بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفسير سورة الكوثر
و تسمى سورة النحر
مكية و عدد آياتها ثلاث .
ما هو الكوثر :
روى مسلم عن أنس بن مالك قال : ( بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه و قال أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم : " إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك و انحر إن شانئك هو الأبثر " , ثم قال أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا الله و رسوله أعلم قال فإنه نهر و عدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم , فيختلج العبد منهم , فأقول : رب إنه من أمتي , فيقول : إنك لا تدري ما أحدث بعدك ) - و ظاهر هذه الرواية أن سورة الكوثر مدنية و لا مانع من نزولها مرتين مرة بمكة و أخرى بالمدينة - , و عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب , و الماء يجري على اللؤلؤ , و ماؤه أشد بياضا من اللبن , و أحلى من العسل ) إسناده صحيح .
( إنّا أعطيناك الكوثر ) روى الإمام أحمد عن أنس أنه قرأ هذه الآية " إنا أعطيناك الكوثر " قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أعطيت الكوثر , فإذا هو نهر يجري , و لم يُشق شقا , و إذا حافتاه قباب اللؤلؤ , فضربت بيدي في تربته , فإذا مسكه ذَفَرة ,و إذا حصاه اللؤلؤ ) . إسناده صحيح , و روى البخاري عن أبي عبيدة عن عائشة قال : سألتها عن قوله تعالى " إنا أعطيناك الكوثر " قالت : ( نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه و سلم , شاطئاه عليه دُرّ مجوف آنيته كعدد النجوم ) , ثم قال البخاري عن ابن عباس أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه , و قال كذلك - أي ابن عباس - الكوثر : الخير الكثير . و هذا تفسير يعم النهر و غيره , لأن الكوثر من الكثرة و هو الخير الكثير و من ذلك النهر كما قال ابن عباس و عكرمة و سعيد بن جبير و مجاهد .
و من الكوثر يملأ الحوض الذي في عرصات القيامة و لا يرده إلا الصالحون من أمته صلى الله عليه و سلم .
( فصلّ لربك و انحر ) أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا و الآخرة , و من ذلك النهر الذي تقدم صفته فأخلص لربك صلاتك المكتوبة و النافلة و نَحْرَك , فاعبده وحده لا شريك له و انحر على اسمه وحده لا شريك له كما قال تعالى " قل إنّ صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أوّل المسلمين " .
و خصّ هاتين العبادتين بالذكر لأنهما من أفضل العبادات و أجلّ القربات , و لأن الصلاة تتضمن الخضوع في القلب و الجوارح للّه , و تنقلها في أنواع العبودية , و في النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر و إخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته و الشح به .
و في الآية دليل على وجوب تقديم صلاة العيد على النحر و هو ما عليه جمهور الفقهاء - قلت ( عبد الحي ) : روى البخاري عن البراء بن عازب قال : ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم النّحر بعد الصلاة , فقال : من صلّى صلاتنا و نسك نسكنا فقد أصاب النسك , و من نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم ) - .
و جائز أن يكون المراد من صلّ لربك و انحر أي صلّ صلاة الصبح بمزدلفة وانحر هديك بمنى .
( إنّ شانئك هو الأبتر ) أي إن مبغضك - يا محمد - و مبغض ماجئت به من الهدى و الحق و البرهان الساطع و النور المبين , هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكرُهُ .
قال ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير , و قتادة : نزلت في العاص بن وائل . و قال شَمِر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي معيط , و قال ابن عباس أيضا , و عكرمة : نزلت في كعب بن الأشرف و جماعة من كفار قريش . و قال عطاء : نزلت في أبي لهب , و عن ابن عباس : نزلت في أبي جهل . قال ابن كثير : و الآية تعم جميع من اتصف بذلك , ممن ذكر و غيرهم .
" هو الأبتر " أي المقطوع من كل خير , مقطوع العمل , مقطوع الذِكر , و أما محمد صلى الله عليه و سلم فهو الكامل حقا , الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق من رفع الذِكر , و كثرة الأنصار و الأتباع صلى الله عليه
و سلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة المرسلات
و تسمى سورة العرف , و هي مكية و آيها خمسون .
