي في الدقيقة 53:01 .
( الذي أنقض ظهرك ) قال غير واحد من السلف أي أثقلك حمله . و الإنقاض : حصول النقيض و هو صوت فقرات الظهر , و قيل : صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه . فالإنقاض التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض , أي صوت .
( و رفعنا لك ذكرك ) أي : أعلينا قدرك , و جعلنا لك الثناء الحسن العالي , الذي لم يصل إليه أحد من الخلق , فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسوله صلى الله عليه و سلم , كما في الدخول في الإسلام , و في الأذان و الإقامة و الخطب , و غير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله صلى الله عليه و سلم . و له في قلوب أمته من المحبة و الإجلال و التعظيم ما ليس لأحد غيره , بعد الله تعالى , فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته .
( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) بشارة عظيمة , أنه كلما وجد عسر و إن بلغ من الصعوبة ما بلغ فإنه في آخره التيسير الملازم له , حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه , كما قال تعالى " سيجعل الله بعد عسر يسرا " .
و تعريف " العسر " في الآيتين , يدل على أنه واحد , و تنكير " اليسر " يدل على تكراره , فلن يغلب عسر يسرين .
( فإذا فرغت فانصب ) إذا فرغت من أمور الدنيا و أشغالها و قطعت علائقها , فانصب في العبادة , و قم إليها نشيطا فارغ البال , و أخلص لربك النية و الرغبة . و عن ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل . و قال ابن عباس " فإذا فرغت فانصب " : يعني في الدعاء . و قال زيد بن أسلم و الضحاك " فإذا فرغت " أي : من الجهاد " فانصب " أي في العبادة .
( و إلى ربك فارغب ) إرغب بعد كل عمل تقوم به في مثوبة ربك و عطائه و ما عنده من الفضل و الخير إذ هو الذي تعمل له و تنصب من أجله فلاترغب في غيره و لا تطلب سواه .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة الضحى
مكية و آياتها إحدى عشر آية
عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال " اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت يا محمد إنّي لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قد قربك منذ ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله عز وجل ( و الضحى و الليل إذا سجى ماودّعك ربّك و ما قلى ) " رواه البخاري و مسلم . و المرأة هي أم جميل العوراء إمرأة أبي لهب .
قلت ( عبد الحي ) : و روى مسلم أيضا عن جندب أنه قال : " أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم , فقال المشركون : قد وُدِّع محمد , فأنزل الله عزّ و جل ( و الضحى و الليل إذا سجى ماودّعك ربّك و ما قلى ) "
( و الضحى و الليل إذا سجى )
" الضحى " هو أول النهار من طلوع الشمس و ارتفاعها قيد رمح إلى ما قبل الزوال بقليل .
" و الليل إذا سجى " أي اشتدّ ظلامه
و معنى الآية : أن الله تعالى أقسم بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى , و بالليل إذا سجى و ادلهمّت ظلمته , على اعتناء الله برسوله صلى الله عليه و سلم .
( ما ودّعك ربك ) أي ما تركك منذ اعتنى بك , و لا أهملك منذ رباك و رعاك , بل لم يزل يربيك أحسن تربية , و يعليك درجة بعد درجة
( و ما قلى ) و ما أبغضك , و القالي : المبغض , يعني ما هجرك عن بغض .
( و للآخرة خير لك من الأولى ) قال ابن جرير : " أي و للدار الآخرة , و ما أعد الله لك فيها , خير لك من الدار الدنيا و ما فيها " .
لهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أزهد الناس في الدنيا , و أعظمهم لها إطراحا . و قال القاضي : " أو : لنهاية أمرك خير من بدايته ". فلم يزل صلى الله عليه و سلم في درج المعالي , و يمكن له الله دينه , و ينصره على أعدائه , و يسدد له أحواله , حتى مات , و قد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون و الآخرون , من الفضائل و النعم و قرة العين , و سرور القلب .
( و لسوف يعطيك ربك فترضى ) أي يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى , و هذه عدّة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس و علوم الأولين و الآخرين , و ظهور الأمر و إعلاء الدين , بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة و السلام , و في أيام خلفائه الراشدين و غيرهم من ملوك الإسلام , و فشوّ دعوته في مشارق الأرض و مغاربها , و لما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى , و بالجملة , فهذه الآية جامعة لوجوه الكرامة و أنواع السعادة و شتات الإنعام في الدارين , حيث أجمله ووكله إلى رضاه و هذا غاية الإحسان و الإكرام .
