آخر 10 مشاركات
الخبيصه الاماراتيه (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 1 - المشاهدات : 12071 - الوقت: 09:09 PM - التاريخ: 01-13-2024)           »          حلوى المغلي بدقيق الرز (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 6908 - الوقت: 03:16 PM - التاريخ: 12-11-2023)           »          دروس اللغة التركية (الكاتـب : عمر نجاتي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 12774 - الوقت: 11:25 AM - التاريخ: 08-21-2023)           »          فيتامين يساعد على التئام الجروح وطرق أخرى (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 14087 - الوقت: 08:31 PM - التاريخ: 07-15-2023)           »          صناعة العود المعطر في المنزل (الكاتـب : أفاق الفكر - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 4 - المشاهدات : 48275 - الوقت: 10:57 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          كحل الصراي وكحل الاثمد وزينت المرأة قديما من التراث (الكاتـب : Omna_Hawaa - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 2 - المشاهدات : 43288 - الوقت: 10:46 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          كيفية استخدام البخور السائل(وطريقة البخور السائل) (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 2 - المشاهدات : 35623 - الوقت: 10:36 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          جددي بخورك (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 20568 - الوقت: 10:25 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          عطور الإمارات صناعة تراثية (الكاتـب : OM_SULTAN - مشاركات : 0 - المشاهدات : 20789 - الوقت: 10:21 PM - التاريخ: 11-06-2022)           »          خلطات للعطور خاصة (الكاتـب : أفاق : الاداره - آخر مشاركة : OM_SULTAN - مشاركات : 1 - المشاهدات : 26702 - الوقت: 10:12 PM - التاريخ: 11-06-2022)

إضافة رد
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-22-2006, 06:26 PM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

abo _mohammed

المشــرف العــــام

abo _mohammed غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









abo _mohammed غير متواجد حالياً


البداية والنهاية تتمة الجزء الاول

البداية والنهاية تتمة الجزء الاول


حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم ولما كان إبراهيم عليه السلام أفضل الرسل وأولى العزم بعد محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أمر المصلى أن يقول في تشهده ما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة وغيره قال قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك قال قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وقال تعالى وإبراهيم الذي وفى قالوا وفي جميع ما أمر به وقام بجميع خصال الإيمان وشعبه وكان لا يشغله مراعاة الأمر الجليل عن القيام بمصلحة الأمر القليل ولا ينسيه القيام بأعباء المصالح الكبار عن الصغار قال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال ابتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب والمضممة والسواك والاستنشاق وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء رواه ابن أبي حاتم وقال وروى عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك قلت وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وفي صحيح مسلم وأهل السنن من حديث وكع عن ذكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة العبدري المكي الحجبي عن طلق بن حبيب العتري عن عبدالله بن الزبير عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر من الفطرة قص الشارب واعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الابط وحلق العانة وانتقاص الماء يعني الاستنجاء وسيأتي في ذكر مقدار عمره الكلام على الختان والمقصود أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يشغله القيام بالاخلاص لله عز وجل وخشوع العبادة العظيمة عن مراعات مصلحة بدنه وإعطاء كل عضو ما يستحقه من الاصلاح والتحسين وإزالة ما يشين من زيادة شعر أو ظفر أو وجود قلح أو وسخ فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم وإبراهيم الذي وفى
*2* قصره في الجنة
@ قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا أحمد بن سنان القطان الواسطي ومحمد بن موسى القطان قالا حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن سماك عن عكرمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الجنة قصرا أحسبه قال من لؤلؤة ليس فيه فصم ولا وهي أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلا قال البزار وحدثناه أحمد بن جميل المروزي حدثنا النضر بن شميل حدثنا حماد بن سلمة عن سماك عن
عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ثم قال وهذا الحديث لا نعلم رواه عن حماد بن سلمة فأسنده الا يزيد بن هارون والنضر بن شميل وغيرهما يرويه موقوفا قلت لولا هذه العلة لكان على شرط الصحيح ولم يخرجوه
*2* صفة إبراهيم عليه السلام
@ قال الإمام أحمد حدثنا يونس وحجين قالا حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عرض علي الأنبياء فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى بن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود ورأيت إبراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وبهذا اللفظ وقال أحمد حدثنا أسود بن عمر حدثنا إسرائيل عن عثمان يعني ابن المغيرة عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عيسى بن مريم وموسى وإبراهيم فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر وأما موسى فآدم جسيم قالوا له فإبراهيم قال انظروا إلى صاحبكم يعني نفسه وقال البخاري حدثنا بنان بن عمرو حدثنا النضر أنبأنا ابن عون عن مجاهد أنه سمع ابن عباس وذكروا له الدجال بين عينيه كافرا و ك ف ر فقال لم أسمعه ولكنه قال صلى الله عليه وسلم أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم وأما موسى فجعد آدم على جمل أحمر مخطوم بخلبه كأني أنظر إليه أنحدر في الوادي ورواه البخاري أيضا ومسلم عن محمد بن المثنى عن ابن أبي عدي عن عبدالله بن عون به وهكذا رواه البخاري أيضا في كتاب الحج وفي اللباس ومسلم جميعا عن محمد بن المثنى عن ابن أبي عدي عن عبدالله بن عون به
*2* وفاة إبراهيم وما قيل في عمره
@ ذكر ابن جرير في تاريخه أن مولده كان في زمن النمرود بن كنعان وهو فيما قيل الضحاك الملك المشهور الذي يقال إنه ملك ألف سنة وكان في غاية الغشم والظلم وذكر بعضهم أنه من بني راسب الذين بعث إليهم نوح عليه السلام وأنه كان إذ ذاك ملك الدنيا وذكروا أنه طلع نجم أخفى ضوء الشمس والقمر فهال ذلك أهل ذلك الزمان وفزغ النمرود فجمع الكهنة والمنجمين وسألهم عن ذلك فقالوا يولد مولود في رعيتك يكون زوال ملكك على يديه فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء وأن يقتل المولودون من ذلك الحين فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين فحماه الله عز وجل وصانه من كيد الفجار وشب شبابا باهرا وأنبته الله نباتا حسنا حتى كان من أمره ما تقدم وكان مولده بالسوس وقيل ببابل وقيل بالسواد من ناحية كوثى وتقدم عن ابن عباس أنه ولد ببرزة شرقي دمشق فلما
أهلك الله نمرود على يديه وهاجر إلى حران ثم إلى أرض الشام وأقام ببلاد ايليا كما ذكرنا وولد له اسماعيل واسحق وماتت سارة قبله بقرية حبرون التي في أرض كنعان ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة فيما ذكر أهل الكتاب فحزن عليها إبراهيم عليه السلام ورثاها رحمها الله واشترى من رجل من بني حيث يقال له عفرون بن صخر مغارة بأربع مائة مثقال ودفن فيها سارة هنالك قالوا ثم خطب إبراهيم على ابنه اسحق فزوجه رفقا بنت بتوئيل بن ناحور بن تارح وبعث مولاه فحملها من بلادها ومعها مرضعتها وجوارها على الإبل قالوا ثم تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا فولدت له زمران ويقشان ومادان ومدين وشياق وشوح وذكروا ما ولد كل واحد من هؤلاء أولاد قنطورا وقد روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف عن أخبار أهل الكتاب في صفة مجيء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخبارا كثيرة الله أعلم بصحتها وقد قيل إنه مات فجأة وكذا داود وسليمان والذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك قالوا ثم مرض إبراهيم عليه السلام ومات عن مائة وخمس وسبعين وقيل وتسعين سنة ودفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثي عند امرأته سارة التي في مزرعة عفرون الحيثي وتولى دفنه اسمعيل واسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتي سنة كما قاله ابن الكلبي وقال أبو حاتم بن حبان في صحيحه أنبأنا المفضل بن محمد الجندي بمكة حدثنا علي بن زياد اللخمي حدثنا أبو قرة عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اختتن إبراهيم بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة وقد رواه الحافظ بن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم وجعفر بن عون العمري عن يحيى بن سعيد عن سعيد عن أبي هريرة موقوفا
ثم قال ابن حبان ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر وهم أخبرنا محمد بن عبدالله بن الجنيد نيست حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اختتن ابراهيم حين بلغ مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة واختتن بقدوم وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتت
عليه ثمانون سنة ثم روى ابن حبان عن عبدالرزاق أنه قال القدوم اسم القرية قلت الذي في الصحيح أنه اختتن وقد أتت عليه ثمانون سنة وفي رواية وهو ابن ثمانين سنة وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك والله أعلم وقال محمد بن اسماعيل الحساني الواسطي زاد في تفسير وكيع عنه فيما ذكره من الزيادات حدثنا أبو معاوية عن يحبى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال كان إبراهيم أول من تسرول وأول من فرق وأول من استحد وأول من اختتن بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة وأول من فرق وأول من استحد وأول من اختتن بالقدوم وهوابن عشرين ومائة سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة وأول من قرى الضيف أول من شاب هكذا رواه موقوفا وهو أشبه بالمرفوع خلافا لابن حبان والله أعلم
وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال كان إبراهيم أو من أضاف الضيف وأول الناس اختتن وأول الناس قص شاربه وأول الناس رأى الشيب فقال يا رب ما هذا فقال الله وقار فقال يا رب زدني وقارا وزاد غيرهما وأول من قص شاربه وأول من استحد وأول من لبس السراويل فقبره وقبر ولده اسحق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد حبرون وهو البلد المعروف بالخليل اليوم وهذا تلقى بالتواتر أمة بعد أمة وجيل بعد جيل من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا أن قبره بالمربعة تحقيقا فأما تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن معصوم فينبغي أن تراعي تلك المحلة وأن تحترم احترام مثلها وأن تبجل وأن تجل أن يداس في أرجائها خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد من أولاده الأنبياء عليهم السلام تحتها وروى ابن عساكر بسنده إلى وهب بن منبه قال وجد عند قبر إبراهيم الخليل على حجر كتابة خلقة
ألهى جهولا أمله * يموت من جا أجله
ومن دنا من حتفه * لم تغن عنه حيله
وكيف يبقى آخر * من مات عنه أوله
والمرء لا يصحبه * في القبر إلا عمله
*2* ذكر أولاد إبراهيم الخليل
@ أول من ولد له إسماعيل من هاجر القبطية المصرية ثم ولد له اسحق من سارة بنت عم الخليل ثم تزوج بعدها قنطورا بنت يقطن الكنعانية فولدت له ستة مدين وزمران وسرج ويقشان ونشق ولم يسم السادس ثم تزوج بعدها حجون بنت أمين فولدت له خمسة كيسان وسورج وأميم ولوطان ونافس هكذا ذكره أبو القاسم السهيلي في كتابه التعريف والاعلام
ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل من الأمور العظيمة قصة قوم لوط عليه السلام وما حل بهم من النقمة
الغميمة وذلك أن لوطا بن هاران بن تارح وهو آزر كما تقدم ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل فإبراهيم وهاران وناحور اخوة كما قدمنا ويقال إن هاران هذا هو الذي بنى حران وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب والله أعلم وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام بأمره له وأذنه فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر وكان أم تلك المحله ولها أرض ومعتملات وقرى مضافة إليها ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم وأسوأهم طوية وأرداهم سريرة وسيرة يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر ولا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم وهي إتيان الذكران من العالمين وترك ما خلق الله من النسوان لعباده الصالحين فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والفواحش المنكرات والأفاعيل المستقبحات فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم واستمروا على فجورهم وكفرانهم فأحل الله بهم من البأس الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم وجعلهم مثلة في العالمين وعبرة يتعظ بها الألباء من العالمين ولهذا ذكر الله تعالى قصتهم في غير ما موضع من كتابه المبين فقال تعالى في سورة الأعراف ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وقال تعالى في سورة هود ولقد جعلنا رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها باسحق ومن رواء اسحاق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى تجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتاهم عذاب غير مردود ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد وقال تعالى في سورة الحجر ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قال لا توجل إنا نبشرك
بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين الا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وآتيناك بالحق وإنا لصادقون فاسر بأهلك بقطع من الليل وابتع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزنون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين وقال تعالى في سورة الشعراء كذبت قوط لوط المرسلين إذ لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجم بل أنتم قوم عادون قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما أكن أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم وقال تعالى في سورة النمل ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين وقال تعالى في سورة العنكبوت ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين قال رب انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن أنا منجوك وأهلك إلاامرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وقال تعالى في سورة الصافات وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الأخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون وقال تعالى في الذاريات بعد قصة
ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فاخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وقال في سورة الانشقاق كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السورة في التفسير وقد ذكر الله لوطا وقومه في مواضع أخر من القرآن تقدم ذكرها مع قوم نوح وعاد وثمود والمقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم وما أحل الله بهم مجموعا من الآيات والآثار وبالله المستعان وذلك أن لوطا عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله عنهم من الفواحش فلم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به حتى ولا رجل واحد منهم ولم يتركوا ما عنه نهوا بل استمروا على حالهم ولم يرتدعوا عن غيهم وضلالهم وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فجعلوا غابة المدح ذما يقتضي الإخراج وما حملهم على مقالتهم هذه الا العناد واللجاج فطهره الله وأهله الا امرأته وأخرجهم منها أحسن إخراج وتركهم في محلتهم خالدين لكن بعد ما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج لكنها عليهم في الحقيقة نار تأجج وحر يتوهج وماؤها ملح أجاج وما كان هذا جوابهم الا لما نهاهم عن الطامة العظمى والفاحشة الكبرى التي لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق ويخونون الرفيق ويأتون في ناديهم وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم المنكر من الأقوال والأفعال على اختلاف أصنافه حتى قيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم ولا يستحيون من مجالسهم وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل ولا يستنكفون ولا يرعوون لوعظ واعظ ولا نصيحة من عاقل وكانوا في ذلك وغيره كالأنعام بل أضل سبيلا ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر ولا ندموا على ما سلف من الماض ولا راموا في المستقبل تحويلا فأخذهم الله أخذا وبيلا وقالوا له فيما قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الأليم وحلول البأس العظيم فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم فسأل من رب العالمين وإله المرسلين أن ينصره علىالقوم المفسدين فغار الله لغيرته وغضب لغضبته واستجاب لدعوته وأجابه إلى طلبته وبعث رسله الكرام وملائكته العظام فمروا على الخليل إبراهيم وبشروه بالغلام العليم وأخبروه بما جاؤوا له من الأمر الجسيم والخطب العميم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل
عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين وقال ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين وقال الله تعالى فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط وذلك إنه كان يرجوا أن ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا ولهذا قال تعالى إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود أي أعرض عن هذا وتكلم في غيره فإنه قد حتم أمرهم ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم إنه قد جاء أمر ربك أي قد أمر به من لا يرد أمره ولا يرد بأسه ولا معقب لحكمه وإنهم آتيهم عذاب غير مردود
وذكر سعيد بن جبير والسدي وقتادة ومحمد بن إسحق أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن قالوا لا قال فمائتا مؤمن قالوا لا قال فأربعون مؤمنا قالوا لا قال فأربعة عشر مؤمنا قالوا لا قال ابن اسحق إلى أن قال أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد قالوا لا قالوا إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها الآية وعند أهل الكتاب أنه قال يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلا صالحا فقال الله لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحا ثم تنازل إلى عشرة فقال الله لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون قال الله تعالى وقال ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب قال المفسرون لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم وهم جبريل وميكائيل واسرافيل أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم في صور شبان حسان اختبارا من الله تعالى لقوم لوط وإقامة للحجة عليهم فاستضافوا لوطا عليه السلام وذلك عند غروب الشمس فخشي إن لم يضفهم يضيفهم غيره وحسبهم بشرا من الناس وسيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحق شديد بلاؤه وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم كما كان يصنع بهم في غيرهم وكانوا قد اشترطوا عليه أن لا يضيف أحدا ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه وذكر قتادة أنهم وردوا عليه وهو في أرض له يعمل فيها فتضيفوا فاستحيى منهم وانطلق امامهم وجعل يعرض لهم في الكلام لعلهم ينصرفون عن هذه القرية وينزلوا في غيرها فقال لهم فيما قال يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات قال وكانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك
وقال السدي خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قوم لوط فأتوها نصف النهار فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقى من الماء لأهلها وكانت له ابنتان اسم الكبرى ريثا والصغرى ذعرتا فقالوا لها يا جارية هل من منزل فقالت لهم مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم فرقت عليهم من قومها فاتت أباها
فقالت يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم لا يأخذهم قومك فيفضحوهم وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلا فجاء بهم فلم يعلم أحدا إلا أهل البيت فخرجت امرأته فأخبرت قومها فقالت إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط فجاءه قومه يهرعون إليه وقوله ومن قبل كانوا يعملون السيئات أي هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم يرشدهم إلى غشيان نسائهم وهن بناته شرعا لأن النبي للأمة بمنزلة الوالد كما ورد في الحديث وكما قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزراجه أمهاتهم وفي قول بعض الصحابة والسلف وهو أب لهم وهذا كقوله أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون وهذا هو الذي نص عليه مجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومحمد بن اسحق وهو الصواب والقول الآخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب وقد تصحف عليهم كما أخطأوا في قولهم إن الملائكة كانوا إثنين وانهم تعشوا عنده وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطا عظيما وقوله فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد نهى لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة ولا فيه خير بل الجميع سفهاء فجرة أقوياء كفرة أغبياء وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوا منه من قبل أن يسألوه عنه فقال قومه عليهم لعنة الله الحميد المجيد مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الأمر السديد لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد يقولون عليهم لعائن الله لقد علمت يا لوط إنه لا أرب لنا في نسائنا وانك لتعلم مرادنا وغرضنا واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم ولم يخافوا سطوة العظيم ذي العذاب الأليم ولهذا قال عليه السلام لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ود أن لو كان له بهم قوة أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب وقد قال الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا نحن أحق بالشك من إبراهيم ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ورواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله عز وجل فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه وقال تعالى وجاء أهل المدينة يستبشرون قال ان هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أو لم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين فأمرهم بقربان نسائهم وحذرهم الاستمرار على طريقتهم وسيآتهم هذا وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون بل كلما لهم يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرضون ولم يعلموا ما حم
به القدر مما هم إليه صائرون وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون ولهذا قال تعالى مقسما بحياة نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون وقال تعالى ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر ذكر المفسرون وغيرهم أن نبي الله لوطا عليه السلام جعل يمانع قومه الدخول ويدافعهم والباب مغلق وهم يرومون فتحه وولوجه وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب وكل ما لهم في الجاج والعاج فلما ضاق الأمر وعسر الحال قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد لأحللت بكم النكال قالت الملائكة يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك وذكروا أن جبريل عليه السلام حرج عليهم فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه فطمست أعينهم حتى قيل إنها غارت بالكلية ولم يبق لها محل ولا عين ولا أثر فرجعوا يتجسسون مع الحيطان ويتوعدون رسول الرحمن ويقولون إذا كان الغد كان لنا وله شان قال الله تعالى ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط عليهم السلام آمرين له بان يسرى هو وأهله من آخر الليل ولا يلتفت منكم أحد يعني عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه وأمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم وقوله إلا امرأتك على قراءة النصب يحتمل أن يكون مستثنى من قوله فاسر بأهلك كأنه يقول الا امرأتك فلا تسر بها ويحتمل أن يكون من قوله ولا يلتفت منكم أحد الا امرأتك أي فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم ويقوى هذا الاحتمال قراءة الرفع ولكن الأول أظهر في المعنى والله أعلم
قال السهيلي واسم امرأة لوط والهة واسم امرأة نوح والغة وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة الملعونين النظراء والأشباه الذين جعلهم الله سلفا لكل خائن مريب إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما خرج لوط عليه السلام بأهله وهم ابنتاه ولم يتبعه منهم رجل واحد ويقال إن امرأته خرجت معه فالله أعلم فلما خلصوا من بلادهم وطلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر الله ما لا يرد ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد وعند أهل الكتاب أن الملائكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذي هناك فاستبعده وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم فقالوا اذهب فانا ننتظرك حتى تصير إليها وتستقر فيها ثم نحل بهم العذاب فذكروا أنه ذهب إلى قرية صغر التي يقول الناس غور زغر فلما اشرقت الشمس نزل بهم العذاب قال الله تعالى فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد قالوا اقتلعهن جبريل بطرف
جناحه من قرارهن وكن سبع مدن بمن فيهن من الأمم فقالوا إنهم كانوا أربع مائة نسمة وقيل أربعة آلاف نسمة وما معهم من الحيوانات وما يتبع تلك المدن من الأراضي والأماكن والمعتملات فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم ونباح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها قال مجاهد فكان أول ما سقط منها شرفاتها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل والسجيل فارسي معرب وهو الشديد الصلب القوي منضود أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم من السماء مسومة أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يهبط عليه فيدمغه كما قال مسومة عند ربك للمسرفين وكما قال تعالى وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين وقال تعالى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى يعني قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها وغشاها بمطر من حجارة من سجيل متتابعة مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم والغائبين عنها من المسافرين والنازحين والشاذين منها ويقال إن امرأة لوط مكثت مع قومها ويقال إنها خرجت مع زوجها وبنتيها ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة والتفتت إلى قومها وخالفت أمر ربها قديما وحديثا وقالت واقوماه فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها بقومها إذ كانت على دينهم وكانت عينا لهم على من يكون عند لوط من الضيفان كما قال تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين أي خانتاهما في الدين فلم يتابعاهما فيه وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة حاشا وكلا ولما فإن الله لا يقدر على نبي أن تبغى امرأته كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف ما بغت امرأة نبي قط ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ خطأ كبيرا قال الله تعالى في قصة الإفك لما أنزل براءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فعاتب الله المؤمنين وانب وزجر ووعظ وحذر وقال فيما قال إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم أي سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة وقوله ههنا وما هي من الظالمين ببعيد أي وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصنا أو لا نص عليه الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من الأئمة واحتجوا أيضا بما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط لقوله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة لا ينتفع بمائها
ولا بما حولها من الأراضي المتاخمة لفنائها لرداءتها ودناءتها فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته وعزته في انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله واتبع هواه وعصى مولاه ودليلا على رحمته بعباده المؤمنين في انجائه إياهم من المهلكات وإخراجه إياهم من النور إلى الظلمات كما قال تعالى إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم وقال تعالى فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين أي من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم كيف غير الله تلك البلاد وأهلها وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة هالكة غامرة كما روى الترمذي وغيره مرفوعا اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين وقوله وإنها لبسبيل مقيم أي لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن كما قال وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون وقال تعالى ولقد تركناها آية بينة لقوم يعقلون وقال تعالى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم أي تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة وخشي الرحمن بالغيب وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فانزجر عن محارم الله وترك معاصيه وخاف أن يشابه قوم لوط ومن تشبه بقوم فهو منهم وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه كما قال بعضهم فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم فما قوم لوط منكم ببعيد فالعاقل اللبيب الخائف من ربه الفاهم يمتثل ما أمره الله به عز وجل ويقبل ما أرشده إليه رسول الله من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال والجواري من السراري ذوات الجمال وإياه أن يتبع كل شيطان مريد فيحق عليه الوعيد ويدخل في قوله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد
*2* قصة مدين قوم شعيب عليه السلام
@ قال الله تعالى في سورة الأعراف بعد قصة قوم لوط وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جائتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وان كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد أفترينا على الله كذبا ان عدنا
في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شي علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وقال الملأ اللذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فيكف آسي على قوم كافرين وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط أيضا وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولاتبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه ورائكم ظهريا إن ربي بما تعلمون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود وقال في الحجر بعد قصة قوم لوط أيضا وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبامام مبين وقال تعالى في الشعراء بعد قصتهم كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلى على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الله الذي خلقكم والجبلة الأولين قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم
كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط وكانوا بعدهم بمدة قريبة ومدين قبيلة عرفت بهم القبيلة
وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل بن يشجن ذكره ابن اسحاق قال ويقال له بالسريانية بنزون وفي هذا نظر ويقال شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب ويقال شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم ويقال شعيب بن ضيفور بن عيفا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم وقيل غير ذلك في نسبه
قال ابن عساكر ويقال جدته ويقال أمه بنت لوط وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه ودخل معه دمشق وعن وهب ابن منبه أنه قال شعيب وملغم ممن آمن بإبرأهيم يوم أحرق بالنار وهاجرا معه إلى الشام فزوجهما بنتي لوط عليه السلام ذكره ابن قتيبة وفي هذا كله نظر أيضا والله أعلم


وذكر أبو عمر بن عبدالبر في الاستعباب في ترجمة سلمة بن سعد العنزي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وانتسب إلى عنزة فقال نعم الحي عنزة مبغى عليهم منصورون قوم شعيب وأختان موسى فلو صح هذا لدل على أن شعيبا من موسى وأنه من قبيلة من العرب العاربة يقال لهم عنزة لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان فإن هؤلاء بعده بدهر طويل والله أعلم
وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الأنبياء والرسل قال أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر وكان بعض السلف يسمى شعيبا خطيب الأنبياء يعني لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته وقد روى ابن إسحاق بن بشر عن جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا قال ذاك خطيب الأنبياء وكان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل ويخيفون المارة ويعبدون الأيكة وهي شجرة من الأيك حولها غيضة ملتفة بها وكانوا من أسوء الناس معاملة يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيهما يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من بخس الناس أشيائهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم حتى أحل الله بهم البأس الشديد وهو الولي الحميد كما قال تعالى وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جائتكم بينة من ربكم أي دلالة وحجة واضحة وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وانه أرسلني وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلا وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالا
فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم وتوعدهم على خلاف ذلك فقال ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط أي طريق توعدون أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك وتخيفون السبل قال السدي في تفسيره عن الصحابة ولا تقعدوا بكل صراط توعدون أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة وقال إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال كانوا قوما طغاة بناة يجلسون على الطريق يبخسون الناس يعني يعشرونهم وكانوا أول من سن ذلك وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا فنهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية واذكروا أذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه كما قال لهم في القصة الأخرى ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط أي لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق الله بركة ما في أيديكم ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة فنهاهم أولا عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم وعذابه الأليم في أخراهم وعنفهم أشد تعنيف ثم قال لهم آمرا بعدما كان عن ضده زاجرا ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ قال ابن عباس والحسن البصري بقيت الله خير لكم أي رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس وقال ابن جرير ما فضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف قال وقد روى هذا عن ابن عباس وهذا الذي قاله وحكاه حسن وهو شبيه بقوله تعالى قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث يعني أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام فإن الحلال مبارك وإن قل والحرام ممحوق وإن كثر كما قال تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قل رواه أحمد أي إلى قلة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل والحرام لا يجدي وان كثر ولهذا قال نبي الله شعيب بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وقوله وما أنا علكيم بحفيظ أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه لا لأراكم أنا وغيري قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء أنك لأنت الحليم الرشيد يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم أصلوتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد الا إلهك
ونترك ما يعبد آباؤنا الأقدمون وأسلافنا الأولون أو أن لا نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها إنك لأنت الحليم الرشيد قال ابن عباس وميمون ابن مهران وابن جريج وزيد بن أسلم وابن جرير يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الإستهزاء قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب هذا تلطف معهم في العبارة ودعوة لهم إلى الحق بابين إشارة يقول لهم أرأيتم أيها المكذبون إن كنت على بينة من ربي أي على أمر بين من الله تعالى أنه أرسلني إليكم ورزقني منه رزقا حسنا يعني النبوة والرسالة يعني وعمى عليكم معرفتها فأي حيلة لي بكم وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء وقوله وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه أي لست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة وضدها هي المردودة الذميمة كما تلبس بها علماء بني إسرائيل في آخر زمانهم وخطباؤهم الجاهلون قال الله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون وذكر عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه أي تخرج أمعاؤه من بطنه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه وهذه صفة مخالفي الأنبياء من الفجار والأشقياء فأما السادة من النجباء والألباء من العلماء الذين يخشون ربهم بالغب فحالهم كما قال نبي الله شعيب وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد الاصلاح ما استطعت أي ما أريد في جميع أمري إلا الاصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي وما توفيقي أي في جميع أحوالي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب أي عليه أتوكل في سائر الأمور وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري وهذا مقام ترغيب ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد أي لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين وقوله وما قوم لوط منكم ببعيد قيل معناه في الزمان أي ما بالعهد من قدم مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم وقيل معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان وقيل في الصفات والأفعال المستقبحات من قطع الطريق وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بانواع الحيل والشبهات والجمع بين هذه الأقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زمانا ولا مكانا ولا صفات ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال واستغفروا ربكم ثم توبوا
إليه إن ربي رحيم ودود أي أقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود فإنه من تاب إليه تاب عليه فإنه رحيم بعباده أرحم بهم من الوالدة بولدها ودود وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده ولو من الموبقات العظام قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم قالوا كان ضرير البصر وقد روى في حديث مرفوع أنه بكى من حب الله حتى عمى فرد الله عليه بصره وقال يا شعيب أتبكي خوفا من النار أو من شوقك إلى الجنة فقال بل من محبتك فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي فأوحى الله إليه هنيئا لك يا شعيب لقائي فلذلك أخدمتك موسى ابن عمران كليمي رواه الواحدي عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي عن علي بن الحسن بن بندار عن أبي عبدالله محمد بن إسحق التربلي عن هشام بن عمار عن إسمعيل بن عباس عن يحيى بن سعيد عن شداد بن أمين عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وهو غريب جدا وقد ضعفه الخطيب البغدادي وقولهم ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز وهذا من كفرهم البليغ وعنادهم الشنيع حيث قالوا ما نفقه كثيرا مما تقول أي ما نفهمه ولا نعقله لأنا لا نحبه ولا نريده وليس لنا همة إليه ولا إقبال عليه وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون وقولهم وإنا لنراك فينا ضعيفا أي مضطهدا مهجورا ولولا رهطك أي قبيلتك وعشيرتك فينا لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم ارهطي أعز عليكم من الله أي تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني بسببهم ولا تخافون جنبة الله ولا تراعوني لأني رسول الله فصار رهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا أي جانب الله وراء ظهوركم إن ربي بما تعملون محيط أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه محيط بذلك كله وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب وهذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد بان يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ومن يحل عليه الهلاك والبوار من يأتيه عذاب يخزيه أي في هذه الحياة الدنيا ويحل عليه عذاب مقيم أي في الأخرى ومن هو كاذب أي مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر وارتقبوا إني معكم رقيب وهذا كقوله وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح
بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم فانتصب شعيب للحاجة عن قومه فقال أولو كنا كارهين أي هؤلاء لا يعودون إليكم اختيارا وإنما يعودون إليه إن عادوا اضطرارا مكرهين وذلك لأن الإيمان إذا خالطته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد ولا يرتد أحد عنه ولا محيد لأحد منه ولهذا قال قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا أي فهو كافينا وهو العاصم لنا وإليه ملجاؤنا في جميع أمرنا ثم استفتح على قومه واستنصر ربه عليه في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين أي الحاكمين فدعا عليهم والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه على الذين جحدوه وكفروه ورسوله خالفوه ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون وبه متلبسون وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون قال الله تعالى فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ذكر في سورة الأعراف أنهم اخذتهم رجفة أي رجفت بهم أرضهم وزلزلت زلزالا شديدا أزهقت أرواحهم من أجسادها وصيرت حيوانات أرضهم كجمادها وأصبحت جثتهم جاثية لا أرواح فيها ولا حركات بها ولا حواس لها وقد جمع الله عليهم أنواعا من العقوبات وصنوفا من المثلات وأشكالا من البليات وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات وصيحة عظيمة أخمدت الأصوات وظلة أرسل الله عليهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ويوافق طباقها في سباق قصة الأعراف ارجفوا نبي الله وأصحابه وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم راجعين فقال تعالى فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فقابل الإرجفاف بالرجفة والإخافة بالخيفة وهذا مناسب لهذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السباق وأما في سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والإستهزاء والتنقص أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح الذي واجهوا به هذا الرسول الكريم الأمين الفصيح فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة أسكنتهم وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة وكان ذلك إجابة لما طلبوا وتقريبا إلى ما إليه رغبوا فإنهم قالوا إنما أنت من المسحرين وما أن إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فاسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال رب أعلم بما تعلمون قال الله تعالى وهو السميع العليم فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إن كان عذاب يوم عظيم ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أن أصحاب الأيكة أمة أخرى غير اهل مدين فقوله ضعيف وإنما
عمدتهم شيئان أحدهما أنه قال كذب اصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ولم يقل اخوهم كما قال وإلى مدين أخاهم شعيبا والثاني أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة والجواب عن الأول أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله كذب اصحاب الأيكة المرسلين لأنه وصفهم بعبادة الأيكة فلا يناسب ذكر الأخوة ههنا ولما نسبهم إلى القبيلة شاع ذكر شعيب بأنه أخوهم وهذا الفرق من النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة وأما إحتجاجهم بيوم الظلة فإن كان دليلا بمجرده على أن هؤلاء أمة أخرى فليكن تعداد الإنتقام بالرجفة والصيحة دليلا على أنهما أمتان أخريان وهذا لا يقوله أحد يفهم شيأ من هذا الشأن فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه السلام من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أبيه عن معاوية بن هشام عن هشام بن سعد عن شفيق بن ابي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبدالله بن عمرو مرفوعا إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه السلام فإنه حديث غريب وفي رجاله من تكلم فيه والأشبه أنه من كلام عبدالله بن عمرو مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني إسرائيل والله أعلم
ثم قد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان فدل على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب وذكر في كل موضع ما يناسب من الخطاب وقوله فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ذكروا أنهم أصابهم حر شديد وأسكن الله هبوب الهوا عنهم سبعة أيام فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل ولا دخولهم في الإسراب فهربوا من محلتهم إلى البرية فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة من السماء فأزهقت الأرواح وخرجت الأشباح فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ونجى الله شعيبا ومن معه من المؤمنين كما قال تعالى وهو أصدق القائلين ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود وقال تعالى وقال الملأ من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين وهذا في مقابلة قولهم لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخا ومؤبنا ومقرعا فقال تعالى يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين أي أعرض عنهم موليا عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم أي قد أديت ما كان واجبا علي من البلاغ التام والنصح الكامل وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه فلم
ينفعكم ذلك لأن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين فلست أتأسف بعد هذا عليكم لأنكم لم تكونوا تقبلون النصيحة ولا تخافون يوم الفضيحة ولهذا قال فكيف آسى أي احزن على قوم كافرين أي لا تقبلون الحق ولا ترجعون إليه ولا ! تلتفون إليه فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدافع ولا يمانع ولا محيد لأحد أريد به عنه ولا مناص منه
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس أن شعيبا عليه السلام كان بعد يوسف عليه السلام وعن وهب بن منبه أن شعيبا عليه السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم
*2* باب ذرية إبراهيم
@ قد قدمنا قصته مع قومه وما كان من امرهم وما آل إليه أمره عليه السلام والتحية والإكرام وذكرنا ما وقع في زمانه من قصة قوم لوط وأتبعنا ذلك بقصة مدين قوم شعيب عليه السلام لأنها قرينتها في كتاب الله عز وجل في مواضع متعددة فذكر تعالى بعد قصة قوم لوط قصة مدين وهم أصحاب الأيكة على الصحيح كما قدمنا فذكرناها تبعا لها إقتداء بالقرآن العظيم ثم نشرع الآن في الكلام على تفصيل ذرية إبراهيم عليه السلام لأن الله جعل في ذريته النبوة والكتاب فكل نبي أرسل بعده فمن ولده
*2* إسماعيل عليه السلام
@ وقد كان للخليل بنون كما ذكرنا ولكن أشهرهم الأخوان النبيان العظيمان الرسولان أسنهما وأجلهما الذي هو الذبيح على الصحيح إسماعيل بكر إبراهيم الخليل من هاجر القبطية المصرية عليها السلام من العظيم الجليل ومن قال إن الذبيح هو إسحق فإنما تلقاه من نقله بني إسرائيل الذين بدلوا وحرفو وأولوا التوراة والإنجيل وخالفوا بأيديهم في هذا من التنزيل فإن إبراهيم أمر بذبح ولده البكر وفي رواية الوحيد وأياما كان فهو إسماعيل بنص الدليل ففي نص كتابهم إن إسماعيل ولد ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة وإنما ولد إسحق بعد مضى مائة سنة من عمر الخليل فإسماعيل هو البكر لا محالة وهو الوحيد صورة ومعنى على كل حالة أما في الصورة فلأنه كان وحده ولده أزيد من ثلاثة عشر سنة وأما أنه وحيد في المعنى فإنه هو الذي هاجر به أبوه ومعه أمه هاجر وكان صغيرا رضيعا فيما قيل فوضعهما في وهاد جبال فاران وهي الجبال التي حول مكة نعم المقيل وتركهما هنالك ليس معهما من الزاد والماء إلا القليل وذلك ثقة بالله وتوكلا عليه فحاطهما الله تعالى بعنايته وكفايته فنعم الحسيب والكافي والوكيل
والكفيل فهذا هو الولد الوحيد في الصورة والمعنى ولكن أين من يتفطن لهذا السر واين من يحل بهذا المحل والمعنى لا يدركه ويحيط بعلمه إلا كل نبيه نبيل وقد أثنى الله تعالى عليه ووصفه بالحلم والصبر وصدق الوعد والمحافظة على الصلاة والأمر بها لأهله ليقيهم العذاب مع ما كان يدعو إليه من عبادة رب الأرباب قال تعالى فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فطاوع أباه على ما إليه دعاه ووعده بأن سيصبر فوفى بذلك بان سيصبر وصبر على ذلك وقال تعالى واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر اهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا وقال تعالى واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار وقال تعالى وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وقال تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط الآية ونظيرتها من السورة الأخرى وقال تعالى أم يقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله الآية فذكر الله عنه كل صفة جميلة وجعله نبيه ورسوله وبرأه من كل ما نسب إليه الجاهلون وأمر بان يؤمن بما أنزل عليه عباده المؤمنون وذكر علماء النسب وأيام الناس أنه أول من ركب الخيل وكانت قبل ذلك وحوشا فانسها وركبها وقد قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه حدثنا شيخ من قريش حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز عن عبدالله بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اتخذوا الخيل واعتبقوها فإنها مراث أبيكم إسماعيل وكانت هذه العراب وحشا فدعا لها بدعوته التي كان أعطى فأجابته وإنه أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة وكان قد تعلمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم بمكة من جرهم والعماليق وأهل اليمن من الأمم المتقدمين من العرب قبل الخليل
قال الأموي حدثني علي بن المغيرة حدثنا أبو عبيدة حدثنا مسمع بن مالك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة فقال له يونس صدقت يا أبا سيار هكذا أبو جرى حدثني وقد قدمنا أنه تزوج لما شب من العماليق امرأة وأن أباه أمره بفراقها ففارقها قال الأموي هي عمارة بنت سعد بن أسامة بن أكيل العماليقي ثم نكح غيرها فأمره أن يستمر بها فاستمر بها وهي السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي
وقيل هذه ثالثة فولدت له إثني عشر ولدا ذكرا وقد سماهم محمد بن إسحق رحمه الله وهم نابت وقيذر وازبل وميشى ومسمع وماش ودوصا وارر ويطور ونبش وطيما وقذيما وهكذا ذكرهم أهل الكتاب في كتابهم وعندهم أنهم الاثنا عشر عظيما المبشر بهم المتقدم ذكرهم وكذبوا في تأويلهم ذلك وكان إسماعيل عليه السلام رسولا إلى أهل تلك الناحية وما والاها من قبائل جرهم والعماليق وأهل اليمن صلوات الله وسلامه عليه ولما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحق وزوج ابنته نسمة من ابن اخيه العيص بن إسحق فولدت له الروم ويقال لهم بنو الأصفر لصفرة كانت في العيص وولدت له اليونان في أحد الأقوال ومن ولد العيص الأشبان قيل منهما أيضا وتوقف ابن جرير رحمه الله