أقسم الله تعالى – على البعث و الجزاء بالأعمال – بعدة أشياء من مخلوقاته – و لله أن يقسم بما شاء , و الحكمة من الإقسام أن تسكن النفوس للخبر و تطمئن إلى صدق المخبر فيه و بذلك يحصل الغرض من إلقاء الخبر على السامعين – فقال :
( و المرسلات عرفا ) هي الرياح المتتابعة الطيبة العذبة .
( فالعاصفات عصفا ) أي الرياح الشديدات الهبوب , السريعات الممرّ , التي قد تعصف بالأشجار و تقتلعها و بالمباني و تهدمها .
( و الناشرات نشرا ) هي الرياح المعتدلة التي تنشر السحاب في آفاق السماء - كما يشاء الرب عز و جل – و تفرقه أو تسوقه للإمطار و إنزال المطر , فتحيي الأرض بعد موتها . قال تعالى " و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " , و قال سبحانه " الله الذي يرسل الرّياح فتثير سحابا فيبسطه في السّماء " .
( فالفارقات فرقا ) يعني الملائكة , فإنها تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق و الباطل , و الهدى و الغيّ , و الحلال و الحرام .
( فالملقيات ذكرا ) و هي الملائكة تلقي بالوحي على من اصطفى الله تعالى من عباده .
( عذرا أو نذرا ) أي : إعذارا و إنذار للناس , تنذر الناس ما أمامهم من المخاوف , و تقطع معذرتهم , فلا يكون لهم حجة على الله .
( إنّما توعدون لواقع ) - هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام - , أي : ما وعدتم به من قيام الساعة , و النفخ في الصور , و بعث الأجساد , و جمع الأولين و الآخرين في صعيد واحد , و مجازاة كل عامل بعمله , إن خيرا فخير و إن شرا فشر , إن هذا كله متحتم وقوعه , من غير شك و لا ارتياب , و عليه فأصلحوا أعمالكم بعد تصحيح نياتكم فإن الجزاء واقع لا يتخلف أبدا و لا يتغير و لا يتبدل .
( فإذا النجوم طُمست ) أي : ذهب ضوؤها و محي , كقوله " و إذا النجوم انكدرت " و كقوله " و إذا الكواكب انتثرت " .
( و إذا السماء فُرِجَت ) أي انشقت و تصدعت , و تدلت أرجاؤها , و وَهت أطرافها .
( و إذا الجبال نُسِفت ) أي اقتلعت من أماكنها بسرعة , ثم فتتت , فلا يبقى لها عين و لا أثر , كقوله تعالى " و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا , فيذرُها قاعا صفصفا , لا ترى فيها عِوجا و لا أمتا " , و قال سبحانه : " و يوم نُسيِّر الجبال و ترى الأرض بارزة و حشرناهم فلم نُغادر منهم أحدا " .
( و إذا الرُّسل أُقِّتت ) أي : أجلت للإجتماع لوقتها يوم القيامة للشهادة على أممهم و الفوز بما وعدوه من الكرامة .
( لأيّ يوم أجّلت ) لأي يوم أجلت الرسل و أرجئ أمرها ؟ – و الإستفهام للتعظيم و التفخيم و التهويل – و الجواب ( ليوم الفصل ) و هو يوم القيامة , قال تعالى : " فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله إنّ الله عزيز ذوانتقام , يوم تبدّل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار " .
( و ما أدراك ما يوم الفصل ) و هذا تفخيما لشأنه و إعلاما بهوله .
( ويل يومئذ للمكذبين ) أي : يا حسرتهم , و شدة عذابهم , و سوء منقلبهم , أخبرهم الله , و أقسم لهم , فلم يصدقوه , فاستحقوا العقوبة البليغة .