ثم قال تعالى يعدد نعمه على عبده و رسوله محمد , صلوات الله و سلامه عليه : ( ألم يجدك يتيما فآوى ) و ذلك أن أباه تُوفي و هو حَمل في بطن أمه , و قيل : بعد أن ولد , عليه السلام , ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب و له من العمر ست سنين , ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي و له من العمر ثماني سنين , فكفله عمه أبو طالب , ثم لم يزل يحوطه و ينصره و يَرفع من قدره و يُوقّره , و يكفّ عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره , هذا و أبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان , و كل ذلك بقدر الله و حُسن تدبيره , إلى أن تُوفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل , فأقدم عليه سفهاء قريش و جُهالهم , فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس و الخزرج , كما أجرى الله سُنَّته على الوجه الأتم و الأكمل , فلما وصل إليهم أوَوه و نَصروه و حاطوه و قاتلوا بين يديه , رضي الله عنهم أجمعين , و كل هذا من حفظ الله له و عنايته به .
( ووجدك ضالا فهدى ) أي غافلا عما أوحاه إليك من الهدى و الفرقان , فهداك إليه و جعلك إماما له , كما في آية " ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان " قال الشهاب : فالضلال مستعار من " ضل في طريقه " إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده لعدم ما يوصله للعلوم النافعة , من طريق الإكتساب .
( ووجدك عائلا ) أي فقيرا ( فأغنى ) فأغناك بمال خديجة الذي وهبته إياه , أو بما حصل لك من ربح التجارة , ثم بما فتح الله عليك من البلدان , التي جبيت لك أموالها و خراجها , فجمع له بين مقامي , الفقير الصابر و الغني الشاكر , صلوات الله و سلامه عليه .
( فأمام اليتيم فلا تقهر ) كما كنت يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم , و لا تذله و تنهره و تهنه , و لكن أحسن إليه و تلطفه به .
( و أما السائل فلا تنهر ) لا يصدر منك إلى السائل كلام يقتضي رده عن مطلوبه , بنهر و شراسة خلق , بل أعطه ما تيسر عندك أو ردّه بمعروف و إحسان , و هذا يدخل فيه السائل للمال , و السائل للعلم , و لهذا كان المعلم مأمورا بحسن الخلق مع المتعلم , و مباشرته بالإكرام و التحنن عليه , فإن في ذلك معونة له على مقصده , و إكراما لمن كان يسعى في نفع العباد و البلاد .
( و أما بنعمة ربك فحدّث ) و النعم هذه تشمل الدينية و الدنيوية , فالدنيوية : كما كنت عائلا فقيرا فأغناك الله , فحدث بنعمة الله عليك و أوسع في البذل على الفقراء , أما الدينية : فاشكر نعمة الإيمان و الإحسان و الوحي و العلم و الفرقان و ذلك بالتحدث بها إبلاغا و تعليما و تربية و هداية .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة الليل
مكية و آياتها إحدى و عشرون آية
( و الليل إذا يغشى ) أي يعم الخلق بظلامه .
( و النهار إذا تجلى ) ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين بطلوع الشمس .
و الليل و النهار هما آيتان من آيات الله الدالتان على ربوبيته تعالى الموجبة لألوهيته .
( و ما خلق الذكر و الأنثى ) و هو كقوله تعالى " و خلقناكم أزواجا " و كقوله تعالى " و من كل شيء خلقنا زوجين " .
( إن سعيكم لشتى ) أي إن عملكم أيها الناس لمختلف , منه الحسنات الموجبة للسعادة و الكمال في الدارين , و منه السيئات الموجبة للشقاء في الدارين - أي دار الدنيا و الآخرة - .
( فأما من أعطى ) أي أعطى ما أمر بإخراجه من العبادات المالية , كالزكوات , و الكفارات و النفقات , و الصدقات , و الإنفاق في وجوه الخير .
( و اتقى ) ما نُهي عنه , من المحرمات و المعاصي , على اختلاف أجناسها .
( و صدق بالحسنى ) أي صدّق ب " لا إله إلا الله " و ما دلت عليه , من جميع العقائد الدينية , و ما ترتب عليها من الجزاء الأخروي .