ودفن إسماعيل نبي الله بالحجر مع أمه هاجر وكان عمره يوم مات مائة وسبعا وثلاثين سنة وروى عن عمر بن عبد العزيز انه قال شكى إسماعيل عليه السلام إلى ربه عز وجل حر مكة فأوحى الله إليه أني سأفتح لك بابا إلى الجنة إلى الموضع الذي تدفن فيه تجري عليك روحها إلى يوم القيامة
وعرب الحجاز كلهم ينتسبون إلى ولديه نابت وقيذار وسنتكلم على أحياء العرب وبطونها وعمائرها وقبائلها وعشائرها من لدن إسماعيل عليه السلام إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك إذا انتهينا إلى أيامه الشريفة وسيرته المنيفة بعد الفراغ من اخبار أنبياء بني إسرائيل إلى زمان عيسى بن مريم خاتم أنبيائهم ومحقق أنبائهم ثم نذكر ما كان في زمن بني اسرائيل ثم ما وقع في أيام الجاهلية ثم ينتهي الكلام إلى سيرة نبينا رسول الله إلى العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم من الأمم إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم العزيز الحكيم
*2* إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والتسليم
@ قد قدمنا أنه ولد ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشر سنة وكان عمر أمه سارة حين بشرت به تسعين سنة قال الله تعالى وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين وقد ذكره الله تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز وقدمنا في حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم
يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وذكر أهل الكتاب أن إسحق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حيات أبيه كان عمره أربعين سنة وأنها كانت عاقرا فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمين اولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل قالوا وكان إسحق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب اكثر لانه الأصغر قالوا فلما كبر إسحق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاما وأمره أن يذهب فيصطاد له صيدا ويطبخه له ليبارك عليه ويدعو له وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاما كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل اخيه ليدعو له فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين لأن العيص كان أشعر الجسد ويعقوب ليس كذلك فلما جاء به وقربه إليه قال من أنت قال ولدك فضمه إليه وجسه وجعل يقول أما الصوت فصوت يعقوب وأما الجس والثياب فالعيص فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدرا وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه فقال له ما هذا يا بني قال هذا الطعام الذي اشتهيته فقال اما جئتني به قبل الساعة وأكلت منه ودعوت لك فقال لا والله وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك فوجد في نفسه عليه وجدا كثيرا وذكروا أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما وسأل أباه فدعا له بدعوة اخرى وأن يجعل لذريته غليظ الأرض وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيص أخاه يعقوب أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إلى أخيها لابان الذي بأرض حران وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه عليه وأن يتزوج من بناته وقالت لزوجها إسحق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ففعل فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم فأدركه المساء في موضع فنام فيه أخذ حجرا فوضعه تحت رأسه ونام فرأى في نومه ذلك معراجا منصوبا من السماء إلى الأرض وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون والرب تبارك وتعالى يخاطبه ويقول له إني سأبارك عليك وأكثر ذريتك وأجعل لك هذه الأرض ولعقبك من بعدك فلما هب من نومه فرح بما رأى ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالما ليبنين في هذا الموضع معبد الله عز وجل وأن جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهنا يتعرفه به وسمى ذلك الموضع بيت إيل أي بيت الله وهو موضع بيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك كما سيأتي قالوا فلما قدم يعقوب على خاله أرض حران إذا له ابنتان اسم الكبرى ليا واسم الصغرى راحيل وكانت أحسنهما وأجملهما فأجابه إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين فلما مضت المدة على خاله لابان صنع طعاما وجمع الناس عليه وزف إليه ليلا
ابنته الكبرى ليا وكانت ضعيفة العينين قبيحة المنظر فلما أصبح يعقوب إذا هي ليا فقال لخاله لقد غدرت بي وأنت إنما خطبت إليك راحيل فقال إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى فإن احببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وأزوجكها فعمل سبع سنين وأدخلها عليه مع أختها وكان ذلك سائغا في ملتهم ثم نسخ في شريعة التوراة وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ لأن فعل يعقوب عليه السلام دليل على جواز هذا وإباحته لانه معصوم ووهب لابان لكل واحدة من ابنتيه جارية فوهب لليا جارية اسمها زلفى ووهب لراحيل جارية اسمها بلهى وجبر الله تعالى ضعف ليا بأن وهب لها أولادا فكان أول من ولدت ليعقوب روبيل ثم شمعون ثم لاوي ثم يهوذا فغارت عند ذلك راحيل وكانت لا تحبل فوهبت ليعقوب جاريتها بلهى فوطئها فحملت وولدت له غلاما سمته دان وحملت وولدت غلاما آخر سمته نيفتالي فعمدت عند ذلك ليا فوهبت جاريتها زلفى من يعقوب عليه السلام فولدت له جاد وأشير غلامين ذكرين ثم حملت ليا أيضا فولدت غلاما خامسا منها وسمته ايساخر ثم حملت وولدت غلاما سادسا سمته زابلون ثم حملت وولدت بنتا سمتها دينا فصار لها سبعة من يعقوب ثم دعت الله تعالى راحيل وسألته أن يهب لها غلاما من يعقوب فسمع الله ندائها وأجاب دعائها فحملت من نبي الله يعقوب فولدت له غلاما عظيما شريفا حسنا جميلا سمته يوسف كل هذا وهم مقيمون بأرض حران وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى فصار مدة مقامه عشرين سنة فطلب يعقوب من خاله لابان أن يسرحه ليمر إلى أهله فقال له خاله إني قد بورك لي بسببك فسلني من مالي ما شئت فقال تعطيني كل حمل يولد من غنمك هذه السنة أبقع وكل حمل ملمع أبيض بسواد وكل أملح ببياض وكل أجلح أبيض من المعز فقال نعم فعمد بنوه فابرزوا من غنم أبيهم ما كان على هذه الصفات من التيوس لئلا يولد شيء من الحملان على هذه الصفات وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم قالوا فعمد يعقوب عليه السلام إلى قضبان رطبة بيض من لوز وولب فكان يقشرها بلقا وينصبها في مساقي الغنم من المياه لينظر الغنم إليها فتفزع وتتحرك أولادها في بطونها فتصير ألوان حملانها كذلك وهذا يكون من باب خوارق العادات وينتظم في سلك المعجزات فصار ليعقوب عليه السلام أغنام كثيرة ودواب وعبيد وتغير له وجه خاله وبنيه وكأنهم انحصروا منه
وأوحى الله تعالى إلى يعقوب ان يرجع إلى بلاد أبيه وقومه ووعده بأن يكون معه فعرض ذلك على أهله فاجابوه مبادرين إلى طاعته فتحمل بأهله وماله وسرقت راحيل أصنام أبيها فلما جاوزوا وتحيزوا عن بلادهم لحقهم لابان وقومه فلما اجتمع لابان بيعقوب عاتبه في خروجه بغير علمه وهلا أعلمه فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول وحتى يودع بناته وأولادهن ولم أخذوا أصنامه معهم ولم يكن عند
يعقوب علم من أصنامه فأنكر أن يكون أخذوا له اصناما فدخل بيوت بناته وإمائهن يفتش فلم يجد شيئا وكانت راحيل قد جعلتهن في بردعة الحمل وهي تحتها فلم تقم وأعتذرت بأنها طامث فلم يقدر عليهن فعند ذلك تواثقوا على رابية هناك يقال لها جلعاد على أنه لا يهبن بناته ولا يتزوج عليهن ولا يجاوز هذه الرابية إلى بلاد الآخرة لا لابان ولا يعقوب وعملا طعاما وأكل القوم معهم وتودع كل منهما من الآخر وتفارقوا راجعين إلى بلادهم فلما اقترب يعقوب من ارض ساعير تلقته الملائكة يبشرونه بالقدوم وبعث يعقوب البرد إلى أخيه العيصو يترفق له ويتواضع له فرجعت البرد وأخبرت يعقوب بان العيص قد ركب إليك في أربعمائة راجل فخشى يعقوب من ذلك ودعا الله عز وجل وصلى له وتضرع إليه وتمسكن لديه وناشده عهده ووعده الذي وعده به وسأله أن يكف عنه شر أخيه العيص وأعد لأخيه هدية عظيمة وهي مائتا شاة وعشرون تيسا ومائتا نعجة وعشرون كبشا وثلاثون لقحة وأربعون بقرة وعشرة من الثيران وعشرون أتانا وعشرة من الحمر وأمر عبيده أن يسوقوا كلا من هذه الأصناف وحده ليكن بين كل قطيع وقطيع مسافة فإذا لقيهم العيص فقال للأول لمن أنت ولمن هذه معك فليقل لعبدك يعقوب أهداها لسيدي العيص وليقل الذي بعده كذلك وكذا الذي بعده ويقول كل منهم وهو جائي بعدنا وتأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه وبنيه الأحد عشر بعد الكل بليلتين وجعل يسير فيهما ليلا ويكمن نهارا فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية تبدا له ملك من الملائكة في صورة رجل فظنه يعقوب رجلا من الناس فأتاه يعقوب ليصارعه ويغالبه فظهر عليه يعقوب فيما يرى إلا أن الملك أصاب وركه فعرج يعقوب فلما أضاء الفجر قال له الملك ما اسمك قال يعقوب قال لا ينبغي أن تدعى بعد اليوم إلا إسرائيل فقال له يعقوب ومن أنت وما أسمك فذهب عنه فعلم أنه ملك من الملائكة وأصبح يعقوب وهو يعرج من رجله فلذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء ورفع يعقوب عينيه فإذا أخوه عيصو قد أقبل في أربعمائة راجل فتقدم أمام أهله فلما رأى أخاه العيص سجد له سبع مرات وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان وكان مشروعا لهم كما سجدت الملائكة لآدم تحية له وكما سجد أخوه يوسف وأبواه له كما سيأتي فلما رآه العيص تقدم إليه وأحتضنه وقبله وبكى ورفع العيص عينيه ونظر إلى النساء والصبيان فقال من أين لك هؤلاء فقال هؤلاء الذين وهب الله لعبدك فدنت الأمتان وبنوهما فسجدوا له ودنت ليا وبنوها فسجدوا له ودنت راحيل وابنها يوسف فخرا سجدا له وعرض عليه ان يقبل هديته وألح عليه فقبلها ورجع العيص فتقدم أمامه ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الانعام والمواشي والعبيد قاصدين جبال ساعير فلما مر بساحور ابتنى له بيتا ولدوا به ظلالا ثم مر على أورشليم قرية شخيم فنزل قبل القرية واشترى مزرعة شخيم بن جمور بمائة نعجة فضرب هنالك فسطاطه وابتنى ثم مذبحا فسماه إيل إله إسرائيل وأمر الله ببنائه ليستعلن له فيه وهو بيت المقدس اليوم الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما
السلام وهو مكان الصخرة التي اعلمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك كما ذكرنا أولا
وذكر أهل الكتاب هنا قصة دينا بنت يعقوب بنت ليا وما كان من أمرها مع شخيم بن جمور الذي قهرها على نفسها وأدخلها منزله ثم خطبها عن أبيها وأخوتها فقال إخوتها إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا فإنا لا نصاهر قوما غلفا فأجابوهم إلى ذلك واختتنوا كلهم فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان مال عليهم بنوا يعقوب فقتلوهم عن آخرهم وقتلوا شخيما وأباه جمور لقبيح ما صنعوا إليهم مضافا إلى كفرهم وما كانوا يعبدونه من أصنامهم فلهذا قتلهم بنوا يعقوب وأخذوا أموالهم غنيمة
ثم حملت راحيل فولدت غلاما وهو بنيامين إلا أنها جهدت في طلقها به جهدا شديدا وماتت عقيبه فدفنها يعقوب في أفراث وهي بيت لحم وصنع يعقوب على قبرها حجرا وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم وكان أولاد يعقوب الذكور اثنى عشر رجلا فمن ليا روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وايساخر وزايلون ومن راحيل يوسف وبنيامين ومن أمة راحيل دان ونفتالي ومن أمة ليا حاد وأشير عليهم السلام وجاء يعقوب إلى أبيه إسحاق فأقام عنده بقرية حبرون التي في أرض كنعان حيث كان يسكن إبراهيم ثم مرض إسحاق ومات عن مائة وثمانين سنة ودفنة ابناه العيص ويعقوب مع أبيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها كما قدمنا
*2* ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل
@ فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل وقد أنزل الله عز وجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والأمر الحكيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب المبين إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة فمن أراد تحقيقه فلينظر ثم وتكلمنا على هذه لسورة مستقصى في موضعها من التفسير ونحن نذكر ههنا نبذا مما هناك على وجه الإيجاز والنجاز
وجملة القول في هذا المقام أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم بلسان عرب فصيح بين واضح جلي يفهمه كل عاقل ذكي زكي فهو أشرف كتاب نزل من السماء انزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق في أشرف زمان ومكان بأفصح لغة وأظهر بيان فإن كان السياق في الأخبار الماضية أو الآتية ذكر احسنها وأبينها وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه ودمغ الباطل وزيفه
ورده وإن كان في الأوامر والنواهي فأعدل الشرائع وأوضح المناهج وأبين حكما وأعدل حكما فهو كما قال تعالى وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا يعني صدقا في الأخبار عدلا في الأوامر والنواهي ولهذا قال تعالى نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين أي بالنسبة إلى ما أوحي إليك فيه كما قال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور وقال تعالى كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا يعني من اعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب فإنه يناله هذا الوعيد كما قال في الحديث المروي في المسند والترمذي عن أمير المؤمنين على مرفوعا وموقوفا من ابتغى الهدى في غيره أضله الله وقال الإمام أحمد حدثنا سريج بن النعمان حدثنا هشام أنبأنا خالد عن الشعبي عن جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض اهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال فغضب وقال أتتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني إسناد صحيح ورواه أحمد من وجه آخر عن عمرو فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المنهوكون ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفا حرفا إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن ربك عليم حكيم قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدا ذكرا وسميناهم وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره وباقي إخوته لم يوح إليهم وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول ومن استدل على نبوتهم بقوله قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وزعم أن هؤلاء هم الأسباط فليس استدلاله بقوي
لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم
ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة أنه نص على واحد من إخوته سواه فدل على ما ذكرناه ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا عبدالرحمن عن عبدالله بن دينار عن أبيه عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الكريم بن الكريم ابن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم انفرد به البخاري فرواه عن عبدالله بن محمد وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة قال المفسرون وغيرهم رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن أحد عشر كوكبا وهم إشارة إلى بقية أخوته والشمس والقمر هما عبارة عن ابويه قد سجدوا له فهاله ذلك فلما استيقظ قصها على أبيه فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة بحيث يخضع له أبواه وأخوته فيها فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته كيلا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر وهذا يدل على ما ذكرناه ولهذا جاء في بعض الآثار استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود وعند أهل الكتاب انه قصها على أبيه وأخوته معا وهو غلط منهم وكذلك يجتبيك ربك أي وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتها يجتبيك ربك أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة ويعلمك من تأويل الأحاديث أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام مالا يفهمه غيرك ويتم نعمته عليك أي بالوحي إليك وعلى آل يعقوب أي بسببك ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة كما أعطاها أباك يعقوب وجدك اسحق ووالد جدك إبراهيم الخليل إن ربك عليم حكيم كما قال تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته
لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس اكرم قال يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما وأبو يعلى والبزار في مسنديهما من حديث الحكم بن ظهير وقد ضعفه الأئمة عن السدي عن عبدالرحمن بن سابط عن جابر قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له بستانة اليهودي فقال يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها قال فبعث إليه رسول الله فقال هل أنت مؤمن إن أخبرتك باسمائها قال نعم فقال هي جريان والطارق والديال وذو الكتفان وقابس ووثاب وعمردان والفيلق والمصبح والضروح وذو الفرع
والضياء والنور فقال اليهودي أي والله إنها لأسماؤها وعند أبي يعلى فلما قصها على أبيه قال هذا أمر مشتت يجمعه الله والشمس أبوه والقمر أمه لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين
ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم والدلالات والمواعظ والبينات ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه يعنون شقيقه لامه بنيامين أكثر منهم وهم عصبة أي جماعة يقولون فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين إن أبانا لفي ضلال مبين أي بتقديمه حبهما علينا ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيه أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم وأضمروا التوبة بعد ذلك فلما تمالؤا على ذلك وتوافقوا عليه قال قائل منهم قال مجاهد هو شمعون وقال السدي هو يهودا وقال قتادة ومحمد بن إسحق هو أكبرهم روبيل لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة أي المارة من المسافرين إن كنتم فاعيلن ما تقولون لا محالة فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقرب حالا من قتله أو نفيه وتغريبه فاجمعوا رأيهم على هذا فعند ذلك قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم وأن يلعب وينبسط وقد أضمروا له ما الله به عليم فأجابهم الشيخ عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم يا بني يشق علي ان افارقه ساعة من النهار ومع هذا اخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه فيأتي الذئب فيأكله ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة إنا إذا لخاسرون أي عاجزون هالكون
وعند اهل الكتاب أنه ارسله وراءهم يتبعهم فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم وهذا أيضا من غلطهم وخطئهم في التعريب فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم فكيف يبعثه وحده فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لننبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاؤا اباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم فما كان إلا أن غابوا عنه
عينيه فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال وأجمعوا على القائه في غيابت الجب أي في قعره على راعوفته وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها المائح وهو الذي ينزل ليملي الدلاء إذا قل الماء والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح فلما ألقوه فيه أوحى الله إليه أنه لا بد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها ولتخبرن أخوتك بصنيعهم هذا في حال أنت فيها عزيز وهم محتاجون إليك خائفون منك وهم لا يشعرون
قال مجاهد وقتادة وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك وعن ابن عباس وهم لا يشعرون أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها رواه ابن جرير عنه فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطخوه بشيء من دم ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون أي على أخيهم ولهذا قال بعض السلف لا يعرنك بكاء المتظلم فرب ظالم وهو باك وذكر بكاء إخوة يوسف وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون أي في ظلمة الليل ليكون أمشى لغدرهم لا لعذرهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا أي ثيابنا فأكله الذئب أي في غيبتنا عنه في استباقنا وقولهم وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين أي وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له ولو كنا غير متهمين عندك فكيف وأنت تتهمنا في هذا فإنك خشيت أن يأكله الذئب وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله فصرنا غير مصدقين عندك فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه وجاؤا على قميصه بدم كذب أي مكذوب مفتعل لأنهم عمدوا إلىسخلة ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ليوهموا أنه أكله الذئب قالوا ونسوا أن يخرقوه وآفة الكذب النسيان ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم فإنه كان يفهم عداوتهم له وحسدهم اياه على محبته له من بينهم أكثر منهم لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته ولما راودوه عن أخذه فبمجرد ما أخذوه أعدموه وغيبوه عن عينيه جاؤا وهم يتباكون وعلى ما تمالؤا عليه يتواطؤن ولهذا قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون
وعند أهل الكتاب أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون ويرده إلى أبيه فغافلوه وباعوه لتلك القافلة فلما جاء روبيل من آخر النار ليخرج يوسف لم يجده فصاح وشق ثيابه وعمد أولئك إلى جدي فذبحوه ولطخوا من دمه جبة يوسف فلما علم يعقوب شق ثيابه ولبس مئزرا أسود وحزن على إبنه أياما كثيرة وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل
الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به فجاءت سيارة أي مسافرون
قال أهل الكتاب كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم قاصدين ديار مصر من الشام فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه يوسف فلما رآه ذلك الرجل قال يا بشرى أي يا بشارتي هذا غلام واسروه بضاعة أي أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم والله عليم بما يعملون أي هو عالم بما تمالأ عليه أخوته وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم ومع هذا لا يغيره تعالى لما له في ذلك من الحكمة العظيمة والقدر السابق والرحمة بأهل مصر بما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق ثم بعد هذا يملكه أزمة الأمور وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم وقالوا هذا غلامنا أبق منا فاشتروه منهم بثمن بخس أي قليل نزر وقيل هو الزيف دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين قال ابن مسعود وابن عباس ونوف اليكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي باعوه بعشرين درهما اقتسموها درهمين درهمين وقال مجاهد اثنان وعشرون درهما وقال عكرمة ومحمد بن اسحق أربعون درهما فالله أعلم وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه أي أحسني إليه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهذا من لطف الله به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة قالوا وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها وهو الوزير بها الذي الخزائن مسلمة إليه قال ابن اسحق واسمه اطفير بن روحيب قال وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق قال واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل وقال غيره كان اسمها زليخا والظاهر أنه لقبها وقيل فكا بنت ينوس رواه الثعلبي عن أبي هشام الرفاعي وقال محمد بن اسحق عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس كان اسم الذي باعه بمصر يعني الذي جلبه إليها مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم فالله أعلم
وقال ابن اسحق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر حين قال لامرأته أكرمي مثواه والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين وأبو بكر الصديق حين استخف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
ثم قيل اشتراه العزيز بعشرين دينارا وقيل بوزنه مسكا ووزنه حريرا ووزنه ورقا فالله أعلم وقوله وكذلك مكنا ليوسف في الأرض أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه ويعتنيان
به مكنا له في أرض مصر ولنعلمه من تأويل الأحاديث أي فهمها وتعبير الرؤيا من ذلك والله غالب على أمره أي إذا أراد شيئا فإنه يقيض له أسبابا وأمورا لا يهتدي إليها العباد ولهذا قال تعالى ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد وهو حد الأربعين الذي يوحي الله فيه إلى عباده النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين
وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشعبي هو الحلم وقال سعيد بن جبير ثماني عشرة سنة وقال الضحاك عشرون سنة وقال عكرمة خمس وعشرون سنة وقال السدي ثلاثون سنة وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة ثلاث وثلاثون سنة وقال الحسن أربعون سنة ويشهد له قوله تعالى حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون وقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر والفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه وتهيأت له وتصنعت ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها وهي مع هذا كله امرأة الوزير قال ابن اسحق وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء إلا أنه نبي من سلالة الأنبياء فعصمه ربه عن الفحشاء وحماه من مكر النساء فهو سيد السادة النجباء السبعة الأتقياء المذكورين في الصحيحين عن خاتم الأنبياء في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وشاب نشأ في عبادة الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله
والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص فقال معاذ الله إنه ربي يعني زوجها
صاحب المنزل سيدي أحسن مثواي أي أحسن إلي وأكرم مقامي عنده إنه لا يفلح الظالمون وقد تكلمنا على قوله ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه بما فيه كفاية ومقنع في التفسير
وأكثر أو قال المفسرين ههنا متلقى من كتب أهل الكتاب فالإعراض عنه أولى بنا والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه وبرأه ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها ولهذا قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب أي هرب منها طالبا إلى الباب ليخرج منه فرارا منها فاتبعته في أثره والفيا أي وجدا سيدها أي زوجها لدى الباب فبدرته بالكلام وحرضته عليه قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم اتهمته وهي المتهمة وبرأت عرضها ونزهت ساحتها فلهذا قال يوسف عليه السلام هي راودتني عن نفسي احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة وشهد شاهد من أهلها قيل كان صغيرا في المهد قاله ابن عباس وروى عن أبي هريرة وهلال بن يساف والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك واختاره ابن جرير وروى فيه حديثا مرفوعا عن ابن عباس ووقفه غيره عنه وقيل كان رجلا قريبا إلى أطفير بعلها وقيل قريبا إليها وممن قال إنه كان رجلا ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وزيد بن أسلم فقال إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين أي لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين أي لأنه يكون قد هرب منها فاتبعته وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك وكذلك كان ولهذا قال تعالى فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم أي هذا الذي جرى من مكركن أنت راودته عن نفسه ثم اتهمته بالباطل ثم ضرب بعلها عن هذا صفحا فقال يوسف أعرض عن هذا أي لا تذكره لأحد لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها والتوبة إلى ربها فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك ولهذا قال لها بعلها وعذرها من بعض الوجوه لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله إلا أنه عفيف نزيه برىء العرض سليم الناحية فقال استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهم سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن إيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلى ما يدعونني إليه والا تصرف عني كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب
له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة من نساء الأمراء وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز وعيبها والتشنيع عليها في مراودتها فتاها وحبها الشديد له تعنين وهو لا يساوي هذا لأنه مولى من الموالي وليس مثله أهلا لهذا ولهذا قلن إنا لنراها في ضلال مبين أي في وضعها الشيء في غير محله فلما سمعت بمكرهن أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها والاشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها وعشق فتاها فأظهرن ذما وهي معذورة في نفس الأمر فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن ولا من قبيل ما لديهن فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها واعتدت لهن ضيافة مثلهن وأحضرت في جملة ذلك شيئا مما يقطع بالسكاكين كالأترج ونحوه وأتت كل واحدة منهن سكينا وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام وألبسته أحسن الثياب وهو في غاية طراوة الشباب وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة فلما رأينه أكبرنه أي أعظمنه وأجللنه وهبنه وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن وجعلن يحززن في إيديهن بتلك السكاكين ولا يشعرن بالجراح وكلهن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم وقد جاء في حديث الإسراء فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطى شطر الحسن
قال السهيلي وغيره من الأئمة معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام لأن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه فكان في غاية نهايات الحسن البشري ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه ويوسف كان على النصف من حسن آدم ولم يكن بينهما أحسن منهما كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام
قال ابن مسعود وكان وجه يوسف مثل البرق وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه وقال غيره كان في الغالب مبرقعا لئلا يراه الناس ولهذا لما قام عذر امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور وجرى لهن وعليهن ما جرى من تقطيع إيدينهم بجراح السكاكين وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ثم مدحته بالعصمة التامة فقالت ولقد راودته عن نفسه فاستعصم أي امتنع ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته فأبى أشد الإباء ونأى لأنه من سلالة الأنبياء ودعا فقال في دعائه لرب العالمين رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين يعني إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله فأنا ضعيف الا ما قويتني وعصمتني وحفظتني وحطني بحولك وقوتك ولهذا قال تعالى فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه
حتى حين ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الأمر الذي فيه تستفتيان يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم أي ظهر لهم من الرأي بعد ما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية وأخمد لأمرها وليظهروا أنه راودها عن نفسها فسجن بسببها فسجنوه ظلما وعدوانا وكان هذا مما قدر الله له ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم ومن ههنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي أن من العصمة أن لا تجد قال الله ودخل معه السجن فتيان قيل كان أحدهما ساقي الملك واسمه فيما قيل بنو والآخر خبازه يعني الذي يلي طعامه وهو الذي يقول له الترك الجاشنكير واسمه فيما قيل مجلث كان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه ودله وطريقته وقوله وفعله وكثرة عبادته ربه وإحسانه إلى خلقه فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه قال أهل التفسير رأيا في ليلة واحدة أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز وضواري الطيور تأكل من السل الأعلى فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرهما لهما وقالا إنا نراك من المحسنين فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها و قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما قيل معناه مهما رأيتما من حلم فاني أعبره لكم قبل وقوعه فيكون كما أقول وقيل معناه إني أخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه حلوا أو حامضا كما قال عيسى وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وقال لهما إن هذا من تعليم الله إياي لأني مؤمن به موحد له متبع ملة آبائي الكرام إبراهيم الخليل واسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا أي بأن هدانا لهذا وعلى الناس أي بأن أمرنا أن ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه وهو في فطرهم مركوز وفي جبلتهم مغروز ولكن أكثر الناس لا يشكرون ثم دعاهم إلى التوحيد وذم عبادة ما سوى الله عز وجل وصغر أمر الأوثان وحقرها وضعف أمرها فقال يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله
الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أي هو المتصرف في خلقه الفعال لما يريد الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء أمر أن لا تعبدوا إلا إياه أي وحده لا شريك له و ذلك الدين القيم أي المستقيم والصراط القويم ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال لأن نفوسهما معظمة له منبعثة على تلقي ما يقول بالقبول فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه ثم لما قام بما وجب عليه وأرشد إلى ما أرشد إليه قال يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا قالوا وهو الساقي وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قالوا وهو الخباز قضى الأمر الذي فيه تستفتيان أي وقع هذا لا محالة ووجب كونه على حالة ولهذا جاء في الحديث الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت
وقد روى عن ابن مسعود ومجاهد وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنهما قالا لم نر شيئا فقال لهما قضى الأمر الذي فيه تستفتيان وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين يخبر تعالى أن يوسف عليه السلام قال للذي ظنه ناجيا منهما وهو الساقي أذكرني عند ربك يعني اذكر أمري وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك وفي هذا دليل على جواز السعي في الأسباب ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب وقوله فأنساه الشيطان ذكر ربه أي فأنسى الناجي منهما الشيطان أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام قاله مجاهد ومحمد بن اسحق وغير واحد وهو الصواب وهو منصوص أهل الكتاب فلبث يوسف في السجن بضع سنين والبضع ما بين الثلاث إلى التسع وقيل إلى السبع وقيل إلى الخمس وقيل ما دون العشرة حكاها الثعلبي ويقال يضع نسوة وبضع رجال ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر قال وإنما يقال نيف وقال الله تعالى فلبث في السجن بضع سنين وقال تعالى في بضع سنين وهذا رد لقوله قال الفراء ويقال بضعة عشر وبعضة وعشرون إلى التسعين ولا يقال بضع ومائة وبضع والف وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر فمنع أن يقال بضعة وعشرون إلى تسعين وفي الصحيح الايمان بضع وستون وفي رواية وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ومن قال إن الضمير في قوله فأنساه الشيطان ذكر ربه عائد على يوسف فقد ضعف ما قاله وإن كان قد روى عن ابن عباس وعكرمة والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوري المكي وهو متروك ومرسل الحسن وقتادة لا يقبل ولا ههنا بطريق الأولى والأحرى والله أعلم
فأما قول ابن حبان في صحيح ذكر السبب الذي من أجله لبث يوسف في السجن ما لبث أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي ثنا مسدد بن مسرهد ثنا خالد بن عبدالله ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث ورحم الله لوطا أن كان ليأوي إلى ركن شديد إذ قال لقومه لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد قال فما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه فإنه حديث منكر من هذا الوجه ومحمد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة وهذه اللفظة من أنكرها وأشدها والذي في الصحيحين يشهد بغلطها والله أعلم وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبلة إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام وذلك أن ملك مصر وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن اراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح رأى هذه الرؤيا قال أهل الكتاب رأى كأنه على حافة نهر وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان فجعلن يرتعن في روضة هناك فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر فرتعن معهن ثم ملن عليهن فأكلنهن فاستيقظ مذعورا ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة وإذا سبع أخر دقاق يابسات فأكلنهن فاستيقظ مذعورا فلما قصها على ملئه وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها بل قالوا أضغاث أحلام أي أخلاط أحلام من الليل لعلها لا تعبير لها ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك ولهذا قالوا وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين فعند ذلك تذكر الناجي منهما الذي وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا وذلك عن تقدير الله عز وجل وله الحكمة في ذلك فلما سمع رؤيا الملك ورأى عجز الناس عن تعبيرها تذكر أمر يوسف وما كان أوصاه به من التذكار ولها قال تعالى وقال الذي نجا منهما وأدكر أي تذكر بعد أمة أي بعد مدة من الزمان وهو بضع سنين وقرأ بعضهم كما حكى عن ابن عباس وعكرمة والضحاك وأدكر بعد أمة أي بعد نسيان وقرأها مجاهد بعد أمه
بإسكان الميم وهو النسيان أيضا يقال أمه الرجل يأمه أمها وأمها إذا نسي قال الشاعر
أمهت وكنت لا أنسى حديثا * كذاك الدهر يزري بالعقول
فقال لقومه وللملك أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون أي فأرسلوني إلى يوسف فجاءه فقال يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون وعند أهل الكتاب أن الملك لما ذكره له الساقي استدعاه إلى حضرته وقص عليه ما رآه ففسره له وهذا غلط والصواب ما قصه الله في كتابه القرآن لا ما عربه هؤلاء الجهلة الثيران من قراى وربان فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط ولا طلب الخروج سريعا بل أجابهم إلى ما سألوا وعبر لهم ما كان من منام الملك الدال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبها سبع جدب ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية وفيه يعصرون يعني ما كانوا يعصرونه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها فعبر لهم وعلى الخير دلهم وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجد بهم وما يفعلونه من ادخار حبوب سنى الخصب في السبع الأول في سنبله الا ما يرصد بسبب الأكل ومن تقليل البذر في سنى الجدب في السبع الثانية إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم
وقال الملك ائتوني به فلما جاء الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرىء نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم لما أحاط الملك علما بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام وتمام عقله ورأيه السديد وفهمه أمر بإحضاره إلى حضرته ليكون من جملة خاصته فلما جاءه الرسول بذلك أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد أنه حبس ظلما وعدوانا وأنه برىء الساحة مما نسبوه إليه بهتانا قال ارجع إلى ربك يعني الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قيل معناه إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إلي أي فمر الملك فليسألهن كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد فلما سئلن عن ذلك أعرفن بما وقع من الأمر وما كان منه من الأمر الحميد وقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء فعند ذلك قالت امرأة العزيز وهي زليخا الآن حصحص الحق أي ظهر وتبين ووضح والحق أحق أن يتبع أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين أي فيما يقوله من أنه برىء وأنه لم يراودني وأنه حبس ظلما وعدوانا وزورا وبهتانا وقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين قيل إنه من كلام يوسف أي إنما
طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب وقيل إنه من تمام كلام زليخا أي إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر وإنما كان مراده لم يقع معها فعل فاحشة وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الأول وما ابرىء نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم قيل إنه من كلام يوسف وقيل من كلام زليخا وهو مفرع على القولين الأولين وكونه من تمام كلام زليخا أظهر وأنسب وأقوى والله أعلم وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون لما ظهر للمك براءة عرضه ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه قال ائتوني به استخلصه لنفسي أي أجعله من خاصتي ومن أكابر دولتي ومن أعيان حاشيتي فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله قال إنك اليوم لدينا مكين أمين أي ذو مكانة وأمانة قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالاهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضى سبع سنى الخصب لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم والرفق بهم وأخبر الملك إنه حفيظ أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه عليم بضبط الأشياء ومصالح الاهراء وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة وعند أهل الكتاب أن فرعون عظم يوسف عليه السلام جدا وسلطه على جميع أرض مصر وألبسه خاتمه وألبسه الحرير وطوقه الذهب وحمله على مركبه الثاني ونودي بين يديه أنت رب ومسلط وقال له لست أعظم منك إلا بالكرسي قالوا وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة وزوجه امرأة عظيمة الشأن
وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته وولاها يوسف وقيل إنه لما مات زوجه امرأته زليخا فوجدها عذراء لأن زوجها كان لا يأتي النساء فولدت ليوسف عليه السلام رجلين وهما أفرايم ومنشا قال واستوثق ليوسف ملك مصر وعمل فيهم بالعدل فأحبه الرجال والنساء
وحكى أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة وأن الملك خاطبه بسبعين لغة وكل ذلك يجاوبه بكل لغة منها فأعجبه ذلك مع حداثة سنه فالله أعلم قال الله تعالى وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء أي بعد السجن والضيق والحصر صار مطلق الركاب بديار مصر يتبوأ منها حيث يشاء أي أين شاء حل منها مكرما محسودا معظما نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين أي هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل ولهذا قال ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ويقال إن أطفير زوج
زليخا كان قد مات فولاه الملك مكانه وزوجه امرأته زليخا فكان وزير صدق
وذكر محمد بن اسحق أن صاحب مصر الوليد بن الريان أسلم على يدي يوسف عليه السلام فالله أعلم وقد قال بعضهم
وراء مضيق الخوف متسع الأمن * وأول مفروح به غاية الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفا * خزائنه بعد الخلاص من السجن
وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوف الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون يخبر تعالى عن قدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعاما وذلك بعد إتيان سنى الجدب وعمومها على سائر البلاد والعباد وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية دينا ودنيا فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة فلهذا عرفهم وهم له منكرون
وعند أهل الكتاب أنهم لما قدموا عليه سجدوا له فعرفهم وأراد أن لا يعرفوه بأغلظ لهم في القول وقال أنتم جواسيس جئتم لتأخذوا خبر بلادي فقالوا معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا ونحن بنو أب واحد من كنعان ونحن اثنا عشر رجلا ذهب منا واحد وصغيرنا عند أبينا فقال لا بد أن أستعلم أمركم وعندهم أنه حبسهم ثلاثة أيام ثم أخرجهم واحتبس شمعون عنده ليأتوه بالأخ الآخر وفي بعض هذا أنظر قال الله تعالى فلما جهزهم بجهازهم أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته في إعطاء كل إنسان حمل بعير لا يزيده عليه قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم وكان قد سألهم عن حالهم وكم هم فقالوا كنا إثني عشر رجلا فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا فقال إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم ألا ترون أني أوف الكيل وأنا خير المنزلين أي قد أحسنت نزلكم وقراكم فرغبهم ليأتوه به ثم رهبهم إن لم يأتوه به قال فإن لم تأتون به فلا كيل لكم عندي ولاتقربون أي فلست أعطيكم ميرة ولا أقربكم بالكلية عكس ما أسدى إليهم أولا فاجتهد في إحضاره معهم ليبل شوقه منه بالترغيب والترهيب قالوا سنراود عنه أباه أي سنجتهد في مجيئه معنا وإتيانه إليك بكل ممكن وإنا لفاعلون أي وإنا لقادرون على تحصيله ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم وهي ما جاؤا به يتعوضون به عن الميرة في أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون قيل أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم وقيل خشي أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية وقيل تذمم أن يأخذ منهم عوضا عن الميرة
وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرها وعند أهل الكتاب أنها كانت صررا من ورق وهو أشبه والله أعلم فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتنني به الا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون
يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم وقولهم له منع منا الكيل أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا فإن أرسلته معنا لم يمنع منا ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي أي أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا ونمير أهلنا أي نمتار لهم ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ومحلهم ونحفظ أخانا ونزداد بسببه كيل بعير قال الله تعالى ذلك كيل يسير أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر وكان يعقوب عليه السلام أضن شيء بولده بنيامين لأنه كان يشم فيه رائحة أخيه ويتسلى به عنه ويتعوض بسببه منه فلهذا قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به الا أن يحاط بكم أي الا أن تغلبوا كلكم عن الاتيان به فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل أكد المواثيق وقرر العهود واحتاط لنفسه في ولده ولن يغني حذر من قدر ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة لما بعث الولد العزيز ولكن الأقدار لها أحكام والرب تعالى يقدر ما يشاء ويختار ما يريد ويحكم ما يشاء وهو الحكيم العليم ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من باب واحد ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة قيل أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين وذلك لأنهم كانوا أشكالا حسنة وصورا بديعة قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والسدي والضحاك وقيل أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبرا ليوسف أو يحدثون عنه بأثر قاله إبراهيم النخعي والأول أظهر ولهذا قال وما أغنى عنكم من الله من شيء وقال تعالى ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء الا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون
وعند أهل الكتاب أنه بعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل وأخذوا الدراهم الأولى وعوضا آخر فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذون أيتها العيد إنكم
لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون
يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف وأيوائه إليه وإخباره له سرا عنهم بأنه أخوه وأمره بكتم ذلك عنهم وسلاه عما كان منهم من الإساءة إليه ثم احتال على أخذه منهم وتركه إياه عنده دونهم فأمر فتيانه بوضع سقايته وهي التي كان يشرب بها ويكيل بها للناس الطعام عن غرته في متاع بنيامين ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك ووعدهم جعالة على رده حمل بعير وضمنه المنادي لهم فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فأبنوه وهجنوه فيما قاله لهم و قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين يقولون أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا به من السرقة قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين وهذه كانت شريعتهم أن السارق يدفع إلى المسروق منه ولهذا قالوا كذلك نجزي الظالمين قال الله تعالى فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ليكون ذلك أبعد للتهمه وأبلغ في الحيلة ثم قال الله تعالى كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك أي لولا اعترافهم بأن جزاءه من وجد في رحله فهو جزاؤه لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء أي في العلم وفوق كل ذي علم عليهم وذلك لأن يوسف كان أعلم منهم وأتم رأيا وأقوى عزما وحزما وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك من قدوم أبيه وقومه عليه ووفودهم إليه فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يعنون يوسف قيل كان قد سرق صنم جده أبي أمه فكسره وقيل كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه وهو صغير منطقة كانت لاسحق ثم استخرجوها من بين ثيابه وهو لا يشعر بما صنعت وإنما أرادت أن يكون عندها وفي حضانتها لمحبتها له وقيل كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء وقيل غير ذلك فلهذا قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فاسرها يوسف في نفسه وهي كلمته بعدها وقوله أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون أجابهم سرا لا جهرا حلما وكرما وصفحا وعفوا فدخلوا معه في الترقق والتعطف فقالوا يا أيها العزيز إن له أبا
شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البرىء هذا ما لا نفعله ولا نسمح به وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده
وعند أهل الكتاب أن يوسف تعرف اليهم حينئذ وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جدا فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون
يقول تعالى مخبرا عنهم أنهم لما استيأسوا من أخذه منه خلصوا يتناجون فيما بينهم قال كبيرهم وهو روبيل ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله فلم يبق لي وجه أقابله به فلن أبرح الأرض أي لا أزال مقيما ههنا حتى يأذن لي أبي في القدوم عليه أو يحكم الله لي بأن يقدرني على رد أخي إلى أبي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق أي أخبروه بما رأيتم من الأمر في لظاهر المشاهدة وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعبر التي أقبلنا فيها أي فإن هذا الذي أخبرناك به من أخذهم أخانا لأنه سرق أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك وانا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمر فصبر جميل أي ليس الأمر كما ذكرتم لم يسرق فإنه ليس سجية له ولا خلقه وإنما سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل
قال ابن اسحق وغيره لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبا على صنيعهم في يوسف قال لهم ما قال وهذا كما قال بعض السلف إن من جزاء السيئة السيئة بعدها ثم قال عسى الله أن يأتيني بهم جميعا يعني يوسف وبنيامين وروبيل إنه هو العليم أي بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة الحكيم فيما يقدره ويفعله وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة وتولى عنهم أي أعرض عن بنيه وقال يا أسفي على يوسف
ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم وحرك ما كان كامنا كما قال بعضهم