( ألم نُهلك الأولين ) أي : أما أهلكنا المكذبين بالرسل و الجاحدين بالآيات من الأمم السابقة كعاد و ثمود و قوم إبراهيم و قوم لوط إلى زمن البعثة النبوية .
( ثمّ نتبعهم الأخرين ) ثم نتبعهم بإهلاك من كذب من الآخرين , و هو عيد لأهل مكة .
( كذلك نفعل بالمجرمين ) أي كل من أجرم و طغى و بغى , سيكون هلاكه مثل هلاك الأولين .
( ويل يومئذ للمكذبين ) قال ابن جرير : أي بأخبار الله التي ذكرها في هذه الآية , الجاحدين قدرته على ما يشاء .
( ألم نخلقكم من ماء مهين ) أي : أما خلقناكم أيها الآدميون من نطفة – و هو المنيّ – ضعيفة حقيرة بالنسبة إلى قدرة الباري عز و جل .
( فجعلناه في قرار مكين ) يعني جمعناه في الرّحم , و فيه يستقر و ينمو . و الرحم معد لذلك , حافظ لما أودع فيه من الماء .
( إلى قدر معلوم ) و هو زمن الولادة , و هي مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر .
( فقدرنا ) أي : قدرنا و دبرنا ذلك الجنين , في تلك الظلمات , و نقلناه من النطفة إلى العلقة , إلى المضغة , إلى أن جعله الله جسدا , ثم نفخ فيه الروح , و منهم من يموت قبل ذلك .
( فنعم القادرون ) على الخلق و التقدير معا .
( ويل يومئذ للمكذبين ) بعدما بين الله لهم الآيات , و أراهم العبر و البينات .
( ألم نجعل الأرض كِفاتا , أحياءً و أمواتا ) قال ابن جرير : أي وعاء . و المعنى ألم نجعل الأرض تضمّ أحياءكم و تجمعهم في المساكن و المنازل , و أمواتكم في بطونها في القبور فيدفنون فيها ؟
( و جعلنا فيها رواسي شامخات ) يعني : الجبال , أرسى بها الأرض لئلا تميد و تضطرب بأهلها .
( و أسقيناكم ماءً فراتا ) عذبا زلالاً من السحاب , أو مما أنبعه الله من عيون الأرض .
( ويل يومئذ للمكذبين ) ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها , ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه و كفره .
( إنطلقوا ) أي : يقال لهؤلاء المكذبين بهذه النعم و الحجج التي احتج بها عليهم يوم القيامة و هم في عرصاتها , يقال لهم تقريعا و تبكيتا ( إنطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ) من عذاب الله للكفرة الفجرة .
( لا ظليل و لا يُغني من اللهب ) أي : ظل الدخان المقابل للهب ليس ظلا حقيقيا كظل الشجرة و الجدار فيكن و يستر , بل هو ظل لا راحة فيه و لا طمأنينة , بحيث من يمكث فيه , لا يقيه حر اللهب , و لا يردّ عنه من لهب النار شيئا .
( إنها ترمي بشرر كالقصر ) أي : يتطاير الشرر من لهيب النار كالقصر , في عظمه و كبره و ارتفاعه , و هذا دال على عظم نار جهنم و فظاعتها و سوء منظرها .
( كأنه جمالات صفر ) أي : الشررة كالجمل – في هيئتها و لونها – الأصفر و هو الأسود المائل إلى الصفرة , و هذا يدل على أن النار مظلمة , لهبها و جمرها و شررها , و أنها سوداء , كريهة المرأى , شديدة الحرارة .
( ويل يومئذ للمكذبين ) يتوعد الله تعالى المكذبين به و بآياته و لقائه و رسوله صلى الله عليه و سلم .
( هذا اليوم لا ينطقون ) أي هذا اليوم العظيم الشديد على المكذبين , لا ينطقون فيه بشيء من الخوف و الوجل الشديد .
( و لا يُؤذن لهم فيعتذرون ) أي : لا يمهد لهم الإذن في الإعتذار , لعدم قبول معذرتهم بقيام الحجة عليهم .