( فسنيسره لليسرى ) أي فسنهيئه و نوفقه للطريقة اليسرى , التي هي السلوك في طريق الحق , فنيسر له فعل كل خير , و نيسر له ترك كل شر , لأنه أتى بأسباب التيسير , فيسر الله له ذلك .
( و أما من بخل ) أي بالنفقة في سبيل الله , و منع ما وهب الله له من فضله من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها. فلم يعط حق الله فيه و لم يتصدق متطوعا في سبيل الله .
( و استغنى ) بماله وولده و جاهه فلم يتقرب إلى الله تعالى بطاعته في ترك معاصيه و لا في أداء فرائضه , و لم ير نفسه مفتقرة غاية الإفتقار إلى ربها , الذي لا نجاة و لا فوز و لا فلاح , إلا بأن يكون هو محبوبها و معبودها , الذي تقصده و تتوجه إليه .
( و كذّب بالحسنى ) أي بوجود المثوبة للحسنى , لمن آمن الحق , لاسغنائه بالحياة الدنيا و احتجابه بها عن عالم الآخرة .
( فسنيسره للعسرى ) أي للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبدي , و هي العمل بما يكرهه الله تعالى و لا يرضاه من الذنوب و المعاصي و الآثام ليكون ذلك قائده إلى النار , قال الله تعالى " و نُقلّب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرة و نذرهم في طغيانهم يعمهون " .
( و ما يغني عنه ماله إذا تردّى ) يخبر تعالى بأن من بخل و استغنى و كذب بالحسنى حفاظا على ماله و شحا به و بخلا أن ينفقه في سبيل ربه هذا المال لا يغني عنه شيئا يوم القيامة إذا ألقي به في نار جهنم فتردى ساقطا فيها على أم رأسه .
( إن علينا للهدى ) أي علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة , حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض , أن نبين لهم طريق الهدى ليجتنبوا مواقع الردى , و قد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل , و إنزال الكتب , و التمكين من الإستدلال و الإستبصار , بخلق العقل و هبة الإختيار .
( و إنّ لنا للأخرة و الأولى ) أي ملكا و خلقا , ليس له فيهما مشارك فليرغب الراغبون إليه في الطلب , و لينقطع رجاؤهم عن المخلوقين . و الآية أيضا فيها إشارة إلى تناهي عظمته و تكامل قهره و جبروته , و إن من كان كذلك , فجدير أن يبادر لطاعته و يحذر من معصيته .
( فأنذرتكم نارا تلظى ) أي تستعر و تتوقد . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منها دماغه " رواه البخاري . و الأخمص هو المتجافي من الرجل عن الأرض . و في رواية لمسلم " إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان و شراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل , ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا , و إنه لأهونهم عذابا " . و الشراك هو أحد سيور النعل , الذي يكون على وجهها و على ظهر القدم .
( لا يصلاها إلا الأشقى ) لا يدخلها و يصطلي بحرها خالدا فيها أبدا إلا الأشقى أي الأكثر شقاوة و هو المشرك , و قد يدخلها الشقي من أهل التوحيد و يخرج منها بتوحيده , حيث لم يكذب و لم يتول , و لكن فجر و عصى , و ما أشرك و ما تولى .
( الذي كذب ) بالحق الذي جاءه .
( و تولى ) عن آيات ربه و براهينها التي وضح أمرها و بهر نورها , عنادا و كفرا .
( و سيجنبها الأتقى ) أي و سيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى , ثم فسره بقوله تعالى ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) أي يصرف ماله في طاعة ربه , ليزكي نفسه و ماله و ما وهبه الله من دين و دنيا .
( و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) فهو ينفق ما ينفقه في سبيل الله خاصة و ليس ما ينفقه من أجل أن عليه لأحد من الناس فضلا أو يداً فهو يكافئه بها لا لا , و إنما هو ينفق ابتغاء رضا ربه تعالى لا غير .
( و لسوف يرضى ) و لسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات .
و قد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق , حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك . و لا شك أنه داخل فيها , و أولى الأمة بعمومها , فإن لفظها لفظ العموم , و هو قوله تعالى " و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " , و لكنه مقدم الأمة و سابقهم في جميع هذه الأوصاف و سائر الأوصاف الحميدة .