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحب إلا للحبيب الأول
وقال آخر
لقد لامني عند القبور على البكا * رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى * فدعني فهذا كله قبر مالك
وقوله وابيضت عيناه من الحزن أي من كثرة البكاء فهو كظيم أي مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق قالوا له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين يقولون لا تزال تتذكره حتى تنحل جسدك وتضعف قوتك فلو رفقت بنفسك كان أولى بك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يقول لبنيه لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه إنما أشكو إلى الله عز وجل وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى ولهذا قال واعلم من الله ما لا تعلمون ثم قال لهم محرضا على تطلب يوسف وأخيه وأن يبحثوا عن أمرهما يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون أي لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج في المضايق إلا القوم الكافرون فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجميعن
يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم رد أخيهم بنيامين إليهم فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال وجئنا ببضاعة مزجاة أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنا قيل كانت دراهم رديئة وقيل قليلة وقيل حب الصنوبر وحب البطم ونحو ذلك وعن ابن عباس كانت خلق الغرائر والحبال ونحو ذلك فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قيل بقبولها قاله السدي وقيل برد أخينا إلينا قاله ابن جريج وقال سفيان بن عيينة إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزع بهذه الآية رواه ابن جرير فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال تعرف إليهم وعطف عليهم قائلا لهم عن أمر ربه وربهم
وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الخال فيه الذي يعرفون هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا وتعجبوا كل العجب وقد ترددوا إليه مرارا عديدة وهم لا يعرفون أنه هو أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي يعني أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم وسلف من أمركم فيه ما فرطتم وقوله وهذا أخي تأكيد لما قال وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد وعملوا في أمرهما من الإحتيال ولهذا قال قد من الله علينا أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا وإيوائه لنا وشده معاقد عزنا وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرنا لأبينا ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا أي فضلك وأعطاك ما لم يعطنا وإن كنا لخاطئين أي فيما أسدينا إليك وها نحن بين يديك قال لا تثريب عليكم اليوم أي لست أعاقبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا ثم زادهم على ذلك فقال اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين
ومن زعم أن الوقف على قوله لا تثريب عليكم وابتدأ بقوله اليوم يغفر الله لكم فقوله ضعيف والصحيح الأول ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه وهو الذي يلي جسده فيضعوه على عيني أبيه فإنه يرجع إليه بصره بعد ما كان ذهب بإذن الله وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الأمور فلما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم
قال عبدالرزاق أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان عن عبدالله بن أبي الهذيل سمعت ابن عباس يقول فلما فصلت العير قال لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قال فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي سنان به وقال الحسن البصري وابن جريج المكي كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخا وكان له منذ فارقه ثمانون سنة وقوله لولا أن تفندون أي تقولون إنما قلت هذا من الفند وهو الخرف وكبر السن قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة تفندون تسفهون وقال مجاهد أيضا والحسن تهرمون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم قال قتادة والسدي قالوا له كلمة غليظة قال الله تعالى فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا أي بمجرد ما جاء ألقى القميض على وجه يعقوب فرجع من فوره بصيرا بعد ما كان ضريرا وقال لبنيه عند ذلك ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا
تعلمون أي اعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف وستقر عيني به وسيريني فيه ومنه ما يسرني فعند ذلك قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عز وجل عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه وما كانوا عزموا عليه ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل وفقهم الله للإستغفار عند وقوع ذلك منهم فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا وما عليه عولوا قائلا سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم
قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم أرجأهم إلى وقت السحر قال ابن جرير حدثني أبو السائب حدثنا ابن إدريس سمعت عبدالرحمن بن إسحق يذكر عن محارب ابن دثار قال كان عمر يأتي المسجد فسمع انسانا يقول اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت وهذا السحر فاغفر لي قال فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبدالله بن مسعود فسأل عبدالله عن ذلك فقال إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله سوف أستغفر لكم ربي وقد قال الله تعالى والمستغفرين بالأسحار وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من تائب فأتوب عليه هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له وقد ورد في حديث أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة قال ابن جرير حدثني المثنى ثنا سليمان بن عبدالرحمن بن أيوب الدمشقي حدثنا الوليد أنبأنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف أستغفر لكم ربي يقول حتى تأتي ليلة الجمعة وهو قول أخي يعقوب لبنيه وهذا غريب من هذا الوجه وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفا على ابن عباس رضي الله عنه فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين هذا إخبار عن حال إجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة التي قيل أنها ثمانون سنة وقيل ثلاثة وثمانون سنة وهما روايتان عن الحسن وقيل خمس وثلاثون سنة قاله قتادة وقال محمد ابن إسحاق ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة قال وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريبا فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة فيما قاله غير واحد فامتنع فكان في السجن بضع سنين وهي سبع عند عكرمة وغيره ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع ثم لما أمحل الناس في السبع البواقي جاء إخوتهم يمتارون السنة الأولى وحدهم وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين وفي الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار اهلهم أجمعين فجاؤا كلهم فلما دخلوا
عليه آوى إليه أبويه اجتمع بها خصوصا وحدهما دون إخوته وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين قيل هذا من المقدم والمؤخر تقديره ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه وضعفه ابن جرير وهو معذور قيل تلقاهما وآواهما في منزل الخيام ثم لما اقتربوا من باب مصر قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين قاله السدي ولو قيل إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضا وأنه ضمن قوله أدخلوا معنى اسكنوا مصر أو أقيموا بها إن شاء الله آمنين لكان صحيحا مليحا أيضا
وعند اهل الكتاب أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر وهي أرض بلبيس خرج يوسف لتلقيه وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشرا بقدومه وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم وقد ذكر جماعة من المفسرين انه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب وهو إسرائيل اراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف وتعظيما لنبي الله إسرائيل وأنه دعا للملك وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سني الجدب ببركة قدومه إليهم فالله أعلم
وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم فيما قاله أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود ثلاثة وستين إنسانا وقال موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن عبدالله بن شداد كانوا ثلاثة وثمانين إنسانا وقال أبو إسحاق عن مسروق دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنسانا قالوا وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل وفي نص أهل الكتاب أنهم كانوا سبعين نفسا وسموهم قال الله تعالى ورفع أبويه على العرش قيل كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة وقال بعض المفسرين فأحياها الله تعالى وقال آخرون بل كانت خالته ليا والخالة بمنزلة الأم وقال ابن جرير وآخرون بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه وهذا قوي والله أعلم ورفعهما على العرش أي أجلسهما مع على سريره وخروا له سجدا أي سجده له الأبوان والاخوة الأحد عشر تعظيما وتكريما وكان هذا مشروعا لهم ولم يزل ذلك معمولا به في سائر الشرائع حتى حرم في ملتنا وقالت يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل أي هذا تعبير ما كنت قصصته عليك من رؤيتي الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر حين رأيتهم لي ساجدين وأمرتني بكتمانها ووعدتني ما وعدتني عند ذلك قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن أي بعد الهم والضيق جعلني حاكما نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت وجاء بكم من البدو أي البادية وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخليل من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي أي فيما كان منهم إلي من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره ثم قال إن ربي لطيف لما يشاء أي إذا أراد شيئا هيأ أسبابه ويسرها وسهلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد بل يقدرها وييسرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته إنه هو العليم أي بجميع الأمور الحكيم في خلقه وشرعه وقدره
وعند أهل الكتاب أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذي كان تحت يده بأموالهم كلها من الذهب والفضة والعقار والأثاث وما يملكونه كله حتى باعهم بانفسهم فصاروا أرقاء ثم أطلق لهم أرضهم وأعتق رقابهم على أن يعملوا ويكون خمس ما يشتغلون من زرعهم وثمارهم للملك فصارت سنة أهل مصر بعده
وحكى الثعلبي أنه كان لا يشبع في تلك السنين حتى لا ينسى الجيعان وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار قال فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك قلت وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يشبع بطنه عام الرمادة حتى ذهب الجدب وأتى الخصب
قال الشافعي قال رجل من الأعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت وشمله قد إجتمع عرف أن هذه الدار لا يقربها قرار وأن كل شيء فيها ومن عليها فان وما بعد التمام إلا النقصان فعند ذلك أثنى على ربه بما هو أهله واعترف له بعظيم إحسانه وفضله وسأل منه وهو خير المسؤلين أن يتوفاه أي حين يتوفاه على الإسلام وأن يلحقه بعباده الصالحين وهكذا كما يقال في الدعاء اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين أي حين تتوفانا ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الاعلى والرفقاء الصالحين من النبيين والمرسلين كما قال اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثا ثم قضى
ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الإسلام منجزا في صحة بدنه وسلامته وأن ذلك كان سائغا في ملتهم وشرعتهم كما روي عن ابن عباس أنه قال ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف فأما في شريعتنا فقد نهي عن الدعاء بالموت إلا عند الفتن كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين وفي الحديث الآخر ابن آدم الموت خير لك من الفتنة وقالت مريم عليها السلام يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا وتمنى الموت علي بن أبي طالب لما تفاقمت الأمور وعظمت الفتن واشتد القتال وكثر القيل والقال وتمنى ذلك البخاري أبو عبدالله صاحب الصحيح لما اشتد عليه الحال ولقي من مخالفيه الأهوال
فأما في حال الرفاهية فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنا فيزداد وإما مسيئا فلعله يستعتب ولكن ليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي والمراد بالضر ههنا ما يخص العبد في بدنه من مرض ونحوه لا في دينه والظاهر أن نبي الله يوسف عليه السلام سأل ذلك إما عند احتضاره أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك
وقد ذكر ابن اسحق عن أهل الكتاب أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة ثم توفي عليه السلام وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم واسحق قال السدي فصبر وسيره إلى بلاد الشام فدفنه بالمنارة عند أبيه اسحق وجده الخليل عليهم السلام
وعند أهل الكتاب أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة وعندهم أنه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة ومع هذا قالوا فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة هذا نص كتابهم وهو غلط إما في النسخة أو منهم أو قد أسقطوا الكسر وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا فكيف يستعملون هذه الطريقة ههنا وقد قال تعالى في كتابه العزيز أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون يوصي بنيه بالإخلاص وهو دين الإسلام الذي بعث الله به الأنبياء عليهم السلام
وقد ذكر أهل الكتاب أنه أوصى بنيه واحدا واحدا وأخبرهم بما يكون من أمرهم وبشر يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله تطيعه الشعوب وهو عيسى بن مريم والله أعلم
وذكروا أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يوما وأمر يوسف الأطباء فطيبوه بطيب ومكث فيه أربعين يوما ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله فأذن له وخرج معه أكابر مصر وشيوخها فلما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة التي كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثي وعملوا له عزاء سبعة أيام قالوا ثم رجعوا إلى بلادهم وعزى إخوة يوسف ليوسف في أبيهم وترققوا له فأكرمهم وأحسن منقلبهم فأقاموا ببلاد مصر ثم حضرت يوسف عليه السلام الوفاة فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه فحنطوه ووضعوه في تابوت فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه السلام فدفنه عند آبائه كما سيأتي قالوا فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين هذا نصهم فيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضا وقال مبارك بن فضالة عن الحسن ألقى يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة وقال غيره أوصى إلى أخيه يهوذا صلوات الله عليه وسلامه
*2* قصة نبي الله أيوب
@ قال ابن اسحق كان رجلا من الروم وهو أيوب بن موص بن زارح بن العيص بن اسحق بن إبراهيم الخليل وقال غيره هو أيوب بن موص بن رعويل بن العيص بن اسحق بن يعقوب وقيل غير ذلك في نسبه وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وقيل كان أبوه ممن آمن بإبراهيم
عليه السلام يوم ألقى في النار فلم تحرقه والمشهور الأول لأنه من ذرية إبراهيم كما قررنا عند قوله تعالى ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون الآيات من أن الصحيح أن الضمير عائد على إبراهيم دون نوح عليهما السلام وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب الآية فالصحيح أنه من سلالة العيص بن اسحق وامرأته قيل اسمها ليا بنت يعقوب وقيل رحمه بنت أفرائيم وقيل منشا بن يوسف بن يعقوب وهذا أشهر فلهذا ذكرناه هاهنا ثم نعطف بذكر أنبياء بني إسرائيل بعد ذكر قصته إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان قال الله تعالى وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وقال تعالى في سورة ص واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب وروى ابن عساكر من طريق الكلبي أنه قال أول نبي بعث إدريس ثم نوح ثم إبراهيم ثم اسماعيل ثم اسحق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ثم موسى وهرون ثم الياس ثم اليسع ثم عرفي بن سويلخ بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب ثم يونس بن متي من بني يعقوب ثم أيوب بن زراح بن آموص بن لبفرز بن العيص بن اسحق بن إبراهيم وفي بعض هذا الترتيب نظر فإن هودا وصالحا المشهور أنهما بعد نوح وقبل إبراهيم والله أعلم
قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم كان أيوب رجلا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة بأرض البثينة من أرض حوران
وحكى ابن عساكر أنها كلها كانت له وكان له أولاد وأهلون كثير فسلب من ذلك جميعه وابتلى في جسده بأنواع البلاء ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بها وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه وطال مرضه حتى عافه الجليس وأوحش منه الأنيس وأخرج من بلده وألقي على مزبلة خارجها وانقطع عنه الناس ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته كانت ترعى له حقه وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته وضعف حالها وقل ما لها حتى كانت تخدم الناس بالأجر لتطعمه وتقود بأوده رضي الله عنها وأرضاها وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق
المال والولد وما يختص بها من المصيبة بالزوج وضيق ذات اليد وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام الا صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام ويضرب المثل أيضا بما حصل له من أنواع البلايا وقد روى عن وهب بن منبه وغيره من علماء بني إسرائيل في قصة أيوب خبر طويل في كيفية ذهاب ماله وولده وبلائه في جسده والله أعلم بصحته وعن مجاهد أنه قال كان أيوب عليه السلام أول من أصابه الجدري وقد اختلفوا في مدة بلواه على أقوال فزعم وهب أنه ابتلى ثلاث سنين لا تزيد ولا تنقص وقال أنس ابتلى سبع سنين وأشهرا وألقى على مزبلة لبني إسرائيل تختلف الدواب في جسده حتى فرج الله عنه وعظم له الأجر وأحسن الثناء عليه
وقال حميد مكث في بلواه ثمانية عشرة سنة وقال السدي تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب فكانت امرأته تأتيه بالرماد تفرشه تحته فلما طال عليها قالت يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك فقال قد عشت سبعين سنة صحيحا فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة فجزعت من هذا الكلام وكانت تخدم الناس بالأجر وتطعم أيوب عليه السلام
ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها لعلمهم أنها امرأة أيوب خوفا أن ينالهم من بلائه أو تعديهم بمخالطته فلما لم تجد أحدا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير فأتت به أيوب فقال من أين لك هذا وأنكره فقالت خدمت به أناسا فلما كان الغد لم تجد أحدا فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به فأنكره أيضا وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام فكشفت عن رأسها خمارها فلما رأى رأسها محلوقا قال في دعائه ان مسني الضر وأنت أرحم الراحمين
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا جرير بن حازم عن عبدالله بن عبيد بن عمير قال كان لأيوب إخوان فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد فقال احدهما لصاحبه لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط قال اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعانا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال اللهم بعزتك وخر ساجدا فقال اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني فما رفع رأسه حتى كشف عنه
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا حدثنا يونس بن عبدالأعلى انبئنا ابن وهب أخبرني
نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من اخوانه كانا من أخص اخوانه له كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه يعلم الله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك قال منذ ثماني عشر سنة لم يرحمه ربه فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب لا أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق قال وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع فلما كان ذات يوم أبطأت عليه فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فاستبطأته فتلقته تنظر وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت بنى الله هذا المبتلى فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فأنى أنا هو قال وكان له اندران اندر للقمح واندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت احداهما على اندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وافرغت الأخرى في اندر الشعير الورق حتى فاض هذا لفظ ابن جرير وهكذا رواه بتمامه ابن حبان في صحيحه عن محمد بن الحسن بن قتيبة عن حرملة عن ابن وهب به وهذا غريب رفعه جدا والأشبه أن يكون موقوفا وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ثنا موسى بن اسمعيل حدثنا حماد انبئنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب وجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت يا عبدالله هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة قال ولعل أنا أيوب قالت أتسخر مني يا عبدالله فقال ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي
قال ابن عباس ورد الله عليه ماله وولده بأعيانهم ومثلهم معهم وقال وهب بن منبه أوحى الله إليه قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك رواه ابن أبي حاتم وقال ابن أبي حاتم ثنا أبو زرعة حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما عافى الله أيوب عليه السلام أمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ بيده ويجعل في ثوبه قال فقيل له يا أيوب أما تشبع قال يا رب ومن يشبع من رحمتك وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي داود الطيالسي وعبدالصمد عن همام عن قتادة به ورواه ابن حبان في صحيحه عن عبدالله بن محمد الأزدي عن اسحق بن راهويه عن عبدالصمد به ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب وهو على شرط الصحيح فالله أعلم
وقال الإمام أحمد ثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أرسل على أيوب رجل من جراد من ذهب فجعل يقبضها في ثوبه فقيل يا أيوب ألم يكفك ما أعطيناك قال أي رب ومن يستغني عن فضلك هذا موقوف وقد روى عن أبي هريرة من وجه أخر مرفوعا
وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه عز وجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك رواه البخاري من حديث عبدالرزاق به وقوله أركض برجلك أي اضرب الأرض برجلك فامتثل ما أمر به فانبع الله له عينا باردة الماء وأمر أن يغتسل فيها ويشرب منها فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض الذي كان في جسده ظاهرا وباطنا وابدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة وجمالا تاما ومالا كثيرا حتى صب له من المال صبا مطرا عظيما جرادا من ذهب واخلف الله له أهله كما قال تعالى وآتيناه أهله ومثلهم معهم فقيل أحياهم الله بأعيانهم وقيل آجره فيمن سلف وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة وقوله رحمة من عندنا أي رفعنا عنه شدته وكشفنا ما به من ضر رحمة منا به ورأفة واحسانا وذكرى للعابدين أي تذكرة لمن ابتلى في جسده أو ماله أو ولده فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه
ومن فهم من هذا اسم امرأته فقال هي رحمة من هذه الآية فقد ابعد النجعة واغرق النزع وقال الضحاك عن ابن عباس رد الله إليها شبابها وزادها حتى ولدت له ستة وعشرون ولدا ذكرا
وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بارض الروم على دين الحنيفية ثم غيروا بعده دين إبراهيم وقوله خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السلام فيما كان من حلفه ليضربن امرأته مائة سوط فقيل حلفه ذلك لبيعها ضفائرها وقيل لأنه عرضها الشيطان في صورة طبيب يصف لها دواء لأيوب فاتته خبرته فعرف أنه الشيطان فحلف ليضربها مائة سوط فلما عافاه الله عز وجل أفتاه أن يأخذ ضغثا وهو كالعثكال الذي يجمع الشماريخ فيجمعها كلها ويضربها به ضربة واحدة ويكون هذا منزلا منزلة الضرب بمائة سوط ويبر ولا يحنث وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة المكابدة الصديقة البارة الراشدة رضي الله عنها ولهذا عقب الله هذه الرخصة وعللها بقوله إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب وقد استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب الإيمان والنذور وتوسع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الإيمان وصدوره بهذه الآية الكريمة
وأتوا فيه بأشياء من العجائب والغرائب وسنذكر طرفا من ذلك في كتاب الأحكام عند الوصول إليه إن شاء الله تعالى
وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ أن أيوب عليه السلام لما توفي كان عمره ثلاثا وتسعين سنة وقيل إنه عاش أكثر من ذلك وقد روى ليث عن مجاهد ما معناه أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على الأغنياء وبيوسف عليه السلام على الأرقاء وبأيوب عليه السلام على أهل البلاء رواه ابن عساكر بمعناه وأنه أوصى إلى ولده حومل وقام بالأمر بعده ولده بشر بن أيوب وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه ذو الكفل فالله أعلم ومات ابنه هذا وكان نبيا فيما يزعمون وكان عمره من السنين خمسا وسبعين ولنذكر ههنا قصة ذي الكفل إذ قال بعضهم إنه ابن أيوب عليها السلام
*2* قصة ذي الكفل
@ الذي زعم قوم أنه ابن أيوب قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الأنبياء واسماعيل وادريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضا في سورة ص واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وانهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام وهذا هو المشهور وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيا وانما كان رجلا صالحا وحكما مقسطا عادلا وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم
وروى ابن جرير وابن أبي نجيح عن مجاهد أنه لم يكن نبيا وانما كان رجلا صالحا وكان قد تكفل لبني قومه ان يكفيه أمرهم ويقضي بينهم بالعدل فسمى ذا الكفل وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند عن مجاهد أنه قال لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس فقال من يتقبل لي بثلاث استخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب قال فقام رجل تزدريه العين فقال أنا فقال أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب قال نعم قال فردهم ذلك اليوم وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال أنا فاستخلفه قال فجعل ابليس يقول للشياطين عليكم بفلان فاعياهم ذلك فقال دعوني واياه فأتاه في صورة شيخ كبير فقير وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة وكان لا ينام الليل والنهار إلاتلك النومة فدق الباب فقال من هذا قال شيخ كبير مظلوم قال فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه فقال إن بيني وبين قومي خصومة وانهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا حتى حضر الرواح وذهبت القائلة وقال إذا رحت فأتني آخذ
لك بحقك فانطلق وراح فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يتبعه فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب فقال من هذا فقال الشيخ الكبير المظلوم ففتح له فقال ألم أقل لك إذا قعدت فأتني فقال إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك وإذا قمت جحدوني قال فانطلق فإذا رحت فأتني قال ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظر فلا يراه وشق عليه النعاس فقال لبعض أهله لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فاني قد شق علي النوم فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل وراءك وراءك فقال إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري فقال لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت وإذا هو يدق الباب من داخل قال فاستيقظ الرجل فقال يا فلان ألم آمرك قال أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت قال فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فعرفه فقال أعدو الله قال نعم أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبنك فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به
وقد روى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس قريبا من هذا السياق وهكذا روى عن عبدالله بن الحارث ومحمد بن قيس وابن حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف نحو هذا وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر أنبئنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن كنانة بن الأخنس قال سمعت الأشعري يعني أبا موسى رضي الله عنه وهو على هذا المنبر يقول ما كان ذو الكفل نبيا ولكن كان رجلا صالحا يصلي كل يوم مائة صلاة فتكفل له ذو الكفل من بعده يصلي كل يوم مائة صلاة فسمى ذا الكفل ورواه ابن جرير من طريق عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعا فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن عبدالله بن عبدالله عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه الا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرار ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فاتته امرأة فاعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارعدت وبكت فقال لها ما يبكيك أكرهتك قالت لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط وإنما حملتني عليه الحاجة قال فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ثم نزل فقال اذهبي بالدنانير لك ثم قال والله لا يعصي الله الكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله لكفل ورواه الترمذي من حديث الأعمش به وقال حسن وذكر ان بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر فهو حديث غريب جدا وفي اسناده نظر فان سعدا هذا قال أبو حاتم لا أعرفه الا بحديث واحد ووثقه ابن حبان ولم يرو عنه سوى عبدالله بن عبدالله الرازي هذا فالله أعلم
*2* باب ذكر أمم أهلكوا بعامة
@ وذلك قبل نزول التوراة بدليل قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى الآية كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث عوفي الأعرابي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء أو من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخوا قردة ألم تر أن الله تعالى يقول ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ورفعه البزار في رواية له والأشبه والله أعلم وقفه فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة قبل موسى عليه السلام فمنهم أصحاب الرس قال الله تعالى في سورة الفرقان وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا وقال تعالى في صورة ق كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ودمروا وتبروا وهو الهلاك وهذا يرد اختيار ابن جرير من أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج لأن أولئك عند ابن اسحق وجماعة كانوا بعد المسيح عليه السلام وفيه نظر أيضا وروى ابن جرير قال قال ابن عباس أصحاب الرس أهل قرية من قرى ثمود وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء دمشق عن تاريخ أبي القاسم عبدالله بن عبدالله بن جرداد وغيره أن أصحاب الرس كانوا بحضور فبعث الله إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان فكذبوه وقتلوه فسار عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده من الرس فنزل الاحقاف وأهلك الله أصحاب الرس وانتشروا في اليمن كلها وفشوا مع ذلك في الأرض كلها حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح دمشق وبني مدينتها وسماها جيرون وهي ارم ذات العماد وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق فبعث الله هود بن عبدالله بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد إلى عاد يعني أولاد عاد بالأحقاف فكذبوه وأهلكهم الله عز وجل فهذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة فالله أعلم وروى ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي عاصم عن أبيه عن شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال الرس بئر بآذربيجان وقال الثوري عن أبي بكر عن عكرمة قال الرس بئر رسوا فيها نبيهم أي دفنوه فيها وقال ابن جريج قال عكرمة أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب ياسين وقال
قتادة فلج من قرى اليمامة قلت فان كانوا أصحاب ياسين كما زعمه عكرمة فقد أهلكوا بعامة قال الله تعالى في قصتهم إن كانت الا صحية واحدة فإذا هم خامدون وستأتي قصتهم بعد هؤلاء وان كانوا غيرهم وهو الظاهر فقد أهلكوا أيضا وتبروا وعلى كل تقدير فينافي ما ذكره ابن جرير وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاش أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم وتكفي أرضهم جميعها وكان لهم ملك عادل حسن السيرة فلما مات وجدوا عليه وجدا عظيما فلما كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته وقال إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم ففرحوا أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه وأخبرهم أنه لا يموت أبدا فصدق به أكثرهم وافتتنوا به وعبدوه فبعث الله فيهم نبيا وأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب ونهاهم عن عبادته وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له
قال السهيلي وكان يوحى إليه في النوم وكان اسمه حنظلة بن صفوان فعدوا عليه فقتلوه والقوه في البئر فغار ماؤها وعطشوا بعد ريهم ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم وخربت ديارهم وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة وبعد الاجتماع بالفرقة وهلكوا عن آخرهم وسكن في مساكنهم الجن والوحوش فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن وزئير الأسد وصوت الضباع فأما ما رواه أعني ابن جرير عن محمد بن حميد عن سلمة عن ابن اسحق عن محمد بن كعب القرظي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك الأسود ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئرا فالقوه فيها ثم أطبقوا عليه بحجر أصم قال فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما وشرابا ثم يأتي به إلى ذلك البئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله عليها ويدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردها كما كانت قال فكان كذلك ما شاء الله أن يكون ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها فلما أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع ينام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم إنه هب فتمطى وتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب أنه نام الا ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع ثم إنه ذهب الى الحفرة إلى موضوعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه قال فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل فيقولون له ما ندري حتى قبض الله النبي عليه السلام وأهب الأسود من نومه بعد ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة فإنه حديث مرسل ومثله فيه نظر ولعل بسط قصته من كلام محمد بن كعب القرظي والله أعلم
ثم قد رده ابن جرير نفسه وقال لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن
قال لأن الله أخبر عن أصحاب الرس أنه أهلكهم وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله أعلم ثم اختار أنهم أصحاب الأخدود وهو ضعيف لما تقدم ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود حيث توعدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ولم يذكر هلاكهم وقد صرح بهلاك أصحاب الرس والله أعلم
*2* قصة قوم يس وهم أصحاب القرية
@ قال الله تعالى واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من اقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون
اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية انطاكية رواه ابن إسحق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه وكذا روى عن بريدة بن الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري وغيرهم قال ابن إسحق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب أنهم قالوا وكان لها ملك اسمه انطيخس بن انطيحس وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق ومصدوق وشلوم فكذبهم
وهذا ظاهر انهم رسل من الله عز وجل وزعم قتادة أنهم كانوا رسلا من المسيح وكذا قال ابن جرير عن وهب عن بن سليمان عن شعيب الجبائي كان اسم المرسلين الأوليين شمعون ويوحنا واسم الثالث بولس والقرية أنطاكية
وهذا القول ضعيف جدا لان أهل انطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول
مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت ولهذا احدى كانت المدن الأربع التي تكون فيها بتاركة النصارى وهن أنطاكية والقدس واسكندرية ورومية ثم بعدها إلى القسطنطينية ولم يهلكوا وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن اهلكوا كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن بعثوا إلى أهل أنطاكية قديما فكذبوهم وأهلكم الله ثم عمرت بعد ذلك فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم فلا يمنع هذا والله اعلم
فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن في قصة أصحاب المسيح فضعيف لما تقدم ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤلاء الرسل من عند الله قال تعالى واضرب لهم مثلا يعني لقومك يا محمد أصحاب القرية يعني المدينة إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث أي أيدناهما بثالث في الرسالة فقالوا إنا إليكم مرسلون فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم يستبعدون أن يبعث الله نبيا بشريا فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله إليكم ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وانتقم منا أشد الإنتقام وما علينا إلا البلاغ المبين أي إنما علينا أي نبلغكم ما أرسلنا به إليكم والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء قالوا إنا تطيرنا بكم أي تشائمنا بما جئتمونا به لئن لم تنتهوا لنرجمنكم بالمقال وقيل بالفعال ويؤيد الأمل القول قوله وليمسنكم منا عذاب أليم فوعدوهم بالقتل والإهانة قالوا طائركم معكم أي مردود عليكم أإن ذكرتم أي بسبب أنا ذكرناكم بالهدى ودعوناكم إليه توعدتمونا بالقتل والإهانة بل أنتم قوم مسرفون أي لا تقبلون الحق ولا تريدونه وقوله تعالى وجاء من اقصى المدينة رجل يسعى يعني لنصرة الرسل وأظهار الإيمان بهم قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون أي يدعونكم إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن عبادة ما سواه مما لا ينفع شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة إني إذا لفي ضلال مبين أي إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما سواه ثم قال مخاطبا للرسل إني آمنت بربكم فاسمعون قيل فاستمعوا مقالتي واشهدوا لي بها عند ربكم وقيل معناه فاسمعوا يا قومي إيماني برسل الله جهرة فعند ذلك قتلوه قيل رجما وقيل عضا وقيل وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه وحكى ابن إسحق عن بعض اصحابه عن ابن مسعود قال وطئوه بأرجلهم حتى أخرجوا قصبته
وقد روى الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز كان اسم هذا الرجل حبيب بن مري ثم قيل كان نجارا وقيل حبالا وقيل إسكافا وقيل قصارا وقيل كان يتعبد في غار هناك فالله أعلم
وعن ابن عباس كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام وكان كثير الصدقة قتله قومه ولهذا قال تعالى
ادخل الجنة يعني لما قتله قومه أدخله الله الجنة فلما رأى فيها من النضرة والسرور قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين يعني ليؤمنوا بما آمنت به فيحصل لهم ما حصل لي
قال ابن عباس نصح قومه في حياته يا قوم اتبعوا المرسلين وبعد مماته يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين رواه ابن أبي حاتم وكذلك قال قتادة لا يلقى المؤمن إلا ناصحا لا يلقى غاشا لما عاين ما عاين من كرامة الله ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هو عليه قال قتادة فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون وقوله تعالى وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين أي ما احتجنا في الإنتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم هذا معنى ما رواه ابن إسحق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال مجاهد وقتادة وما أنزل عليهم جندا أي رسالة أخرى قال ابن جرير والأول أولى قلت وأقوى ولهذا قال وما كنا منزلين أي وما كنا نحتاج في الإنتقام إلى هذا حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون
قال المفسرون بعث الله إليهم جبريل عليه السلام فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون أي قد أخمدت أصواتهم وسكنت حركاتهم ولم يبق منهم عين تطرف
وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية لأن هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم رسل الله إليهم وأهل أنطاكية آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين إليهم فلهذا قيل إن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسين الأشقري عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال السبق ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون والسابق إلى عيسى صاحب يس والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب فإنه حديث لا يثبت لأن حسينا هذا متروك وشيعي من الغلاة وتفرده بهذا مما يدل على ضعفه بالكلية والله أعلم
*2* قصة يونس
@ قال الله تعالى في سورة يونس فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين وقال تعالى في سورة الأنبياء وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين وقال تعالى في سورة والصافات وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وانبتنا عليه شجرة من يقطين
وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين وقال تعالى في سورة نون فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين قال أهل التفسير بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى من أرض الموصل فدعاهم إلى الله عز وجل فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم فلما طال ذلك عليه من أمرهم خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث
قال ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد من السلف والخلف فلما خرج من بين ظهرانيهم وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والانابة وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجوا إلى الله عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه وتمسكنوا لديه وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهاب وجأرت الأنعام والدواب والمواشي فرغت الابل وفصلانها وخارت البقر وأولادها وثغت الغنم وحملانها وكانت ساعة عظيمة هائلة فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم بسببه ودار على رؤسهم كقطع الليل المظلم ولهذا قال تعالى فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها أي هلا وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها فدل على أنه لم يقع ذلك بل كما قال تعالى وما أرسلنا في قرية من نبي الا قال مترفوها انا بما أرسلتم به كافرون وقوله الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين أي آمنوا بكمالهم
وقد اختلف المفسرون هل ينفعهم هذا الايمان في الدار الآخرة فينقذهم من العذاب الأخروي كما أنقذهم من العذاب الدنيوي على قولين الأظهر من السياق نعم والله أعلم كما قال تعالى لما آمنوا وقال تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين وهذا المتاع إلى حين لا ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب الأخروي والله أعلم
وقد كانوا مائة ألف لا محالة واختلفوا في الزيادة فعن مكحول عشرة آلاف وروى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زهير عمن سمع أبا العالية حدثني أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون قال يزيدون عشرين ألفا فلولا هذا الرجل المبهم لكان هذا الحديث فاصلا في هذا الباب وعن ابن عباس كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا وعنه وبضعة وثلاثين الفا وعنه وبضعة وأربعين ألفا وقال سعيد بن جبير كانوا مائة ألف وسبعين ألفا
واختلفوا هل كان أرساله اليهم قبل الحوت أو بعده أو هما أمتان على ثلاثة أقوال هي مبسوطة في التفسير والمقصود أنه عليه السلام لما ذهب مغاضبا بسبب قومه ركب سفينة في البحر فلجت بهم واضطربت وماجت بهم وثقلت بما فيها وكادوا يغرقون على ما ذكره المفسرون قالوا فاشتوروا فيما
فيما بينهم على أن يقترعوا فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتحفظوا منه فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس فلم يسمحوا به فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضا فشمر ليخلع ثيابه ويلقى بنفسه فأبوا عليه ذلك ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضا لما يريده الله به من الأمر العظيم قال الله تعالى وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقى في البحر وبعث الله عز وجل حوتا عظيما من البحر الأخضر فالتقمه وأمره الله تعالى أن لا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما فليس لك برزق فأخذه فطاف به البحار كلها وقيل إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه قالوا ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هو حي فخر لله ساجدا وقال يا رب اتخذت لك مسجدا لم يعبدك أحد في مثله
وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه فقال مجالد عن الشعبي التقمه ضحى ولفظه عشية وقال قتادة مكث فيه ثلاثا وقال جعفر الصادق سبعة أيام ويشهد له شعر أمية بن أبي الصلت
وأنت بفضل منك نجيت يونسا * وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وقال سعيد بن أبي الحسن وأبو مالك مكث في جوفه أربعين يوما والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية ويقتحم به لجج الموج الأجاجي فسمع تسبيح الحيتان للرحمن وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى ورب السموات السبع والأرضين السبع وما بينها وما تحت الثرى فعند ذلك وهنالك قال ما قال بلسان الحال والمقال كما أخبر عنه ذو العزة والجلال الذي يعلم السر والنجوى ويكشف الضر والبلوى سامع الأصوات وإن ضعفت وعالم الخفيات وإن دقت ومجيب الدعوات وإن عظمت حيث قال في كتابه المبين المنزل على رسوله الأمين وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله المرسلين وذالنون إذ ذهب إلى أهله مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين فظن أن لن نقدر عليه أن نضيق وقيل معناه نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة قدر وقدر كما قال الشاعر
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى * تباركت ما يقدر يكن فلك الأمر
فنادى في الظلمات قال ابن مسعود وابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والضحاك ظلمة الحوت وظلمة البحر ومظلمة الليل وقال سالم بن أبي الجعد ابتلع الحوت حوت آخر فصار ظلمة الحوتين مع ظلمة البحر وقوله تعالى فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون قيل معناه لولا أنه سبح الله هنالك وقال ما قال من التهليل والتسبيح
والاعتراف لله بالخضوع والتوبة إليه والرجوع اليه للبث هنالك إلى يوم القيامة ولبعث من جوف ذلك الحوت هذا معنى ما روى عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه وقيل معناه فلولا أنه كان من قبل أخذ الحوت له من المسبحين أي المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيرا قاله الضحاك بن قيس وابن عباس وأبو العالية ووهب بن منبه وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وعطاء بن السائب والحسن البصري وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وروى ابن جرير في تفسيره والبزار في مسنده من حديث محمد بن اسحاق عمن حدثه عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة سمعت أبا هريرة يقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذ ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر قال فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا يا ربنا إنا نسمع صوتا بأرض غريبة قال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر قالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم قال فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله وهو سقيم هذا لفظ ابن جرير إسنادا ومتنا ثم قال البزار لا نعلمه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الاسناد كذا قال وقد قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبو عبدالله أحمد بن عبدالرحمن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه سمعت أنس بن مالك ولا أعلم الا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاقبلت الدعوة تحن بالعرش فقالت الملائكة يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال أما تعرفون ذاك قالوا يا رب ومن هو قال عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عملا متقبلا ودعوة مجابة قالوا يا ربنا أو لا ترحم ما كان يصنعه في الرخاء فتنجيه من البلاء قال بلى فأمر الحوت فطرحه في العراء ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به زاد ابن أبي حاتم قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة يقول طرح بالعراء وانبت الله عليه اليقطينة قلنا يا أبا هريرة وما اليقطينة قال شجرة الدباء قال أبو هريرة وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض أو قال هشاش الأرض قال فتنفشخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره
فأنبت يقطينا عليه برحمة * من الله لولا الله أصبح ضاويا
وهذا غريب أيضا من هذا الوجه ويزيد الرقاشي ضعيف ولكن يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم كما يتقوى ذاك بهذا والله أعلم وقد قال الله تعالى
فنبذناه أي ألقيناه بالعراء وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار بل هو عار منها وهو سقيم أي ضعيف البدن قال ابن مسعود كهيئة الفرخ ليس عليه ريش وقال ابن عباس والسدي وابن زيد كهيئة الضبي حين يولد وهو المنفرش ليس عليه شيء وأنبتنا عليه شجرة من يقطين قال ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ووهب ابن منبه وهلال بن يساف وعبدالله بن طاوس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغير واحد هو القرع
قال بعض العلماء في انبات القرع عليه حكم جمة منها أن ورقة في غاية النعومة وكثير وظليل ولا يقربه ذباب ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره نيا ومطبوخا وبقشره وببزره أيضا وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ وغير ذلك وتقدم كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الأروية التي كانت ترضعه لبنها وترعى في البرية وتأتيه بكرة وعشية وهذا من رحمة الله به ونعمته عليه وإحسانه إليه ولهذا قال تعالى فاستجبنا له فنجيناه من الغم أي الكرب والضيق الذي كان فيه وكذلك ننجي المؤمنين أي وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا قال ابن جرير حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا يحيى بن صالح حدثنا أبو يحيى بن عبدالرحمن حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال سمعت سعد بن مالك وهو ابن أبي وقاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اسم الله الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى قال فقلت يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين قال هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها ألم تسمع قول الله تعالى فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين فهو شرط من الله لمن دعاه به وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب قال أبو خالد أحسبه عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعا بدعاء يونس أستجيب له قال أبو سعيد الأشج يريد به وكذلك ننجي المؤمنين وهذان طريقان عن سعد وثالث أحسن منهما
قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن عمر حدثنا يونس بن أبي إسحق الهمذاني حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد حدثني والدي محمد عن أبيه سعد وهو ابن أبي وقاص قال مررت بعثمان بن عفان في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يردد علي السلام فأتيت عمر بن الخطاب فقلت يا أمير المؤمنين هل حدث في السلام شيء قال لا وما ذاك قلت لا إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يردد علي السلام قال فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال ما منعك أن لا تكون رددت
على أخيك السلام قال ما فعلت قال سعد قلت بلى حتى حلف وحلفت قال ثم إن عثمان ذكر فقال بلى وأستغفر الله وأتوب إله إنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط الا تغشى بصري وقلبي غشاوة قال سعد فانا أنبئك بها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فلما اشفقت أن يسبقني الى منزله ضربت بقدمي الأرض فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هذا أبو اسحق قال قلت نعم يا رسول الله قال فمه قلت لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك قال نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط الا استجاب له ورواه الترمذي والنسائي من حديث ابراهيم بن محمد بن سعد به
*2* فضل يونس
@ قال الله تعالى وإن يونس لمن المرسلين وذكره تعالى في جملة الأنبياء الكرام في سورتي النساء والأنعام عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متي ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري به وقال البخاري أيضا حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متي ونسبه إلى أبيه ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث شعبة به قال شعبة فيما حكاه أبو داود عنه لم يسمع قتادة من أبي العالية سوى أربعة أحاديث هذا احدها وقد رواه الإمام أحمد عن عفان عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متي تفرد به أحمد ورواه الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا محمد بن الحسن بن كيسان حدثنا عبدالله بن رجاء أنبأنا اسرائيل عن أبي يحيى العتاب عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينبغي لأحد أن يقول أنا عند الله خير من يونس بن متي إسناده جيد ولم يخرجوه
وقال البخاري حدثنا أبو الوليد شعبة عن سعد بن إبراهيم سمعت حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متي وكذا رواه مسلم من حديث شعبة به وفي البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن الفضل عن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة في قصة المسلم الذي لطم وجه اليهودي حين قال لا والذي اصطفى موسى على
العالمين قال البخاري في آخره ولا أقول إن أحدا خير من يونس بن متي أي ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس والقول الآخر لا ينبغي لأحد أن يفضلني على يونس بن متي كما قد رود في بعض الأحاديث لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متي وهذا من باب الهضم والتواضع منه صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله والمرسلين
*2* قصة موسى الكليم
@ وهو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام قال تعالى واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا وقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة متفرقة من القرآن وذكر قصته في مواضع متعددة مبسوطة مطولة وغير مطولة وقد تكلمنا على ذلك كله في مواضعه من التفسير وسنورد سيرته ههنا من ابتدائها إلى آخرها من الكتاب والسنة وما ورد في الآثار المنقولة من الاسرائيليات التي ذكرها السلف وغيرهم إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان قال الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذي استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون يذكر تعالى ملخص القصة ثم يبسطها بعد هذا فذكر أنه يتلو على نبيه خبر موسى وفرعون بالحق أي بالصدق الذي كأن سامعه مشاهد للأمر معاين له ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا أي تجبر وعتا وطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا وأعرض عن طاعة الرب الأعلى وجعل أهلها شيعا أي قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع يستضعف طائفة منهم وهم شعب بني إسرائيل الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن اسحق بن إبراهيم خليل الله وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف وارداها وأدناها ومع هذا يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن إبراهيم عليه السلام من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه وذلك والله أعلم حين كان جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر من إرادته إياها على السوء وعصمة الله لها وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل
فتحدث بها القبط فيما بينهم ووصلت إلى فرعون فذكرها له بعض امرائه واساورته وهم يسمرون عنده فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل حذرا من وجود هذا الغلام ولن يغني حذر من قدر
وذكر السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة أن فرعون رأى في منامه كأن نارا قد أقبلت من نحو بيت المقدس فأحرقت دور مصر وجميع القبط ولم تضر بني إسرائيل فلما استيقظ هاله ذلك فجمع الكهنة والحزأة والسحرة وسألهم عن ذلك فقالوا هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان ولهذا قال الله تعالى ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وهم بنو إسرائيل ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين أي الذين يؤل ملك مصر وبلادها اليهم ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون أي سنجعل الضعيف قويا والمقهور قادرا والذليل عزيزا وقد جرى هذا كله لبني إسرائيل كما قال تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا الآية وقال تعالى كم تركوا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله
والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالى ويعلمون ميقات وضعهن فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته وعند أهل الكتاب أنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان لتضعف شوكة بني إسرائيل فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم وهذا فيه نظر بل هو باطل وإنما هذا في الأمر بقتل الولدان بعد بعثة موسى كما قال تعالى فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولا حذرا من وجود موسى هذا والقدر يقول يا أيها ذا الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده وسلطة بأسه واتساع سلطانه قد حكم العظيم الذي لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف أقداره ان هذا المولود الذي تحترز منه وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى لا يكون مرباه إلا في دارك وعلى فراشك ولا يغذى إلا بعمامك وشرابك في منزلك وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتعداه ولا تطلع على سر معناه ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين وتكذيبك ما أوحى اليه لتعلم أنت وسائر الخلق أن رب السموات والأرض هو الفعال لما يريد وأنه هو القوي الشديد ذو البأس العظيم والحول والقوى والمشيئة التي لا مرد لها
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل بسبب قتل
ولدانهم الذكور وخشي أن تتفاني الكبار مع قتل الصغار فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو إسرائيل يعالجون فأمر فوعون بقتل الأبناء عاما وأن يتركوا عاما فذكروا أن هرون عليه السلام ولد في عام المسامحة عن قتل الأبناء وأن موسى عليه السلام ولد في عام قتلهم فضاقت أمه به ذرعا واحترزت من اول ما حبلت ولم يكن يظهر عليها مخائيل الحبل فلما وضعت الهمت أن اتخذت له تابوتا فربطته في حبل وكانت دارهما متاخمة للنيل فكانت ترضعه فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت فأرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها فإذا ذهبوا استرجعته إليها به قال الله تعالى وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون هذا الوحي وحي إلهام وإرشاد كما قال تعالى وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا الآية وليس هو بوحي نبوة كما زعمه ابن حزم وغير واحد من المتكلمين بل الصحيح الأول كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة
قال السهيلي واسم أم موسى أيارخا وقيل أياذخت والمقصود أنها أرشدت إلى هذا الذي ذكرناه وألقى في خلدها وروعها أن لا تخافي ولا تحزني فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك وإن الله سيجعله نبيا مرسلا يعلي كلمته في الدنيا والآخرة فكانت تصنع ما أمرت به فأرسلته ذات يوم وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها فذهب مع النيل فمر على دار فرعون فالتقطه آل فرعون قال الله تعالى ليكون لهم عدوا وحزنا قال بعضهم هذه لام العاقبة وهو ظاهر ان كان متعلقا بقوله فالتقطه وأما إن جعل متعلقا بمضمون الكلام وهو أن آل فرعون قيضوا لالتقاطه ليكون لهم عدوا وحزنا صارت اللام معللة كغيرها والله اعلم ويقوي هذا التقدير الثاني قوله إن فرعون وهامان وهو الوزير السوء وجنودهما المتابعين لهما كانوا خاطئين أي كانوا على خلاف الصواب فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة
وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه فلم يتجاسرون على فتحه حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية بنت مزاحم بن عسد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف وقيل أنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى وقيل بل كانت عمته حكاه السهيلي فالله أعلم
وسيأتي مدحها والثناء عليها في قصة مريم بنت عمران وأنهما يكونان يوم القيامة من أزواج رسول
الله صلى الله عليه وسلم في الجنة فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية والجلالة الموسوية فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا جدا فلما جاء فرعون قال ما هذا وأمر بذبحه فاستوهبته منه ودفعت عنه وقالت قرة عين لي ولك فقال لها فرعون أما لك فنعم وأما لي فلا أي لا حاجة لي به والبلاء موكل بالمنطق وقولها عسى أن ينفعنا وقد أنالها الله ما رجت من النفع أما في الدنيا فهداها الله به وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه أو نتخذه ولدا وذلك أنهما تبنياه لأنه لم يكن يولد لهما ولد قال الله تعالى وهم لا يشعرون أي لا يدرون ماذا يريد الله بهم أن قيضهم لالتقاطه من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى امه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى إن كادت لتبدي به أي لتظهر أمره وتسأل عنه جهرة لولا أن ربطنا على قلبها أي صبرناها وثبتناها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته وهي ابنتها الكبيرة قصيه اي اتبعي اثره واطلبي له خبره فبصرت به عن جنب قال مجاهد عن بعد وقال قتادة جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده ولهذا قال وهم لا يشعرون وذلك لأن موسى عليه السلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة فلم يقبل ثديا ولا أخذ طعاما فحاروا في أمره واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل كما قال تعالى وحرمنا عليه المراضع من قبل فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق لعل يجدون من يوافق رضاعته فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه إذ بصرت به اخته فلم تظهر انها تعرفه بل قالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون قال ابن عباس لما قالت ذلك قالوا لها ما يدريك بنصحهم وشفقهم عليه فقالت رغبة في صهر الملك ورجاء منفعته فأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم فأخذته أمه فلما أرضعته التقم ثديها وأخذ يمتصه ويرتضعه ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك فاستدعتها إلى منزلها وعرضت عليها أن تكون عندها وأن تحسن إليها فأبت عليها وقالت إن لي بعلا وأولادا ولست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي فأرسلته معها ورتبت لها رواتب وأجرت عليها النفقات الكساوي والهبات فرجعت به تحوزه إلى رحلها وقد جمع الله شمله بشملها قال الله تعالى فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق أي كما وعدناها برده ورسالته فهذا رده وهو دليل على صدق البشارة برسالته ولكن اكثرهم لا يعلمون وقد امتن الله على موسى بهذا ليلة كلمه فقال له فيما قال له ولقد مننا عليك مرة اخرى إذ
أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقين عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ قال قتادة وغير واحد من السلف أي تطعم وترفه وتغذي بأطيب المآكل وتلبس أحسن الملابس بمرأى مني وذلك كله بحفظي وكلائتي لك فيما صنعت بك لك وقدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرددناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا وسنورد حديث الفتون في موضعه بعد هذا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان
ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده لها وإحسانه بذلك وامتنانه عليها شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى وهو إحتكام الخلق والخلق وهو سن الأربعين في قول الأكثرين آتاه الله حكما وعلما وهو النبوة والرسالة التي كان بشر بها أمه حين قال إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر وذهابه إلى أرض مدين وإقامته هنالك حتى كمل الأجل وانقضى الأمد وكان ما كان من كلام الله له وإكرامه بما أكرمه به كما سيأتي قال تعالى ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي وذلك نصف النهار وعن ابن عباس بين العشائين فوجد فيها رجلين يقتتلان أي يتضاربان ويتهاوشان هذا من شيعته أي إسرائيلي وهذا من عدوه أي قبطي قاله ابن عباس وقتادة والسدي ومحمد بن اسحاق فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه وذلك أن موسى عليه السلام كانت له بديار مصر صولة بسبب نسبته إلى تبنى فرعون له وتربيته في بيته وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاها وارتفعت رؤسهم بسبب أنهم أرضعوه وهم أخواله أي من الرضاعة فلما استغاث ذلك الاسرائيلي موسى عليه السلام على ذلك القبطي أقبل إليه موسى فوكزه قال مجاهد أي طعنه بجمع كفه وقال قتادة بعصا كانت معه فقضى عليه أي فمات منها وقد كان ذلك القبطي كافرا مشركا بالله العظيم ولم يرد موسى قتله بالكلية وإنما أراد زجره وردعه ومع هذا قال موسى هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي أي من العز والجاه فلن أكون ظهيرا للمجرمين فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى
أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين
اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية انطاكية رواه ابن إسحق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه وكذا روى عن بريدة بن الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري وغيرهم قال ابن إسحق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب أنهم قالوا وكان لها ملك اسمه انطيخس بن انطيحس وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق ومصدوق وشلوم فكذبهم
يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفا أي من فرعون وملائه أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصره رجل من بني إسرائيل فتقوى ظنونهم أن موسى منهم ويترتب على ذلك أمر عظيم فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم خائفا يترقب أي يلتفت فبينما هو كذلك إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس يستصرخه أي يصرخ به ويستغيثه على آخر قد قاتله فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ومخاصمته قال له إنك لغوي مبين ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدو لموسى وللاسرائيلي فيردعه عنه ويخلصه منه فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطي قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد الا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين قال بعضهم إنما قال هذا الكلام الاسرائيلي الذي اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس وكانه لما رأى موسى مقبلا إلى القبطي اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله إنك لغوي مبين فقال ما قال لموسى وأظهر الأمر الذي كان وقع بالأمس فذهب القبطي فاستعدى موسى إلى فرعون وهذا الذي لم يذكر كثير من الناس سواه ويحتمل أن قائل هذا هو القبطي وأنه لما رآه مقبلا اليه خافه ورأى من سجيته انتصارا جيدا للاسرائيلي فقال ما قال من باب الظن والفراسة إن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس أو لعله فهم من كلام الاسرائيلي حين استصرخه عليه ما دله على هذا والله أعلم
والمقصود أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس فأرسل في طلبه وسبقهم رجل ناصح عن طريق أقرب وجاء من أقصى المدينة ساعيا إليه مشفقا عليه فقال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج أي من هذه البلدة إني لك من الناصحين أي فيما أقوله لك قال الله تعالى فخرج منها خائفا يترقب أي فخرج من مدينة مصر من فوره على وجهه لا يهتدي إلى طريق ولا يعرفه قائلا رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما انزلت إلي من خير فقير يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر خائفا يترقب أي يتلفت خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون وهو لا يدري أين يتوجه ولا إلى أين يذهب وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها ولما توجه تلقاء مدين أي اتجه له طريق يذهب فيه قال عسى ربي أن يهديني
سواء السبيل أي عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود وكذا وقع أو صلته إلى مقصود وأي مقصود ولما ورد ماء مدين وكانت بئرا يستقون منها ومدين هي المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب عليه السلام وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قولي العلماء ولما ورد الماء المذكور وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان أي تكفكفان غنمهما أن تختلط بغنم الناس وعند أهل الكتاب أنهن كن سبع بنات وهذا أيضا من الغلط وكأنه كن سبعا ولكن إنما كان تسقي اثنتان منهن وهذا الجمع ممكن إن كان ذاك محفوظا والا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير أي لا نقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء لضعفنا وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره قال الله تعالى فسقى لهما
قال المفسرون وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة فتجىء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده ثم استقى لهما وسقى غنمهما ثم رد الحجر كما كان قال أمير المؤمنين عمر وكان لا يرفعه إلا عشرة وإنما استقى ذنوبا واحدا فكفاهما ثم تولى إلى الظل قالوا وكان ظل شجرة من السمر روى ابن جرير عن ابن مسعود أنه رآها خضراء ترف قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير قال ابن عباس سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل وورق الشجر وكان حافيا فسقطت نعلا قدميه من الحفاء وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه وان بطنه لاصق بظهره من الجوع وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وأنه لمحتاج إلى شق تمرة قال عطاء بن السائب لما قال رب إني لما انزلت الي من خير فقير اسمع المرأة فجاءته احداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل لما جلس موسى عليه السلام في الظل و قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير سمعته المرأتان فيما قيل فذهبتا إلى أبيهما فيقال إنه استنكر سرعة رجوعهما فأخبرتاه ما كان من أمر موسى عليه السلام فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه فجاءته إحداهما تمشي على استحياء أي مشي الحراير قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا صرحت له بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة وهذا من تمام حيائها وصيانتها فلما جاءه وقص عليه القصص وأخبره خبره وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فرارا من
فرعونها قال له ذلك الشيخ لا تخف نجوت من القوم الظالمين أي خرجت من سلطانهم فلست في دولتهم
وقد اختلفوا في هذا الشيخ من هو فقيل هو شعيب عليه السلام وهذا هو المشهور عند كثيرين وممن نص عليه الحسن البصري ومالك بن أنس وجاء مصرحا به في حديث ولكن في إسناده نظر وصرح طائفة بأن شعيبا عليه السلام عاش عمرا طويلا بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوج بابنته وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الحسن البصري أن صاحب موسى عليه السلام هذا اسمه شعيب وكان سيد الماء ولكن ليس بالنبي صاحب مدين وقيل إنه ابن أخي شعيب وقيل ابن عمه وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب وقيل رجل اسمه يثرون هكذا هو في كتب أهل الكتاب يثرون كاهن مدين أي كبيرها وعالمها قال ابن عباس وأبو عبيدة بن عبدالله اسمه يثرون زاد أبو عبيدة وهو ابن أخي شعيب زاد ابن عباس صاحب مدين
والمقصود أنه لما أضافه وأكرم مثواه وقص عليه ما كان من أمره بشره بأنه قد نجا فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها يا أبت استأجره أي لرعي غنمك ثم مدحته بأنه قوي أمين قال عمرو ابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن اسحق وغير واحد لما قالت ذلك قال لها أبوها وما علمك بهذا فقالت إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه فقال كوني من ورائي فإذا اختلف الطريق فأخذ في لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق
قال ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة صاحب يوسف حين قال لامرأته أكرمي مثواه وصاحبة موسى حين قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين استدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على صحة ما اذا باعه أحد هذين العبدين أو الثوبين ونحو ذلك أنه يصح لقوله احدى ابنتي هاتين وفي هذا نظر لأن هذه مراوضة لا معاقدة والله أعلم
واستدل أصحاب أحمد على صحة الايجار بالطعمة والكسوة كما جرت به العادة واستأنسوا بالحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه مترجما في كتابه باب استئجار الأجير على طعام بطنه حدثنا محمد بن الصفي الحمصي حدثنا بقية بن الوليد عن مسلمة بن علي عن سعيد بن أبي أيوب عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال سمعت عتبة بن الدر يقول كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طس حتى إذا بلغ قصة موسى قال إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني سنين أو عشرة على عفة فرجه وطعام بطنه وهذا من هذا الوجه لا يصح لأن مسلمة بن علي الحسني الدمشقي البلاطي ضعيف عند الأئمة لا يحتج بتفرده ولكن
قد روى من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم حدثنا أبوزرعة حدثنا يحيى بن عبدالله بن بكر حدثني ابن لهيعة وحدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا عبدالله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال سمعت عتبة بن الندر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن موسى عليه السلام آجر نفسه لعفة فرجه وطعمة بطنه ثم قال تعالى ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل يقول إن موسى قال لصهره الأمر على ما قلت فأيهما قضيت فلا عدوان علي والله على مقالتنا سامع ومشاهد ووكيل علي وعليك ومع هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين وأتمهما وهو العشر سنين كوامل تامه
قال البخاري حدثنا محمد بن عبدالرحيم حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى فقلت لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فاسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل تفرد به البخاري من هذا الوجه وقد رواه النسائي في حديث الفتون كما سيأتي من طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسي وابن أبي حاتم عن أبيه كلاهما عن الحميدي عن سفيان بن عيينة حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سألت جبريل أي الأجلين قضى موسى قال أتمهما وأكملهما وإبراهيم هذا غير معروف إلا بهذا الحديث وقد رواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن أعين عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقد رواه سنيد عن حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مرسلا أن رسول الله سأل عن ذلك جبريل فسأل جبريل إسرافيل فسأل إسرافيل الرب عز وجل فقال أبرهما وأوفاهما وبنحوه رواه ابن أبي حاتم من حديث يوسف بن سرح مرسلا ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى قال أوفاهما وأتمهما وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران الجوني وهو ضعيف عن أبيه عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى قال أوفاهما وأبرهما قال وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح عن عتبة بن النذر أن رسول الله قال إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه وطعام بطنه فلما وفى الأجل قيل يا رسول الله أي الأجلين قال أبرهما وأوفاهما فلما أراد فراق شعيب سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام وكانت غنمه سودا حسانا فانطلق موسى عليه السلام
إلى عصا قسمها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض ثم أوردها فسقاها ووقف موسى عليه السلام بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة الا ضرب جنبها شاة شاة قال فاتمئت وآنثت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش ولا ضبوب ولا عزوز ولا ثعول ولا كموش تفوت الكف قال النبي صلى الله عليه وسلم لو أقتحمتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية قال ابن لهيعة الفشوش واسعة السخب والضبوب طويلة الضرع تجره والعزوز ضيقة السخب والثعول الصغيرة الضرع كالحلمتين والكموش التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره وفي صحة رفع هذا الحديث نظر وقد يكون موقوفا كما قال ابن جرير حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة حدثنا أنس بن مالك قال لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما قال له صاحبه كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها فعمد فوضع خيالا على الماء فلما رأت الخيال فزعت فجالت جولة فولدن كلهن بلقا الا شاة واحدة فذهب باولادهن ذلك العام وهذا إسناد رجاله ثقات والله أعلم
وقد تقدم عن نقل أهل الكتاب عن يعقوب عليه السلام حين فارق خاله لابان أنه أطلق له ما يولد من غنمه بلقا ففعل نحو ما ذكر عن موسى عليه السلام فالله أعلم فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم اليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما وقد يؤخذ هذا من قوله فلما قضى موسى الأجل وعن مجاهد أنه أكمل عشرا وعشرا بعدها وقوله وسار بأهله أي من عند صهره ذاهبا فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم أنه اشتاق إلى أهله فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة مختف فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه قالوا واتفق ذلك في ليلة مظلمة برادة وتاهوا في طريقهم فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف وجعل يوري زناده فلا يوري شيئا واشتد الظلام والبرد فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور وهو الجبل الغربي منه عن يمينه فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا وكأنه والله أعلم رآها دونهم لأن هذه النار هي نور في الحقيقة ولا يصلح رؤيتها لكل أحد لعلي آتيكم منها بخبر أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة لقوله في الآية الأخرى وهل أتاك
حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فدل على وجود الظلام وكونهم تاهوا عن الطريق وجمع الكل في سورة النمل في قوله إذ قال موسى لأهله إني آنست سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون وقد أتاهم منها بخبر وأي خبر ووجد عندها هدى وأي هدى واقتبس منها نورا وأي نور قال الله تعالى فلما أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وقال في النمل فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين أي سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وقال في سورة طه فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها فانتهى إليها وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج وكل ما لتلك النار في اضطرام وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد فوقف متعجبا وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه كما قال تعالى وما كنت بجانب الغربي اذ قضينا الى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين وكان موسى في واد اسمه طوى فكان موسى مستقبل القبلة وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب فناداه ربه بالواد المقدس طوى فأمر أولا بخلع نعليه تعظيما وتكريما وتوقيرا لتلك البقعة المباركة ولا سيما في تلك الليلة المباركة
وعند أهل الكتاب أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور مهابة له وخوفا على بصره ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له إني أنا الله رب العالمين إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري أي أنا رب العالمين الذي لا إله إلا هو الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار وإنما الدار الباقية يوم القيامة التي لا بد من كونها ووجودها لتجزى كل نفس بما تسعى أي من خير وشر وحضه وحثه على العمل لها ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه واتبع هواه ثم قال له مخاطبا ومؤانسا ومبينا له أنه القادر على كل شيء الذي يقول للشيء كن فيكون وما تلك بيمينك يا موسى أي أما هذه عصاك التي نعرفها منذ صحبتها قال هي عصاي أتوكؤ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى أي بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها قال القها يا موسى فالقاها فإذا هي حية تسعى وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه يقول للشيء كن فيكون وأنه الفعال بالاختيار
وعند أهل الكتاب أنه سأل برهانا على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر فقال له الرب
عز وجل ما هذه التي في يدك قال عصاي قال القها إلى الأرض فألقاها فإذا هي حية تسعى فهرب موسى من قدامها فأمره الرب عز وجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان وهو ضرب من الحيات يقال الجان والجنان وهو لطيف ولكن سريع الاضطراب والحركة جدا فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة فلما عاينها موسى عليه السلام ولى مدبرا أي هاربا منها لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك ولم يعقب أي ولم يلتفت فناداه ربه قائلا له يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى فيقال إنه هابها شديدا فوضع يده في كم مدرعته ثم وضع يده في وسط فمها وعند أهل الكتاب بذنبها فلما استمكن منها إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين ثم أمره تعال بإدخال يده في جيبه ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضا من غير سوء أي من غير برص ولا بهق ولهذا قال اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب قيل معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك وهذا وإن كان خاصما به إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء وقال في سورة النمل وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين أي هاتان الآيتان وهما العصا واليد وهما البرهانان المشار إليهما في قوله فذاتك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة سبحان حيث يقول تعالى ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء الأرب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا وهي المبسوطة في سورة الأعراف في قوله ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه وهذه التسع آيات غير العشر الكلمات فإن التسع من كلمات الله القدرية والعشر من كلماته الشرعية وإنما نبهنا على هذا لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة فظن أن هذه هي هذه كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني إسرائيل
والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردأ يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام في جوابه لربه عز وجل حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فرارا من سطوته وظلمه حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردأ يصدقني إني أخاف أن يكذبون أي اجعله معي معينا وردأ ووزيرا يساعدني ويعينني على أداء رسالتك اليهم فإنه أفصح مني لسانا وأبلغ بيانا قال الله تعالى مجيبا له إلى سؤاله سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا أي برهانا فلا يصلون إليكما أي فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما بآياتنا وقيل ببركة آياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون وقال في سورة طه اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي قيل إنه أصابه في لسانه لثغة بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه التي كان فرعون أراد اختبار عقله حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله فخافت عليه آسية وقالت إنه طفل فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه فهم بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة فأخذها فوضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ولم يسأل زوالها بالكلية
قال الحسن البصري والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة ولهذا بقيت في لسانه بقية ولهذا قال فرعون قبحه الله فيما زعم إنه يعيب به الكليم ولا يكاد يبين أي يفصح عن مراده ويعبر عما في ضميره وفؤاده ثم قال موسى عليه السلام واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤالك يا موسى أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت وأعطيناك الذي طلبت وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه وهذا جاه عظيم قال الله تعالى وكان عند الله وجيها وقال تعالى ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لأناس وهم سائرون طريق الحج أي أخ أمن على أخيه فسكت القوم فقالت عائشة لمن حول هودجها هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هرون فأوحى إليه قال الله تعالى ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا قال تعالى في سورة الشعراء وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون الا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هرون ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل
معنا نبي إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين تقدير الكلام فاتياه فقالا له ذلك وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته وتركهم يعبدون ربهم حيث شاؤوا ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغى ونظر إلى موسى بعين الازدراء والتنقص قائلا له ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين أي أما أنت الذي ربيناه في منزلنا وأحسنا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه خلافا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين وأن الذي بعث إليه فرعون آخر وقوله وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين أي وقتلت الرجل القبطي وفررت منا وجحدت نعمتنا قال فعلتها إذا وأنا من الضالين أي قبل أن يوحى إلى وينزل على ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به من التربية والاحسان إليه وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل أي وهذه النعمة التي ذكرت من أنك أحسنت إلى وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله واستعبدتم في اعمالك وخدمك وأشغالك قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون

يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية وذلك أن فرعون قبحه الله أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى وزعم أنه الاله فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى وقال يا أيها الملأ ما علمت لكم من اله غيري وهو في هذه المقالة معاند يعلم أنه عبد مربوب وأن الله هو الخالق البارىء المصور الاله الحق كما قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كانت عاقبة المفسدين ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته والاظهار أنه ما ثم رب ارسله وما رب العالمين لأنهما قالا له إنا رسول رب العالمين فكانه يقول لهما ومن رب العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثتكما فأجابه موسى قائلا رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين يعني رب العالمين خالق هذه السموات والأرض المشاهدة وما بينهما من المخلوقات المتجددة من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يسلم كل موقن انها لم تحدث بأنفسها ولا بدلها من موجد ومحدث وخالق وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين قال أي فرعون لمن حوله من امرائه ومرازبته ووزرائه
على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام ألا تسمعون يعني كلامه هذا قال موسى مخاطبا له ولهم ربكم ورب آبائكم الأولين أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والأجداد والقرون السالفة في الآباد فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولا أمه ولم يحدث من غير محدث وإنما أوجده وخلقه رب العالمين وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ولا نزع عن ضلالته بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما ان كنتم تعقلون أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة المسير للأفلاك الدائرة خالق الظلام والضياء ورب الأرض والسماء رب الأولين والآخرين خالق الشمس والقمر والكواكب السائرة والثوابت الحائرة خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون وفلك يسبحون يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ولم يبق له قول سوى العناد عدل الى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع بده فإذا هي بيضاء للناظرين وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما وهما العصا واليد وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم الذي بهر به العقول والأبصار حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين أي عظيم الشكل بديع في الضخامة والهول والمنظر العظيم الفظيع الباهر حتى قيل إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه أخذه رهب شديد وخوف عظيم بحث أنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة فانعكس عليه الحال وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نورا بهر الأبصار فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى ومع هذا كله لم ينتفع فرعون لعنه الله بشيء من ذلك بل استمر على ما هو عليه وأظهر أن هذا كله سحر وأراد معارضته بالسحرة فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن في رعيته وتحت قهره ودولته كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه من اظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملائه وأهل دولته وملته ولله الحمد والمنه وقال تعالى في سورة طه فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى يقول تعالى مخاطبا لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه وأنعم بالنبوة عليه وكلمه منه إليه قد كنت مشاهدا
لك وأنت في دار فرعون وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري فلبثت فيها سنين ثم جئت على قدر أي مني لذلك فوافق ذلك تقديري وتسييري واصطنعتك لنفسي أي اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري يعني ولا تفترا في ذكري إذ قدمتما عليه ووفدتما إليه فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته وإهداء النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه وقد جاء في بعض الأحاديث يقول الله تعالى إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا الآية ثم قال تعالى اذهبا إلى فرعون إنه طفى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره وهو إذ ذاك أردى خلقه وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن برفق ولين ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى كما قال لرسوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقال تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا منهم الآية قال الحسن البصري فقولا له قولا لينا أعذرا إليه قولا له إن لك ربا ولك معادا وإن بين يديك جنة ونارا وقال وهب بن منبه قولا له إني لي العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى وذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا وشيطانا مريدا له سلطان في بلاد مصر طويل عريض وجاه وجنود وعساكر وسطوة فهاباه من حيث البشرية وخافا أن يسطو عليهما في بادىء الأمر فثبتهما تعالى وهو العلي الأعلى فقال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى كما قال في الآية الأخرى إنا معكم مستمعون فاتياه فقولا إنا رسولا ربك فارسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون فيدعواه إلى الله تعالى أن يعبده وحده لا شريك له وأن يرسل معهم بني إسرائيل ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم قد جئناك بآية من ربك وهو البرهان العظيم في العصي واليد والسلام على من اتبع الهدى تقيد مفيد بليغ عظيم ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى أي كذب بالحق بقلبه وتولى عن العمل بقالبه
وقد ذكر السدي وغيره أنه لما قدم من بلاد مدين دخل على أمه وأخيه هرون وهما يتعشيان من طعام فيه الطفشيل وهو اللفت فأكل معهما ثم قال يا هرون إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته فقم معي فقاما يقصدان باب فرعون فإذا هو مغلق فقال موسى للبوابين والحجبة
أعلموه أن رسول الله بالباب فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به
وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل وقال محمد بن اسحق أذن لهما بعد سنتين لأنه لم يك أحد يتجاسر علىالاستئذان لهما فالله أعلم ويقال إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه فانزعج فرعون وأمر باحضارهما فوقفا بين يديه فدعواه إلى الله عز وجل كما أمرهما
وعند أهل الكتاب أن الله قال لموسى عليه السلام إن هرون اللاوي يعني من نسل لاوي بن يعقوب سيخرج ويتلقاك وأمره أن يأخذ معه مشايخ بني إسرائيل إلى عند فرعون وأمره أن يظهر ما أتاه من الآيات وقال له سأقسي قلبه فلا يرسل الشعب وأكثر آياتي وأعاجيبي بأرض مصر وأوحى الله إلى هرون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب فلما تلقاه أخبره موسى بما أمره به ربه فلما دخلا مصر جمعا شيوخ بني إسرائيل وذهبا إلى فرعون فلما بلغاه رسالة الله قال من هو الله لا أعرفه ولا أرسل بني إسرائيل وقال الله مخبرا عن فرعون قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى
يقول تعالى مخبرا عن فرعون إنه أنكر اثبات الصانع تعالى قائلا فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي هو الذي خلق الخلق وقدر لهم أعمالا وأرزاقا وآجالا وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له فطابق عمله فيهم على الوجه الذي قدره وعلمه لكمال علمه وقدرته وقدره وهذه الآية كقوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه قال فما بال القرون الأولى يقول فرعون لموسى فإذا كان ربك هو الخالق المقدر الهادي الخلائق لما قدره وهو بهذه المثابة من انه لا يستحق العبادة سواه فلم عبد الاولون غيره وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما قد علمت فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى أي هم وان عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك ولا يدل على خلاف ما أقول لأنهم جهلة مثلك كل شيء فعلوه مستطر عليهم في الزبر من صغير وكبير وسيجزيهم على ذلك ربي عز وجل ولا يظلم أحدا مثقال ذرة لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه شيء ولا ينسى ربي شيئا ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الأشياء وجعله الأرض مهادا والسماء سقفا محفوظا وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم كما قال كلوا وارعوا أنعامكم ان في ذلك لآيات لأولي النهي أي لذوي العقول
الصحيحة المستقيمة والفطر القويمة غير السقيمة فهو تعالى الخالق الرزاق وكما قال تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ولما ذكر أحياء الأرض بالمطر واهتزازها بإخراج نباتها فيه نبه به على المعاد فقال منها أي من الأرض خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى كما قال تعالى كما بدأكم تعودون وقال تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ثم قال تعالى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى
يخبر تعالى عن شقاء فرعون وكثرة جهله وقلة عقله في تكذيبه بآيات الله واستكباره عن اتباعها وقوله لموسى إن هذا الذي جئت به سحر ونحن نعارضك بمثله ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم ومكان معلوم وكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس ولهذا قال موعدكم يوم الزينة وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم وأن يحشر الناس ضحى أي من أول النهار في وقت اشتداد ضياء الشمس فيكون الحق أظهر وأجلى ولم يطلب أن يكون ذلك ليلا في ظلام كيما يروج عليهم محالا وباطلا بل طلب أن يكون نهارا جهرة لأنه على بصيرة من ربه ويقين أن الله سيظهر كلمته ودينه وإن رغمت أنوف القبط قال الله تعالى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم أئتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى
يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب فجمع من كان ببلاده من السحرة وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة فضلاء في فنهم غاية فجمعوا له من كل بلد ومن كل مكان فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير فقيل كانوا ثمانين ألفا قاله محمد بن كعب وقيل سبعين ألفا قاله القاسم بن أبي بردة وقال السدي بضعة وثلاثين ألفا وعن أبي أمامة تسعة عشر ألفا وقال محمد بن اسحاق خمسة عشر ألفا وقال كعب الأحبار كانوا إثني عشر ألفا وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس كانوا سبعين رجلا وروى عنه أيضا أنهم كانوا أربعين غلاما من بني إسرائيل أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء فيتعلموا السحر ولهذا قالوا وما أكرهتنا عليه من السحر وفي هذا نظر
وحضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل بلده عن بكرة أبيهم وذلك أن فرعون نادى فيهم أن
يحضروا هذا الموقف العظيم فخرجوا وهم يقولون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة فوعظهم وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه فقال ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم قيل معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم فقائل يقول هذا كلام نبي وليس بساحر وقائل منهم يقول بل هو ساحر فالله أعلم وأسروا التناجي بهذا وغيره قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما يقولون إن هذا وأخاه هرون ساحران عليمان مطبقان متقنان لهذه الصناعة ومرادهم أن يجتمع الناس عليهما ويصولا علىالملك وحاشيته ويستأصلاكم عن آخركم ويستأمرا عليكم بهذه الصناعة فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى وإنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا ويتواصوا ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة والسحر والبهتان وهيهات كذبت والله الظنون واخطأت الآراء أنى يعارض البهتان والسحر والهذيان خوارق العادات التي أجراها الديان على يدي عبده الكليم ورسوله الكريم المؤيد بالبرهان الذي يبهر الأبصار وتحار فيه العقول والأذهان وقولهم فأجمعوا كيدكم أي جميع ما عندكم ثم اتوا صفا أي جملة واحدة ثم حضوا بعضهم بعضا على التقدم في هذا المقام لأن فرعون كان قد وعدهم ومناهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى قال بل القوا فاذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى والق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى
لما اصطف السحرة ووقف موسى وهرون عليهما السلام تجاههم قالوا له إما أن تلقي قبلنا وإما أن نلقي قبلك قال بل القوا أنتم وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي فأودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطرابا يخيل للرائي أنها تسعى باختيارها وإنما تتحرك بسبب ذلك فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم وألقوا حبالهم وعصيهم وهم يقولون بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون قال الله تعالى فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وقال تعالى فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى أي خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ومحالهم قبل أن يلقي ما في يده فإنه لا يضع شيئا قبل أن يؤمر فأوحى الله إليه في الساعة الراهنة لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا انما صنعوا كسد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال ما جئتم به السحر ان الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون وقال تعالى فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون
فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهرون وذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم فيما ذكره غير واحد من علماء السلف وعنق عظيم وشكل هائل مزعج بحيث أن الناس انحازوا منها وهربوا سراعا وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه من الحبال والعصي فجعلت تلقفه واحدا واحدا في أسرع ما يكون من الحركة والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم في أمرهم واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم ولا يدخل تحت صناعاتهم وأشغالهم فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ولا شعبذة ولا محال ولا خيال ولا زور ولا بهتان ولا ضلال بل حق لا يقدر عليه إلا الحق الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة وأنارها بما خلق فيها من الهدى وأزاح عنها القسوة وأنابوا إلى ربهم وخروا له ساجدين وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى آمنا برب موسى وهرون كما قال تعالى فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هرون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جنهم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى
قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة والأوزاعي وغيرهم لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم وتزخرف لقدومهم ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا وأشهروا ذكروا موسى وهرن في الناس على هذه الصفة الجميلة أفزعه ذلك ورأى أمرا بهره وأعمى بصيرته وبصره وكان فيه كيد ومكر وخداع وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله فقال مخاطبا للسحرة بحضرة الناس آمنتم له قبل ان آذن لكم أي هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي ثم تهدد وتوعد وابرق وارعد وكذب فابعد قائلا إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وقال في الآية الأخرى إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون وهذا الذي قاله من البهتان يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان بل لا يروج مثله على الصبيان فإن الناس كلهم من أهل دولته وغيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوما من الدهر فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر ثم هو لم يجمعهم ولا علم باجتماعهم حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم واجتباهم من كل فج عميق وواد سحيق ومن حواضر بلاد
مصر والأطراف ومن المدن والأرياف قال الله تعالى في سورة الأعراف ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبةالمفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فات بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين قال القوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس وأسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن الق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهرون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا الا أن آمنا بآيات ربنا لما جائتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين وقال تعالى في سورة يونس ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين وقال فرعون إئتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقو قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون وقال تعالى في سورة الشعراء قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أو لو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهرون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من
خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين
والمقصود أن فرعون كذب وافترى وكفر غاية الكفر في قوله إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وأتى ببهتان يعلمه العالمون بل العالمون في قوله إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون وقوله لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف يعني يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه ولأصلبنكم أجميعن أي ليجعلهم مثلة ونكالا لئلا يقتدي بهم أحد من رعيته وأهل ملته ولهذا قال ولأصلبنكم في جذوع النخل أي على جذوع النخل لأنها أعلى وأشهر ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى يعني في الدنيا قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات أي لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات والذي فطرنا قيل معطوف وقيل قسم فاقض ما أنت قاض أي فافعل ما قدرت عليه إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رسله إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى أي وثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب والترغيب وأبقى أي وأدوم من هذه الدار الفانية وفي الآية الأخرى قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أي ما اجترمناه من المآثم والمحارم أن كنا أول المؤمنين أي من القبط بموسى وهرون عليهما السلام وقالوا له أيضا وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا أي ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسولنا واتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا أي ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد والسلطان الشديد بل الشيطان المريد وتوفنا مسلمين وقالوا أيضا يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى يقولون له فاياك أن تكون منهم فكان منهم ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى أي المنازل العالية جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى فاحرص أن تكون منهم فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التي لا تغالب ولا تمانع وحكم العلي العظيم بأن فرعون لعنه الله من أهل الجحيم ليباشر العذاب الأليم يصب من فوق رأسه الحميم ويقال له على وجه التقريع والتوبيخ وهو المقبوح المنبوح والذميم اللئيم ذق إنك أنت العزيز الكريم
والظاهر من هذه السياقات أن فرعون لعنه الله صلبهم وعذبهم رضي الله عنهم قال عبدالله بن عباس وعبيد بن عمير كانوا من أول النهار سحرة فصاروا من آخره شهداء بررة ويؤيد هذا قولهم ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين
*2* فصل : ولما وقع ما وقع من الأمر العظيم وهو الغلب الذي غلبته القبط
@ في ذلك الموقف الهائل وأسلم السحرة الذين استنصروا ربهم لم يزدهم ذلك الا كفرا وعنادا وبعدا عن الحق قال الله تعالى بعد قصص ما تقدم في سورة الأعراف وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون
يخبر تعالى عن الملأ من قوم فرعون وهم الأمراء والكبراء أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي الله موسى عليه السلام ومقابلته بدل التصديق بما جاء به بالكفر والرد والأذى قالوا أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك يعنون قبحهم الله أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة ما سواه فساد بالنسبة الى اعتقاد القبط لعنهم الله وقرأ بعضهم ويذرك وآلهتك أي وعبادتك ويحتمل شيئين أحدهما ويذر دينك وتقويه القراءة الأخرى الثاني ويذر أن يعبدك فإنه كان يزعم أنه إله لعنه الله قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم أي لئلا يكثر مقاتلتهم وإنا فوقهم قاهرون أي غالبون وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين أي إذا هموا هم بأذيتكم والفتك بكم فاستعينوا أنتم بربكم واصبروا على بليتكم إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين أي فكونوا أنتم المتقين لتكون لكم العاقبة كما قال في الآية الأخرى وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين وقولهم قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا أي قد كانت الأبناء تقتل قبل مجيئك وبعد مجيئك إلينا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وقال الله تعالى في سورة حم المؤمن ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب وكان فرعون الملك وهامان الوزير وكان قارون إسرائيليا من قوم موسى إلا أنه كان على دين فرعون وملائه وكان ذا مال جزيل جدا كما ستأتي قصته فيما بعد إن شاء الله تعالى فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وهذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الإهانة والإذلال والتقليل لملأ بني إسرائيل لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها ويصولون على القبط بسببها وكانت القبط منهم يحذرون فلم
ينفعهم ذلك ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشيء كن فيكون وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم صار فرعون مذكرا وهذا منه فإن فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلهم موسى عليه السلام وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب أي عذت بالله ولجأت إليه بجنابه من أن يسطو فرعون وغيره على بسوء وقوله من كل متكبر أي جبار عنيد لا يرعوي ولا ينتهي ولا يخاف عذاب الله وعقابه لأنه لا يعتقد معادا ولا جزاء ولهذا قال من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وان يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم الا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وهذا الرجل هو ابن عم فرعون وكان يكتم ايمانه من قومه خوفا منهم على نفسه وزعم بعض الناس أنه كان اسرائيليا وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظا ومعنى والله أعلم
قال ابن جريج قال ابن عباس لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا والذي جاء من أقصى المدينة وامرأة فرعون رواه ابن أبي حاتم قال الدارقطني لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون حكاه السهيلي وفي تاريخ الطبراني أن اسمه خير فالله أعلم والمقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه فلما هم فرعون لعنه الله بقتل موسى عليه السلام وعزم على ذلك وشاور ملائه فيه خاف هذا المؤمن على موسى فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب فقال على وجه المشورة والرأي وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر وهذا من أعلى مراتب هذا المقام فإن فرعون لأشد جورا منه وهذا الكلام لا أعدل منه لأن فيه عصمة نبي ويحتمل أنه كاشرهم بإظهار إيمانه وصرح لهم بما كان يكتمه والأول أظهر والله أعلم قال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي من أجل أنه قال ربي الله فمثل هذا لا يقابل بهذا بل بالاكرام والاحترام والموادعة وترك الانتقام يعني لأنه قد جاءكم بالبينات من ربكم أي بالخوارق التي دلت على صدقة فيما جاء به عمن أرسله فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة لأنه إن يك كاذبا فعليه كذبه ولا يضركم ذلك وان يك صادقا وقد تعرضتم له يصبكم بعض الذي يعدكم أي وأنتم تشققون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به فكيف بكم إن حل جميعه عليكم
وهذا الكلام في هذا المقام من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام وقوله يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز فانه ما تعرض الدول للدين
الا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم وكذا وقع لآل فرعون ما زالوا في شك وريب ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور والنعمة والحبور ثم حولوا إلى البحر مهانين ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين ولهذا قال هذاالرجل المؤمن المصدق البار الراشد التابع للحق الناصح لقومه الكامل العقل يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض أي عالين على الناس حاكمين عليهم فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا أي لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ولا رد عنا بأس مالك الممالك قال فرعون أي في جواب هذا كله ما أريكم إلا ما أرى أي ما أقول لكم إلا ما عندي وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وكذب في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا وعتوا وكفرانا قال الله تعالى اخبارا عن موسى لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السموات والأرض بصائر وإني لا أظنك يا فرعون مبثورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا وقال تعالى فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وأما قوله وما أهديكم الا سبيل الرشاد فقد كذب أيضا فإنه لم يكن على رشاد من الأمر بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال فكان أولا ممن يعبد الأصنام والأمثال ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه وصدقوه فيما زعم من الكفر المحال في دعواه أنه رب تعالى الله ذو الجلال قال الله تعالى ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه انهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين وقال تعالى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى وقال تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتانا وسلطان مبين إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيمة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيمة بئس الرفد المرفود
والمقصود بيان كذبه في قوله ما أريكم إلا ما أرى وفي قوله وما أهديكم الا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من
الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار يحذرهم ولي الله إن كذبوا برسول الله موسى أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من النقمات والمثلات مما تواتر عندهم وعند غيرهم ما حل بقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك مما أقام به الحجج على أهل الأرض قاطبة في صدق ما جاءت به الأنبياء لما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الأعداء وما أنجى الله من اتبعهم من الأولياء وخوفهم يوم القيمة وهو يوم التناد أي حين ينادي الناس بعضهم بعضا حين يولون ان قدروا على ذلك ولا إلى ذلك سبيل يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر وقال تعالى يا معشر الجن والإنس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان وقرأ بعضهم يوم التناد بتشديد الدال أي يوم الفرار ويحتمل أن يكون يوم القيامة ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس فيودون الفرار ولات حين مناص فلما أحسوا بأسنا اذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما اترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر ما كان منه من الاحسان إلى الخلق في دنياهم وأخراهم وهذا من سلالته وذريته ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته وأن لا يشركوا به أحدا من بريته وأخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان أي من سجيتهم التكذيب بالحق ومخالفة الرسل ولهذا قال فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا أي وكذبتم في هذا ولهذا قال كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم أي يريدون حجج الله وبراهينه ودلائل توحيده بلا حجة ولا دليل عندهم من الله فإن هذا أمر يمقته الله غاية المقت أي يبغض من تلبس به من الناس ومن اتصف به من الخلق كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار قرىء بالإضافة وبالنعت وكلاهما متلازم أي هكذا إذا خالفت القلوب الحق ولا تخالفه الا بلا برهان فإن الله يطبع عليها أي يختم عليها وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب كذب فرعون موسى عليه السلام في دعواه أن الله أرسله وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه في قوله لهم ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وقال ههنا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات أي طرقها ومسالكها فاطلع إلى إله موسى وإني لا أظنه كاذبا ويحتمل هذا معنيين أحدهما وإني لأظنه
كاذبا في قوله إن للعالم ربا غيري والثاني في دعواه أن الله أرسله والأول أشبه بظاهر حال فرعون فإنه كان ينكر ظاهر اثبات الصانع والثاني أقرب إلى اللفظ حيث قال فاطلع إلى إله موسى أي فاسأله هل أرسله أم لا وإني لأظنه كاذبا أي في دعواه ذلك وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه السلام وان يحثهم على تكذيبه قال الله تعالى وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وقرىء وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب قال ابن عباس ومجاهد يقول الا في خسار أي باطل لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا أعني السماء الدنيا فكيف بما بعدها من السموات العلى وما فوق ذلك من الارتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح وهو القصر الذي بناه وزيره هامان له لم ير بناء أعلى منه وان كان مبنيا من الآجر المشوى بالنار ولهذا قال فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا
وعند أهل الكتاب أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه ويطلب منهم كل يوم قسط معين إن لم يفعلوه والا ضربوا وأهينوا غاية الإهانة وأوذوا غاية الأذية ولهذا قالوا لموسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط وكذلك وقع وهذا من دلائل النبوة ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه قال الله تعالى وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وان الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب يدعوهم رضي الله عنه إلى طريق الرشاد والحق وهي متابعة نبي الله موسى وتصديقه فيما جاء به من ربه ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة ورغبهم في طلب الثواب عند الله الذي لا يضيع عمل عامل لديه القدير الذي ملكوت كل شيء بيديه الذي يعطي علىالقليل كثيرا ومن عدله لا يجازى على السيئة الا مثلها وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار التي من وافاها مؤمنا قد عمل الصالحات فلهم الجنات العاليات والغرف الآمنات والخيرات الكثيرة الفائقات والأرزاق الدائمة التي لا تبيد والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد
ثم شرع في إبطال ما هم عليه وتخويفهم مما يصيرون إليه فقال ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب
النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب كان يدعوهم إلى عبادة رب السموات والأرض الذي يقول للشيء كن فيكون وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون ولهذا قال لهم على سبيل الإنكار ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الأنداد والأوثان وأنها لا تملك من نفع ولا اضرار فقال لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار أي لا تملك تصرفا ولا حكما في هذه الدار فكيف تملكه يوم القرار وأما الله عز وجل فإنه الخالق الرازق للأبرار والفجار وهو الذي أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم فيدخل طائعهم الجنة وعاصيهم إلى النار
ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد قال الله فوقاه الله سيئات ما مكروا أي بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله ومكرهم في صدهم عن سبيل الله مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات التي ألبسوا بها على عوامهم وطغامهم ولهذا قال وحاق أي أحاط بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا أي تعرض أرواحهم في برزخهم صباحا ومساء على النار ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وقد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في التفسير ولله الحمد
والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم وارسال الرسول إليهم وإزاحة الشبه عنهم وأخذ الحجة عليهم منهم فبالترهيب تارة والترغيب أخرى كما قال تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وان تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين
يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون وهم قومه من القبط بالسنين وهي اعوام الجدب التي لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع وقوله ونقص من الثمرات وهي قلة الثمار من الأشجار لعلهم يذكرون أي فلم ينتفعوا ولم يرعوا بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم فإذا جاءتهم الحسنة والخصب ونحوه قالوا لنا هذه أي هذا الذي نستحقه وهذا الذي يليق بنا وان تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه أي يقولون هذا بشؤمهم أصابنا هذا ولا يقولون في الأول انه بركتهم وحسن مجاورتهم ولكن
قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة عن الحق إذا جاء الشر أسندوه إليه وإن رأوا خيرا ادعوه لأنفسهم قال الله تعالى ألا إنما طائرهم عند الله أي الله يجزيهم على هذا أوفر الجزاء ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي مهما جئتنا به من الآيات وهي الخوارق للعادات فلسنا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نطيعك ولو جئتنا بكل آية وهكذا أخبر الله عنهم في قوله إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم قال الله تعالى فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين أما الطوفان فعن ابن عباس هو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك وعن ابن عباس وعطاء هو كثرة الموت وقال مجاهد الطوفان الماء والطاعون على كل حال وعن ابن عباس أمر طاف بهم وقد روى ابن جرير وابن مردويه من طريق يحيى بن يمان عن المنهال بن خليفة عن الحجاج عن الحكم بن مينا عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم الطوفان الموت وهو غريب وأما الجراد فمعروف وقد روى أبو داود عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي قال سئل رسول الله عن الجراد فقال أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه وترك النبي صلى الله عليه وسلم أكله إنما هو على وجه التقذر له كما ترك أكل الضـب وتنزه عن أكل البصل والثوم والكراث لما ثبت في الصحيحين عن عبدالله بن أبي أوفى قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد وقد تكلمنا على ما ورد فيه من الأحاديث والآثار في التفسير والمقصود أنه استاق خضراءهم فلم يترك لهم زرعا ولا ثمارا ولا سبدا ولا لبدا وأما القمل فعن ابن عباس هو السوس الذي يخرج من الحطنة وعنه أنه الجراد الصغار الذي لا أجنحة له وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة وقال سعيد بن جبير والحسن هو دواب سود صغار وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم هي البراغيث وحكى ابن جرير عن أهل العربية أنها الحمنان وهو صغار القردان فرق القمقامة فدخل معهم البيوت والفرش فلم يقر لهم قرار ولم يمكنهم معه الغمض ولا العيش وفسره عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف وقرأها الحسن البصري كذلك بالتخفيف وأما الضفادع فمعروفة لبستهم حتى كانت تسقط في أطعماتهم وأوانيهم حتى إن أحدهم إذا فتح فمه لطعام أو شراب سقطت في فيه ضفدعة من تلك الضفادع وأما الدم فكان قد مزج ماؤهم كله به فلا يستقون من النيل شيئا إلا وجدوه دما عبيطا ولا من نهر ولا بئر ولا شيء إلا كان دما في الساعة الراهنة هذا كله لم ينل بني إسرائيل من ذلك شيء بالكلية وهذا من تمام المجزة الباهرة والحجة القاطعة أن هذا كله يحصل لهم من فعل موسى عليه السلام فينالهم عن آخرهم ولا يحل هذا لأحد من بني إسرائيل وفي هذا أدل دليل قال محمد بن اسحق فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مفلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر
وتابع الله عليه بالآيات فأخذه بالسنين فأرسل عليه الطوفان ثم الجراد ثم القمل ثم الضفادع ثم الدم آيات مفصلات فأرسل الطوفان وهو الماء ففاض على وجه الأرض ثم ركد لا يقدرون على أن يخرجوا ولا أن يعملوا شيئا حتى جهدوا جوعا فلما بلغهم ذلك قالوا يا موسى أدع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فكشفه عنهم فلما لم يفوا له بشيء فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر فيما بلغني حتى أن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم فقالوا مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم القمل فذكر لي أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرار فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له فدعا ربه فكشف عنهم فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا أرسل الله عليهم الضفادع فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلم يكشف أحد ثوبا ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع قد غلب عليه فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دما لا يستقون من بئر ولا نهر يغترفون من إناء إلا عاد دما عبيطا وقال زيد بن أسلم المراد بالدم الرعاف رواه ابن أبي حاتم قال الله تعالى ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى أدع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين
يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل والاستكبار عن اتباع آيات الله وتصديق رسوله مع ما أيد به من الآيات العظيمة الباهرة والحجج البليغة القاهرة التي أراهم الله إياها عيانا وجعلها عليهم دليلا وبرهانا وكلما شاهدوا آية وعاينوها وجهدهم وأضنكهم حلفوا وعاهدوا موسى لئن كشف عنهم هذه ليؤمنن به وليرسلن معه من هو من حزبه فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ولم يلتفتوا إليه فيرسل الله عليهم آية أخرى هي أشد مما كانت قبلها وأقوى فيقولون فيكذبون ويعدون ولا يفون لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل هذا والعظيم الحليم القدير ينظرهم ولا يعجل عليهم ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد اليهم ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم والانذار اليهم أخذ عزيز مقتدر فجعلهم عبرة ونكالا وسلفا لمن أشبههم من الكافرين ومثلا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين كما قال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين في سورة حم والكتاب المبين ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا
هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر أدع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين
يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم إلى فرعون الخسيس اللئيم وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق وأن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم فإذا هم منها يضحكون وبها يستهزئون وعن سبيل الله يصدون وعن الحق يصدون فأرسل الله عليهم الآيات تتري يتبع بعضها بعضا وكل آية أكبر من التي تتلوها لأن التوكيد أبلغ مما قبله وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر أدع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نقصا ولا عيبا لأن علماءهم في ذلك الوقت هم السحرة ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه وضراعتهم لديه قال الله تعالى فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه وعظمة بلده وحسنها وتخرق الأنهار فيها وهي الخلجانات التي يكسرونها أمام زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته وأخذ يتنقص رسول الله موسى عليه السلام ويزدريه بكونه لا يكاد يبين يعني كلامه بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة التي هي شرف له وكمال وجمال ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى وأوحى إليه وأنزل بعد ذلك التوراة عليه وتنقصه فرعون لعنه الله بكونه لا أساور في بدنه ولا زينة عليه وإنما ذلك من حلية النساء لا يليق بشهامة الرجال فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلا وأتم معرفة وأعلى همة وأزهد في الدنيا وأعلم بما أعد الله لأوليائه في الأخرى وقوله أو جاء معه الملائكة مقترنين لا يحتاج الأمر إلى ذلك إن كان المراد أن تعظمه الملائكة فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون موسى عليه السلام بكثير كما جاء في الحديث إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع فكيف يكون تواضعهم وتعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة والتسليم والتكريم وان كان المراد شهادتهم له بالرسالة فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعا لذوي الألباب ولمن قصد إلى الحق والصواب ويعمى عما جاء به من البينات والحجج الواضحات من نظر إلى القشور وترك لب اللباب وطبع على قلبه رب الأرباب وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب كما هو حال فرعون القبطي العمي الكذاب قال الله تعالى فاستخف قومه فأطاعوه أي استخف عفو لهم ودرجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية لعنه الله وقبحهم إنهم كانوا قوما فاسقين
فلما آسفونا أي أغضبونا انتقمنا منهم أي بالغرق والإهانة وسلب العز والتبدل بالذل وبالعذاب بعد النعمة والهوان بعد الرفاهية والنار بعد طيب العيش عياذا بالله العظيم وسلطانه القديم من ذلك فجعلناهم سلفا أي لمن اتبعهم في الصفات ومثلا أي لمن اتعظ بهم وخاف من وبيل مصرعهم ممن بلغه جليه خبرهم وما كان من أمرهم كما قال الله تعالى فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أطلع إلى اله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لايرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيمة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيمة هم من المقبوحين يخبر تعالى أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق وادعى ملكهم الباطل ووافقوه عليه وأطاعوه فيه اشتد غضب الرب القدير العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع عليهم فانتقم منهم أشد الانتقام وأغرقه هو وجنوده في صبيحة واحدة فلم يفلت منهم أحد ولم يبق منهم ديار بل كان قد غرق فدخل النار وأتبعوا في هذه الدار لعنة بين العالمين ويوم القيمة بئس الرفد المرفود ولم القيمة هم من المقبوحين
*2* هلاك فرعون وجنوده
@ لما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم متابعة لملكهم فرعون ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول وهم مع ذلك لا يرعون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا يرجعون ولم يؤمن منهم إلا القليل قيل ثلاثة وهم امرأة فرعون ولا علم لأهل الكتاب بخبرها ومؤمن آل فرعون الذي تقدم حكاية موعظته ومشورته وحجته عليهم والرجل الناصح الذي جاء يسعى من أقصى المدينة فقال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين قاله ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عنه ومراده غير السحرة فإنهم كانوا من القبط وقيل بل آمن طائفة من القبط من قوم فرعون والسحرة كلهم وجميع شعب بني إسرائيل ويدل على هذا قوله تعالى فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين فالضمير في قوله إلا ذرية من قومه عائد على فرعون لأن السياق يدل عليه وقيل على موسى لقربه والأول أظهر كما هو مقرر في التفسير وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته
وجبروته وسلطته ومن ملائهم أن ينموا عليهم إليه فيفتنهم عن دينهم قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيدا وإن فرعون لعال في الأرض أي جبار عنيد مستعل بغير الحق وإنه لمن المسرفين أي في جميع أموره وشئونه وأحواله ولكنه جرثومة قد حان إنجعافها وثمرة خبيثة قد آن قطافها ومهجة ملعونة قد حتم اتلافها وعند ذلك قال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين يأمرهم بالتوكل على الله والاستعانة به والالتجاء إليه فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذوا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط ليكونوا على أهبة في الرحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض وقوله واجعلوا بيوتكم قبلة قيل مساجد وقيل معناه كثرة الصلاة فيها قاله مجاهد وأبو مالك وإبراهيم النخعي والربيع والضحاك وزيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن وغيرهم ومعناه على هذا الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة كما قال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى وقيل معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ومعابدهم فأمروا أن يصلوا في بيوتهم عوضا عما فاتهم من إظهار شعار الدين الحق في ذلك الزمان الذي اقتضى حالهم اخفاءه خوفا من فرعون وملائه والمعنى الأول أقوى لقوله وبشر المؤمنين وإن كان لا ينافي الثاني أيضا والله أعلم وقال سعيد بن جبير واجعلوا بيوتكم قبلة أي متقابلة وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون غضبا لله عليه لتكبره عن اتباع الحق وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده واستمراره على الباطل ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي والبرهان القطعي فقال ربنا إنك آتيت فرعون وملأه يعني قومه من القبط ومن كان على ملته ودان بدينه زينة وأمولا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك أي وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا فيحسب الجاهل أنهم على شيء لكون هذه الأموال وهذه الزينة من اللباس والمراكب الحسنة الهنية والدور الأنيقة والقصور المبنية والمآكل الشهية والمناظر البهية والملك العزيز والتمكين والجاه العريض في الدنيا لا الدين ربنا اطمس على أموالهم قال ابن عباس ومجاهد أي أهلكها وقال أبو العالية والربيع بن أنس والضحاك اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت وقال قتادة بلغنا أن زروعهم صارت حجارة وقال محمد بن كعب جعل سكرهم حجارة وقال أيضا صارت
أموالهم كلها حجارة ذكر ذلك لعمر بن عبدالعزيز فقال عمر بن عبدالعزيز لغلام له قم ايتني بكيس فجاءه بكيس فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة رواه ابن أبي حاتم وقوله واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال ابن عباس أي اطبع عليها وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ولبراهينه فاستجاب الله تعالى لها وحققها وتقبلها كما استجاب لنوح في قومه حيث قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ولهذا قال تعالى مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون وملائه وأمن أخوه هارون على دعائه فنزل ذلك منزلة الداعي أيضا قال قد أجبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم فأذن لهم وهو كاره ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له وإنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم وأمرهم الله تعالى فيما ذكره أهل الكتاب أن يستعيروا حليا منهم فأعاروهم شيئا كثيرا فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم طالبين بلاد الشام فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتد غضبه عليهم وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوه ليلحقهم ويمحقهم قال الله تعالى وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي انكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فاتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم قال علماء التفسير لما ركب فرعون في جنوده طالبا بني إسرائيل يقفو أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف فالله أعلم وقيل إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى عليه السلام ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وستا وعشرين سنة شمسية
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود فادركهم عند شروق الشمس وتراءى الجمعان ولم يبق ثم ريب ولا لبس وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون إنا لمدركون وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد الا سلوكه وخوضه وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة وفرعون قد غالقهم وواجههم وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وهم منه في غاية
الخوف والذعر لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والمنكر فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه فقال لهم الرسول الصادق المصدوق كلا إن معي ربي سيهدين وكان في الساقة فتقدم إلى المقدمة ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه ويتزايد زبد اجاجه وهو يقول ههنا أمرت ومعه أخوه هرون ويوشع بن نون وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل وعلمائهم وعبادهم الكبار وقد أوحى الله إليه وجعله نبيا بعد موسى وهرون عليهما السلام كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله ومعهم أيضا مؤمن آل فرعون وهم وقوف وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف ويقال إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر هل يمكن سلوكه فلا يمكن ويقول لموسى عليه السلام يا نبي الله أههنا أمرت فيقول نعم فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم وغضبهم وحنقهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير رب العرش الكريم إلى موسى الكليم أن اضرب بعصاك البحر فلما ضربه يقال إنه قال له انفلق بإذن الله ويقال إنه كناه بأبي خلد فالله أعلم قال الله تعالى فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ويقال إنه انفلق اثنتي عشرة طريقا لكل سبط طريق يسيرون فيه حتى قيل إنه صار أيضا شبابيك ليرى بعضهم بعضا وفي هذا نظر لأن الماء جرم شفاف إذا كان من وارئه ضياء حكاه وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشيء كن فيكون وأمر الله ريح الدبور فلقحت حال البحر فاذهبته حتى صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول والدواب قال الله تعالى ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فاتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى
والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم الشديد المحال أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ويهدي قلوب المؤمنين فلما جاوزوه وجاوزه وخرج آخرهم منه وانفصلوا عنه كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ولا سبيل عليه فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال كما قال وهو الصادق في المقال ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ولقد
نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين فقوله تعالى وأترك البحر رهوا أي ساكنا على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة قاله عبدالله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الأحبار وسماك بن حرب وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين هاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم فأحجم ولم يتقدم وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم لكنه أظهر لجنوده تجلدا وعاملهم معاملة العدا وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه وعلى باطله تابعوه أنظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي الخارجين عن طاعتي وبلدي وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ويرجو أن ينجو وهيهات ويقدم تارة ويحجم تارات فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة حايل فمر بين يدي فحل فرعون لعنه الله فحمحم اليها وأقبل عليها وأسرع جبريل بين يديه فاقتحم البحر واستبق الجواد وقد أجاد فبادر مسرعا هذا وفرعون لا يملك من نفسه ضرا ولا نفعا فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين حتى هم أولهم بالخروج منه فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب البحر بعصاه فضربه فارتد عليهم البحر كما كان فلم ينج منهم إنسان قال الله تعالى وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد واغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد آية عظيمة وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة وقال تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتبعم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وأن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة وترفعه أخرى وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده ماذا أحل الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم ليكون أقر لأعين بني إسرائيل وأشفى لنفوسهم فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به وباشر سكرات الموت أناب حينئذ وتاب وآمن حين لا ينفع نفسا إيمانها كما قال تعالى إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم وقال تعالى فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأو بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون وهكذا دعا
موسى على فرعون وملائه أن يطمس على أموالهم ويشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أي حين لا ينفعهم ذلك ويكون حسرة عليهم وقد قال تعالى لهما أي لموسى وهرون حين دعوا بهذا قد أجيبت دعوتكما فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هرون عليهما السلام ومن ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال فرعون آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال قال لي جبريل لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عند هذه الآية من حديث حماد بن سلمة وقال الترمذي حديث حسن وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن يناله الرحمة ورواه الترمذي وابن جرير من حديث شعبة وقال الترمذي حسن غريب صحيح وأشار ابن جرير في رواية إلى وقفه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمر بن عبدالله بن يعلى الثقفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أغرق الله فرعون أشار بإصبعه ورفع صوته آمنت أنه لا إله إلاالذي آمنت به بنو إسرائيل قال فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه ورواه ابن جرير من حديث أبي خالد به وقد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان وليس بمعروف وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال لي جبريل يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له يعني فرعون وقد أرسله غير واحد من السلف كإبراهيم التيمي وقتادة وميمون بن مهران ويقال إن الضحاك بن قيس خطب به الناس وفي بعض الروايات إن جبريل قال ما بغضت أحدا بغضي لفرعون حين قال أنا ربكم الأعلى ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال وقوله تعالى آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين استفهام إنكار ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك لأنه والله أعلم لو رد إلى الدنيا كما كان لعاد إلى ما كان عليه كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا النار وشاهدوها أنهم يقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين قال الله بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه وإنهم لكاذبون وقوله فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية قال ابن عباس وغير واحد شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون حتى قال بعضهم إنه لا يموت فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع قيل على وجه الماء وقيل على نجوة من الأرض وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه ليتحققوا بذلك هلاكه ويعلموا قدرة الله عليه ولهذا قال فاليوم ننجيك ببدنك أي
مصاحبا درعك المعروفة بك لتكون أي أنت آية لمن خلفك أي من بني إسرائيل دليلا على قدرة الله الذي أهلكه ولهذا قرأ بعض السلف لتكون لمن خلقك آية ويحتمل أن يكون المراد ننجيك مصاحبا لتكون درعك علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وإنك هلكت والله أعلم وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء كما قال الإمام البخاري في صحيحه حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون قال النبي صلى الله عليه وسلم أنتم أحق بموسى منهم فصوموا وأصل هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما والله أعلم
*2* أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون
@ قال الله تعالى فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتو على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم يذكر تعالى ما كان من أمر فرعون وجنوده في غرقهم وكيف سلبهم عزهم ومالهم وأنفسهم وأورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم كما قال كذلك وأورثناها بني إسرائيل وقال ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين وقال ههنا وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون أي أهلك ذلك جميعه وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا وهلك الملك وحاشيته وأمراؤه وجنوده ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا فذكر ابن عبدالحكم في تاريخ مصر أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر على رجالها بسبب أن نساء الأمراء والكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة فكانت لهن السطوة عليهم واستمرت هذه سنة نساء مصر إلى يومك هذا
وعند أهل الكتاب أن بني إسرائيل لما أمروا بالخروج من مصر جعل الله ذلك الشهر أو سنتهم وأمروا أن يذبح كل أهل بيت حملا من الغنم فإن كانوا لا يحتاجون إلى حمل فليشترك الجار وجاره فيه
فإذا ذبحوه فلينضحوا من دمه على أعتاب أبوابهم ليكون علامة لهم على بيوتهم ولا يأكلونه مطبوخا ولكن مشويا برأسه وأكارعه وبطنه ولا يبقوا منه شيئا ولا يكثروا له عظما ولا يخرجوا منه شيئا إلى خارج بيوتهم وليكن خبزهم فطيرا سبعة أيام ابتداؤها من الرابع عشر من الشهر الأول من سنتهم وكان ذلك في فصل الربيع فإذا أكلوا فلتكن أوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم وليأكلوا بسرعة قياما ومهما فضل عن عشائهم فما بقي إلى الغد فليحرقوه بالنار وشرع لهم هذا عيدا لأعقابهم ما دامت التوراة معمولا بها فإذا نسخت بطل شرعها وقد وقع قالوا وقتل الله عز وجل في تلك الليلة أبكار القبط وأبكار دوابهم ليشتغلوا عنهم وخرج بنو إسرائيل حين انتصف النهار وأهل مصر في مناحة عظيمة على أبكار أولادهم وأبكار أموالهم ليس من بيت الا وفيه عويل وحين جاء الوحي إلى موسى خرجوا مسرعين فحملوا العجين قبل اختماره وحملوا الأزواد في الأردية والقوها على عواتقهم وكانوا قد استعاروا من أهل مصر حليا كثيرا فخرجوا وهم ستمائة ألف رجل سوى الذراري بما معهم من الأنعام وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة هذا نص كتابهم وهذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ وهذا العيد عيد الفسخ ولهم عيد الفطير وعيد الحمل وهو أول السنة وهذه الأعياد الثلاثة آكد أعيادهم منصوص عليها في كتابهم ولما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام وخرجوا على طريق بحر سوف وكانوا في النهار يسيرون والسحاب بين أيديهم يسير أمامهم فيه عامود نور وبالليل أمامهم عامود نار فانتهى بهم الطريق إلى ساحل البحر فنزلوا هنالك وأدركهم فرعون وجنوده من المصريين وهم هناك حلول على شاطىء اليم فقلق كثير من بني إسرائيل حتى قال قائلهم كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية وقال موسى عليه السلام لمن قال هذه المقالة لا تخشوا فإن فرعون وجنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا قالوا وأمر الله موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه وأن يقسمه ليدخل بنو إسرائيل في البحر واليبس وصار الماء من ههنا وههنا كالجبلين وصار وسطه يبسا لأن الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم فجاز بنو إسرائيل البحر واتبعهم فرعون وجنوده فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه فرجع الماء كما كان عليهم لكن عند أهل الكتاب أن هذا كان في الليل وأن البحر ارتطم عليهم عند الصبح وهذا من غلطهم وعدم فهمهم في تعريبهم والله أعلم قالوا ولما أغرق الله فرعون وجنوده حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب وقالوا نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود وهو تسبيح طويل قالوا وأخذت مريم النبية أخت هارون دفا بيدها وخرج النساء في أثرها كلهن بدفوف وطبول وجعلت مريم ترتل لهن وتقول سبحان الرب القهار الذي قهر الخيول وركبانها إلقاء في البحر هكذا رأيته في كتابهم
ولعل هذا هو من الذي حمل محمد بن كعب القرظي على زعمه أن مريم بنت عمران أم عيسى هي أخت هرون وموسى مع قوله يا أخت هرون وقد بينا غلطه في ذلك وان هذا لا يمكن أن يقال ولم يتابعه أحد عليه بل كل واحد خالفه فيه ولو قدر أن هذا محفوظ فهذه مريم بنت عمران أخت موسى وهرون عليهما السلام وأم عيسى عليها السلام وافقتها في الأسم واسم الأب واسم الأخ لأنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة لما سأله أهل نجران عن قوله يا أخت هرون فلم يدر ما يقول لهم حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم رواه مسلم وقولهم النبية كما يقال للمرأة من بيت الملك ملكة ومن بيت الإمرة أميرة وإن لم تكن مباشرة شيئا من ذلك فكذا هذه استعارة لها لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها وضربها بالدف في مثل هذا اليوم الذي هو أعظم الأعياد عندهم دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد
وهذا مشروع لنا أيضا في حق النساء لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة يضربان بالدف في أيام منى ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع مولي ظهره اليهم ووجهه إلى الحائط فلما دخل أبو بكر زجرهن وقال ابمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا وهكذا يشرع عندنا في الأعراس ولقدوم الغياب كما هو مقرر في موضعه والله أعلم وذكروا أنهم لما جاوزوا البحر وذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام مكثوا ثلاثة أيام لا يجدون ماء فتكلم من تكلم منهم بسبب ذلك فوجدوا ماء زعاقا أجاجا لم يستطيعوا شربه فأمر الله موسى فأخذ خشبة فوضعها فيه فحلا وساغ شربه وعلمه الرب هنالك فرائض وسننا ووصاه وصايا كثيرة وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز المهيمن على ما عداه من الكتب
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قالوا هذا الجهل والضلال وقد عاينوا من آيات الله وقدرته ما دلهم على صدق ما جاءهم به رسول ذي الجلال والإكرام وذلك أنهم مروا على قوم يعبدون أصناما قيل كانت على صور البقر فكأنهم سألوهم لم يعبدونها فزعموا لهم أنها تنفعهم وتضرهم ويسترزقون بها عند الضرورات فكأن بعض الجهال منهم صدقوهم في ذلك فسألوا نبيهم الكليم الكريم العظيم أن يجعل لهم آلهة كما لأولئك آلهة فقال لهم مبينا لهم أنهم لا يعقلون ولا يهتدون إن هؤلاء متبر ما فيه وباطل ما كانوا يعملون ثم ذكرهم نعمة الله عليهم في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم والشرع والرسول الذي بين أظهرهم وما أحسن به اليهم وما امتن به عليهم من انجائهم من قبضة فرعون الجبار العنيد وإهلاكه إياه وهم ينظرون وتوريثه إياهم ما كان فرعون وملاؤه يجمعونه من الاموال والسعادة وما كانوا يعرشون وبين لهم أنه لا تصلح العبادة الا لله وحده لا شريك له لأنه الخالق الرازق القهار وليس كل بني إسرائيل سأل هذا السؤال بل هذا الضمير عائد على الجنس في قوله وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة أي قال بعضهم كما في قوله وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا فالذين زعموا هذا بعض الناس لا كلهم وقد قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة انكم تركبون سنن الذين من قبلكم ورواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبدالرزاق به ورواه الترمذي عن سعيد بن عبدالرحمن المخزومي عن سفيان بن عيينة عن الزهري به ثم قال حسن صحيح وقد روى ابن جرير من حديث محمد بن اسحق ومعمر وعقيل عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر قال وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قال فمررنا بسدرة خضراء عظيمة قال فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون والمقصود أن موسى عليه السلام لما انفصل من بلاد مصر وواجه بلاد بيت المقدس وجد فيها قوما من الجبارين من الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين وغيرهم فأمرهم موسى عليه السلام بالدخول عليهم ومقاتلتهم واجلائهم اياهم عن بيت المقدس فإن الله كتبه لهم ووعدهم إياه على لسان إبراهيم الخليل أو موسى الكليم الجليل فأبوا ونكلوا عن الجهاد فسلط الله عليهم الخوف والقاهم في التيه يسيرون ويحلون ويرتحلون ويذهبون ويجيئون في مدة من السنين طويلة هي من العدد أربعون كما قال الله تعالى وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فانا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فانها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين يذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم احسانه عليهم بالنعم الدينية والدنيوية ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله ومقاتلة أعدائه فقال يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم أي تنكصوا على أعقابكم وتنكلوا على قتال أعدائكم
فتنقلبوا خاسرين أي فتخسروا بعد الربح وتنقصوا بعد الكمال قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين أي عتاة كفرة متمردين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا فإنا داخلون خافوا من هؤلاء الجبارين وقد عاينوا هلاك فرعون وهو أجبر من هؤلاء وأشد بأسا وأكثر جمعا وأعظم جندا وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة ومذمومون على هذه الحالة من الذلة عن مصاولة الاعداء ومقاومة المردة الأشقياء
وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا آثارا فيها مجازفات كثيرة باطلة يدل العقل والنقل على خلافها من أنهم كانوا أشكالا هائلة ضخاما جدا حتى إنهم ذكروا أن رسل بني إسرائيل لما قدموا عليهم تلقاهم رجل من رسل الجبارين فجعل يأخذهم واحدا واحدا ويلفهم في أكمامه وحجزة سراويله وهم إثنا عشر رجلا فجاء بهم فنثرهم بين يدي ملك الجبارين فقال ما هؤلاء ولم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرفوه وكل هذه هذيانات وخرافات لا حقيقة لها وأن الملك بعث معهم عنبا كل عنبة تكفي الرجل وشيئا من ثمارهم ليعلموا ضخامة أشكالهم وهذا ليس بصحيح وذكروا ههنا أن عوج بن عنق خرج من عند الجبارين إلى بني إسرائيل ليهلكهم وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة ذراع وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع هكذا ذكره البغوي وغيره وليس بصحيح كما قدمنا بيانه عند قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن قالوا فعمد عوج إلى قمة جبل فاقتلعها ثم أخذها بيديه ليلقيها على جيش موسى فجاء طائر فنقر تلك الصخرة فخرقها صارت طوقا في عنق عوج بن عنق ثم عمد موسى إليه فوثب في الهواء عشرة أذرع وطوله عشرة أذرع وبيده عصاه وطولها عشرة أذرع فوصل إلى كعب قدمه فقتله يروى هذا عن عوف البكالي ونقله ابن جرير عن ابن عباس وفي إسناده إليه نظر ثم هو مع هذا كله من الإسرائيليات وكل هذه من وضع جهال بني إسرائيل فإن الأخبار الكذبة قد كثرت عندهم ولا تميز لهم بين صحتها وباطلها ثم لو كان هذا صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم وقد ذمهم الله على نكولهم وعاقبهم بالتيه على ترك جهادهم ومخالفتهم رسولهم وقد أشار عليهم رجلان صالحان منهم بالاقدام ونهياهم عن الاحجام ويقال إنهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنا قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطية والسدي والربيع بن أنس وغير واحد قال رجلان من الذين يخافون أي يخافون الله وقرأ بعضهم يخافون أي يهابون أنعم الله عليهما أي بالإسلام والإيمان والطاعة والشجاعة ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين أي إذا توكلتم على الله واستعنتم به ولجأتم إليه نصركم على عدوكم وأيدكم عليهم وأظفركم بهم قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون فصمم ملاؤهم علىالنكول عن الجهاد ووقع أمر عظيم ووهن كبير فيقال إن يوشع وكالب لما سمعا هذا
الكلام شقا ثيابهما وإن موسى وهرون سجدا إعظاما لهذا الكلام وغضبا لله عز وجل وشفقة عليهم من وبيل هذه المقالة قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال ابن عباس اقض بيني وبينهم قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرص فلا تأس على القوم الفاسقين عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض يسيروا إلى غير مقصد ليلا ونهارا وصباحا ومساء ويقال إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة ولم يبق إلا ذراريهم سوى يوشع وكالب عليهما السلام لكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر لم يقولوا له كما قال قوم موسى لموسى بل لما استشارهم في الذهاب إلى النفير تكلم الصديق فأحسن وغيره من المهاجرين ثم جعل يقول أشيروا علي حتى قال سعد بن معاذ كأنك تعرض بنا يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن يلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد وبسطه ذلك وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن مخارق بن عبدالله الأحمسي عن طارق هو ابن شهاب أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون وهذا إسناد جيد من هذا الوجه وله طرق أخرى قال أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال قال عبدالله بن مسعود لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحب إلى مما عدل به أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين قال والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وسر بذلك رواه البخاري في التفسير والمغازي من طرق عن مخارق به وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا علي بن الحسن بن علي حدثنا أبو حاتم الرازي حدثنا محمد بن عبدالله الأنصاري حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين فأشار عليه عمر ثم استشارهم فقالت الأنصار يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إذا لا نقول له كما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون والذي بعثك بالحق إن ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك رواه الإمام أحمد عن عبيدة بن حميد عن حميد الطويل عن أنس به ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث عن حميد عن أنس به نحوه وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى عن عبدالأعلى بن حماد عن معتمر عن حميد عن أنس به نحوه
*2* دخول بني إسرائيل التيه وما فيه من الأمور العجيبة
@ قد ذكرنا نكول بني إسرائيل عن قتال الجبارين وأن الله تعالى عاقبهم بالتيه وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة ولم أر في كتاب أهل الكتاب قصة نكولهم عن قتال الجبارين ولكن فيها أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار وأن موسى وهرون وخور جلسوا على رأس أكمة ورفع موسى عصاه فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه غلبهم أولئك وجعل هرون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس فانتصر حزب يوشع عليه السلام وعندهم أن يثرون كلهن مدين وختن موسى عليه السلام بلغه ما كان من أمر موسى وكيف أظفره الله بعدوه فرعون فقدم على موسى مسلما ومعه ابنته صفورا زوجة موسى وابناها منه جرشون وعازر فتلقاه موسى وأكرمه واجتمع به شيوخ بني إسرائيل وعظموه وأجلوه وذكروا أنه رأى كثرة اجتماع بني إسرائيل على موسى في الخصومات التي تقع بينهم فأشار على موسى أن يجعل على الناس رجالا أمناء أتقياء أعفاء يبغضون الرشاء والخيانة فيجعلهم على الناس رؤس ألوف ورؤس مئين ورؤس خمسين ورؤس عشرة فيقضوا بين الناس فإذا أشكل عليهم أمر جاؤك ففصلت بينهم ما أشكل عليهم ففعل ذلك موسى عليه السلام قالوا ودخل بنو إسرائيل البرية عند سيناء في الشهر الثالث من خروجهم من مصر وكان خروجهم في أول السنة التي شرعت لهم وهي أول فصل الربيع فكأنهم دخلوا التيه في أول فصل الصيف والله أعلم قالوا ونزل بنو إسرائيل حول طور سيناء وصعد موسى الجبل فكلمه ربه وأمره أن يذكر بني إسرائيل ما أنعم الله به عليهم من أنجائه إياهم من فرعون وقومه وكيف حملهم على مثل جناحي نسر من يده وقبضته وأمره أن يأمر بني إسرائيل بأن يتطهروا ويغتسلوا ويغسلوا ثيابهم وليستعدوا إلى اليوم الثالث فإذا كان في اليوم الثالث فليجتمعوا حول الجبل ولا يقتربن أحد منهم إليه فمن دنا منه قتل حتى ولا شيء من البهائم ما داموا يسمعون صوت القرن فإذا سكن القرن فقد حل لكم أن ترتقوه فسمع بنو إسرائيل ذلك وأطاعوا واغتسلوا وتنظفوا وتطيبوا فلما كان اليوم الثالث ركب الجبل غمامة عظيمة وفيها أصوات وبروق وصوت الصور شديد جدا ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعا شديدا وخرجوا فقاموا في سفح الجبل وغشى الجبل دخان عظيم في وسطه عمود نور وتزلزل الجبل كله زلزلة شديدة واستمر صوت الصور وهو البوق واشتد وموسى عليه السلام فوق الجبل والله يكلمه ويناجيه وأمر الرب عز وجل موسى أن ينزل فأمر بني إسرائيل أن يقتربوا من الجبل ليسمعوا وصية الله ويأمر الاحبار وهم علمائهم أن يدنوا فيصعدوا الجبل ليقدموا بالقرب وهذا نص في كتابهم على وقوع
النسخ لا محالة فقال موسى يا رب إنهم لا يستطيعون أن يصعدوه وقد نهيتهم عن ذلك فأمره الله تعالى أن يذهب فيأتي معه بأخيه هرون وليكن الكهنة وهم العلماء والشعب وهم بقية بني إسرائيل غير بعيد ففعل موسى وكلمه ربه عز وجل فأمره حينئذ بالعشر كلمات
وعندهم أن بني إسرائيل سمعوا كلام الله ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى وجعلوا يقولون لموسى بلغنا أنت عن الرب عز وجل فانا نخاف أن نموت فبلغهم عنه فقال هذه العشر الكلمات وهي الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن الحلف بالله كاذبا والأمر بالمحافظة على السبت ومعناه تفرغ يوم من الأسبوع للعبادة وهذا حاصل بيوم الجمعة الذي نسخ الله به السبت أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض الذي يعطيك الله ربك لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد على صاحبك شهادة زور لا تمد عينك إلى بيت صاحبك ولا تشته امرأة صاحبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا من الذي لصاحبك ومعناه النهي عن الحسد وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم مضمون هذه العشر الكلمات في آيتين من القرآن وهما قوله تعالى في سورة الأنعام قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي وبعهد الله أوفوا ذلك وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة وأحكاما متفرقة عزيزة كانت فزالت وعملت بها حينا من الدهر ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها ثم عمدوا إليها فبدلوها وحرفوها وأولوها ثم بعد ذلك كله سلبوها فصارت منسوخة مبدلة بعد ما كانت مشروعة مكملة فلله الأمر من قبل ومن بعد وهو الذي يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد الا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وقد قال الله تعالى يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى يذكر تعالى منته وإحسانه إلى بني إسرائيل بما أنجاهم من أعدائهم وخلصهم من الضيق والحرج وأنه وعدهم صحبة نبيهم إلى جانب الطور الأيمن أي منهم لينزل عليه أحكاما عظيمة فيها مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وأنه تعالى أنزل عليهم في حال شدتهم وضرورتهم في سفرهم في الأرض التي ليس فيها زرع ولا ضرع منا من السماء يصبحون فيجدونه خلال بيوتهم فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى مثله من الغد ومن ادخر منه لأكثر من ذلك فسد ومن أخذ منه قليلا كفاه أو كثيرا لم يفضل عنه فيصنعون منه مثل الخبز وهو
في غاية البياض والحلاوة فإذا كان من آخر النهار غشيهم طير السلوى فيقتنصون منه بلا كلفة ما يحتاجون إليه حسب كفايتهم لعشاهم وإذا كان فصل الصيف ظلل الله عليهم الغمام وهو السحاب الذي يستر عنهم حر الشمس وضوأها الباهر كما قال تعالى في سورة البقرة يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون إلى أن قال وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوي كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إلى أن قال وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فذكر تعالى إنعامه عليهم وإحسانه إليهم بما يسر لهم من المن والسلوى طعامين شهيين بلا كلفة ولا سعي لهم فيه بل ينزل الله المن باكرا ويرسل عليهم طير السلوى عشيا وأنبع الماء لهم بضرب موسى عليه السلام حجرا كانوا يحملونه معهم بالعصا فتفجر منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين منه تنبجس ثم تنفجر ماءا زلالا فيستقون ويسقون دولبهم ويدخرون كفايتهم وظلل عليهم الغمام من الحر وهذه نعم من الله عظيمة وعطيات جسيمة فما رعوها حق رعايتها ولا قاموا بشكرها وحق عبادتها ثم ضجر كثير منها وتبرموا بها وسألوا أن يستبدلوا منها ببدلها مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها فقرعهم الكليم ووبخهم وأنبهم على هذه المقالة وعنفهم قائلا أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم أي هذا الذي تطلبونه وتريدونه بدل هذه النعم التي فيها حاصل لأهل الأمصار الصغار والكبار موجود بها وإذا هبطتم إليها أي ونزلتم عن هذه المرتبة التي لا تصلحون لمنصبها تجدوا بها ما تشتهون وما ترومون مما ذكرتم من المآكل الدنية
والأغذية الردية ولكني لست أجيبكم إلى سؤال ذلك ههنا ولا أبلغكم ما تعنتم به من المنى وكل هذه الصفات المذكورة عنهم الصادرة منهم تدل على أنهم لم ينتهوا عما نهوا عنه كما قال تعالى ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى أي فقد هلك وحق له والله الهلاك والدمار وقد حل عليه غضب الملك الجبار ولكنه تعالى مزج هذا الوعيد الشديد بالرجاء لمن أناب وتاب ولم يستمر على متابعة الشيطان المريد فقال وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى
*2* سؤال الرؤية
@ قال الله تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة واتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وأن يرو سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون الا ما كانوا يعملون قال جماعة من السلف منهم ابن عباس ومسروق ومجاهد الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله واتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر وفي مثله أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه وأقام حجته وبراهينه والمقصود أن موسى عليه السلام لما استكمل الميقات وكان فيه صائما يقال إنه لم يستطعم الطعام فلما كمل الشهر أخذ لحا شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه فأمر الله أن يمسك عشرا أخرى فصارت أربعين ليلة ولهذا ثبت في الحديث أن خلو فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هرون المحبب المبجل الجليل وهو ابن أمه وأبيه ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه فوصاه وأمره وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة قال الله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا أي في الوقت الذي أمر بالمجىء فيه وكلمه ربه أي كمله الله من وراء حجاب الا أنه أسمعه الخطاب فناداه وناجاه وقربه وأدناه وهذا مقام رفيع ومعقل منيع ومنصب شريف ومنزل منيف فصلوات الله عليه تترى وسلامه عليه في الدنيا والأخرى ولما أعطى هذه المنزلة
العلية والمرتبة السنية وسمع الخطاب سأل رفع الحجاب فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار القوى البرهان ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا وأشد ثباتا من الإنسان لا يثبت عند التجلي من الرحمان ولهذا قال ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال له يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حجابه النور وفي رواية النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقال ابن عباس في قوله تعالى لا تدركه الأبصار ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء ولهذا قال تعالى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال مجاهد ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فإنه أكبر منك وأشد خلقا فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ابن جرير والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت زاد ابن جرير وليث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال هكذا بإصبعه ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل لفظ ابن جرير وقال السدي عن عكرمة وعن ابن عباس ما تجلى يعني من العظمة إلا قدر الخنصر فجعل الجبل دكا قال ترابا وخر موسى صعقا أي مغشيا عليه وقال قتادة ميتا والصحيح الأول لقوله فلما أفاق فإن الإفاقة إنما تكون عن غشي قال سبحانك تنزيه وتعظيم وإجلال إن يراه بعظمته أحد تبت إليك أي فلست أسأل بعد هذا الرؤية وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده وقد ثبت في الصحيحين من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن ابي حسن المازني الأنصاري عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور لقظ البخاري وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الأنصاري حين قال لا والذي اصطفى موسى على البشر فقال رسول الله لا تخيروني من بين الأنبياء وفي الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة وعبدالرحمن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وفيه لا تخيروني على موسى وذكر تمامه وهذا من باب الهضم والتواضع أو نهي عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب والعصبية أو ليس هذا إليكم بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات وليس ينال هذا بمجرد الرأي بل بالتوقيف ومن قال إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل ثم نسخ باطلاعه على أفضليته
عليهم كلهم ففي قوله نظر لان هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخرا فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا والله اعلم ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه أفضل البشر بل الخليقة قال الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وما كملوا إلا بشرف نبيهم وثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون حتى أولو العزم إلا كملون نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وقوله صلى الله عليه وسلم فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش أي آخذا بها فلا أدري أفاق قبلي ام جوزي بصعقة الطور دليل على أن هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلال فيكون أولهم إفاقة محمد خاتم الأنبياء ومصطفى رب الأرض والسماء على سائر الأنبياء فيجد موسى باطشا بقائمة العرش قال الصادق المصدوق لا أدري أصعق فأفاق قبلي أي كانت صعقته خفيقة لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق أو جوزي بصعقة الطور يعني فلم يصعق بالكلية وهذا شرف كبير لموسى عليه السلام من هذه الحيثية ولا يلزم تفضيله بها مطلقا من كل وجه ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال لا والذي اصطفى موسى على الشر قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى عليه السلام فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته وشرفه وقوله تعالى قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي أي في ذلك الزمان لا ما قبله لان إبراهيم الخليل أفضل منه كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم ولا ما بعده لان محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منهما كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء وكما ثبت أنه قال سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق حتى إبراهيم وقوله تعالى فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين أي فخذ ما أعطيتك من الرسالة والكلام ولا تسأل زيادة عليه وكن من الشاكرين على ذلك قال الله تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء وكانت الالواح من جوهر نفيس ففي الصحيح أن الله كتب له التوراة بيده وفيها مواعظ عن الاثام وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام فخذها بقوة أي بعزم ونية صادقة قوية وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي يضعوها على أحسن وجوهها وأجمل محاملها سأريكم دار الفاسقين أي ستروا عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لامري المكذبين لرسلي سأصرف عن آياتي عن فهمها وتدبرها وتعقل معناها الذي أريد منها ودل عليه مقتضاها الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها أي ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق والمعجزات لا ينقادوا لاتباعها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا أي لا يسلكوه ولا يتبعوه وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا أي صرفناهم
عن ذلك لتكذيبهم بآياتنا وتغافلهم عنها وإعراضهم عن التصصديق بها والتفكر في معناها وترك العمل بمقتضاها والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون
*2* قصة عبادتهم العجل في غيبة موسى
@ قال الله تعالى واخذ قوم موسى من بعده مل حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأو أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس اخيه يجره إليه قال يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وادخلنا في رحمتك وأنت ارحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ولما سكت عن موسى الغضب اخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقال تعالى وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فأنا قد فتنا قومك من بعدك واضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فاخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا حسدا له خوار فقالوا هذا إلهمكم وإلهكم موسى فنسي أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمري قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن لا تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما يذكر تعالى ما كان من امر بني إسرائيل حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه فمكث على الطور يناجيه ربه ويسأله موسى عليه السالم عن أشياء كثيرة وهو تعالى يجيبه عنها فعمد رجل منهم يقال له هرون السامري فأخذ ما كان استعاره من الحلي فصاغ منه عجلا وألقى فيه قبضة من التراب كان أخذها من اثر فرس جبريل حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه فلما ألقاها فيه خار كما
بخور العجل الحقيقي ويقال إنه استحال عجلا جسدا أي لحما ودما حيا يخور قاله قتادة وغيره وقيل بل كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة فيرقصون حوله ويفرحون فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أي فنسي موسى ربه عندنا وذهب يتطلبه وهو ههنا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وتقدست أسماؤه وصفاته وتضاعفت آلاؤه وعداته قال الله تعالى مبينا بطلان ما ذهبوا إليه وما عولوا عليه من الهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيوانا بهيما وشيطانا رجيما أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا وقال ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جوابا ولا يملك ضرا ولا نفعا ولا يهدي إلى رشد اتخذوه وهم ظالمون لانفسهم عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال ولما سقط في أيديهم أي ندموا على ما صنعوا ورأوا أنهم قد أضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى عليه السلام إليهم ورأى ما هم عليه من عبادة العجل ومعه الألواح المتضمنة التوراة القاها فيقال إنه كسرها وهكذا هو عند أهل الكتاب وإن الله أبدله غيرها وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك إلا أنه القاها حين عاين ما عاين وعند أهل الكتاب أنهما كانا لوحين وظاهر القرآن أنها الواح متعددة ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى عن عبادة العجل فأمره بمعاينة ذلك ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الخبر كالمعاينة ثم أقبل عليهم فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح قالوا إنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري تحرجوا من تملك حلى آل فرعون وهم أهل حرب وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد الذي له خوار مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار ثم أقبل على أخيه هرون عليهما السلام قائلا له يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أي هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فاعلمتني بما فعلوا فقال إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل أي تركتهم وجئتني وأنت قد استخلفتني فيهم قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين وقد كان هرون عليه السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي وزجرهم عنه أتم الزجر قال الله تعالى ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به أي إنما قدر الله أمر هذا العجل وجعله يخور فتنة واختبارا لكم وإن ربكم الرحمن أي لا هذا فاتبعوني أي فيما أقول لكم وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى يشهد الله لهرون عليه السلام وكفى بالله شهيدا أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك فلم يطيعوه ولم يتبعوه ثم أقبل موسى على السامري قال ما خطبك يا سامري أي ما حملك على ما صنعت قال بصرت بما لم يبصروا به أي رأيت جبرائيل وهو راكب
فرسا فقبضت قبضة من أثر الرسول أي من أثر فرس جبريل وقد ذكر بعضهم أنه رآه وكلما وطئت بحوافرها على موضع اخضر وأعشب فأخذ من أثر حافرها فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب كان من أمره ما كان ولهذا قال فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وهذا دعاء عليه بأن لا يمس أحدا معاقبة له على مسه مالم يكن له مسه هذا معاقبة له في الدنيا ثم توعده في الأخرى فقال وإن لك موعدا لن تخلفه وقرىء لن نخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا قال فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل فحرقه بالنار كما قاله قتادة وغيره وقيل بالمبارد كما قاله علي وابن عباس وغيرهما وهو نص أهل الكتاب ثم ذراه في البحر وأمر بني إسرائيل فشربوا فمن كان من عابديه علق على شفاههم من ذلك الرماد منه ما يدل عليه وقيل بل اصفرت ألوانهم ثم قال تعالى اخبارا عن موسى أنه قال لهم إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما وقال تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزى المفترين وهكذا وقع وقد قال بعض السلف وكذلك نجزي المفترين مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيمة ثم أخبر تعالى عن حلمه ورحمته بخلقه وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه بتوبته عليه فقال والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم لكم لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل كما قال تعالى وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلك خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم فيقال إنهم أصبحوا يوما وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف وألقى الله عليه ضبابا حتى لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم فيقال إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفا ثم قال تعالى ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون استدل بعضهم بقوله وفي نسختها على انها تكسرت وفي هذا الاستدلال نظر وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت والله أعلم وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون كما سيأتي أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر وما هو ببعيد لأنهم حين خرجوا قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة
وهكذا عند أهل الكتاب فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف ثم ذهب موسى يستغفر لهم فغفر لهم بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة
إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ذكر السدي وابن عباس وغيرهما أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني اسرائيل ومعهم موسى وهرون ويوشع وناداب وابيهو ذهبوا مع موسى عليه السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا فلما ذهبوا معه واقتربوا من الجبل وعليه الغمام وعمود النور ساطع وصعد موسى الجبل فذكر بنو إسرائيل أنهم سمعوا كلام الله وهذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين وحملوا عليه قوله تعالى وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون وليس هذا بلازم لقوله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله أي مبلغا وهكذا هؤلاء سمعوه مبلغا عن موسى عليه السلام وزعموا أيضا أن السبعين رأوا الله وهذا غلط منهم لأنهم لما سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة كما قال تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وقال ههنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي الآية قال محمد بن اسحق اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فطلب منه السبعون أن يسمعوا كلام الله فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فدخل في الغمام وقال للقوم أدنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمر وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل اليهم قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا فانا براء مما عملوا وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل وقوله إن هي إلا فتنتك أي اختبارك وابتلاؤك وامتحانك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف يعني أنت الذي قدرت هذا وخلقت ما كان من أمر العجل اختبارا تختبرهم
به كما قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به أي أختبرتم ولهذا قال تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي من شئت أضللته باختبارك إياه ومن شئت هديته لك الحكم والمشيئة ولا مانع ولا راد لما حكمت وقضيت أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا اليك أي تبنا إليك ورجعنا وأنبنا قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية وإبراهيم التيمي والضحاك والسدي وقتادة وغير واحد وهو كذلك في اللغة قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور التي أخلقها وأقدرها ورحمتي وسعت كل شيء أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور التي أخلقها وأقدرها ورحمتي وسعت كل شيء كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ان الله لما فرغ من خلق السموات والأرض كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش ان رحمتي تغلب غضبي فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون أي فسأوحيها حتما لمن يتصف بهذه الصفات الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الآية وهذا فيه تنويه بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وامته من الله لموسى عليه السلام في جملة ما ناجاه به وأعلمه وأطلعه عليه وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في التفسير بما فيه كفاية ومقنع ولله الحمد والمنة وقال قتادة قال موسى يا رب أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه وان الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا عن الأمم قال رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها وكان من قبلهم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وان الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم قال رب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعماية ضعف قال رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في السلام نبذ الألواح وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه السلام وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها ونحن نذكر ما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار بعون الله وتوفيقه وحسن هدايته ومعونته وتأييده
قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان في صحيحه ذكر سؤال كليم الله ربه عز وجل عن أدنى أهل الجنة وأرفعهم منزلة أخبرنا عمر بن سعيد الطائي بمنبج حدثنا حامد بن يحيى البلخي حدثنا سفيان حدثنا مطرف بن طريف وعبدالملك بن أبجر شيخان صالحان سمعنا الشعبي يقول سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل أي أهل الجنة أدنى منزلة فقال رجل يجي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال أدخل الجنة فيقول كيف أدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا إخاذاتهم فيقال له ترضى أن يكون لك من الجنة مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا فيقول نعم أي رب فيقال لك هذا ومثله ومثه فيقول أي رب رضيت فيقال له لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك وسأل ربه أي أهل الجنة أرفع منزلة قال سأحدثك عنهم غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين الآية وهكذا رواه مسلم والترمذي كلاهما عن ابن أبي عمر عن سفيان وهو ابن عيينة به ولفظ مسلم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول في الخامسة رضيت رب فيقال هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت رب قال رب فاعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال ومصداقه من كتاب الله فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون وقال الترمذي حسن صحيح قال ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة فلم يرفعه والمرفوع أصح وقال ابن حبان ذكر سؤال الكليم ربه عن خصال سبع حدثنا عبدالله بن محمد بن مسلم ببيت المقدس حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا السمح حدثه عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سأل موسى ربه عز وجل عن ست خصال كان يظن أنها له خالصة والسابعة لم يكن موسى يحبها قال يا رب أي عبادك أتقى قال الذي يذكر ولا ينسى قال فأي عبادك أهدى قال الذي يتبع الهدى قال فأي عبادك أحكم قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال فأي عبادك أعلم قال عالم لا يشبع من العلم يجمع علم الناس إلى علمه قال فأي عبادك أعز قال الذي إذا قدر غفر قال فأي عبادك أغنى قال الذي يرضى بما يؤتى قال فأي عبادك أفقر قال صاحب منقوص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الغنى عن ظهر إنما الغنى غنى النفس وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه وإذا أراد بعبد شرا جعل فقره بين عينيه قال ابن حبان قوله صاحب منقوص يريد به منقوص حالته يستقل ما أوتى ويطلب الفضل وقد رواه ابن جرير في تاريخه عن ابن حميد عن يعقوب التميمي عن هرون بن عبيرة عن أبيه عن ابن عباس قال سأل موسى ربه عز وجل فذكر نحوه وفيه قال أي رب فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس
إلى علمه عسى أن يجد كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال أي رب فهل في الأرض أحد أعلم مني قال نعم الخضر فسأل السبيل إلى لقيه فكان ما سنذكره بعد إن شاء الله وبه الثقة
*2* حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان
@ قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن اسحق حدثنا بن لهيعة عن راج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن موسى قال أي رب عبدك المؤمن مقتر عليه في الدنيا قال ففتح له باب من الجنة فنظر إليها قال يا موسى هذا ما أعددت له فقال موسى يا رب وعزتك وجلالك لو كان مقطع اليدين والرجلين يسحب على وجهه منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة وكان هذا مصيره لم ير بؤسا قط قال ثم قال أي رب عبدك الكافر موسع عليه في الدنيا قال ففتح له باب إلى النار فيقول يا موسى هذا ما أعددت له فقال أي رب وعزتك وجلالك لو كانت له الدنيا منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة وكان هذا مصيره لم ير خيرا قط تفرد به أحمد من هذا الوجه وفي صحته نظر والله أعلم وقال ابن حبان ذكر سؤال كليم الله ربه جل وعلا أن يعلمه شيئا يذكره به حدثنا ابن سلمة حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث إن دراجا حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قال موسى يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال قل يا موسى لا إله إلا الله قال يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال إنما أريد شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن أهل السموات السبع والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم لا إله إلا الله ويشهد لهذا الحديث حديث البطاقة وأقرب شيء إلى معناه الحديث المروي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الدعاء دعاء عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وقال ابن أبي حاتم عند تفسير آية الكرسي حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثنا أحمد بن عبدالرحمن الدسكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن اسحق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى هل ينام ربك قال اتقوا الله فناداه ربه يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك قال وأنزل الله على رسوله آية الكرسي وقال ابن جرير حدثنا اسحق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن ابان عن عكرمة عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر قال وقع في نفس موسى عليه السلام هل ينام الله عز وجل فأرسل
الله إليه ملكا فارقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وكادت يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان قال ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم يستمسك السماء والأرض وهذا حديث غريب رفعه والأشبه أن يكون موقوفا وأن يكون أصله إسرائيليا وقال الله تعالى وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين وقال تعالى وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون قال ابن عباس وغير واحد من السلف لما جاءهم موسى بالألواح فيها التوارة أمرهم بقبولها والأخذ بها بقوة وعزم فقالوا أنشرها علينا فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها فقال بل أقبلوها بما فيها فراجعوه مرارا فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل على رؤسهم حتى صار كأنه ظلة أي غمامة على رؤسهم وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها وإلا سقط هذا الجبل عليكم فقبلوا ذلك وأمروا بالسجود فسجدوا فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم فصارت سنة لليهود إلى اليوم يقولون لا سجدة أعظم من سجدة رفعت عنا العذاب وقال سنيد بن داود عن حجاج بن محمد عن أبي بكر بن عبدالله قال فلما نشرها لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز فليس على وجه الأرض يهودي صغير ولا كبير تقرأ عليه التوارة إلا اهتز ونفض لها رأسه قال الله تعالى ثم توليتم من بعد ذلك أي ثم بعد مشاهدة هذا الميثاق العظيم والأمر الجسيم نكتثم عهودكم ومواثيقكم فلولا فضل الله عليكم ورحمته بان تدارككم بالارسال اليكم وانزال الكتب عليكم لكنتم من الخاسرين
*2* قصة بقرة بني إسرائيل
@ قال الله تعالى واذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون قال ابن عباس وعبيدة السلماني وأبو العالية ومجاهد والسدي وغير واحد من السلف كان رجل في بني إسرائيل كثير المال وكان شيخا كبيرا وله
بنوا أخ وكانوا يتمنون موته ليرثوه فعمد أحدهم فقتله في الليل وطرحه في مجمع الطرق ويقال على باب رجل منهم فلما أصبح الناس اختصموا فيه وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم فقالوا ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله فجاء ابن أخيه فشكى أمر عمه إلى رسول الله موسى عليه السلام فقال موسى عليه السلام أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به فلم يكن عند أحد منهم علم منه وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه عز وجل فسأل ربه عز وجل في ذلك فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة فقال إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا يعنون نحن نسألك عن أمر هذا القتيل وأنت تقول هذا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين أي أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي وهذا هو الذي أجابني حين سألته عما سألتموني عنه أن أسأله فيه قال ابن عباس وعبيدة ومجاهد وعكرمة والسدي وأبو العالية وغير واحد فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها ولكنهم شددوا فشدد عليهم وقد ورد فيه حديث مرفوع وفي إسناده ضعف فسألوا عن صفتها ثم عن لونها ثم عن سنها فأجيبوا بما عز وجوده عليهم وقد ذكرنا في تفسير ذلك كله في التفسير والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان وهي الوسط بين النصف الفارض وهي الكبيرة والبكر وهي الصغيرة قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والحسن وقتادة وجماعة ثم شددوا وضيقوا على أنفسهم فسألوا عن لونها فأمروا بصفراء فاقع لونها أي مشرب بحمرة تسر الناظرين وهذا اللون عزيز ثم شددوا أيضا فقالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا وانا إن شاء الله لمهتدون ففي الحديث المرفوع الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه لولا أن بني إسرائيل استثنوا لما أعطوا وفي صحته نظر والله أعلم قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا ألآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون وهذه الصفات أضيق مما تقدم حيث أمروا بذبح بقرة ليست بالذلول وهي المذللة بالحراثة وسقى الأرض بالسانية مسلمة وهي الصحيحة التي لا عيب فيها قاله أبو العالية وقتادة وقوله لا شية فيها أي ليس فيها لون يخالف لونها بل هي مسلمة من العيوب ومن مخالطة سائر الألوان غير لونها فلما حددها بهذه الصفات وحصرها بهذه النعوت والأوصاف قالوا الآن جئت بالحق ويقال إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارا بأبيه فطلبوها منه فأبى عليهم فارغبوه في ثمنها حتى أعطوه فيما ذكر السدي بوزنها ذهبا فأبى عليهم حتى أعطوه بوزنها عشر مرات فباعها منهم فأمرهم نبي الله موسى بذبحها فذبحوها وما كادوا يفعلون أي وهم يترددون في أمرها ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها قيل بلحم فخذها وقيل بالعظم الذي يلي الغضروف وقيل بالبضعة التي بين الكتفين فلما ضربوه ببعضها أحياه الله تعالى فقام وهو يشخب أوداجه فسأله نبي الله من قتلك قال قتلني ابن أخي ثم عاد ميتا كما كان قال الله تعالى
كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون أي كما شاهدتم إحياء هذا القتيل عن أمر الله له كذلك أمره في سائر الموتى إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة كما قال ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة الآية
*2* قصة موسى والخضر عليهما السلام
@ قال الله تعالى وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شي حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا حتى اذا ركبا في السفينة خرقها قال اخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا امرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عزرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فاردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا
قال بعض أهل الكتاب إن موسى هذا الذي رحل إلى الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم الخليل وتابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم وينقل عن كتبهم منهم نوف بن فضالة الحميري الشامي البكالي ويقال إنه دمشقي وكانت أمه زوجة كعب الأحبار والصحيح الذي دل عليه ظاهر سياق القرآن ونص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه أنه موسى بن عمران صاحب بني إسرائيل قال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمر بن دينار أخبرني سعيد بن
جبير قال قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل قال ابن عباس كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب وكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا وامسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر واني بارضك السلام قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه انت وانت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه فقال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال له الخضر فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلمهم ان يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول فلما ركبا في السفينة لم يفجأ الا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم فقال له موسى قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا امرا قال ألم أقل إنك لن تستيطع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأولى من موسى نسيانا قال وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر ما علمي وعلمك في علم الله الا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ بصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تسطيع معي صبرا قال وهذه أشد من الأولى قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض قال مائل فقال الخضر بيده فأقامه فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل
ما لم تستطع عليه صبرا قال ارسول الله صلى الله عليه وسلم وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما قال سعيد بن جبير فكان ابن عباس يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ثم رواه البخاري أيضا عن قتيبة عن سفيان بن عيينة بإسناده نحوه وفيه فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها قال فوضع موسى رأسه فنام قال سفيان وفي حديث غير عمرو قال وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حي فأصاب الحوت من ماء تلك العين قال فتحرك وانسل من المكتل ودخل البحر فلما استيقظ قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا وساق الحديق وقال ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر فقال الخضر لموسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمام الحديث وقال البخاري حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه وغيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد بن جبير قال إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال سلوني فقلت أي أبا عباس جعلني الله فداك بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل أما عمرو فقال لي قال قد كذب عدو الله وأما يعلى فقال لي قال ابن عباس حدثني أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى رسول الله قال ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك قال لا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله قيل بلى قال أي رب فأين قال بمجمع البحرين قال أي رب اجعل لي علما أعلم ذلك به قال لي عمرو قال حيث يفارقك الحوت وقال لي يعلى قال خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح فأخذ حوتا فجعله في مكتل فقال لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال ما كلفت كبيرا فذلك قوله وإذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون ليست عن سعيد بن جبير قال فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره وتضرب الحوت حتى دخل البحر فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر قال لي عمرو هكذا كان أثره في حجر وحلق بين ابهاميه واللتين تليان لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال وقد قطع الله عنك النصب ليست هذه عن سعيد أخبره فرجعا فوجدا خضرا قال لي عثمان بن أبي سليمان على طنفسة خضراء على كبد البحر قال سعيد مسجى بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال هل بأرض من سلام من أنت قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم قال فما شأنك قال جئتك لتعلمني مما علمت رشدا قال أما يكفيك أن التوارة بيديك وأن الوحي يأتيك يا موسى إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه فاخذ طائر بمنقاره من البحر فقال والله ما علمي وعلمك
في جنب علم الله إلا كما أخذ هذاالطائر بمنقاره من البحر حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر عرفوه فقالوا عبدالله الصالح قال فقلنا لسعيد خضر قال نعم لا نحمله بأجر فخرقها ووتد فيها وتدا قال موسى أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال مجاهد منكرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا كانت الأولى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال يعلى قال سعيد وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا ظريفا فاضجعه ثم ذبحه بالسكين قال أقتلت نفسا زكية لم تعمل بالخبث ابن عباس قرأها زكية زاكية مسلمة كقولك غلاما زكيا فانطلقا فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال بيده هكذا ورفع يده فاستقام قال يعلى حسبت أن سعيدا قال فمسحه بيده فاستقام قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال سعيد أجرا نأكله وكان وراءهم وكان أمامهم قرأها ابن عباس أمامهم ملك يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد والغلام المقتول يزعمون جيسور ملك يأخذ كل سفينة غصبا فإذا هي مرت به يدعها بعيبها فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها منهم من يقول سدوها بقارورة ومنهم من يقول بالقار كان أبواه مؤمنين وكان كافرا فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا أي يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة لقوله أقتلت نفسا زكية وأقرب رحما هما به أرحم منها بالأول الذي قتل خضر وزعم سعيد بن جبير أنه ابن لا جارية وأما داود بن أبي عصام فقال عن غير واحد إنها جارية وقد رواه عبدالرزاق عن معمر عن أبي اسحق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال خطب موسى بني إسرائيل فقال ما أحد أعلم بالله وبأمره مني فأمر أن يلقى هذا الرجل فذكر نحو ما تقدم وهكذا رواه محمد بن اسحق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عيينة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنحو ما تقدم أيضا ورواه العوفي عنه موقوفا وقال الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه فهل سمعت من رسول الله فيه شيئا قال نعم وذكر الحديث وقد تقصينا طرق هذا الحديث والفاظه في تفسير سورة الكهف ولله الحمد وقوله وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة قال السهيلي وهما أصرم وصريم ابنا كاشح وكان تحته كنز لهما قيل كان ذهبا قاله عكرمة وقيل علما قاله ابن عباس والأشبه أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه علم قال البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا بشر بن المنذر حدثنا الحرث بن عبدالله اليحصبي عن عياش بن عباس الغساني عن بن حجيرة عن أبي ذر رفعه قال إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من الذهب مصمت عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب وعجبت
لمن ذكر النار لم ضحك وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل لا إله إلا الله وهكذا روى عن الحسن البصري وعمر مولى عفرة وجعفر الصادق نحو هذا وقوله وكان أبوهما صالحا وقد قيل إنه كان الأب السابع وقيل العاشر وعلى كل تقدير فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته فالله المستعان وقوله رحمة من ربك دليل على أنه كان نبيا وأنه ما فعل شيئا من تلقاء نفسه بل بأمر ربه فهو نبي وقيل رسول وقيل ولي وأغرب من هذا من قال كان ملكا قلت وقد أغرب جدا من قال هو ابن فرعون وقيل إنه ابن ضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة قال ابن جرير والذي عليه جمهور أهل الكتاب أنه كان في زمن أفريدون ويقال إنه كان على مقدمة ذي القرنين الذي قيل إنه كان أفريدون وذو الفرس هو الذي كان في زمن الخليل وزعموا أنه شرب من ماء الحيوة فخلد وهو باق إلى الآن وقيل إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل وقيه اسمه ملكان وقيل أرميا بن خلقيا وقيل كان نبيا في زمن سباسب بن لهراسب قال ابن جرير وقد كان بين أفريدون وبين سباسب دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالأنساب قال ابن جرير والصحيح أنه كان في زمن أفريدون واستمر حيا إلى أن أدركه موسى عليه السلام وكانت نبوة موسى في زمن منو شهر الذي هو من ولد ابرج بن أفريدون أحد ملوك الفرس وكان اليه الملك بعد جده أفريدون لعهده وكان عادلا وهو أول من خندق الخنادق وأول من جعل في كل قرية دهقانا وكانت مدة ملكه قريبا من مائة وخمسين سنة ويقال إنه كان من سلالة اسحاق بن ابراهيم وقد ذكر عنه من الخطب الحسان والكليم البليغ النافع الفصيح ما يبهر العقل ويحير السامع وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل والله أعلم وقد قال الله تعالى وإذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمه ثم جائكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أءقررتم الآية
فأخذ الله ميثاق كل نبي على أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء وينصره فلو كان الخضر حيا في زمانه لما وسعه إلا اتباعه والاجتماع به والقيام بنصره ولكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر كما كان تحتها جبريل وسادات من الملائكة وقصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبيا وهو الحق أو رسولا كما قيل أو ملكا فيما ذكر وأياما كان فجبريل رئيس الملائكة وموسى أشرف من الخضر ولو كان حيا لوجب عليه الإيمان بمحمد ونصرته فكيف ان كان الخضر وليا كما يقوله طوائف كثيرون فأولى أن يدخل في عموم البعثة وأحرى ولم ينقل في حديث حسن بل ولا ضعيف يعتمد أنه جاء يوما واحدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اجتمع به وما ذكر من حديث التغرية فيه وان كان الحاكم قد رواه فإسناده ضعيف والله أعلم وسنفرد لخضر ترجمة على حدة بعد هذا
*2* حديث الفتون المتضمن قصة موسى من أولها إلى آخرها