و عرصات يوم القيامة حالات , و الرب تعالى يخبر مرة باعتذارهم و كلامهم في موطن , و ينفيه في آخر , إذ هو ذاك الواقع , في مواطن يتكلمون بل يحلفون كاذبين و في مواطن يغلب عليهم الخوف فلا يتكلمون بشيء و في مواطن يطلب منهم أن يتكلموا فيتكلموا و في أخرى لا .
( ويل يومئذ للمكذبين ) وعيد لكل المكذبين بهذا و بغيره .
( هذا يوم الفصل جمعناكم و الأوّلين ) يقال لهم يوم القيامة و هم في عرصاتها : هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون جمعناكم فيه أيها المكذبون من هذه الأمة و المكذبين الأولين من قبلها .
( فإن كان لكم كيد فكيدون ) إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي , و تنجوا من حكمي فافعلوا , فإنكم لا تقدرون على ذلك , كما قال تعالى " يا معشر الجنّ و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " , و قال تعالى " و لا تضرُّونه شيئا " , وفي الحديث : " يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني " رواه مسلم .
ففي ذلك اليوم , تبطل حيل الظالمين , و يضمحل مكرهم و كيدهم ,و يستسلمون لعذاب الله , و يبين لهم كذبهم في تكذيبهم .
( ويل يومئذ للمكذبين ) أي : ويل يوم إذ يجيء يوم الفصل للمكذبين .
من باب الترغيب و الترهيب و هو أسلوب امتاز به القرآن الكريم , ذكر تعالى ما للمتقين من نعيم مقيم بعد ذكر ما للمكذبين الضالين من عذاب الجحيم فقال تعالى :
( إن المتقين ) أي : الذين اتقوا ربهم فآمنوا به و أطاعوه بأداء الواجبات , و ترك المحرمات .
( في ظلال و عيون ) في ظلال أشجار الجنة الوارفة , و عيون من ماء و لبن و خمر و عسل , جارية من السلسبيل , و الرحيق و غيرهما .
( و فواكه ممّا يشتهون ) و فواكه كثيرة منوعة مما يشتهون – أي يتمنون إذ أكلهم للذة الأكل لا للحفاظ على الجسم كما هي الحال في الدنيا – على خلاف الدنيا , إذ الناس يأكلون مما يجدون فلو اشتهوا شيئا و لم يجدوه ما أكلوه , و أما دار النعيم فإن المرء ما اشتهى شيئا إلاّ وجده و أكله و هذا السر في التعبير في غير موضع بكلمة مما يشتهون .
( كلوا و اشربوا ) من المآكل الشهية , و الأشربة اللذيذة .
( هنيئا ) أي : من غير منغص و لا مكدر , و لا يتم هناؤه , حتى يسلم الطعام و الشراب من كل آفة و نقص , و حتى يجزموا أنه غير منقطع و لا زائل .
( بما كنتم تعملون ) من الصالحات و تتركون من السيئات , فأعمالكم هي السبب الموصل لكم إلى هذا النعيم المقيم .
( إنّا كذلك نجزي المحسنين ) أي : هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل .
( ويل يومئذ للمكذبين ) هذا توعد بالعذاب الأليم لمن يكذب بوعيد الله هذا ووعده ذاك . و لو لم يكن لهم من هذا الويل إلا فوات هذا النعيم , لكفى به حرمانًا و خُسْرانًا .
( كلوا و تمتّعوا قليلا إنّكم مجرمون ) هذا تهديد ووعيد للمكذبين , أنهم و إن أكلوا في الدنيا و شربوا و تمتعوا باللذات , و غفلوا عن القربات , فإنهم مجرمون , يستحقون ما يستحقه المجرمون , فستنقطع عنهم اللذات و تبقى عليهم التبعات .
( ويل يومئذ للمكذبين ) كما قال تعالى " نُمتّعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " , و قال تعالى : " إنّ الذين يفترون على الله الكذِب لا يفلحون , متاع في الدّنيا ثمّ إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " .
( و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ) أي : إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة , امتنعوا من ذلك و استكبروا عنه .
( ويل يومئذ للمكذبين ) الذين كذبوا رسل الله , فردوا عليهم ما بلغوا من أمر الله إياهم و نهيه لهم .
( فبأيّ حديث بعده يؤمنون ) أي : فبأي كتاب يؤمن هؤلاء المكذبون إذا لم يؤمنوا بالقرآن و ذلك لما فيه من الخير و الهدى و لما يدعو إليه من السعادة و الكمال , كما أنه معجز بألفاظه و معانيه , بخلاف الكتب و غيره , فمن لم يؤمن به لا يرجى له أن يؤمن بغيره بحال من الأحوال .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة الإنسان
و تسمى سورة الدهر و الأمشاج و " هل أتى " , و هي مكية و آيها إحدى و ثلاثون .
( هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يَكن شيئا مذكورا ) يقول الله تعالى مُخبِرا عن الإنسان أنه مر عليه دهرٌ طويل , و هو الذي قبل وجوده , و هو معدوم بل ليس مذكور , ثم أوجده بعد ذلك .
قال الشهاب : و قد علم – أي الله تعالى – أنهم يقولون – أي منكري البعث - : نعم , قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه . فيقال لهم : فالذي أوجدهم بعد أن لم يكونوا , كيف يمتنع عليه إحياؤهم بعد موتهم ؟
( إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ) لما أراد الله تعالى خلق الإنسان , خلق أباه آدم من طين , ثم جعل نسله متسلسلا " من نطفة أمشاج " قال ابن عباس : يعني ماء الرجل و ماء المرأة إذا اجتمعا و اختلطا , ثم ينتقل بعدُ من طور إلى طور , و حال إلى حال .
( نبتليه ) أي نختبره بالتكاليف بالأمر و النهي و ذلك عند تأهله لذلك بالبلوغ و العقل .
( فجعلناه سميعا بصيرا ) أي : جعلنا له سمعا و بصرا يتمكن بهما من الطاعة و المعصية .
( إنّا هديناه السبيل ) أي بيّنا له طريق الخير و النجاة , و طريق الشر و الهلاك , و ذلك ببعثة الرسل و إنزال الكتب .
( إمّا شاكرا و إمّا كفورا ) و الإنسان إمّا أن يسلك سبيل الهدى فيكون شكورا , و إما أن يسلك سبيل الغيّ و الضلال فيكون كفورا , قال صلى الله عليه و سلم : " كل الناس يغدو , فبائع نفسه فموبقها أو معتقها " رواه مسلم .
و الشكور المؤمن الصادق في إيمانه المطيع لربه , و الكفور المكذب بآيات الله و لقائه .
( إنّا أعتدنا للكافرين سلاسلا ) إنّا هيأنا و أرصدنا لمن كفر بالله , و كذب رسله , و تجرأ على المعاصي , سلاسل ليقادوا بها و يستوثق بها منهم شدّا في الجحيم . ( و أغلالا ) لتشد فيها أيديهم إلى أعناقهم . ( و سعيرا ) أي : نارا تستعر بها أجسامهم , و تحرق بها أبدانهم , " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها , ليذوقوا العذاب " و هذا العذاب دائم لهم أبدا , مخلدون فيه سرمدا .
( إن الأبرار ) أي المؤمنين المطيعين في صدق لله و الرسول .
( يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ) أي : شراب لذيذ من خمر قد مُزج بكافور لبرودته و بياض لونه و طيب رائحته . و هذا الكافور في غاية اللذة , قد سلم من كل مكدر و منغص , موجود في كافور الدنيا .
( عينا يشرب بها عباد الله ) هذا الذي مُزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا خالصا بلا مزج و يَرْوَوْنَ بها . قال بعضهم : هذا الشراب في طيبه كالكافور . و قال بعضهم : هو من عين كافور .
( يفجرونها تفجيرا ) أي يتصرفون فيها و يجرونها و يسيلونها حيث شاؤوا و أين شاؤوا , من قصورهم و دورهم و مجالسهم و محالهم . و التفجير هو الإنباع , كما قال تعالى : " و قالوا لن نؤمن لك حتى تُفجر لنا من الأرض ينبوعا " . و قال : " و فجَّرنا خلالهما نهرا " .
( يوفون بالنّذر ) أي كانوا في دار الدنيا يوفون بالنّذر و هو ما يلتزمونه من طاعات لربهم كالصلاة و الصيام و الحج و الصدقات تقربا إلى ربهم و تزلفا إليه . و إذا كانوا يوفون بالنذر , و هو لم يجب عليهم , إلا بإيجابهم على أنفسهم , كان فعلهم و قيامهم بالفروض الأصلية , من باب أولى و أحرى .
( و يخافون يوما كان شره مستطيرا ) أي يتركون المحرمات التي نهاهم الله تعالى عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد , و هو اليوم الذي شره منتشر عام على الناس إلا من رَحِم الله .
( و يطعمون الطّعام على حبّه ) و يطعمون الطعام في حال محبتهم و شهوتهم له كقوله تعالى " و آتى المال على حُبّه " , و كقوله تعالى : " لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبون " . و في صحيح مسلم : " أفضل الصدقة أن تصدّق و أنت صحيح , شحيح , تأمل الغنى , و تخشى الفقر " . فهم يقدمون محبة الله على محبة نفوسهم .
( مسكينا و يتيما و أسيرا ) و إنما اقتصر على الثلاثة لأنهم من أهم من تجدر الصدقة عليهم . فإن المسكين عاجز عن الإكتساب لما يكفيه . و اليتيم مات من يعوله و يكتسب له , مع نهاية عجزه بصغره . و الأسير لا يملك لنفسه نصرا و لا حيلة .
( إنما نطعمكم لوجه الله ) أي لا نقصد بإطعامكم إلا ثوابه تعالى و القربة إليه و الزلفى عنده .
( لا نريد منكم جزاءً و لا شكورا ) لا نطلب منكم مجازاة تكافئونا بها في يوم ما من الأيام , و لا أن تشكرونا عند الناس . قال مجاهد و سعيد بن جبير : أما و الله ما قالوه بألسنتهم , و لكن علم الله به من قلوبهم , فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب .
( إنّا نخاف من ربّنا يوما عبوسا قمطريرا ) إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا و يتلقانا بلطفه , في يوم ضيق شدي الجهمة و الشر , ثقيلا طويلا لا يطاق .
( فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ) أي : آمنهم مما خافوا منه , فلا يحزنهم الفزع الأكبر , و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .
( و لقّاهم نضرة و سرورا ) أي : أكرمهم و أعطاهم نضرة في وجوههم , و سرورا في قلوبهم , فجمع لهم بين نعيم الظاهر و الباطن . و هذه كقوله تعالى : " وجوه يومئذ مّسفرة . ضاحكة مستبشرة " .
( و جزاهم بما صبروا ) بسبب صبرهم على فعل الصالحات و عن ترك المحرمات , أعطاهم و توَّلهم و بوَّأهم ( جنّة و حريرا ) منزلا رحبا , و عيشا رَغَدًا , و لباسا حسنا .
( متّكئين فيها على الأرائك ) الإتكاء : التمكن من الجلوس , في حال الرفاهية و الطمأنينة , و الأرائك و هي السرر التي عليها اللباس المزين .
( لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا ) أي : ليس عندهم حرّ مزعج , و لا برد مؤلم , بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل , لا حر و لا برد , بحيث تلتذ الأجساد , و لا تتألم من حر و لا برد .
( و دانية عليهم ظلالها ) أي قريبة منهم أشجارها , فهي تظللهم و يجدون فيها لذة التظليل و راحته و متعته و إن لم يكن هناك شمس تستلزم الظل .
( و ذلّلت قُطُوفها تذليلا ) أي قربت ثمراتها من مريدها تقريبا ينالها , و هو قائم , أو قاعد , أو مضطجع , فلا شوك به و لا بُعد فيه , سهل التناول لأن الدار دار نعيم و سعادة و راحة و روح و ريحان .
( و يطاف عليهم بآنية من فضة و أكواب كانت قواريرا , قواريرا من فضة ) أي : يطوف عليهم الخَدَم بأواني الطعام , و هي من فضة , و أكواب الشراب و هي الكيزان التي لا أذن فيها , يرى باطنها من ظاهرها لصفائها . مادتها فضة و صفاؤها صفاء الزجاج . و هذا مما لا نظير له في الدنيا , عن ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتهم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة .
( قدّروها تقديرا ) أي : قدروا الأواني المذكورة على قدر ريّهم , لا تزيد و لا تنقص , بل هي معدَّة لذلك , مقدرة بحسب ريّ صاحبها . و هي كذلك مقدرة على قدر الكف .
( و يسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ) أي : و يسقون – يعني الأبرار أيضا – في هذه الأكواب خمرا , تارة يُمزج لهم بالكافور و هو بارد , و تارة بالزنجبيل و هو حار , ليعتدل الأمر , و هؤلاء يمزج لهم من هذا تارة و من هذا تارة . و أما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صِرْفًا .
( عينا فيها تسمى سلسبيلا ) أي : الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا , و ذلك لسلاسة سيلها و حدّة جَريها , و لسلاستها في الحلق أيضا .
( و يطوف عليهم ولدان مخلّدون ) و يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنّة , لا يتغيرون و لا يكبرون و لا يموتون , و هم في غاية الحسن .
( إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ) إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة , و كثرتهم , و صباحة وجوههم , و حُسن ألوانهم و ثيابهم و حليهم , حسبتهم لؤلؤا منثورا . و لا يكون في التشبيه أحسن من هذا , و لا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن .
( و إذا رأيت ثَمَّ ) و إذا رأيت يا محمد هناك , يعني في الجنة و نعيمها و سعَتَها و ارتفاعها و ما فيها من الحَبْرَة و السرور .
( رأيت نعيما و مُلكا كبيرا ) أي : مملكة لله هناك عظيمة و سلطانا باهرا . و ثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها , و آخر أهل الجنة دخولا إليها : " إنّ لك مثل الدنيا و عشرة أمثالها " . فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة , فماظنك بما هو أعلى منزلة , و أحظى عنده تعالى .
( عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق ) أي : لباس أهل الجنة فيها الحرير , و منه سندس , و هو رفيع الحرير كالقمصان و نحوهما مما يلي أبدانهم , و الإستبرق و هو ما غلظ من الديباج و فيه بريق و لمعان , و هو مما يلي الظاهر , كما هو المعهود في اللباس .
( و حلّو أساور من فضّة ) حلّوا في أيديهم أساور الفضة , ذكورهم و إناثهم . و هذه صفة الأبرار , و أما المقربون فكما قال : " يُحَلّون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم فيها حرير " .
( و سقاهم ربهم شرابا طهورا ) لا كدر فيه بوجه من الوجوه , مطهرا لما في بطونهم من كل أذى و قذى .
( إنّ هذا ) الجزاء الجزيل و العطاء الجميل ( كان لكم جزاءً ) على ما قدمتم من الصالحات ( و كان سعيكم مشكورا ) أي مجازًى عليه غير مضيَّع , بل جزاكم الله على القليل بالكثير .
( إنّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلا ) إن هذا القرآن ما افتريته و لا جئت به من عندك و لا من تلقاء نفسك كما يقول المشركون , بل هو وحي منزل من عندنا , نزلناه عليك شيئا فشيئا لحكمة بالغة .
و القصد من هذا تثبيت قلبه صلوات الله عليه , و شرح صدره و تحقيق أن المنزّل وحي . و عدم المبالاة برميهم له بالسح و الكهانة .
( فاصبر لحكم ربك ) أي : كما أكرمك بما أنزل عليك , فاصبر على قضائه و قدره , و اعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره .
( و لا تطع منهم آثما أو كفورا ) لا تطع الكافرين و المنافقين إن أرادوا صدّك عما أنزل إليك , بل بلّغ ما أنزل إليك من ربك , و توكل على الله , فإن الله يعصمك من الناس . و الآثم هو الفاجر في أفعاله , و الكفور هو الكافر قلبه .
( واذكر اسم ربك بكرة و أصيلا ) لما كان الصبر يستمد من القيام بطاعة الله , و الإكثار من ذكره , أمره الله بدعائه و تسبيحه و الصلاة له في أول النهار و آخره , فدخل في ذلك , الصلوات المكتوبات و ما يتبعها من النوافل , و الذكر , و التسبيح , و التهليل , و التكبير في هذه الأوقات .
( و من الليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا ) كقوله : " و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاما محمودا " , و كقوله : " يا أيّها المزّمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه و رتّل القرآن ترتيلا " – و في هذه الأوامر ما يدل على العناية بقيام الليل و الحرص عليه – و القصد من هذا حثه صلى الله عليه و سلم أن يستعين في دعوة قومه و الصدع بما أمر به , بالصبر على أذاهم و الصلاة و التسبيح . و قد كثر ذلك في مواضع من التنزيل كقوله : " و استعينوا بالصّبر و الصلاة " و قوله : " فاصبر على ما يقولون و سبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل الغروب , و من الليل فسبّحه و أدبار السّجود " .
( إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا ) إنّ الكفار و من أشبههم من المكذبين لك أيها الرسول – بعدما بيّنت لهم الآيات , و رغبوا و رهبوا , و مع ذلك , لم يفد فيهم ذلك شيئا – لا يزالون يؤثرون حبّ الدنيا و الإقبال عليها و الإنصباب إليها , فيسعون لها جهدهم , و إن أهلكوا الحرث و النسل , تاركين للعمل الصالح مهملين له , غير آبهين بما ينتظرهم من يوم شديد مقداره خمسين ألف سنة . فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا و الإقامة فيها .
( نحن خلقناهم و شددنا أسرهم ) أي : أوجدناهم من العدم , و أحكمنا خلقهم بالأعصاب , و العروق , و الأوتار , و القوى الظاهرة و الباطنة , حتى تمّ الجسم و استكمل , و تمكن من كل ما يريده .
( و إذا شئنا بدّلنا أمثالهم ) و إذا شئنا بعثناهم يوم القيامة , و بدلناهم فأعدناهم خلقا جديدا . و هذا استدلال بالبداءة على الرجعة . و قال ابن زيد و ابن جرير في معنى الآية : و إذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم , كقوله : " إن يشأ يُذهبكم أيّها النّاس و يأت بآخرين و كان الله على ذلك قديرا " , و كقوله : " إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد , و ما ذلك على الله بعزيز " .
( إنّ هذه تذكرة ) إن هذه السورة عظة يتذكر بها المؤمن , فينتفع بما فيها من التخويف و الترغيب .
( فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ) أي : طريقا موصلا إليه , فالله يبين الحق و الهدى , ثم يخير الناس بين الإهتداء بها أو النفور عنها , مع قيام الحجة عليهم .
( و ما تشاءون إلاّ أن يشاء الله ) قال ابن جرير : أي و ما تشاءون اتخاذ السبيل إلى ربكم إلا أن يشاء الله ذلك لكم , لأن الأمر إليه لا إليكم , أي لأن مالم يشأ الله و قوعه من العبد , لا يقع من العبد و ما شاء منه و قوعه , و قع . و هو رديف { ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن } .
( إن الله كان عليما حكيما ) أي : عليم بمن يستحق الهداية فيُيسّرها له , و يقيض له أسبابها , و من يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى , و له الحكمة البالغة , و الحجة الدامغة .
( يُدخل من يشاء في رحمته ) أي : يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها , و هو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى , حيث يوفّقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان و الطاعة .
( و الظالمين أعدّ لهم عذابا أليما ) أي : الذين اختاروا الشقاء على الهدى , أهانهم و أعدّ لهم عذابا مؤلما موجعا .