@ قال الإمام أبو عبدالرحمن النسائي في كتاب التفسير من سننه عند قوله تعالى في سورة طه وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا حديث الفتون حدثنا عبدالله بن محمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا أصبغ بن زيد حدثنا القاسم بن أبي أيوب أخبرني سعيد بن جبير قال سألت عبدالله بن عباس عن قول الله تعالى وفتناك فتونا فسأله عن الفتون ما هو فقال استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثا طويلا فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لا ننجز منه ما وعدني من حديث الفتون فقال تذكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد ابراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا فقال بعضهم إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه وكانوا يظنون انه يوسف بن يعقوب فلما هلك قالوا ليس هكذا كان وعد إبراهيم فقال فرعون فكيف ترون فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ففعلوا ذلك فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يذبحون قالوا توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة الذي كانوا يكفونكم فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل بناتهم ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فانهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم اياكم ولن تفتنوا بمن تقتلون وتحتاجون اليهم فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا تقتل فيه الغلمان فولدته علانية آمنة فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن وذلك من الفتون يا ابن جبير ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني انا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليم فلما ولدت فعلت ذلك فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة تستقى منها جواري امرأة فرعون فلما رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن ان في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأةالملك بما وجدنا فيه فحملته كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه اليها فلما فتحته رأت فيه غلاما فالقى عليه منها محبة لم تلق منها على أحد قط وأصبح فؤاد أم موسى فارغا
ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم الى امرأة فرعون ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير فقالت لهم أقروه فان هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتى فرعون
فاستوهبه منه فإن وهبه مني كنتم قد أحسنتم وأجملتم وإن أمر بذبحه لم ألمكم فأتت فرعون فقالت قرة عين لي ولك فقال فرعون يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ولكن حرمه ذلك فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لأن تختار ظئرا فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا يأخذه منها فلم يقبل وأصبحت أم موسى والها فقالت لأخته قصى أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا أحي إبني أم قد أكلته الدواب ونسيت ما كان الله وعدها فيه فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فقالوا ما يدريك ما نصحهم هل يعرفونه حتى شكوا في ذلك وذلك من الفتون يا ابن جبير فقالت نصحهم له وشفقتهم عليه ورغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئرا فأرسلت إليها فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت أمكثي ترضعي ابني هذا فإني لم أحب شيئا حبه قط قالت أم موسى لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت فإني غير تاركة بيتي وولدي وذكرت ام موسى ما كان الله وعدها فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز موعوده فرجعت إلى بيتها من يومها وأنبته الله نباتا حسنا وحفظ لما قد قضى فيه فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى أريني ابني فوعدتها يوما تريها إياه فيه وقالت امرأة فرعون لخازنها وظئورها وقهارمتها لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك فيه وأنا باعثة أمينا يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون فلما دخل عليها نحلته وأكرمته فرحت به ونحلت أمه بحسن أثرها عليه ثم قالت لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه فلما دخلت به وعليه جعله في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض فقال الغواة من أعداء الله لفرعون ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه أنه زعم أنه يرثك ويعلوك ويصرعك فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا بن جبير بعد كل بلاء ابتلى به وأريد به فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي فقال ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني فقالت اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق أئت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه فإن بطش باللؤلؤتين
واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل وان تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل فقرب إليه فتناول الجمرتين فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده فقالت المرأة ألا ترى فصرفه الله عنه بعد ما كان هم به وكان الله بالعافية أمره فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الإمتناع فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والآخر اسرائيلي فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضبا شديدا لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم ما لم يطلع عليه غيره فوكز موسى الفرعوني فقتله وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي فقال موسى حين قتل الرجل هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ثم قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار فأتى فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم فقال ابغوني قاتله من يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا ينبغي له أن يقتل بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه وكره الذي رأى فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم إنك لغوي مبين فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال فإذا هو غضبان كغضبه بالامس الذي قتل فيه الفرعوني فخاف ان يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين أن يكون إياه أراد ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني فخاف الإسرائيلي وقال موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس وإنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول اتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره وذلك من الفتون يا ابن جبير فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل قإنه قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه امة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان يعني بذلك حابستين غنمهما فقال لهما ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس قالتا ليس لنا قوة تزاحم القوم وإنما ننتظر فضول حياضهم فسقى لهما فجعل يغرف من الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما وانصرف موسى فاستظل بشجرة وقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا فقال إن لكما اليوم لشأنا فاخبرتاه بما
صنع موسى فأمر احداهما أن تدعوه فأتت موسى فدعته فلما كلمه قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ليس لفرعون ولا قومه علينا من سلطان ولسنا في مملكته فقالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين فاحتملته الغيرة على أن قال لها ما يدريك ما قوته وما أمانته فقالت أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك ثم قال لي امشي خلفي وانعتي لي الطريق فلم يفعل هذا إلا وهو أمين فسرى عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت فقال له هل لك أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة وكانت السنتان عدة منه فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا قال سعيد هو ابن جبير فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال هل تدري اي الأجلين قضى موسى قلت لا وأنا يومئذ لا أدري فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال أما علمت أن ثمانية كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده فإنه قضى عشر سنين فلقيت النصراني فأخبرته ذلك فقال الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك قلت أجل وأولى فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصي ويده ما قص الله عليك في القرآن فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيه هرون ويكون له ردأ ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فأتاه الله عز وجل وحل عقدة من لسانه وأوحى الله إلى هرون فأمره أن يلقاه فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هرون فانطلقا جميعا إلى فرعون فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ثم اذن لهما بعد حجاب شديد فقالا إنا رسولا ربك فقال فمن ربكما فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن قال فما تريدان وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت قال أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل فأبى عليه وقال أئت بآية إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون فلما رأى فرعون قاصدة إليه خافها واقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء يعني من غير برص ثم ردها فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملأ حوله فيما رأى فقالوا له هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب وقالوا له إجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متغالم فلما أتوا فرعون قالوا بم يعمل السحر قالوا يعمل بالحيات قالوا فلا والله ما أحد من الأرض يعمل السحر بالحيات والحبال والعصى الذي نعمل وما أجرنا إن نحن غلبنا قال لهم أنتم أقاربي وخاصتي وأنا صانع
إليكم كل شيء أحببتم فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى قال سعيد فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء فلما اجتمعوا في صعيد قال الناس بعضهم لبعض انطلقوا فلنحضر هذا الامر لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين يعنون موسى وهرون استهزاء بهما فقالوا يا موسى بعد تريثهم بسحرهم إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله إليه أن ألق عصاك فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزا على الثعبان أن تدخل فيه حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته فلما عرف السحرة ذلك قالوا لو كان هذا سحرا لم تبلغ من سحرنا كل هذا ولكنه أمر من الله تعالى آمنا بالله وبما جاء به موسى ونتوب إلى الله مما كنا عليه فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وامرأة فرعون بارزة مبتذلة تدعو لله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا مضت أخلف من غده وقال هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده ونكث عهده حتى أمر موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك موسى عبدي بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه ثم التقى على من بقي بعد من فرعون وأشياعه فنسي موسى ان يضرب البحر بالعصي وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله عز وجل فلما تراىء الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى إنا لمدركون إفعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب قال وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ثم ذكر بعد ذلك العصى فضرب البحر بعصاه حين دنا اوائل جند فرعون من أواخر جند موسى فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى فلما جاوز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم البحر كما أمر فلما جاوز موسى قال اصحابه إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم ومضى فأنزلهم موسى منزلا
وقال أطيعوا هارون فإن الله قد استخلفه عليكم فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها فلما أتى ربه عز وجل وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما وقد صامهن ليلهن ونهارهن وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم فتناول موسى شيئا من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه حين أتاه لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان قال يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح قال أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك إرجع فصم عشرا ثم ائتني ففعل موسى ما أمره به ربه فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك وكان هارون قد خطبهم فقال إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوارى وودائع ولكم فيها مثل ذلك وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم ولا احل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ثم أوقد عليه النار فأحرقه فقال لا يكون لنا ولا لهم وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا فقضى له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون يا سامري إلا تلقي ما في يديك وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد فألقاها ودعا له هارون فقال أريد أن تكون عجلا فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلا أجوف ليس فيه روح له خوار قال ابن عباس لا والله ما كان فيه صوت قط إنما كانت الريح تدخل من دبره وتخرج من فيه فكان ذلك الصوت من ذلك فتفرق بنو إسرائيل فرقا فقالت فرقة يا سامري ما هذا وأنت أعلم به قال هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق وقالت فرقة لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حتى رأيناه وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى وقالت فرقة هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق واشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به فقال لهم هارون عليه السلام يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن ليس هذا قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا هذه أربعون يوما قد مضت قال سفهاؤهم أخطأ ربه فهو يطلبه ويبتغيه فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أصبره بما لقي قومه من بعده فرجع إلى قومه غضبان أسفا فقال لهم ما سمعتم ما في القرآن وأخذ برأس اخيه يجره إليه وألقى الألواح من الغضب ثم إنه عذر اخاه بعذره واستغفر له فانصرف إلى السامري فقال له ما حملك على ما صنعت قال قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة واغتبط
الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون فقالوا لجماعتهم يا موسى سل لنا أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فتكفر عنا ما عملنا فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك لا يألوا الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في الحق فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله عليه السلام من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال لو شئت لأهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمان به فلذلك رجفت بهم الأرض فقال رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فقال يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحوم فقال له إن توبتهم أن يقتل كل رجل من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهرون وأطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل والمقتول ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجها نحو الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب فأمرهم بالذي أمر به من الوظائف فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها ونتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم وأخذوا الكتاب بايمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلق منكر وذكر من ثمارهم أمرا عجبا من عظمها فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا بهم ولا ندخلها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قراه قال نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجنا إليه فقالوا نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ويقول اناس إنهم من قوم موسى فقال الذين يخافون من بني إسرائيل قالوا يا موسى إنا لن ندخلها ابدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله لهم وسماهم كما سماهم فاسقين فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ثم ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من محله إلا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الذي كان فيه بالأمس رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي ان معاوية سمع ابن عباس هذا الحديث فأنكر عليه ان يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى امر القتيل الذي
قتل فقال كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك فغضب ابن عباس فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له يا أبا إسحق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون الإسرائيلي الذي أفشى عليه ام الفرعوني قال إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع الإسرائيلي الذي شهد ذلك وحضره هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما من حديث يزيد بن هرون والأشبه والله أعلم أنه موقوف وكونه مرفوعا فيه نظر وغالبه متلقى من الإسرائيليات وفيه شيء يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام وفي بعض ما فيه نظر ونكارة والأغلب أنه كلام كعب الأحبار وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك والله أعلم
*2* بناء قبة الزمان
@ قال أهل الكتاب وقد أمر الله موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشار وجلود الانعام وشعر الأغنام وأمر بزينتها بالحرير المصبغ والذهب والفضة على كيفيات مفصلة عند اهل الكتاب ولها عشر سرادقات طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعا وعرضه أربعة أذرع ولها أربعة أبواب وأطناب من حرير ودمقس مصبغ وفيها رفوف وصفائح من ذهب وفضة ولكل زاوية بابان وأبواب أخر كبيرة وستور من حرير مصبغ وغير ذلك مما يطول ذكره وبعمل تابوت من خشب الشمشار يكون طوله ذراعين ونصفا وعرضه ذراعين وارتفاعه ذراعا ونصفا ويكون مضببا بذهب خالص من داخله وخارجه وله أربع حلق في اربع زواياه ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب يعنون صفة ملكين بأجنحة وهما متقابلان صفة رجل اسمه بصليال وأمراه أن يعمل مائدة من خشب الشمشار طولها ذراعا وعرضها ذراع ونصف لها ضباب ذهب واكليل ذهب بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب وأربع حلق من نواحيها من ذهب معذرة في مثل الرمان من خشب ملبس ذهبا واعمل صحافا ومصافي وقصاعا على المائدة واصنع منارة من الذهب دلى فيها ست قصبات من ذهب من كل جانب ثلاثة على كل قصبة ثلاث سرج وليكن في المنارة أربع قناديل ولتكن هي وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب صنع ذلك بصليال أيضا وهو الذي عمل المذبح أيضا ونصب هذه القبة أول يوم من سنتهم وهو أول يوم من الربيع ونصب تابوت الشهادة وهو والله أعلم المذكور في قوله تعالى إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين وقد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولا جدا وفيه شرائع لهم وأحكام وصفة قربانهم وكيفيته وفيه أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذي هو متقدم على مجيء بيت المقدس وأنها كانت لهم كالكعبة
يصلون فيها وإليها ويتقربون عندها وأن موسى عليه السلام كان إذا دخلها يقفون عندها وينزل عمود الغمام على بابها فيخرون عند ذلك سجدا لله عز وجل ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور ويخاطبه ويناجيه ويأمره وينهاه وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبين فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عز وجل إليه من الأوامر والنواهي وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه شيء يجيء إلى قبة الزمان ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة وقد كان هذا مشروعا لهم في زمانهم أعني استعمال الذهب والحرير المصبغ واللآليء في معبدهم وعند مصلاهم فأما في شريعتنا فلا بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها لئلا تشغل المصلين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وسع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي وكله على عمارته ابن للناس ما يكنهم وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس وقال ابن عباس لنزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم إذ جمع الله همهم في صلاتهم على التوجه إليه والإقبال عليه وصان أبصارهم وخواطرهم عن الإشتغال والتفكر في غير ما هم بصدده من العبادة العظيمة فلله الحمد والمنة وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه يصلون إليها وهي قبلتهم وكعبتهم وإمامهم كليم الله موسى عليه السلام ومقدم القربان أخوه هارون عليه السلام فلما مات هارون ثم موسى عليهما السلام استمرت بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم من أمر القربان وهو فيهم إلى الآن وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الأمر بعده فتاه يوشع بن نون عليه السلام وهو الذي دخل بهم بيت المقدس كما سيأتي بيانه والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس فكانوا يصلون إليها فلما بادت صلوا إلى محلتها وهي الصخرة فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وكان يجعل الكعبة بين يديه فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس فصلى إليها ستة عشر وقيل سبعة عشر شهرا ثم حولت القبلة إلى الكعبة وهي قبلة إبراهيم في شعبان سنة ثنتين في وقت صلاة العصر وقيل الظهر كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها إلى قوله قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام الآيات
*2* قصة قارون مع موسى عليه السلام
@ قال الله تعالى إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين قال الأعمش عن المنهال بن عمرو بن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان قارون بن عم موسى وكذا قال إبراهيم النخعي وعبدالله بن الحرث بن نوفل وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وزاد فقال هو قارون بن يصهر بن قاهث وموسى بن عمران بن هافث قال ابن جريج وهذا قول أكثر أهل العلم أنه كان ابن عم موسى ورد قول ابن اسحاق إنه كان عم موسى قال قتادة وكان يسمى النور لحسن صوته بالتوراة ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري فاهلكه البغي لكثرة ماله وقال شهر بن حوشب زاد في ثيابه شبرا طولا ترفعا على قومه وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه حتى أن مفاتيحه كان يثقل حملها على القيام من الرجال الشداد وقد قيل إنها كانت من الجلود وإنها كانت تحمل على ستين بغلا فالله أعلم وقد وعظه النصحاء من قومه قائلين لا تفرح أي لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة يقولون لتكن همتك مسروفة لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة فإنه خير وأبقى ومع هذا لا تنس نصيبك من الدنيا أي وتناول منها بمالك ما أحل الله لك فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال وأحسن كما أحسن الله إليك أي وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم وبارئهم إليك ولا تبغ الفساد في الأرض أي ولا تسيء إليهم ولا تفسد فيهم فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم فيعاقبك ويسلبك ما وهبك إن الله لا يحب المفسدين فما كان جواب قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن قال إنما أوتيته على علم عندي يعني أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم ولا إلى ما إليه أشرتم فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه أني أستحقه وأني أهل له ولولا أني حبيب إليه وحظي عنده لما
أعطاني ما أعطاني قال الله تعالى ردا عليه ما ذهب إليه أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون أي قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا فلو كان ما قال صحيحا لم نعاقب أحدا ممن كان أكثر مالا منه ولم يكن ماله دليلا على محبتنا له واعتنائنا به كما قال تعالى وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا وقال تعالى أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله إنما أوتيته على علم عندي وأما من زعم أن المراد من ذلك أنه كان يعرف صنعة الكيمياء أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم فاستعمله في جمع الأموال فليس بصحيح لأن الكيمياء تخييل وصبغة لا تحيل الحقائق ولا تشابه صنعة الخالق والاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به وقارون كان كافرا في الباطن منافقا في الظاهر ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير ولا يبقى بين الكلامين تلازم وقد وضحنا هذا في كتابنا التفسير ولله الحمد قال الله تعالى فخرج على قومه في زينته ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس ومراكب وخدم وحشم فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله وغبطوه بما عليه وله فلما سمع مقالتهم العلماء ذوو الفهم الصحيح الزهاد الألباء قالوا لهم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا أي ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى قال الله تعالى ولا يلقاها إلا الصابرون أي وما يلقى هذه النصيحة وهذه المقالة وهذه الهمة السامية الى الدار الآخرة العلية عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية إلا من هدى الله قلبه وثبت فؤاده وأيد لبه وحقق مراده وما أحسن ما قال بعض السلف إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند حلول الشهوات قال الله تعالى فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين لما ذكر تعالى خروجه في زينته واختياله فيها وفخره على قومه بها قال فخسفنا به وبداره الأرض كما روى البخاري من حديث الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا رجل يجر ازاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد عن سالم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقد ذكر ابن عباس والسدي أن قارون أعطى امرأة بغيا مالا على أن تقول لموسى عليه السلام وهو في ملأ من الناس إنك فعلت بي كذا وكذا فيقال إنها قالت له ذلك فارعد من الفرق وصلى ركعتين ثم أقبل عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك وما حملك عليه فذكرت أن قارون هو الذي حملها على ذلك واستغفرت الله وتابت إليه فعند ذلك خر موسى لله ساجدا ودعا الله على قارون فأوحى الله إليه اني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره فكان ذلك فالله أعلم وقد قيل إن قارون لما خرج على قومه في زينته مر
بجحفله وبغاله وملابسه على مجلس موسى عليه السلام وهو يذكر قومه بأيام الله فلما رآه الناس انصرفت وجوه كثير من الناس ينظرون إليه فدعا موسى عليه السلام فقال له ما حملك على هذا فقال يا موسى أما لئن كنت فضلت علي بالنبوة فلقد فضلت عليك بالمال ولئن شئت لتخرجن فلتدعون علي ولأدعون عليك فخرج وخرج قارون في قومه فقال له موسى تدعو أو أدعو قال ادعو أنا فدعى قارون فلم يجب في موسى فقال موسى أدعو قال نعم فقال موسى اللهم مر الأرض فلتطغى اليوم فأوحى الله إليه إني قد فعلت فقال موسى يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أقدامهم ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم ثم إلى مناكبهم ثم قال اقبلي بكنوزهم وأموالهم فأقبلت بها حتى نظروا إليها ثم أشار موسى بيده فقال اذهبوا بني لاوى فاستوت بهم الأرض وقد روى عن قتادة أنه قال يخسف بهم كل يوم قامة إلى يوم القيامة وعن ابن عباس أنه قال خسف بهم إلى الأرض السابعة وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا إسرائيليات كثيرة اضربنا عنها صفحا وتركناها قصدا وقوله تعالى فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره كما قال فماله من قوة ولا ناصر ولما حل به ما حل من الخسف وذهاب الأموال وخراب الدار واهلاك النفس والأهل والعقار ندم من كان تمنى مثل ما أوتي وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون ولهذا قالوا لولا أن من الله علينا لخسف بنا وبك انه لا يفلح الكافرون وقد تكلمنا على لفظ ويك في التفسير وقد قال قتادة ويكأن بمعنى ألم تران وهذا قول حسن من حيث المعنى والله أعلم ثم أخبر تعالى أن الدار الآخرة وهي دار القرار وهي الدار التي يغبط من أعطيها ويعزى من حرمها إنما هي سعدة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا فالعلو هو التكبر والفخر والاشر والبطر والفساد هو عمل المعاصي اللازمة والمتعدية من أخذ أموال الناس وافساد معايشهم والاساءة إليهم وعدم النصح لهم ثم قال تعالى والعاقبة للمتقين وقصة قارون هذه قد تكون قبل خروجهم من مصر لقوله فخسفنا به وبداره الأرض فإن الدار ظاهرة في البنيان وقد تكون بعد ذلك في التيه وتكون الدار عبارة عن المحلة التي تضرب فيها الخيام كما قال عنترة
يا دارا عبلة بالجواء تكلمي * وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
والله أعلم وقد ذكر الله تعالى مذمة قارون في غير ما آية من القرآن قال الله ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فالذي خسف به
الأرض قارون كما تقدم والذي أغرق فرعون وهامان وجنودهما أنهم كانوا خاطئين وقد قال الإمام أحمد حدثنا أبو عبدالرحمن حدثنا سعيد حدثنا كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف انفرد به أحمد رحمه الله
*2* باب فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفائه
@ قال الله تعالى واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا وقال تعالى قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي وتقدم في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تفضلوني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أصعق فافاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور وقدمنا أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الهضم والتواضع وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة قطعا جزما لا يحتمل النقيض وقال تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط إلى أن قال ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها قال الإمام أبو عبدالله البخاري حدثنا اسحق بن ابراهيم بن روح بن عبادة عن عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى جلده شيء استحياء منه فأذاه من أذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يستتر هذا التستر الا من عيب بجلده إما برص أو أدرة وإما آفة وأن الله عز وجل أراد أن يبرأه مما قالوا لموسى فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وأن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا قال فذلك قوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها وقد رواه الإمام أحمد من حديث عبدالله بن شقيق وهمام بن منبه عن أبي هريرة به وهو في الصحيحين من حديث عبدالرزاق عن معمر عن همام عنه به ورواه مسلم من حديث عبدالله بن شقيق العقيلي عنه
قال بعض السلف كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند الله وطلب منه أن يكون معه وزيرا فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه طلبته وجعله نبيا كما قال ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا ثم قال البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة حدثنا الأعمش سألت أبا وائل قال سمعت عبدالله قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فقال رجل إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر وكذا رواه مسلم من غير وجه عن سليمان بن مهران الأعمش به وقال الإمام أحمد حدثنا أحمد بن حجاج سمعت إسرائيل ابن يونس عن الوليد بن أبي هاشم مولى لهمدان عن زيد بن أبي زائد عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا يبلغني أحد عن أحد شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر قال وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه قال فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة فثبت حتى سمعت ما قالا ثم أتيت رسول الله فقلت يا رسول الله إنك قلت لنا لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ثم قال دعنا منك فقد أوذي موسى أكثر من ذلك فصبر وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث إسرائيل عن الوليد بن أبي هاشم به وفي رواية للترمذي ولأبي داود من طريق ابن عبد عن إسرائيل عن السدي عن الوليد به وقال الترمذي غريب من هذا الوجه وقد ثبت في الصحيحين في أحاديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بموسى وهو قائم يصلي في قبره ورواه مسلم عن أنس وفي الصحيحين من رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر ليلة أسري به بموسى في السماء السادسة فقال له جبريل هذا موسى فسلم عليه قال فسلمت عليه فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح فلما تجاوزت بكى قيل له ما يبكيك قال أبيك لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي وذكر إبراهيم في السماء السابعة وهذا هو المحفوظ وما وقع في حديث شريك بن أبي نمر عن أنس من أن إبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله فقد ذكر غير واحد من الحفاظ أن الذي عليه الجادة أن موسى في السادسة وإبراهيم في السابعة وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم واتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته خمسين صلاة في اليوم والليلة فمر بموسى قال ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة وأن أمتك أضعف اسماعا وابصارا وافئدة فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل ويخفف عنه في كل مرة حتى صارت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة وقال الله تعالى هي خمس وهي خمسون أي بالمضاعفة فجزى الله عنا محمدا صلى الله عليه وسلم خيرا وجزى الله عنا موسى عليه السلام خيرا وقال البخاري حدثنا مسدد حدثنا حصين
ابن نمير عن حصين بن عبدالرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال عرضت على الأمم ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل هذا موسى في قومه هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا مختصرا وقد رواه الإمام أحمد مطولا فقال حدثنا شريح حدثنا هشام حدثنا حصين بن عبدالرحمن قال كنت عن سعيد بن جبير فقال أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة قلت أنا ثم قلت إني لم أكن في صلاة ولكن لدغت قال وكيف فعلت قلت استرقيت قال وما حملك على ذلك قال قلت حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الأسلمي أنه قال لا رقية الا من عين أو حمة فقال سعيد يعني ابن جبير قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ثم قال حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي معه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد اذ رفع لي سواد عظيم فقلت هذه أمتي فقيل هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم ثم قيل انظر إلى هذا الجانب فإذا سواد عظيم فقيل هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فخاض القوم في ذلك فقالوا من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم لعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا قط وذكروا أشياء فخرج اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه فأخبروه بمقالتهم فقال هم الذين لا يكنوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محيصن الأسدي فقال أنا منهم يا رسول الله قال أنت منهم ثم قام آخر فقال أنا منهم يا رسول الله فقال سبقك بها عكاشة وهذا الحديث له طرق كثيرة جدا وهو في الصحاح والحسان وغيرها وسنوردها إن شاء الله تعالى في باب صفة الجنة عند ذكر أحوال القيامة وأهوالها وقد ذكر الله تعالى موسى عليه السلام في القرآن كثيرا واثنى عليه وأورد قصته في كتابه العزيز مرارا وكررها كثيرا مطولة ومبسوطة ومختصرة واثنى عليه بليغا وكثيرا ما يقرنه الله ويذكره ويذكر كتابه مع محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه كما قال في سورة البقرة ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون وقال تعالى الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وانزل الفرقان ان الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام وقال تعالى في سورة الأنعام وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباءكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون فاثنى تعالى على التوراة ثم مدح
القرآن العظيم مدحا عظيما وقال تعالى في آخرها ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون وقال تعالى في سورة المائدة إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون إلى أن قال وليحكم أهل الأنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه الآية فجعل القرآن حاكما على سائر الكتب غيره وجعله مصدقا لها ومبينا ما وقع فيها من التحريف والتبديل فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب فلم يقدروا على حفظها ولا على ضبطها وصونها لهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم وتبديلهم لسوء فهو مهم وقصورهم في علومهم وردائه قصودهم وخيانتهم لمعبودهم عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ولهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على الله وعلى رسوله ما لا يحد ولا يوصف وما لا يوجد مثله ولا يعرف وقال تعالى في سورة الأنبياء ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكرى للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون وقال الله تعالى في سورة القصص فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فأثنى الله على الكتابين وعلى الرسولين عليهما السلام وقالت الجن لقومهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى وقال ورقة بن نوفل لما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى من الأول الوحي وتلا عليه إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم قال سبوح سبوح هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران
وبالجملة فشريعة موسى عليه السلام كانت عظيمة وامته كانت امة كثيرة ووجد فيها أنبياء وعلماء وعباد وزهاد وألباء وملوك وأمراء وسادات وكبراء لكنهم كانوا فبادوا وتبدلوا كما بدلت شريعهم ومسخوا قردة وخنازير ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم وجرت عليهم خطوب وأمور يطول ذكرها ولكن سنورد ما فيه مقنع لمن أراد أن يبلغه خبرها إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان
*2* حجته عليه السلام إلى البيت العتيق
@ قال الإمام أحمد حدثنا هشام حدثنا داود بن أبي هند عن أبي العالية عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال أي واد هذا قالوا وادي الأزرق قال كأني أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية وله جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية حتى أني على ثنية هرشاء فقال أي ثنية هذه قالوا هذه ثنية هرشاء قال كأني انظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة قال هشيم يعني ليفا وهو يلبي اخرجه مسلم من حديث داود بن أبي هند به وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا إن موسى حج على ثور احمر وهذا غريب جدا وقال الإمام احمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن مجاهد قال كنا عند ابن عباس فذكروا الدجال فقال إنه مكتوب بين عينيه ك ف ر قال ما يقولون قال يقولون مكتوب بين عينيه ك ف ر فقال ابن عباس لم أسمعه قال ذلك ولكن قال اما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم وأما موسى فرجل آدم جعد الشعر على جمل أحمر مخطوم بخلبة كأني أنظر إليه وقد انحدر من الوادي يلبي قال هشيم الخلبة الليف ثم رواه الإمام أحمد عن أسود عن إسرائيل عن عثمان بن المغيرة عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عيسى بن مريم وموسى وإبراهيم فأما عيسى فابيض جعد عريض الصدر وأما موسى فآدم جسيم قالوا فابراهيم قال انظروا إلى صاحبكم وقال الإمام احمد حدثنا يونس حدثنا شيبان قال حدث قتادة عن أبي العالية حدثنا ابن عم نبيكم ابن عباس قال قال نبي الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا كأنه من رجال شنؤة ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأي وأخرجاه من حديث قتادة به وقال الإمام احمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر قال الزهري وأخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسري بي لقيت موسى فنعته فقال رجل قال حسبته قال مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنؤة ولقيت عيسى فنعته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس يعني حماما قال ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولد به الحديث وقد تقدم غالب هذه الأحاديث في ترجمة الخليل
*2* ذكر وفاته عليه السلام
@ قال البخاري في صحيحه وفاة موسى عليه السلام حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال ارسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه
صكه فرجع إلى ربه عز وجل فقال ارسلتني إلى عبد لا يريد الموت قال ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال أي رب ثم ماذا قال ثم الموت قال فالآن قال فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رميه بحجر قال أبو هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر قال وأنبأنا معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقد روى مسلم الطريق الأول من حديث عبد الرزاق به ورواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة مرفوعا وسيأتي وقال الإمام أحمد حدثنا الحسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو يونس يعني سليم بن جبير عن أبي هريرة قال الإمام أحمد لم يرفعه قال جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع الملك إلى الله فقال إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت قال وقد فقأ عيني قال فرد الله عينه وقال ارجع إلى عبدي فقل له الحياة تريد فان كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة قال ثم مه قال ثم الموت قال فالآن يا رب من قريب تفرد به أحمد وهو موقوف بهذا اللفظ وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال معمر وأخبرني من سمع الحسن عن رسول الله فذكره ثم استشكله ابن حبان وأجاب عنه بما حاصله أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام كما جاء جبريل في صورة أعرابي وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط في صورة شباب فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولا وكذلك موسى لعله لم يعرفه لذلك ولطمه ففقأ عينه لأنه دخل داره بغير اذنه وهذا موافق لشريعتنا في جواز فقء عين من نظر إليك في دارك بغير اذن ثم اورد الحديث من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه قال له أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت ففقأ عينه وذكر تمام الحديث كما أشار إليه البخاري ثم تاوله على أنه لما رفع يده ليلطمه قال له أجب ربك وهذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ من تعقيب قوله أجب ربك بلطمه ولو استمر على الجواب الأول لتمشى له وكأنه لم يعرفه في تلك الصورة ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق إذا لم يتحقق في الساعة الراهنة أنه ملك كريم لانه كان يرجو أمورا كثيرة كان يحب وقوعها في حياته من خروجه من التيه ودخولهم الأرض المقدسة وكان قد سبق في قدرة الله أنه عليه السلام يموت في التيه بعد هرون أخيه كما سنبينه إن شاء الله تعالى وقد زعم بعضهم أن موسى عليه السلام هو الذي خرج بهم من التيه ودخل بهم الأرض المقدسة وهذا خلاف ما عليه اهل الكتاب وجمهور المسلمين ومما يدل على ذلك قوله لما اختار الموت رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك ولكن لما كان مع قومه بالتيه وحانت وفاته عليه
السلام أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها وحث قومه عليها ولكن حال بينهم وبينها القدر رمية بحجر ولهذا قال سيد البشر ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر فلو كنت ثم لاريتكم قبره عند الكثيب الأحمر وقال الإمام حدثنا عفان حدثنا حماد حدثنا ثابت وسليمان التيمي عن أنس بن مالك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به وقال السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هرون فائت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهرون نحو ذلك الجبل فإذا هم بشجرة لم تر شجرة مثلها وإذا هم ببيت مبني وإذا هم بسرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلما نظر هرون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه قال يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال له موسى فنم عليه قال إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي قال له لا ترهب أنا أكفيك رب هذا البيت فنم قال يا موسى نم معي فإن جاء رب هذا البيت غضب علي وعليك جميعا فلما ناما أخذ هرون الموت فلما وجد حسه قال يا موسى خدعتني فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء فلما رجع موسى إلى قومه وليس معه هرون قالوا فإن موسى قتل هرون وحسده حب بني إسرائيل له وكان هرون أكف عنهم والين لهم من موسى وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال لهم ويحكم كان أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا اليه بين السماء والأرض ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشي ويوشع فتاه إذ أقبلت ريح سوداء فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة فالتزم موسى وقال تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع فلما جاء يشوع بالقميص آخذته بنو إسرائيل وقالوا قتلت نبي الله فقال لا والله ما قتلته ولكنه أستل مني فلم يصدقوه وأرادوا قتله قال فإذا لم تصدقوني فاخروني ثلاثة أيام فدعا الله فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى وإنا قد رفعناه الينا فتركوه ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات ولم يشهد الفتح وفي بعض هذا السياق نكارة وغرابة والله أعلم وقد قدمنا أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى سوى يوشع بن نون وكالب بن يوقنا وهو زوج مريم أخت موسى وهرون وهما الرجلان المذكوران فيما تقدم اللذان أشارا على ملأ بني إسرائيل بالدخول عليهم وذكر وهب بن منبه أن موسى عليه السلام مر بملأ من الملائكة يحفرون قبرا فلم ير أحسن منه ولا أنضر ولا أبهج فقال يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر فقالوا لعبد من عباد الله كريم فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد فادخل هذا القبر وتمدد فيه وتوجه إلى ربك وتنفس أسهل تنفس ففعل ذلك فمات صلوات الله
وسلامه عليه فصلت عليه الملائكة ودفنوه وذكر أهل الكتاب وغيرهم أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة وقد قال الإمام أحمد حدثنا أمية بن خالد ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يونس رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال كان ملك الموت يأتي الناس عيانا قال فأتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه فأتى ربه فقال يا رب عبدك موسى فقأ عيني ولولا كرامته عليك لعتبت عليه وقال يونس لشققت عليه قال له اذهب إلى عبدي فقل له فليضع يده على جلد أو مسك ثور فله بكل شعرة وارت يده سنة فأتاه فقال له فقال ما بعد هذا قال الموت قال فالان قال فشمه شمة فقبض روحه قال يونس فرد الله عليه عينه وكان يأتي الناس خفية وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن مصعب بن المقدام عن حماد بن سلمة به فرفعه أيضا
*2* نبوة يوشع وقيامه بأعباء بني إسرائيل بعد موسى وهرون
@ هو يوشع بن نون بن أفراثيم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام وأهل الكتاب يقولون يوشع بن عم هود وقد ذكره الله تعالى في القرآن غير مصرح باسمه في قصة الخضر كما تقدم من قوله وإذ قال موسى لفتاه فلما جاوزا قال لفتاه وقدمنا ما ثبت في الصحيح من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يوشع بن نون وهو متفق على نبوته عند أهل الكتاب فإن طائفة منهم وهم السامرة لا يقرون بنبوة أحد بعد موسى الا يوشع بن نون لأنه مصرح به في التوراة ويكفرون بما وراءه وهو الحق من ربهم فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة
وأما ما حكاه ابن جرير وغيره ومن المفسرين عن محمد بن اسحق من أن النبوة حولت من موسى إلى يوشع في آخر عمر موسى فكان موسى يلقي يوشع فيسأله ما أحدث الله من الأوامر والنواهي حتى قال له يا كليم الله إني كنت لا أسألك عما يوحي الله إليك حتى تخبرني أنت ابتداء من تلقاء نفسك فعند ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت ففي هذا نظر لأن موسى عليه السلام لم يزل الأمر والوحي والتشريع والكلام من الله اليه من جميع أحواله حتى توفاه الله عز وجل ولم يزل معززا مكرما مدللا وجيها عند الله كما قدمنا في الصحيح من قصة فقئه عين ملك الموت ثم بعثه الله اليه إن كان يريد الحياة فليضع يده على جلد ثور فله بكل شعرة وارت يده سنة يعيشها قال ثم ماذا قال الموت قال فالان يا رب وسأل الله أن يدنيه إلى بيت المقدس رمية بحجر وقد اجيب إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه
فهذا الذي ذكره محمد بن اسحق إن كان إنما يقوله من كتب أهل الكتاب ففي كتابهم الذي يسمونه التوراة أن الوحي لم يزل ينزل على موسى في كل حين يحتاجون إليه إلى آخر مدة موسى كما هو المعلوم من سياق كتابهم عند تابوت الشهادة في قبة الزمان وقد ذكروا في السفر الثالث أن الله أمر موسى وهارون أن يعدا بني إسرائيل على أسباطهم وأن يجعلا على كل سبط من الاثني عشر أميرا وهو النقيب وماذاك الا ليتأهبوا للقتال قتال الجبارين عند الخروج من التيه وكان هذا عند اقتراب انقضاء الأربعين سنة ولهذا قال بعضهم إنما فقأ موسى عليه السلام عين ملك الموت لأنه لم يعرفه في صورته تلك ولأنه كان قد أمر بأمر كان يرتجي وقوعه في زمانه ولم يكن في قدر الله ان يقع ذلك في زمانه بل في زمان فتاه يوشع بن نون عليه السلام كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أراد غزو الروم بالشام فوصل إلى تبوك ثم رجع عامه ذلك في سنة تسع ثم حج في سنة عشر ثم رجع فجهز جيش أسامة إلى الشام طليعة بين يديه ثم كان على عزم الخروج اليهم امتثالا لقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطو الجزية عن يد وهم صاغرون ولما جهز رسول الله جيش أسامة توفي عليه الصلاة والسلام وأسامة مخيم بالجرف فنفذه صديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم لما لم شعث جزيرة العرب وما كان دهى من أمر أهلها وعاد الحق إلى نصابه جهز الجيوش يمنة ويسرة إلى العراق أصحاب كسرى ملك الفرس وإلى الشام أصحاب قيصر ملك الروم ففتح الله لهم ومكن لهم وبهم وملكهم نواصي أعدائهم كما سنورده عليك في موضعه إذا انتهينا إليه مفصلا إن شاء الله بعونه وتوفيقه وحسن ارشاده وهكذا موسى عليه السلام كان الله قد أمره أن يجند بني إسرائيل وأن يجعل عليهم نقباء كما قال تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منك فقد ضل سواء السبيل يقول لهم لئن قمتم بما أوجبت عليكم ولم تنكلوا عن القتال كما نكلتم أول مرة لأجعلن ثواب هذه مكفرا لما وقع عليكم من عقاب تلك كما قال تعالى لمن تخلف من الأعراب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله اجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما وهكذا قال تعالى لبني إسرائيل فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ثم ذمهم تعالى على سوء صنيعهم ونقضهم مواثيقهم كما ذم من بعدهم من النصارى على اختلافهم في دينهم وأديانهم وقد ذكرنا ذلك في التفسير مستقصى ولله الحمد
والمقصود أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يكتب أسماء المقاتلة من بني إسرائيل ممن يحمل
السلاح ويقاتل ممن بلغ عشرين سنة فصاعدا وأن يجعل على كل سبط نقيبا منهم السبط الأول سبط روبيل لأنه بكر يعقوب كان عدة المقاتلة منهم ستة وأربعين ألفا سنة وخمسمائة ونقيبهم منهم وهو اليصور بن شديئورا السبط الثاني سبط شمعون وكانوا تسعة وخمسين ألفا وثلاثمائة ونقيبهم شلوميئيل بن هوريشداي السبط الثالث سبط يهوذا وكانوا أربعة وسبعين ألفا وستمائة ونقيبهم نحشون بن عميناداب السبط الرابع سبط ايساخر وكانوا أربعة وخمسين ألفا وأربعمائة ونقيبهم نشائيل بن صوغر السبط الخامس سبط يوسف عليه السلام وكانوا أربعين ألفا وخمسمائة ونقيبهم يوشع بن نون السبط السادس سبط ميشا وكانوا أحدا وثلاثين الفا ومائتين ونقيبهم جمليئيل بن فدهصور السبط السابع سبط بنيامين وكانوا خمسة وثلاثين ألفا وأربعمائة ونقيبهم أبيدن بن جدعون السبط الثامن سبط حاد وكانوا خمسة وأربعة ألفا وستمائة وخمسين رجلا ونقيبهم الياساف بن رعوئيل السبط التاسع سبط أشير وكانوا أحدا وأربعين الفا وخمسمائة ونقيبهم فجعيئيل بن عكرن السبط العاشر سبط دان وكانوا اثنين وستين ألفا وسبعمائة ونقيبهم أخيعزر ابن عمشداي السبط الحادي عشر سبط نفتالي وكانوا ثلاثة وخمسين ألفا وأربعمائة ونقيبهم أخيرع بن عين السبط الثاني عشر سبط زبولون وكانوا سبعة وخمسين ألفا وأربعمائة ونقيبهم الباب بن حيلون هذا نص كتابهم الذي بأيديهم والله أعلم وليس منهم بنو لاوى فأمر الله موسى أن لا يعدهم معهم لأنهم موكلون بحمل قبة الشهادة وضربها ونصبها وحملها إذا ارتحلوا وهم سبط موسى وهرون عليهما السلام وكانوا اثنين وعشرين الفا من ابن شهر فما فوق ذلك وهم في أنفسهم قبائل إلى كل قبيلة طائفة من قبة الزمان يحرسونها ويحفظونها ويقومون بمصالحها ونصبها وحملها وهم كلهم حولها ينزلون ويرتحلون أمامها ويمنتها وشمالها ووراءها وجملة ما ذكر من المقاتلة غير بني لاوى خمسمائة الف وأحد وسبعون ألفا وستمائة وستة وخمسون لكن قالوا فكان عدد بني إسرائيل ممن عمره عشرون سنة فما فوق ذلك ممن حمل السلاح ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وخمسين رجلا سوى بني لاوى وفي هذا نظر فإن جميع الجمل المتقدمة إن كانت كما وجدنا في كتابهم لا تطابق الجملة التي ذكروها والله أعلم فكان بنو لاوى الموكلون بحفظ قبة الزمان يسيرون في وسط بني إسرائيل وهم القلب ورأس الميمنة بنو روبيل ورأس الميسرة بنوران وبنو نفتالي يكونون ساقه وقرر موسى عليه السلام بأمر الله تعالى له الكهانة في بني هرون كما كانت لأبيهم من قبلهم وهم ناداب وهو بكره وأبيهو والعازر ويثمر والمقصود أن بني إسرائيل لم يبق منهم أحد ممن كان نكل عن دخول مدينة الجبارين الذين قالوا فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون قاله الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس وقاله قتادة وعكرمة ورواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة حتى قال ابن عباس وغيره من علماء السلف والخلف ومات موسى وهرون قبله كلاهما في التيه جميعا وقد زعم ابن اسحق أن الذي فتح بيت المقدس
هو موسى وإنما كان يوشع على مقدمته وذكر في مروره اليها قصة بلعام بن باعور الذي قال تعالى فيه واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون وقد ذكرنا قصته في التفسير وأنه كان فيما قاله ابن عباس وغيره يعلم الاسم الأعظم وأن قومه سألوه أن يدعو على موسى وقومه فامتنع عليهم ولما الحوا عليه ركب حمارة له ثم سار نحو معسكر بني إسرائيل فلما أشرف عليهم ربضت به حمارته فضربها حتى قامت فسارت غير بعيد وربضت فضربها ضربا أشد من الأول فقامت ثم ربضت فضربها فقالت له يا بلعام أين تذهب أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع عنها فضربها حتى سارت به حتى أشرف عليهم من رأس جبل حسبان ونظر إلى معسكر موسى وبني إسرائيل فأخذ يدعو عليهم فجعل لسانه لا يطيعه إلا أن يدعو لموسى وقومه ويدعو على قوم نفسه فلاموه على ذلك فاعتذر اليهم بأنه لا يجري على لسانه إلا هذا واندلع لسانه حتى وقع على صدره وقال لقومه ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة ثم أمر قومه أن يزينوا النساء ويبعثوهن بالأمتعة يبعن عليهم ويتعرضن لهم حتى لعلهم يقعون في الزنا فإنه متى زنى رجل منهم كفيتموه ففعلوا وزينوا نساءهم وبعثوهن إلى المعسكر فمرت امرأة منهم اسمها كستى برجل من عظماء بني إسرائيل وهو زمري بن شلوم يقال إنه كان رأس سبط بني شمعون بن يعقوب فدخل بها قبته فلما خلا بها أرسل الله الطاعون على بني إسرائيل فجعل يحوس فيهم فلما بلغ الخبر إلى فنحاص بن العزار بن هرون أخذ حربته وكانت من حديد فدخل عليهما القبة فانتظمهما جميعا فيها ثم خرج بهما على الناس والحربة في يده وقد اعتمد على خاصرته وأسندها إلى لحيته ورفعهما نحو السماء وجعل يقول اللهم هكذا تفعل بمن يعصيك ورفع الطاعون فكان جملة من مات في تلك الساعة سبعين ألفا والمقلل يقول عشرين الفا وكان فنحاص بكر أبيه العزار بن هرون فلهذا يجعل بنو إسرائيل لولد فنحاص من الذبيحة الليه والذراع واللحى ولهم البكر من كل أموالهم وأنفسهم وهذا الذي ذكره ابن اسحق من قصة بلعام صحيح قد ذكره غير واحد من علماء السلف لكن لعله لما أراد موسى دخول بيت المقدس أول مقدمه من الديار المصرية ولعله مراد ابن اسحاق ولكنه ما فهمه بعض الناقلين عنه وقد قدمنا عن نص التوراة ما يشهد لبعض هذا والله أعلم ولعل هذه قصة أخرى كانت في خلال سيرهم في التيه فإن في هذا السياق ذكر حسبان وهي بعيدة عن أرض بيت المقدس أو لعله كان هذا لجيش موسى الذين عليهم يوشع بن نون حين خرج بهم من التيه قاصدا بيت المقدس كما صرح به السدي والله أعلم وعلى كل تقدير فالذي عليه الجمهور أن هرون توفي بالتيه
قبل موسى أخيه بنحو من سنتين وبعده موسى في التيه أيضا كما قدمنا وانه سأل ربه أن يقرب إلى بيت المقدس فأجيب إلى ذلك فكان الذي خرج بهم من التيه وقصد بهم بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام فذكر أهل الكتاب وغيرهم من أهل التاريخ أنه قطع بني إسرائيل نهر الأردن وانتهى إلى أريحا وكانت من أحصن المدائن سورا وأعلاها قصورا وأكثرها أهلا فحاصرها ستة أشهر ثم إنهم أحاطوا بها يوما وضربوا بالقرون يعني الأبواق وكبروا تكبيرة رجل واحد فتفسخ سورها وسقط وجبة واحدة فدخلوها وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم وقتلوا اثني عشر ألفا من الرجال والنساء وحاربوا ملوكا كثيرة ويقال إن يوشع ظهر على أحد وثلاثين ملكا من ملوك الشام وذكروا أنه انتهى محاصرته لها إلى يوم جمعة بعد العصر فلما غربت الشمس أو كادت تغرب ويدخل عليهم السبت الذي جعل عليهم وشرع لهم ذلك الزمان قال لها إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي فحبسها الله عليه حتى تمكن من فتح البلد وأمر القمر فوقف عند الطلوع وهذا يقتضي أن هذه الليلة كانت الليلة الرابعة عشرة من الشهر والأول وهو قصة الشمس المذكورة في الحديث الذي سأذكره وأما قصة القمر فمن عند أهل الكتاب ولا ينافي الحديث بل فيه زيادة تستفاد فلا تصدق ولا تكذب ولكن ذكرهم أن هذا في فتح اريحا فيه نظر والأشبه والله أعلم أن هذا كان في فتح بيت المقدس الذي هو المقصود الأعظم وفتح اريحا كان وسيلة اليه والله أعلم
قال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس انفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط البخاري وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام لا موسى وان حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا اريحا كما قلنا وفيه أن هذا كان من خصائص يوشع عليه السلام فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه أن الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب صلاة العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته فسأل رسول الله أن يردها عليه حتى يصلي العصر فرجعت وقد صححه علي بن صالح المصري ولكنه منكر ليس في شيء من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعي على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها والله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن ولا آخر قد بنى بنيانا ولم يرفع سقفها ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه فجمعوا ما غنموا فأتت النار لتأكله فأبت أن تطعمه
فقال فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده فقال فيكم الغلول وليتابعني قبيلتك فبايعته قبيلته فلصق بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول أنتم غللتم فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب قال فوضعوه بالمال وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلته فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا انفرد به مسلم من هذا الوجه وقد روى البزار من طريق مبارك بن فضالة عن عبيدالله عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه قال ورواه محمد بن عجلان عن سعيد المقبري قال ورواه قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والمقصود أنه لما دخل بهم باب المدينة أمروا أن يدخلوها سجدا أي ركعا متواضعين شاكرين لله عز وجل على ما من به عليهم من الفتح العظيم الذي كان الله وعدهم اياه وأن يقولوا حال دخولهم حطة أي حط عنا خطيانا التي سلفت من نكولنا الذي تقدم منا ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم فتحها دخلها وهو راكب ناقته وهو متواضع حامد شاكر حتى أن عثنونه وهو طرف لحيته ليمس مورك رحله مما يطأطىء رأسه خضعانا لله عز وجل ومعه الجنود والجيوش ممن لا يرى منه إلا الحدق ولا سيما الكتيبة الخضراء التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لما دخلها اغتسل وصلى ثماني ركعات وهي صلاة الشكر على النصر على المنصور من قولي العلماء وقيل إنها صلاة الضحى وما حمل هذا القائل على قوله هذا الا لأنها وقعت وقت الضحى وأما بنو إسرائيل فإنهم خالفوا ما أمروا به قولا وفعلا دخلوا الباب يزحفون على استاههم يقولون حبة في شعرة وفي رواية حنطة في شعرة وحاصله أنهم بدلوا ما أمروا به واستهزؤا به كما قال تعالى حاكيا عنهم في سورة الأعراف وهي مكية وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون وقال في سورة البقرة وهي مدنية مخاطبا لهم وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وادخلوا الباب سجدا قال ركعا من باب صغير رواه الحاكم وابن جرير وابن أبي حاتم وكذا روى العوفي عن ابن عباس وكذا روى الثوري عن ابن اسحاق عن البراء قال مجاهد والسدي والضحاك والباب هو باب حطة من بيت ايلياء بيت المقدس قال ابن مسعود فدخلوا مقنعي رؤوسهم ضد ما أمروا به وهذا لا ينافي قول ابن عباس أنهم دخلوا يزحفون على استاههم وهكذا في الحديث الذي سنورده بعد فإنهم دخلوا يزحفون وهم مقنعوا رؤوسهم وقوله وقولوا حطة الواو هنا حالية لا عاطفة أي ادخلوا سجدا في حال قولكم حطة قال ابن عباس وعطاء والحسن وقتادة والربيع
أمروا أن يستغفروا قال البخاري حدثنا محمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا يزحفون على استاههم فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة وكذا رواه النسائي من حديث ابن المبارك ببعضه ورواه عن محمد بن اسماعيل بن إبراهيم عن ابن مهدي به موقوفا وقد قال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على استاههم فقالوا حبة في شعرة ورواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث عبدالرزاق وقال الترمذي حسن صحيح وقال محمد بن اسحاق كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وعمن لا اتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا يزحفون على استاههم وهم يقولون حنطة في شعيرة وقال اسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود قال في قوله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم قال قالوا هطى سقاثا ازمة مزبا فهي في العربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء وقد ذكر الله تعالى أنه عاقبهم على هذه المخالفة بإرسال الرجز الذي أنزله عليهم وهو الطاعون كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عامر بن سعد ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم أبي النضر عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم وروى النسائي وابن أبي حاتم وهذا لفظه من حديث الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم وقال الضحاك عن ابن عباس الرجز العذاب وكذا قال مجاهد وأبو مالك والسدي والحسن وقتادة وقال أبو العالية هو الغضب وقال الشعبي الرجز إما الطاعون وإما البرد وقال سعيد بن جبير هو الطاعون ولما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس استمروا فيه وبين أظهرهم نبي الله يوشع يحكم بينهم بكتاب الله التوراة حتى قبضه الله إليه وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة فكان مدة حياته بعد موسى سبعا وعشرين سنة
*2* قصتا الخضر والياس عليهما السلام
@ أما الخضر فقد تقدم أن موسى عليه السلام رحل إليه في طلب ما عنده من العلم اللدني وقص الله من خبرهما في كتابه العزيز في سورة الكهف وذكرنا في تفسير ذلك هنالك وأوردنا هنا ذكر الحديث
المصرح بذكر الخضر عليه السلام وأن الذي رحل إليه هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام الذي أنزلت عليه التوراة
وقد اختلف في الخضر في اسمه ونسبه ونبوته وحياته الى الآن على أقوال سأذكرها لك ههنا إن شاء الله وبحوله وقوته قال الحافظ ابن عساكر يقال إنه الخضر بن آدم عليه السلام لصلبه ثم روى من طريق الدارقطني حدثنا محمد بن الفتح القلانسي حدثنا العباس بن عبدالله الرومي حدثنا رواد بن الجراح حدثنا مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس قال الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال وهذا منقطع وغريب وقال أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني سمعت مشيختنا منهم أبو عبيدة وغيره قالوا إن أطول بني آدم عمرا الخضر واسمه خضرون بن قابيل بن آدم قال وذكر ابن اسحق أن آدم عليه السلام لما حضرته الوفاة أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس وأوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السفينة وأن يدفنوه في مكان عينه لهم فلما كان الطوفان حملوه معهم فلما هبطوا إلى الأرض أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى فقالوا إن الأرض ليس بها أنيس وعليها وحشة فحرضهم وحثهم على ذلك وقال إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه وأنجز الله ما وعده فهو يحيى إلى ما شاء الله له أن يحيى وذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه أن اسم الخضر بليا ويقال ايليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام وقال اسماعيل بن أبي أويس اسم الخضر فيما بلغنا والله أعلم المعمر بن مالك بن عبدالله بن نصر بن لازد وقال غيره هو خضرون بن عمياييل بن اليفز بن العيص بن اسحق بن ابراهيم الخليل ويقال هو أرميا بن خلقيا فالله أعلم وقيل إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر وهذا غريب جدا قال ابن الجوزي رواه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة وهما ضعيفان وقيل إنه ابن مالك وهو أخو الياس قاله السدي كما سيأتي وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين وقيل كان ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه وقيل كان نبيا في زمن بشتاسب بن لهراسب
قال ابن جرير والصحيح أنه كان متقدما في زمن أفريدون ابن اثفيان حتى أدركه موسى عليهما السلام وروى الحافظ بن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال الخضر أمه رومية وأبوه فارسي
وقد ورد ما يدل على أنه كان من بني إسرائيل في زمان فرعون أيضا قال أبو زرعة في دلائل النبوة حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي حدثنا الوليد حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليله أسري به وجد رائحة طيبة فقال يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة قال هذه ريح قبر الماشطة وابنتها وزوجها وقال وكان بدء ذلك أن الخضر كان من
أشراف بني إسرائيل وكان ممره براهب في صومعته فتطلع عليه الراهب فعلمه الاسلام فلما بلغ الخضر زوجه أبوه امرأة فعلمها الاسلام وأخذ عليها أن لا تعلم أحدا وكان لا يقرب النساء ثم طلقها ثم زوجه أبوه بأخرى فعلمها الإسلام وأخذ عليها أن لا تعلم أحدا ثم طلقها فكتمت إحداهما وأفشت عليه الأخرى فانطلق هاربا حتى أتى جزيرة في البحر فأقبل رجلان يحتطبان فرأياه فكتم أحدهما وأفشى عليه الآخر قال قد رأيت العزقيل ومن رآه معك قال فلان فسئل فكتم وكان من دينهم انه من كذب قتل فقتل وكان قد تزوج الكاتم المرأة الكاتمة قال فبينما هي تمشط بنت فرعون اذ سقط المشط من يدها فقالت نعس فرعون فأخبرت أباها وكان للمرأة ابنان وزوج فأرسل اليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما فأبيا فقال إني قاتلكما فقالا احسان منك الينا إن أنت قتلتنا أن تجعلنا في قبر واحد فجعلتها في قبر واحد فقال وما وجدت ريحا أطيب منهما وقد دخلت الجنة وقد تقدمت قصة مائلة بنت فرعون وهذا المشط في أمر الخضر قد يكون مدرجا من كلام أبي بن كعب أو عبدالله بن عباس والله أعلم وقال بعضهم كنيته أبو العباس والأشبه والله أعلم أن الخضر لقب غلب عليه قال البخاري رحمه الله حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني حدثنا ابن المبارك عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء تفرد به البخاري وكذلك رواه عبدالرزاق عن معمر به ثم قال عبدالرزاق الفروة الحشيش الأبيض وما أشبهه يعني الهشيم اليابس وقال الخطابي وقال أبو عمر الفروة الأرض البيضاء التي لا نبات فيها وقال غيره هو الهشيم اليابس شبهه بالفروة ومنه قيل فروة الرأس وهي جلدته بما عليها من الشعر كما قال الراعي
ولقد ترى الحبشي حول بيوتنا * جذلا إذا ما نال يوما ما كلا
جعدا أصك كأن فروة رأسه * بذرت فأنبت جانباه فلفلا
قال الخطابي إنما سمي الخضر خضرا لحسنه واشراق وجهه قلت هذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح فإن كان ولا بد من التعليل بأحدهما فما ثبت في الصحيح أولى وأقوى بل لا يلتفت إلى ما عداه وقد روى الحافظ بن عساكر هذا الحديث أيضا من طريق اسماعيل بن حفص بن عمر الأيلي حدثنا عثمان وأبو جزي وهمام بن يحيى عن قتادة عن عبدالله بن الحارث بن نوفل عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما سمي الخضر خضرا لأنه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء وهذا غريب من هذا الوجه وقال قبيصة عن الثوري عن منصور عن مجاهد قال إنما سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله وتقدم أن موسى ويوشع عليهما السلام لما رجعا يقصان الاثر وجداه على طنفسة خضراء على كبد البحر وهو مسجى بثوب قد جعل طرفاه من تحت رأسه وقدميه فسلم عليه السلام فكشف عن وجهه فرد وقال أني بأرضك السلام من أنت قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم فكان من أمرهما ما قصه
الله في كتابه عنهما
وقد دل سباق القصة على نبوته من وجوه أحدهما قوله تعالى فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما الثاني قول موسى له هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فلو كان وليا وليس بني لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة ولم يرد على موسى هذا الرد بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه فلو كان غير نبي لم يكن معصوما ولم تكن لموسى وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عليه ولو أنه يمضي حقبا من الزمان قيل ثمانين سنة ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه واتبعه في صورة مستفيد منه دل على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه وقد خص من العلوم اللدنية والأسرار النبوية بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم نبي بني إسرائيل الكريم وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرماني على نبوة الخضر عليه السلام الثالث أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام وهذا دليل مستقل على نبوته وبرهان ظاهر على عصمته لأن الولي لا يجوز له الاقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده لأن خاطره ليس بواجب العصمة إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم علما منه بأنه إذا بلغ يكفر ويحمل أبويه عن الكفر لشدة محبتهما له فيتابعانه عليه ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته دل ذلك على نبوته وأنه مؤيد من الله بعصمته وقد رأيت الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضا الرابع أنه لما فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لموسى ووضح له عن حقيقة أمره وجلى قال بعد ذلك كله رحمة من ربك وما فعلته من أمري يعني ما فعلته من تلقاء نفسي بل أمرت به وأوحى إلي فيه فدلت هذه الوجوه على نبوته ولا ينافي ذلك حصول ولايته بل ولا رسالته كما قاله آخرون وأما كونه ملكا من الملائكة فغريب جدا وإذا ثبت نبوته كما ذكرناه لم يبق لمن قال بولايته وإن الولي قد يطلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر مستند يستندون إليه ولا معتمد يعتمدون عليه
وأما الخلاف في وجوده إلى زماننا هذا فالجمهور على أنه باق إلى اليوم قيل لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة وقيل لأنه شرب من عين الحياة فحيى
وذكروا أخبارا استشهدوا بها على بقائه إلى الآن وسنوردها إن شاء الله تعالى وبه الثقة وهذه وصيته لموسى حين قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئكم بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا روى في ذلك آثار منقطعة كثيرة قال البيهقي أنبأنا أبو سعيد ابن أبي عمرو حدثنا أبو عبدالله الصفار حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا اسحاق ابن اسماعيل حدثنا جرير حدثني أبو عبدالله الملطي قال لما أراد موسى أن يفارق الخضر قال له موسى أوصني قال كن نفاعا ولا تكن ضرارا كن بشاشا ولا تكن غضبان ارجع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة وفي رواية من طريق أخرى زيادة ولا تضحك إلا من عجب وقال وهب بن منبه قال الخضر يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها وقال بشر بن الحارث الحافي قال موسى للخضر أوصني فقال يسر الله عليك طاعته وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه ابن عساكر من طريق ذكرياء بن يحيى الوقاد إلا أنه من الكذابين الكبار قال قرىء على عبدالله بن وهب وأنا أسمع قال الثوري قال مجالد قال أبو الوداك قال أبو سعيد الخدري قال عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أخي موسى يا رب ذكر كلمته فأتاه الخضر وهو فتى طيب الريح حسن بياض الثياب مشمرها فقال السلام عليك ورحمة الله يا موسى بن عمران إن ربك يقرأ عليك السلام قال موسى هو السلام وإليه السلام والحمد لله رب العالمين الذي لا أحصي نعمه ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته ثم قال موسى أريد أن توصيني بوصية ينفعني الله بها بعدك فقال الخضر يا طالب العلم ان القائل اقل ملامة من المستمع فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم وأعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك واغرف من الدنيا وأنبذها وراءك فإنها ليست لك بدار ولا لك فيها محل قرار وإنما جعلت بلغة للعباد والتزود منها ليوم المعاد ورض نفسك على الصبر تخلص من الاثم يا موسى تفرغ للعلم ان كنت تريده فانما العلم لمن تفرغ له ولا تكن مكثارا للعلم مهذارا فإن كثرة المنطق تشين العلماء وتبدي مساوي السخفاء ولكن عليك بالاقتصاد فإن ذلك من التوفيق والسداد وأعرض عن الجهال وماطلهم وأحلم عن السفهاء فإن ذلك فعل الحكماء وزين العلماء اذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حلما وجانبه حزما فإن ما بقي من جهله عليك وسبه اياك أكثر وأعظم يا ابن عمران ولا ترى أنك أوتيت من العلم إلا قليلا فإن الاندلاث والتعسف من الاقتحام والتكلف يا ابن عمران لا تفتحن بابا لا ندري ما غلقه ولا تغلقن بابا لا تدري ما فتحه يا ابن عمران من لا ينتهي من الدنيا نهمته ولا تنقضي منها رغبته ومن يحقر حاله ويتهم الله فيما قضى له كيف يكون زاهدا هل يكف عن الشهوات من غلب عليه هواه أو ينفعه طلب العلم والجهل قد حواه لأن سعيه إلى آخرته وهو مقبل على دنياه يا موسى تعلم ما تعلمت لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به فيكون عليك بواره ولغيرك نوره يا موسى بن عمران اجعل الزهد والتقوى لباسك والعلم والذكر كلامك واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات وزعزع بالخوف قلبك فإن ذلك يرضى ربك واعمل خيرا فإنك لا بد
عامل سوء قد وعظت ان حفظت قال فتولي الخضر وبقي موسى محزونا مكروبا يبكي
لا يصح هذا الحديث وأظنه من صنعة ذكريا بن يحيى الوقاد المصري كذبه غير واحد من الأئمة والعجب أن الحافظ بن عساكر سكت عنه وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ثنا عمرو بن اسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي حدثنا محمد بن الفضل بن عمران الكندي حدثنا بقية بن الوليد عن محمد بن زياد عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ألا أحدثكم عن الخضر قالوا بلى يا رسول الله قال بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب فقال تصدق علي بارك الله فيك فقال الخضر آمنت بالله ما شاء الله من أمر يكون ما عندي من شيء أعطيكه فقال المسكين أسألك بوجه الله لما تصدقت علي فإني نظرت إلى السماء في وجهك ورجوت البركة عندك فقال الخضر آمنت بالله ما عندي من شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني فقال المسكين وهل يستقيم هذا قال نعم الحق أقول لك لقد سألتني بأمر عظيم أما أني لا أخيبك بوجه ربي بعنى قال فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم فمكث عند المشتري زمانا لا يستعمله في شيء فقال له انك ابتعتني التماس خير عندي فأوصني بعمل قال أكره أن أشق عليك انك شيخ كبير ضعيف قال ليس يشق على قال فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم فخرج الرجل لبعض حاجاته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة فقال أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه ثم عرض للرجل سفر فقال إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة قال فأوصني بعمل قال إني أكره أن أشق عليك قال ليس تشق على قال فاضرب من اللبن لبيتي حتى أقدم عليك فمضى الرجل لسفره فرجع وقد شيد بناؤه فقال أسألك بوجه الله ما سبيلك وما أمرك فقال سألتني بوجه الله والسؤال بوجه الله أوقعني في العبودية سأخبرك من أنا أنا الخضر الذي سمعت به سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي من شيء أعطيه فسألني بوجه الله فامكنته من رقبتي فباعني وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو بقدر وقف يوم القيامة جلده لا لحم له ولا عظم يتقعقع فقال الرجل آمنت بالله شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم فقال لا بأس أحسنت وأبقيت فقال الرجل بأبي وأمي يا نبي الله أحكم في أهل ومالي بما أراك الله أو أخيرك فاخلى سبيلك فقال أحب أن تخلي سبيلي فاعبد ربي فخلى سبيله فقال الخضر الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ثم نجاني منها وهذا حديث رفعه خطأ والأشبه أن يكون موقوفا وفي رجاله من لا يعرف فالله أعلم
وقد رواه ابن الجوزي في كتابه عجالة المنتظر في شرح حال الخضر من طريق عبدالوهاب بن الضحاك وهو متروك عن بقية وقد روى الحافظ بن عساكر بإسناده إلى السدي أن الخضر والياس كانا أخوين وكان أبوهما ملكا فقال الياس لأبيه إن أخي الخضر لا رغبة له في الملك فلو أنك زوجته لعله يجيء منه ولد يكون الملك له فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر فقال لها الخضر إنه لا حاجة لي في النساء فإن
شئت اطلقت سراحك وان شئت أقمت معي تعبدين الله عز وجل وتكتمين على سرى فقالت نعم وأقامت معه سنة فلما مضت السنة دعاها الملك فقال إنك شابة وابني شاب فأين الولد فقالت إنما الولد من عند الله إن شاء كان وان لم يشأ لم يكن فأمره أبوه فطلقها وزوجه بأخرى ثيبا قد ولد لها فلما زفت إليه قال لها كما قال للتي قبلها فأجابت إلى الإقامة عنده فلما مضت السنة سألها الملك عن الولد فقالت إن ابنك لا حاجة له بالنساء فتطلبه أبوه فهرب فأرسل وراءه فلم يقدروا عليه فيقال إنه قتل المرأة الثانية لكونها أفشت سره فهرب من أجل ذلك وأطلق سراح الأخرى فأقامت تعبد الله في بعض نواحي تلك المدينة فمر بها رجل يوما فسمعته يقول بسم الله فقالت له أنى لك هذا الاسم فقال إني من أصحاب الخضر فتزوجته فولدت له أولادا ثم صار من أمرها أن صارت ماشطة بنت فرعون فبينما هي يوما تمشطها إذ وقع المشط من يدها فقالت بسم الله فقالت ابنة فرعون أبي فقالت لا ربي وربك ورب أبيك الله فأعلمت أباها فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها فألقيت فيه فلما عاينت ذلك تقاعست أن تقع فيها فقال لها ابن معها صغير يا أمه اصبري فإنك على الحق فألقت نفسها في النار فماتت رحمها الله وقد روى ابن عساكر عن أبي داود الأعمى نفيع وهو كذاب وضاع عن أنس بن مالك ومن طريق كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف وهو كذاب أيضا عن أبيه عن جده أن الخضر جاء ليلة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ويقول اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم اليه فبعث اليه رسول الله أنس بن مالك فسلم عليه فرد عليه السلام وقال قل له ان الله فضلك على الأنبياء كما فضل شهر رمضان على سائر الشهور وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على غيره الحديث وهو مكذوب لا يصح سندا ولا متنا كيف لا يتمثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجيء بنفسه مسلما ومتعلما وهم يذكرون في حكاياتهم وما يسندونه عن بعض مشايخهم أن الخضر يأتي اليهم ويسلم عليهم ويعرف أسماءهم ومنازلهم ومحالهم وهو مع هذا لا يعرف موسى بن عمران كليم الله الذي اصطفاه الله في ذلك الزمان على من سواه حتى يتعرف إليه بأنه موسى بني إسرائيل وقد قال الحافظ أبو الحسين بن المنادى بعد ايراده حديث أنس هذا وأهل الحديث متفقون على أنه حديث منكر الاسناد سقيم المتن يتبين فيه أثر الصنعة فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي قائلا أخبرنا أبو عبدالله الحافظ أخبرنا أبو بكر بن بالويه حدثنا محمد بن بشر بن مطر حدثنا كامل بن طلحة حدثنا عباد بن عبدالصمد عن أنس بن مالك قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به أصحابه فبكوا حوله واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ان في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فإلى الله فأنيبوا واليه فارغبوا ونظر اليكم في البلاء فانظروا فإن المصاب من لم يجبر وانصرف فقال بعضهم لبعض تعرفون الرجل فقال أبو بكر وعلي
نعم هو أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر عليه السلام وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن كامل بن طلحة به وفي متنه مخالفة لسياق البيهقي ثم قال البيهقي عباد بن عبدالصمد ضعيف وهذا منكر بمرة قلت عباد بن عبد الصمد هذا هو ابن معمر البصري روى عن أنس نسخة قال ابن حبان والعقيلي أكثرها موضوع وقال البخاري منكر الحديث وقال أبو حاتم ضعيف الحديث جدا منكره وقال ابن عدي عام ما يرويه في فضائل علي وهو ضعيف غال في التشيع وقال الشافعي في مسنده أخبرنا القاسم بن عبدالله بن عمر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب قال علي بن الحسين أتدرون من هذا هذا الخضر شيخ الشافعي القاسم العمري متروك قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يكذب زاد أحمد ويضع الحديث ثم هو مرسل ومثله لا يعتمد عليه ههنا والله أعلم وقد روى من وجه آخر ضعيف عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أبيه عن علي ولا يصح وقد روى عبدالله بن وهب عمن حدثه عن محمد بن عجلان عن محمد بن المنكدر أن عمر بن الخطاب بينما هو يصلي على جنازة إذ سمع هاتفا وهو يقول لا تسبقنا يرحمك الله فانتظره حتى لحق بالصف فذكر دعاءه للميت إن تعذبه فكثيرا عصاك وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك ولما دفن قال طوبى لك يا صاحب القبر إن لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا فقال عمر خذوا الرجل نسأله عن صلاته وكلامه عمن هو قال فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع فقال عمر هذا والله الخضر الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الأثر فيه مبهم وفيه انقطاع ولا يصح مثله
وروى الحافظ بن عساكر عن الثوري عن عبدالله بن محرز عن يزيد بن الأصم عن علي بن أبي طالب قال دخلت الطواف في بعض الليل فإذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول يا من لا يمنعه سمع من سمع ويا من لا تغلطه المسائل ويا من لا يبرمه الحاح الملحين ولا مسألة السائلين ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك قال فقلت أعد علي ما قلت فقال لي أو سمعته قلت نعم فقال لي والذي نفس الخضر بيده قال وكان هو الخضر لا يقولها عبد خلف صلاة مكتوبة إلا غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر وورق الشجر وعدد النجوم لغفرها الله له وهذا ضعيف من جهة عبدالله بن المحرز فإنه متروك الحديث ويزيد بن الأصم لم يدرك عليا ومثل هذا لا يصح والله أعلم وقد رواه أبو اسماعيل الترمذي حدثنا مالك بن اسماعيل حدثنا صالح بن أبي الأسود عن محفوظ بن عبدالله الحضرمي عن محمد بن يحيى قال بينما علي بن أبي طالب يطوف بالكعبة إذا هو برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا يغلطه السائلون ويا من لا يتبرم بالحاح الملحين أرزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك
قال فقال له علي يا عبدالله أعد دعاءك هذا قال وقد سمعته قال نعم قال فادع به في دبر كل صلاة فوالذي نفس الخضر بيده لو كانت عليك من الذنوب عدد نجوم السماء ومطرها وحصباء الأرض وترابها لغفر لك أسرع من طرفة عين وهذا أيضا منقطع وفي اسناده من لا يعرف والله أعلم
وقد أورد ابن الجوزي من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا حدثنا يعقوب بن يوسف حدثنا مالك بن اسماعيل فذكر نحوه ثم قال وهذا إسناد مجهول منقطع وليس فيه ما يدل على أن الرجل الخضر وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر أنبأنا أبو القاسم بن الحصين أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد أنبأنا أبو اسحق المزكى حدثنا محمد بن اسحق بن خزيمة حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد أملاه علينا بعبادان أنبأنا عمرو بن عاصم حدثنا الحسن بن زريق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال يلتقي الخضر والياس كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا يصرف الشر إلا الله ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال وقال ابن عباس من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات آمنه الله من الغرق والحق والسرق قال وأحسبه قال ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب
قال الدارقطني في الافراد هذا حديث غريب من حديث ابن جريج لم يحدث به غير هذا الشيخ عنه يعني الحسن بن زريق هذا وقد روى عنه محمد بن كثير العبدي أيضا ومع هذا قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي ليس بالمعروف وقال الحافظ أبو جعفر العقيلي مجهول وحديثه غير محفوظ وقال أبو الحسن بن المنادي هو حديث واه بالحسن بن زريق وقد روى ابن عساكر نحوه من طريق علي بن الحسن الجهضمي وهو كذاب عن ضمرة بن حبيب المقدسي عن أبيه عن العلاء بن زياد القشيري عن عبدالله بن الحسن عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مرفوعا قال يجتمع كل يوم عرفة بعرفات جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر وذكر حديثا طويلا موضوعا تركنا ايراده قصدا ولله الحمد وروى ابن عساكر من طريق هشام بن خالد عن الحسن بن يحيى الخشني عن ابن أبي رواد قال الياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويحجان في كل سنة ويشربان من ماء زمزم شربة واحدة تكفيهما إلى مثلها من قابل وروى ابن عساكر أن الوليد بن عبدالملك بن مروان باني جامع دمشق أحب أن يتعبد ليلة في المسجد فأمر القومة أن يخلوه له ففعلوا فلما كان من الليل جاء من باب الساعات فدخل الجامع فإذا رجل قائم يصلي فيما بينه وبين باب الخضراء فقال للقومة ألم آمركم أن تخلوه فقالوا يا أمير المؤمنين هذا الخضر يجيء كل ليلة يصلي ههنا وقال ابن عساكر أيضا أنبأنا أبو القاسم بن اسماعيل بن أحمد أنبأنا أبو بكر بن الطبري أنبأنا أبو الحسين بن الفضل أنبأنا عبدالله بن جعفر حدثنا يعقوب هو
ابن سفيان الفسوي حدثني محمد بن عبدالعزيز حدثنا حمزة عن السري بن يحيى عن رباح بن عبيدة قال رأيت رجلا يماشي عمر بن عبدالعزيز معتمدا على يديه فقلت في نفسي إن هذا الرجل حافي قال فلما انصرف من الصلاة قلت من الرجل الذي كان معتمدا على يدك آنفا قال وهل رأيته يا رباح قلت نعم قال ما أحسبك إلا رجلا صالحا ذاك أخي الخضر بشرني أني سألي وأعدل قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي الرملي مجروح عند العلماء وقد قدح أبو الحسين بن المنادى في ضمرة والسرى ورباح ثم أورد من طرق أخر عن عمر بن عبدالعزيز أنه اجتمع بالخضر وضعفها كلها وروى ابن عساكر أيضا أنه اجتمع بابراهيم التيمي وبسفيان بن عيينة وجماعة يطول ذكرهم وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدا لا يقوم بمثلها حجة في الدين والحكايات لا يخلو أكثرها عن ضعف في الاسناد وقصاراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره لأنه يجوز عليه الخطأ والله أعلم وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن الزهري أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أن أبا سعيد قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا طويلا عن الدجال وقال فيما يحدثنا يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خيرهم فيقول أشهد أنك أنت الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه فيقول الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر فيقولون لا فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحيى والله ما كنت أشد بصيرة فيك مني ألآن قال فيريد قتله الثانية فلا يسلط عليه قال معمر بلغني أنه يجعل على حلقه صحيفة من نحاس وبلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حيدث الزهري به وقال أبو اسحق ابراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي عن مسلم الصحيح أن يقال إن هذا الرجل الخضر وقول معمر وغيره بلغني ليس فيه حجة وقد ورد في بعض الفاظ الحديث فيأتي بشاب ممتلىء شباب فيقتله وقوله الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتضي المشافهة بل يكفي التواتر وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في كتابه عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعات ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها وجهالة رجالها وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات ومنهم البخاري وابراهيم الحربي وأبو الحسين بن المنادي والشيخ أبو الفرج بن الجوزي وقد انتصر لذلك والف فيه كتابا سماه عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر فيحتج لهم بأشياء كثيرة منها قوله وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد فالخضر إن كان بشرا فقد دخل في هذا العموم لا محالة ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح انتهى والأصل عدمه حتى يثبت ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله ومنها أن الله تعالى قال وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب
وحكمه ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين قال ابن عباس ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وينصرنه ذكره البخاري عنه فالخضر إن كان نبيا أو وليا فقد دخل في هذا الميثاق فلو كان حيا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه يؤمن بما أنزل الله عليه وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه لأنه إن كان وليا فالصديق أفضل منه وإن كان نبيا فموسى أفضل منه وقد روى الإمام أحمد في مسنده حدثنا شريح بن النعمان حدثنا هشيم أنبأنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة وقد دلت عليه هذه الآية الكريمة أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا كلهم أتباعا له وتحت أوامره وفي عموم شرعه كما أنه صلوات الله وسلامه عليه لما اجتمع معهم ليلة الإسراء رفع فوقهم كلهم ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس وحانت الصلاة أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم فصلى بهم في محل ولايتهم ودار اقامتهم فدل على أنه الامام الأعظم والرسول الخاتم المبجل المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين فإذا علم هذا وهو معلوم عند كل مؤمن علم أنه لو كان الخضر حيا لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وممن يقتدي بشرعه لا يسعه إلا ذلك هذا عيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان بحكم بهذه الشريعة المطهرة لا يخرج منها ولا يحيد عنها وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين وخاتم أنبياء بني إسرائيل والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به لربه عز وجل واستنصره واستفتحه على من كفره اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال إنه أفخر بيت قالته العرب
وثبير بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد
فلو كان الخضر حيا لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته وأعظم غزواته قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي سئل بعض أصحابنا عن الخصر هل مات فقال نعم قال وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن الغباري قال وكان يحتج بأنه لو كان حيا لجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نقله ابن الجوزي في العجالة فإن قيل فهل يقال إنه كان حاضرا في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه فالجواب أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العمومات بمجرد التوهمات
ثم ما الحاصل له على هذا الاختفاء وظهوره أعظم لأجره وأعلى في مرتبته وأظهر لمعجزته ثم لو كان باقيا بعده لكان تبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث النبوة والآيات القرآنية وانكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة والروايات المقلوبة والآراء البدعية والأهواء العصبية وقتاله مع المسلمين في غزواتهم وشهوده جمعه وجماعاتهم ونفعه إياهم ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم وتسديده العلماء والحكام وتقريره الأدلة والأحكام أفضل ما يقال عنه من كنونه في الأمصار وجوبه الفيافي والأقطار واجتماع بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف أحد فيه بعد التفهيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ليلة العشاء ثم قال أرأيتم ليلتكم هذه فإنه إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الأرض اليوم أحد وفي رواية عين تطرف قال ابن عمر فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه وإنما أراد انخرام قرنه قال الامام أحمد حدثنا عبدالرزاق أنبأنا معمر عن الزهري قال اخبرني سالم بن عبدالله وأبو بكر بن سليمان ابن أبي خيثمة أن عبدالله بن عمر قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال أرأيتم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن أبي نضرة عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل أو بشهر ما من نفس منفوسة أو ما منكم من نفس اليوم منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية وقال أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا بن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بشهر يسألونني عن الساعة وإنما علمها عند الله أقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهكذا رواه مسلم من طريق أبي نضرة وأبي الزبير كل منهما عن جابر بن عبدالله به نحوه وقال الترمذي حدثنا عباد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهذا أيضا على شرط مسلم قال ابن الجوزي فهذه الأحاديث الصحاح تقطع دابر دعوى حياة الخضر قالوا فالخضر إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو المظنون الذي يترقى في القوى إلى القطع فلا إشكال وإن كان قد أدرك زمانه فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة فيكون الآن مفقودا لا موجودا لأنه داخل في هذا العموم والأصل عدم المخصص له حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله والله أعلم
وقد حكى الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتابه التعريف والاعلام عن البخاري وشيخه أبي بكر بن العربي أنه أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن مات بعده لهذا الحديث وفي كون البخاري رحمه الله يقول بهذا وأنه بقي إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم نظر ورجح السهيلي بقاءه وحكاه عن الأكثرين قال وأما اجتماعهم
مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت بعده فمروى من طرق صحاح ثم ذكر ما تقدم مما صعفناه ولم يورد أسانيدها والله أعلم
*2* وأما الياس عليه السلام
@ فقال الله تعالى بعد قصة موسى وهرون من سورة الصافات وإن الياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آباءكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على الياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين قال علماء النسب هو الياس التشبي ويقال ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون وقيل الياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران قالوا وكان ارساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق فدعاهم إلى الله عز وجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا وقيل كانت امرأة اسمها بعل والأول أصح ولهذا قال لهم ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آباءكم الأولين فكذبوه وخالفوه وأرادوا قتله فيقال إنه هرب منهم واختفى عنهم قال أبو يعقوب الأذرعي عن يزيد بن عبدالصمد عن هشام بن عمار قال وسمعت من يذكر عن كعب الأحبار أنه قال إن الياس اختفى من ملك قومه في الغار الذي تحت الدم عشر سنين حتى أهلك الله الملك وولى غيره فأتاه الياس فعرض عليه الاسلام فأسلم وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم وقال ابن أبي الدنيا حدثني أبو محمد القاسم بن هاشم حدثنا عمر بن سعيد الدمشقي حدثنا سعيد بن عبدالعزيز عن بعض مشيخة دمشق قال أقام الياس عليه السلام هاربا من قومه في كهف جبل عشرين ليلة أو قال أربعين ليلة تأتيه الغربان برزقه وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال أول نبي بعث إدريس ثم نوح ثم إبراهيم ثم إسماعيل واسحق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ثم موسى وهارون ابنا عمران ثم الياس التشبي بن العازر بن هارون بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم السلام هكذا قال وفي هذا الترتيب نظر وقال مكحول عن كعب أربعة أنبياء أحياء اثنان في الأرض الياس والخضر واثنان في السماء ادريس وعيسى وقد قدمنا قول من ذكر أن الياس والخضر يجتمعان في كل عام في شهر رمضان ببيت المقدس وأنهما يحجان كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من العام المقبل وأوردنا الحديث الذي فيه أنهما يجتمعان بعرفات كل سنة وبينا أنه لم يصح شيء من ذلك وأن الذي يقوم عليه الدليل أن الخضر مات وكذلك الياس عليهما السلام وما ذكره وهب بن منبه وغيره أنه لما دعا ربه عز وجل أن يقبضه اليه لما كذبوه وآذوه
فجاءته دابة لونها لون النار فركبها وجعل الله له ريشا وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار ملكيا بشريا سماويا وأوصى إلى اليسع بن أخطوب ففي هذا نظر وهو من الاسرائيلات التي لا تصدق ولا تكذب بل الظاهر أن صحتها بعيدة والله أعلم
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو عبدالله الحافظ حدثني أبو أحمد بن سعيد المعداني ببخارا حدثنا عبدالله بن محمود حدثنا عبدان بن سنان حدثني أحمد بن عبدالله البرقي حدثنا يزيد بن يزيد البلوي حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن مكحول عن أنس بن مالك قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فإذا رحل في الوادي يقول اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة المغفورة المتاب لها قال فأشرفت على الوادي فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع فقال لي من أنت فقلت أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأين هو قلت هو ذا يسمع كلامك قال فأته فأقرئه السلام وقل له أخوك الياس يقرئك السلام قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فجاء حتى لقيه فعانقه وسلم ثم قعدا يتحادثان فقال له يا رسول الله إني ما آكل في سنة إلا يوما وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت قال فنزلت عليهما مائدة من السماء عليها خبز وحوت وكرفس فـأكلا وأطعماني وصلينا العصر ثم ودعه ورأيت مر في السحاب نحو السماء فقد كفانا البيهقي أمره وقال هذا حديث ضعيف بمرة والعجب أن الحاكم أبا عبدالله النيسابوري أخرجه في مستدركه على الصحيحين وهذا مما يستدرك به على المستدرك فإنه حديث موضوع مخالف للأحاديث الصحاح من وجوه ومعناه لا يصح أيضا فقد تقدم في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا في السماء إلى أن قال ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن وفيه أنه لم يأت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان هو الذي ذهب إليه وهذا لا يصح لأنه كان أحق بالسعي إلى بين يدي خاتم الأنبياء وفيه أنه يأكل في السنة مرة وقد تقدم عن وهب أنه سلبه الله لذة المطعم والمشرب وفيما تقدم عن بعضهم أنه يشرب من زمزم كل سنة شربة تكفيه إلى مثلها من الحول الآخر وهذه أشياء متعارضة وكلها باطلة لا يصح شيء منها وقد ساق ابن عساكر هذا الحديث من طريق أخرى واعترف بضعفها وهذا عجب منه كيف تكلم عليه فانه أورده من طريق حسين بن عرفة عن هانىء بن الحسن عن بقية عن الأوزاعي عن مكحول عن واثلة عن ابن الاسقع فذكر نحو هذا مطولا وفيه أن ذلك كان في غزوة تبوك وأنه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنس ابن مالك وحذيفة بن اليمان قالا فإذا هو أعلى جسما بذراعين أو ثلاثة واعتذر بعدم قدرته لئلا تنفر الابل وفيه أنه لما اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلا من طعام الجنة وقال إن لي في كل أربعين يوما أكلة وفي المائدة خبز ورمان وعنب وموز ورطب وبقل ما عدا الكراث وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن الخضر فقال عهدي به عام أول وقال لي إنك ستلقاه قبلي فأقرئه مني السلام وهذا يدل على أن الخضر
والياس بتقدير وجودهما وصحة هذا الحديث لم يجتمعا به إلى سنة تسع من الهجرة وهنا لا يسوغ شرعا وهذا موضوع أيضا وقد أورد ابن عساكر طرقا فيمن اجتمع بالياس من العباد وكلها لا يفرح بها لضعف إسنادها أو لجهالة المسند إليه فيها ومن أحسنها ما قال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني بشر بن معاذ حدثنا حماد بن واقد عن ثابت قال كنا مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة فدخلت حائطا أصلي فيه ركعتين فافتتحت حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية فقال لي إذا قلت غافر الذنب فقل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي وإذا قلت قابل التوب فقل يا قابل التوب تقبل توبتي وإذا قلت شديد العقاب فقل يا شديد العقاب لا تعاقبني وإذا قلت ذي الطول فقل يا ذا الطول تطول علي برحمة فالتفت فإذا لا أحد وخرجت فسألت مر بكم رجل على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنيه فقالوا ما مر بنا أحد فكانوا لا يرون الا أنه الياس وقوله تعالى فكذبوه فإنهم لمحضرون أي للعذاب إما في الدنيا والآخرة أو في الآخرة والأول أظهر على ما ذكره المفسرون والمؤرخون وقوله إلا عباد الله المخلصين أي إلا من آمن منهم وقوله وتركنا عليه في الآخرين أي ابقينا بعده ذكرا حسنا له في العالمين فلا يذكر إلا بخير ولهذا قال سلام على الياسين أي سلام على الياس العرب تلحق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها كما قالوا اسماعيل واسماعين واسرائيل واسرائين والياس والياسين ومن قرأ سلام على آل ياسين أي على آل محمد وقرأ ابن مسعود وغيره سلام على ادراسين ونقل عنه من طريق اسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال الياس هو ادريس واليه ذهب الضحاك بن مزاحم وحكاه قتادة ومحمد بن اسحاق والصحيح أنه غيره كما تقدم والله أعلم

أبو الفداء الحافظ ابن الدمشقي المتوفى سنة


التوقيع :



قال تعالى :
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[فصلت:33]






رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:54 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.4, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir