عرض مشاركة واحدة
قديم 05-14-2012, 08:01 PM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

أفاق الفكر

مراقب

مراقب

أفاق الفكر غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








أفاق الفكر غير متواجد حالياً


رد: الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم

[1] حسن الباقوري، أثر القرآن في اللغة العربية ص 16.




جملة وجوه إعجاز القرآن

نقلا عن كتاب إعجاز القرآن للإمام الباقلاني

ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز[1]:

أحدها :يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه. فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام، أنه سيظهر دينه على الأديان، يقوله عز وجل :( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)[سورة التوبة].

وكان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إذا أغزى جيوشه عرَّفهم ما وعدهم الله، من إظهار دينه، ليثقوا بالنصر ويستيقنوا بالنجاح.

وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه، فكان سعد بن أبي وقاص، رحمه الله، وغيره من أمراء الجيوش، من جهته، يذكر ذلك لأصحابه، وبحرِّصهم به، ويوثق لهم، وكانوا يُلقَّون الظفر في متوجَّهاتهم، حتى فُتح في أيامه مرو الشاهجان، ومرو الرُّوذ، ومنعهم من العبور على جيحون، وكذلك فُتح في أيامه فارس كسرى، وكل ما كان يملكه ملوك فارس، بين البحرين من الفرات إلى جيحون، وأزال ملك الفرس، فلم يعد إلى اليوم ولا يعود أبداً، إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود إرمينية، وإلى باب الأبواب. وفتح أيضاً ناحية الشام، والأردن وفلسطين، وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في أيامه على عمّورية، فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق منها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة.

وقال الله عز وجل: (قل للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد)[آل عمران]، فصدق فيه.

وقال في أهل بدر:( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم )[الأنفال: 7]،ووفى لهم بما وعد.

وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن، من الإخبار عن الغيوب، يكثر جداً، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.

والوجه الثاني:أنه كان معلوماً من حال النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان أمياً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ.

وكذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين، وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم. ثم أتى بجمل ما وقع وحدث، من عظيمات الأمور ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام، إلى حين مبعثه، فذكر في الكتاب، الذي جاء به معجزة له: قصة آدم عليه السلام، وابتداء خلقه، وما صار أمره إليه من الخروج من الجنة، ثم جملاً من أمر ولده وأحواله وتوبته، ثم ذكر قصة نوح عليه السلام، وما كان بينه وبين قومه، وما أنتهى إليه أمرهم، وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء، صلوات الله عليهم.

ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه، إلا عن تعلم، وإذ كان معروفاً أنه لم يكن ملابساً لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا متردداً إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. ولذلك قال عزَّ وجل (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لأرتاب المبطلون)[العنكبوت]، وقال:(وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست)[الأنعام].

وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يشتبه عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم، وإن كان نادراً، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتَّعلُم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره.

والوجه الثالث:أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناهٍٍ في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ونكشف الجملة التي أطلقوا.

فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للإعجاز وجوده:

1. منها ما يرجع إلى الجملة،وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر، على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم على أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالاً، فتطلب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلاً في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل [فيه]، ولا يتصنع له. وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق.

ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعي فيه شعراً كبيراً، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع.

فهذا إذا تأمله المتأمل تبين ـ بخروج عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم ـ أنه خارج عن العادة، وأنه معجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميٌّز حاصل في جميعه.

2. ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة، والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة ، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف. وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسباً في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به، ففال عزَّ من قائل:( الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله )[الزمر:23]، وقوله :( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )[النساء:82]. فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت، وبأن عليه الاختلال. وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفصل.

3. وفي ذلك معنى ثالث:وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وأعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشِيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.


فمن الشعراء من يجوّد في المدح دون الهجو.

ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح.

ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين.

ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ.

ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل، أو سير الليل، أو وصف الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وبزهير إذا رغب. ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.

ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ، رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه، ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم، لأنه لا خلاف في تقدّمهم في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم. فإذا كان الاختلال يتأتى في شعرهم، لاختلاف ما يتصرفون فيه، استغنينا عن ذكر من هو دونهم، وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها. ثم نجد من الشعراء من يجوّد في الرجز، ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً، ومنهم من ينظم القصيد، ولكن يقصر[تقصيراً عجيباً، ويقع ذلك من رجزه موقعاً بعيداً، ومنهم من يبلغ في القصيدة الرتبة العالية، ولا ينظم الرجز، أو يقصر] فيه مهما تكلفه أو تعلمه.

ومن الناس من يجود في الكلام المرسل، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصاناً بيّناً، ومنهم من يوجد بضد ذلك.

وقد تأملنا نظم القرآن، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدّمنا ذكرها، على حدّ واحد، في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا، وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجود الخطاب، ومن الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حدّ واحد لا يختلف. وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة[تفاوتاً بيِّناً، ويختلف اختلافاً كبيراً. ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة] فرأينا غير مختلف ولا متفاوت، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بيّنا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار وعند تباين الوجوه، واختلاف الأسباب التي يتضمن.

4. ومعنى رابع:وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيّناً في الفصل والوصل، والعلوّ والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.

ألا ترى أن كثيراً من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه. حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري، مع جودة نظمه، وحسن وصفه ـ في الخروج من النسيب إلى المديح. وأطبقوا على أنه لا يحسنه، ولا يأتي فيه بشيء، وإنما اتفق له ـ في مواضع معدودة ـ خروج يرتضي، وتنقل يستحسن.

وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء، والتحوّل من باب إلى باب. ونحن نفصل بعد هذا ونفسر هذه الجملة، ونبين أن القرآن على اختلاف [فنونه] و ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة والطرق المختلفة ـ يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد، وهذا أمر عجيب، تبين به الفصاحة، وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف.

5. ومعنى خامس:وهو أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام [الجن، كما يخرج عن عادة كلام الإنس]. فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا. وقد قال الله عزّ جلَّ: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)[الإسراء88].

فإن قيل : هذه دعوى منكم، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن [الإتيان] بمثله، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله، وإن كان عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة، وأسباب غامضة دقيقة، لا نقدر نحن عليها، ولا سبيل لنا للطفها إليها، وإذا كانت كذلك، لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل.

قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عز وجل، وقد يمكن أن يقال إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن، وما يروون لهم من الشعر، ويحكون عنهم من الكلام، وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم منقول عنهم. والقدر الذي نقلوه [من ذلك] قد تأملناه، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس، ولعله يقصر عنها، ولا يمنع أن يسمع الناس كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء، صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات. على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم. قال تأبط شراً[2]:

وأدهم قد جُبت جِلبابه

كما اجتابت الكاعبُ الخيعلا[3]

إلى أن حدا الصبح أثناءه

مزّق جلبابه الأليلا[4]

على شيم نار تنوّرتها

فبتُّ لها مدبراً مقبلاً[5]

فأصبحت والغول لي جارة

فيا جارتا أنت ما أهولا

وطالبتها بضعها، فالتوت

بوجه تهوّل واستغولا[6]

فمن سال أين ثوت جارتي

فإن لها باللوي منزلا

وكنت إذا ما هممت أعتزمت

وأخر إذا قلت أن أفعلا

وقال آخر[7]:

عشوا ناري فقلت منون أنتم

فقالوا الجنُّ قلت عموا ظلاما

فقت إلى الطعام فقال منهم

زعيم يحسد الإنس الطعاما

ويذكرون لامرئ القيس قصيدة مع عمر والجني، وأشعاراً لهما، كرهنا نقلها. وقال عُبيد بن أيوب:

فلله درُّ الغول أي رفيقة

لصاحب قفر خائف متقفِّر

أرنَّت بلحن بعد لحن وأوقدت

حواليَّ نيراناً تلوح وتزهر

وقال ذو الرمة[8]بعد قوله:

قد أعسف النازح المجهول معسفه

في ظل أخضر يدعو هامة البوم[9]

للجن بالليل في حافاتها زجل

كما تناوح يوم الريح عيشوم[10]

دويّة ودجى ليل كأنهما

يم تراطن في حافاته الروم[11]

وقال أيضاً:

وكم عرَّست بعد السرى مع معرَّس

به من كلام الجن أصوات سامر[12]

وقال:

ورملٍ عزيف الجن في عقباته

هزيزٌ كتضراب المُغنين بالطبل[13]

وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم، ويحكون عنهم، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب، صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه كعجز الإنس.

ويبين ذلك من القرآن: أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن فقال : (وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين)[الأحقاف:29]، إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه.

فإذا ثبت أنه وصف كلامهم، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم، صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة.

وهذان الجوابان أسدُّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه، بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره. ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه، فقال لنا قائل : فدلّوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها.

وإنما ضعّفنا هذا الجواب، لأن الذي حُكي وذكر عجزُ الجن والإنس عن الإتيان بمثله، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه، كما علمنا عجز الإنس عنه ولو كان وصف عجز الملائكة عنه، لوجب أن نعرف ذلك أيضاً بطريقه.

فإن قيل: أنتم قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل، وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة؟

قيل : هذا كما أنه يدل على الجملة، فإنه يدل على التفصيل أيضاً، فصح أن يلحق هذا القبيل، كما كان يصح أن يُلحق بباب الجمل.

6. ومعنى سادس:وهو أن ينقسم عليه الخطاب، ومن البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم، موجود في القرآن. وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم، في الفصاحة والإبداع والبلاغة وقد ضمنا بيان ذلك [من] بعدُ، لأن الوجه ههنا ذكر المقّدمات، دون البسط والتفصيل.

7. ومعنى سابع: وهو أن المعاني التي تضمنها، في أصل وضع الشريعة والأحكام، والاحتجاجات في أصل الدين، الردّ على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويمتنع وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعانٍ مبتكرة، وأسباب مؤسسة مستحدثة. فإذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرّر، والأمر المتقرّر، المتصوّر، ثم انضاف إلى ذلك التصرفُ البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بأن التفاصيل في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر والفصاحة أتم.

8. ومعنى ثامن:وهو أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الأسماع، وتتشوّف إليها النفوس، ويرى وجه رونقها بادياً غامراً سائراً ما تقرن به، كالدرّة، التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد.

وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهي غرّة جميعه، وواسطة عقده، والمنادي على نفسه بتميزه وتخصصه، برونقه وجماله، واعتراضه في حسنه ومائه، وهذا الفصل أيضاً مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص، ليتحقق ما ادّعيناه منه.

ولولا هذه الوجوه التي بيناها، لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم، ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضاً في معارضته ويتوقفون لها.

فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه، وقصور فصاحتهم دونه.


ولا يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعاً فيهم، ولا متقدماً في الفصاحة منهم، هذا الحال حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى يعرف حال عجز غيره. إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك، تحقيقاً بظهور العجز وتبيناً له. وأما قوله تعالى حكاية عنهم :( لو نشآء لقلنا مثل هذا)[الأنفال:31]، فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم، [وقد يمكن أن يكون قاله منهم أهل الضعف في هذه الصناعة دون المتقدمين فيها]، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منها، وهو يدل على عجزهم. ولذلك أورده الله مورد تقريعهم، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز، والضمان إلى الوفاء، فلما لم يفعلوا ذلك ـ مع استمرار التحدّي وتطاول زمان الفسحة في إقام الحجة عليهم بعجزهم عنه ـ علم عجزهم، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط.

ومعلوم من حالهم وحَمِيّتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات والهوام والحيَّات وفي وصف الأزمَّة والأتساع والأمور والتي لا يؤبه لها ولا يحتاج إليها، ويتنافسون في ذلك أشد التنافس، ويتبجحون به أشد التبجح. فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته لتكذيبه، والذب عن أديانهم القديمة، وإخراجهم أنفسهم من تسفيه رأيهم، وتضليله إياهم، والتخلص من منازعته، ثم من محاربته ومقارعته، ثم لا يفعلون شيئاً من ذلك، وإنما يُحيلون أنفسهم على التعاليل، ويعلّلونها بالأباطيل [هذا محال].

9. ومعنى تاسع:وهو أن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة[14]وعشرون حرفاً، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة، وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.

والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية، وبنوا عليها وجوههاً أقسام، نحن ذاكروها:

فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة، وأخرى مجهورة.

فالمهموسة منها عشرة: وهي الحاء، والهاء، والخاء، والكاف، والشين، والثاء، والفاء، والصاد، والسين.

وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة.

وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور.

وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء، لا زيادة ولا نقصان.

" المجهورة "معناه: أنه حرف أشبع الاعتماد في وموضعه ومنع أن يجري معه [النفس] حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت.

" والمهموس ":كل حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى معه النفّس. وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبنى عليه أصول العربية.

وكذلك مما يقسمون إليه الحروف، يقول إنها على ضربين : أحدهما حروف الحلق، وهي ستة أحرف : العين، والحاء، والمهموزة، والهاء، والخاء، والغبن.

والنصف [الآخر] من هذه الحروف مذكورة في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المثبتة في أول السورة، وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.

وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة، وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه، وهي الهمزة، والقاف والكاف والجيم والظاء والذال والطاء والباء،

وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضا هي مذكرة في جملة تلك الحروف التي بنى عليها تلك السورة.

ومن ذلك الحروف المُطبقة، وهي أربعة أحرف، وما سواها منفتحه، فالمطبقة: الطاء والظاء، والصاد، والضاد.

وقد علمنا أن نصف هذه [الحروف] في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.

وإذا كان القوم ـ الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام لأغراض لهم في ترتيب العربية وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر، على حد التصنيف الذي وصفنا ـ دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه، بعد العهد الطويل، لا يجوز أن يقع إلا من الله عزّ وجلّ، لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب.

وإن كان إنما تنبهوا على ما بنى عليه اللسان في أصله على ما بنى عليه اللسان في أصله ولم يكن لهم في التقسيم شيء وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان. فذلك أيضاً من البديع الذي يدل على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان.

فإن كان أصل اللغة توقيفاً فالأمر في ذلك أبين، وإن كان على سبيل التواضع فهو عجيب أيضاً، لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى. وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه.

وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم، إذا كانت حروفاً، كنحو (الم)، لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعاً، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة، فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردّد بين هذين الطرفين.

ويشبه أن يكون التصنيف وقع في هذه الحروف دون الألف، لأن الألف قد تلغى، وقد تقع الهمزة وهي موقعاً واحداً.

10. ومعنى عاشراً:وهو أنه سبيله، فهو خارج عن الوحشيّ المستكرّه، والغريب المستنكّر، وعن الصنعة المتكلّفة . وجعله قريباً إلى الأفهام، يبادِرُ معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس. وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا مُوهمٍ مع دنوّه في موقعه أن يُقدّر عليه أو يُظفر به.

فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذّل، والقول المسفسف، فليس يصحُّ، أن تقع فيه فصاحةٌ أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع، أو يوضع فيه الإعجاز.

ولكن لو وضع في وحشيّ مستكره، أو غمر بوجوده الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف: لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر، أو يعيب ويقرع.

ولكنه أوضح منارة وقرَّب منهاجه، وسهّل سبيله، وجعله في ذلك متشابهاً متماثلاً، وبيّن مع ذلك إعجازهم فيه.

وقد علمت أن كلام فصحائهم وشعر بلغائهم لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر، أو حشيّ مستكره، ومعان مستبعدة. ثم عدولهم إلى كلام مبتذّل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة، ثم تحوّلهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرف بين المنزلتين.

فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة أمرؤ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد، ويُتناول من كثب، ويُتصوَّر في النفس كتصور الأشكال.

ليتبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.

واعلم أن من قال من أصحابنا: إن الأحكام معلله بعلل موافقة لمقتضى العقل، جعل هذا وجهاً من وجوه الإعجاز، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه، كنحو ما يعللون به الصلاة ومعظم الفروض وأصولها. ولهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة، ووجوه تستحسن.

وأصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك، ولكن الأصل الذي يبنون عليه، عندنا غير مستقيم. وفي ذلك كلام يأتي في كتابنا في الأصول.

وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد، فإنا جمعنا بين الأمور، وذكرنا المزية المتعلقة بها. وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتماده في إظهار الإعجاز فيه.

فإن قيل : فهل تزعمون أنه معجز، لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه، أو لأنه عبارة عنه. أو لأنه قديم في نفسه؟

قيل: لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ ولا نقول أيضاً: إن وجه الإعجاز في نظم القرآن [من أجل] أنه حكاية عن كلام الله، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز جل معجزات في النظم والتأليف. وقد بيّنا أن إعجازها في غير ذلك، وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها، وقد ثبت خلاف ذلك".


--------------------------------------------------------------------------------

[1] نقلنا هذا الفصل من كتاب إعجاز القرآن للباقلاني الطبعة الثالثة، بتحقيق السيد أحمد صقر.

[2] ترجمته في الشعر والشعراء 1/271، والأبيات في حماسة ابن الشجري ص47.

[3] الأدهم هنا: الليل. اجتابت : لبست . الخيعل : ثوب تبتذله المرأة. والبيت في اللسان 13/223. وقد نسبه ابن بري لحاجز السروى.

[4] حدا: ساق أثناء الليل : أوقاته وقطعه. الأليل : الشديد الظلمة.

[5] الشيم : النظر إلى النار، وفي حماسة ابن الشجري : " على ضوء " . تنورتها : تبصرتها.

[6] البضع : الفرج، تهوّل: صار هوله، من الهول : أي كريه المنظر يفزع منه. واستغول: تلوّن.

[7] هو شمير بن الحارث الضبي كما في نوادر أبي زيد ص 123 راجع خزانة الأدب

[8] ديوانه ص 574 والحيوان 6/175

[9] أعسف: أسير على غير هداية . النازح: البعيد.والأخضر هنا: الأسود، والمراد به الليل. وفي الديوان " أغضف" أي أسود .

[10] حافاتها : جوانبها . زجل : صوت. عيشوم : من ضروب النبت يتخشخش إذا هبت عليه الريح.

[11] الدوية : الفلاة ، والميم: البحر. الدجى: الليل. والرطانة : كلام العجم والروم وما ليس بعربي من اللغات . حافاته. شبه البرية وما تراكم عليها من سواد الليل بالبحر وأمواجه.

[12] ديوانه ص 292 والحيوان 6/176، والتعريس: النزول آخر الليل للنوم والاستراحة. سامر: الذين يتحدثون بالليل.

[13] ديوانه ص 488 والحيوان 6/176 . وفي الديوان : " في عقداته هدوءاً " . وعزيف الجن: صوت يسمع بين الرمال. وعقدات الرمل: ما انعقد منه. هدوءاً: أي بعد ساعة من الليل . هزيز: صوت، يعني صوت الرحى وما أشبهها.

[14] المشهور أن عدد الحروف في اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفاً وعدد السور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة.




إعجاز القرآن اللفظي




بقلم الدكتور فاضل السامرائي

إن إعجاز القرآن أمر متعدد النواحي متشعب الاتجاهات، ومن المتعذر أن ينهض لبيان الإعجاز القرآني شخص واحد ولا حتى جماعة في زمن ما مهما كانت سعة علمهم وإطلاعهم وتعدد اختصاصاتهم، إنما هم يستطيعون بيان شيء من أسرار القرآن في نواح متعددة حتى زمانهم هم، ويبقى القرآن مفتوحاً للنظر لمن يأتي بعدنا في المستقبل ولما يجدّ من جديد. وسيجد فيه أجيال المستقبل من ملامح الإعجاز وإشاراته ما لم يخطر لنا على بال.

وأضرب مثلاً لتعدد نواحي الإعجاز، فإني سمعت وقرأت لأشخاص مختصين بالتشريع والقانون يبيّنون إعجاز القرآن التشريعي، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته ما لا يصح استبدال غيرها بها، وإن اختيار هذه الألفاظ في بابها أدق وأعلى مما نبيّن نحن من اختيارات لغوية وفنية وجمالية.

وقرأت وسمعت لأشخاص متخصصين بعلم التشريح والطب في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها يفوق ما نذكره في علم البلاغة. فألفاظه مختارة في منتهى الدقة العلمية. من ذلك على سبيل المثال أن ما ذكره القرآن من مراحل تطور الجنين في الرحم هي التي انتهى إليها العلم مما لم يكن معروفاً قبل هذا العصر مما دعا علماء أجانب إلى أن يعلنوا إسلامهم. وليس ذلك فقط، بل إن اختيار تعبير (العلقة) و (المضغة) – مثلاً – أعجب اختيار علمي.

فاختيار التعبير بـ (العلقة) اختيار له دلالته، فإن المخلوق في هذه المرحلة أشبه شيء بالعلقة وهي الطفيلية المعروفة. وكذلك التعبير بـ (المضغة)، فالمضغة كما قرأنا في كتب التفسير، هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ. ولكن لاختيار كلمة (مضغة) سبب آخر، ذلك أن المضغة هي قطعة اللحم الممضوغة أي التي مضغتها الأسنان، وقد أثبت العلم الحديث أن الجنين في هذه المرحلة ليس قطعة لحم عادية بل هو كقطعة اللحم التي مضغتها الأسنان، فاختيار لفظ (المضغة) اختيار علمي دقيق. إنه لم يقل "قطعة لحم صغيرة" ولو قال ذلك لكان صواباً ولكن قال: (مضغة) لما ذكرتُ وربما لغيره أيضاً والله أعلم.

وقرأت فيما توصل إليه علم التاريخ وما دلت عليه الحفريات الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام وأدق الأخبار ما لم يكن يعرفه جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان. وأن الذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبق على ما جاء في القرآن الكريم كلمة كلمة ولم يكن ذلك معلوماً قبل هذا القرن البتة.

وقرأت في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير (الملك) في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة موسى، فعرفت أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة فـ (العزيز) أدق ترجمة لمن يقوم بذلك المنصب في حينه، وأن المصريين القدامى كانوا يفرقون بين الملوك الذين يحكمونهم فيما إذا كانوا مصريين أو غير مصريين، فالملك غير المصري الأصل كانوا يسمونه (الملك)، والمصري الأصل يسمونه (فرعون)، وأن الذي كان يحكم مصر في زمن يوسف غير مصري، وهو من الهكسوس فسماه (الملك)، وأن الذي كان يحكمها في زمن موسى هو مصري فسماه (فرعون)، فسمى كل واحد بما كان يُسمى في الأزمنة السحيقة.

وعرفت من الإشارات الإعجازية في مختلف العلوم كما في أسرار البحار والضغط الجوي وتوسع الكون وبداية الخلق ما دعا كثيراً من الشخصيات العلمية إلى إعلان إسلامهم.

بل إن هناك أموراً لم تُعرف إلا بعد صعود الإنسان في الفضاء واختراقه الغلاف الجوي للأرض، وقد أشار إليه القرآن إشارات في غاية العجب ذلك أن الإنسان إذا اخترق الغلاف الجوي للأرض، وجد نفسه في ظلام دامس وليل مستديم ولم تُر الشمس إلا كبقية النجوم التي نراها في الليل. فالنهار الذي نعرفه نحن، لا يتعدى حدود الغلاف الجوي فإن تجاوزناه كنا في ظلام لا يعقبه نهار. وقد أشار إلى ذلك القرآن إشارة عجيبة في قوله: "وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)" يس فجعل النهار كالجلد الذي يُسلخ وأما الليل: فهو الأصل، وهو الكل، فشبّه الليل بالذبيحة، والنهار جلدها، فإن سُلخ الجلد ظهر الليل فجعل النهار غلافاً والليل هو الأصل.

وقال: "وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)" الحجر أي لو مكنّاهم من الصعود إلى السماء لانتهوا إلى ظلام وقالوا (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) وغير ذلك وغيره.

وعلى هذا فالإعجاز القرآني متعدد النواحي متشعب الاتجاهات ولا يزال الناس يكتشفون من مظاهر إعجازه الشيء الكثير فلا غرو أن أقول إذن: إن الإعجاز أكبر مما ينهض له واحد أو جماعة في زمن ما.

إن التعبير الواحد قد ترى فيه إعجازاً لغوياً جمالياً، وترى فيه في الوقت نفسه إعجازاً علمياً، أوإعجازاً تاريخياً، أو إعجازاً نفسياً، أو إعجازاً تربوياً، أو إعجازاً تشريعياً، أو غير ذلك.

فيأتي اللغوي ليبيّن مظاهر إعجازه اللغوي وأنه لا يمكن استبدال كلمة بأخرى، ولا تقديم ما أُخّر ولا تأخير ما قُدّم، أو توكيد ما نُزع منه التوكيد أو عدم توكيد ما أُكّد. ويأتيك العالم في الطب ليقول من وجهة نظر الطب ألطف وأدق مما يقوله اللغوي. ويأتيك العالم في التشريع ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التشريع والقانون ويأتيك المؤرخ ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التاريخ، ويأتيك صاحب كل علم ليقول مثل ذلك من وجهة نظر علمه.

إننا ندل على شيء من مواطن الفن والجمال في هذا التعبير الفني الرفيع، ونضع أيدينا على شيء من سُمو هذا التعبير، ونبيّن إن هذا التعبير لا يقدر على مجاراته بشر، بل ولا البشر كلهم أجمعون، ومع ذلك لا نقول إن هذه هي مواطن الإعجاز ولا بعض مواطن الإعجاز وإنما هي ملامح ودلائل تأخذ باليد، وإضاءات توضع في الطريق، تدل السالك على أن هذا القرآن كلام فني مقصود وُضع وضعاً دقيقاً ونُسج نسجاً محكماً فريدا، لا يشابهه كلام، ولا يرقى إليه حديث "فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ 34" الطور.

أما شأن الإعجاز فهيهات، أنه أعظم من كل ما نقول، وأبلغ من كل ما نصف وأعجب من كل ما نقف عليه من دواعي العجب.

إن هذا القادم من الملأ الأعلى، والذي نزل به سيد من كبار سادات الملأ الأعلى فيه من الأسرار ودواعي الإعجاز ما تنتهي الدنيا ولا ينتهي.

قد ترى أن في قولي مبالغة وادعاء أو انطلاقاً من عاطفة دين أو التهاب وجدان وليس بوسعي أن أمنعك من هذا التصور، ولا أن أرد عنك ما ترى.

ولكن لو فتح القلب المقفل وأُقد السراج المعطل وأشرقت بالنور حنايا لم تكن تعرف النور، ولا مست فؤادك نفحةٌ من روح الملك القدوس، وهبّت على أودية نفسك نسمة من عالم الروح، وسمعت صوتاً يملأ نفسك قادماً من بعيد، من الملأ الأعلى يقول: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ (16)" الحديد. "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)" القمر. فقفّ شعر بدنك، واقشعرّ جلدك، ومار فؤادك، وتحركت السواكن، واضطرب بين جنبيك ما اضطرب، والتهب فيه ما التهب، وانهمرت الدموع تسيل في شعاب القلوب التي قتلها الظمأ، وأقفرها الجفاف تغسل الأوضار وتروي حبات القلب وتندّي اليبس وتُحيي الموات، فعند ذاك تذوق ما لم تعهد له مذاقاً ولا طعماً، وتحسّ ما لم يكن لك فيه سابق معرفة، ولا إحساس، وتصيح بكل جوارحك قائلاً: والله لقد آن والله لقد آن! وعند ذاك تعرف ما أقول وتفهم ما أشير إليه ولكن أنّى لي أن أوُصلك إلى هذا؟!

وكيف أوصلك وأنا المنقطع، وأعطيك وأنا المحروم؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إنما هي دلائلُ أضعها في الطريق وإشارات وصُوى، وشيء من خافت النور في مصباح ناضب الزيت، غير نافع الفتيل، عسى الله أن ينفع بها سالكاً، ويجنّب العثار سارياً في الليل البهيم؛ فتنالنا منه دعوة صالحة تنعنا في عرصات القيامة.

وفي الختام لا أجد خيراً من أن أوصيك ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر، وليكن ذلك منك على ذكر وإياك أن تنساه:

يا أبا ذر أحكم السفينة فإن البحر عميق

وخفف الحمل فإن العقبة كــؤود

وأكثر الـزاد فإن السفر طـويـل

وأخلص العمل فإن الناقـد بصير

المصدر:كتاب لمسات بيانية بقلم الدكتور فاضل السامرائي

Cant See Links







التناسق البياني لكلمات القرآن الكريم




بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل
مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فهذه مجموعة من الفتوحات التي منّ الله بها علي في إعجاز القرآن الكريم البياني، وفكرة هذا البحث تقوم على أن كل كلمة من كلمات القرآن تتكرر في القرآن كله بنظام بديع متناسق ومُحكم. والأمثلة الآتية التي سنراها تؤكد هذه الحقيقة.

هذا التناسق العجيب يبرهن على استحالة الإتيان بمثل هذا القرآن الذي قال الله عنه: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء: 17/88).

كما يبرهن على أن القرآن لو كان كلام بشر لما رأينا فيه مثل هذه التناسقات والتدرجات اللغوية والبيانية، وهذا ما أمرنا الله تعالى أن نتدبره فقال: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء: 4/82).

فكرة عن التناسق البياني

يمكن شرح فكرة النظام البياني لسور القرآن, من خلال المثال الآتي:

يعلمنا الله تعالى أن نتوكل عليه فهو يكفي وهو حسبُنا, نستمع إلى هذا الأمر الإلهي: حَسْبِيَ اللَّهُ هذا النداء تكرر في كامل القرآن في سورتين, لنبحث عن كلمة (حَسْبِيَ) في القرآن:

1ـ (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُلا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 9/129].

2ـ (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر: 39/38].

إذن كلمة (حَسْبِيَ) دائماً ترافقها كلمة (اللَّهُ) تعالى, أي (حَسْبِيَ اللَّهُ) وهل يوجد غير الله لنلتجئ إليه وندعوَه؟ وكما نلاحظ كلتا الآيتين فيهما أمر آخر هو التوكل على الله تعالى, وليؤكد لنا أن التوكل لا يكون إلا على الله. إذن ارتبط الالتجاء إلى الله بالتوكل على الله! فمن أراد أن يلتجئ إلى الله تعالى فعليه أن يتوكل على الله، فلا فائدة من التجاءٍ لا توكل معه.

كما أن الآية الأولى جاء التوكل فيها على لسان النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه، وهذا تشريفاً لمقامه ومنزلته عند الله عز وجل. بينما في الآية الثانية جاء التوكل على لسان المؤمنين، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة أن يبدأ الانسان بنفسه ثم بالآخرين، وهذا أسلوب عظيم في التربية. ولذلك جاء التدرج البياني للآيتين مبتدئاً بالرسول الأعظم الذي هو مثال ونموذج وقدوة من أراد أن يتوكل على الله، ثم من بعده البشر هكذا:

1- عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ.

2- عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ.

التدرج العقائدي

لنتأمل إحدى كلمات القرآن ونظام تكرارها بيانياً وعددياً. ونجري بحثاً عن كلمة (حقَّت) في القرآن فنجد هذه الكلمة تكررت 5 مرات في كل القرآن في 4 سور:

1 ـ (كَذَلِكَ حَقَّتْكَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [يونس: 15/33].

2ـ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْعَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [يونس: 10/96].

3ـ (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْعَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: 16/36].

4ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْكَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [الزمر: 39/71].

5ـ (وَكَذَلِكَ حَقَّتْكَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر: 40/6].

دائماً استخدمت كلمة (حَقَّتْ) في القرآن للتعبير عن حقيقة واحدة وهي أن الذين فسقوا وكفروا... لا يؤمنون... ضالون كافرون أصحاب النار. هذه الوحدة اللغوية في كامل القرآن لتدلُّ على أن منزل القرآن واحد لا شريك له. وهذا التناسق البياني هو دليل على أن القرآن كتاب لا يمكن تقليده أو الإتيان ولو بجزء أو سورة منه.

وردت كلمة (حقَّت) في 5 آيات تدرجت كما يلي:

1ـ في الآية الأولى الحديث عن (الذين فسقوا) فهؤلاء (حقّت عليهم كلمة ربك)، وكما نعلم أول خطوة على طريق جهنم تبدأ بالخروج (الفسق) عن أمر الله تعالى.

2ـ ثم في الآية الثانية جاء الحديث عن الذين (لا يؤمنون) وهذه هي المرحلة الثانية بعد الفسق ـ عدم الإيمان.

3ـ في الآية الثالثة تحدث الله عن أؤلئك الذين (حقّ عليهم الضلالة)، إذن عدم الإيمان يؤدي إلى الضلال.

4ـ في الآية الرابعة كان الحديث عن (الكافرين) فالضلال يؤدي إلى الكفر والإشراك بالله تعالى لذلك جاءت العبارة: (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ).

5ـ وأخيراً ختم الله هذه الآيات الخمسة بقوله: (أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) وهذه هي النتيجة المنطقية لكل من يفسُق... لا يؤمن... يضلّ.. يكفر... فمصيره إلى النار فهي تكفيه.

وتأمل أخي الحبيب هذا التدرج اللغوي لرحلة تنتهي بالنار والعياذ بالله تعالى:

فسقوا................ بداية الرحلة هي الفسق عن أمر الله تعالى.

لا يؤمنون........... بعد الفسق يأتي عدم الإيمان بالله تعالى.

الضلالة............ ثم يأتي الضلال والضياع.

كَلِمَةُ الْعَذَابِ ........ وتبدأ رحلة العذاب.

أَصْحَابُ النَّارِ....... والنتيجة المؤلمة لهذه المراحل هي النار!

ولكن يبقى التساؤل: ما هي كلمة الله التي حقَّت على هؤلاء الكافرين؟ ألا يستطيع الله تعالى أن يهديَ الناس جميعاً؟ إنني أتصور أن الضلال والهدى... الكفر والإيمان.. الجنة والنار... كل هذه المفاهيم وغيرها لها نظام محسوب بدقة, فالله تعالى يعلم ما يصنع وهو يسيِّر الكون بما فيه, فهل يعجز عن هداية مخلوق؟

ولكن حكمة الله ومشيئته وقضاءه أعلى من مستوى تفكيرنا... ولكن يمكنني أن أقول إن النظام الكوني والبشري ونظام الخلق والنظام القرآني وغيرها لا يمكن أن تكون إلا بهذا الشكل الذي نراه, وغير هذه الصيغة لنظام الخلق ستؤدي إلى خلل في الكون.

هكذا مشيئة الله...

قبل أن يخلق الله الكون اختار الصيغة الأنسب للضلال والهدى، واقتضت مشيئة الله أن ينقسم البشر بين مؤمن وكافر، لو شاء لهدى الناس جميعاً, ولو شاء لعذبهم جميعاً... إنه يفعل ما يريد هو وليس نحن... لنتخيَّل حكمة الله في خلقه نستعرض 3 آيات من القرآن حيث تكررت كلمة (نَشَأْ) لنرى التدرج البلاغي والرقمي لتكرار هذه الكلمة عبر سور القرآن:

1ـ (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [الشعراء: 26/4].

2 ـ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) [سبأ: 34/9].

3 ـ (وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ) [يس: 36/43].

نظام الكلمات لغوياً

كلمة (نَشَأْ) هي كلمة خاصة بالله تعالى، لم ترد إلا وقبلها (إنْ) وبعدها كلمة تخصُّ الله وقدرته ومشيئته ليبيِّن لنا الله تعالى أن المشيئة كلها لله وحده، وليس لنا نحن البشر من الأمر شيء.

1ـ بدأ الله تعالى الأولى بالحديث عن الهدى فهو قادر على أن ينزل على هؤلاء المكذبين آية (معجزة) من السماء فيجبرهم على الخضوع والإيمان قسراً, ولكن عدالة الله تعالى اقتضت أن يعطيَهم حرية الاختيار لكي لا يظلم أحداً يوم القيامة.

2ـ ثم أتت الآية الثانية بالتهديد بأن الله قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم قطعاً ملتهبة من السماء ولكن رحمتُه تقتضي إمهالهم ليوم لا ريب فيه حيث لا ينفعهم الندم.

3ـ وخُتمت هذه الآيات الثلاث بأن الله لو شاء لأغرقهم فلا منقذَ لهم غير الله تعالى.

نرى التدرج عبر الآيات الثلاثة:

من السماء (نُنَزِّلْ)...

إلى الأرض (نَخْسِفْ)...

إلى أعماق البحار (نُغْرِقْهُمْ)...

فهل نحن أمام برنامج بلاغي لكل كلمة من كلمات القرآن؟ إذن تنوعت أنواع العذاب :

الإحراق بأجسام ملتهبة من السماء.

ثم الخسف في الأرض .

ثم الإغراق في ظلمات البحار.

كلُّ شيء... يسبِّح بحمدِه

كيف لا يسبح كل شيء بحمد الله تعالى وهو خالق كل شيء؟ الرعد يسبح بحمده... كل شيء يسبح بحمده... يوم القيامة يدعونا الله فنستجيب بحمده... إنه الحي الذي لايموت فسبِّح بحمده, لنبحث عن كلمة (بِحَمْدِهِ) التي نجدها مكررة 4 مرات في 3 سور من القرآن العظيم:

1ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِوَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 13/13].

2ـ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِوَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء: 17/44].

3ـ (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 17/52].

4ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِوَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) [الفرقان: 25/58].

3 سور هي: الرعد 13ـ الإسراء 17ـ الفرقان 25, تكررت فيها كلمة (بِحَمْدِهِ).

النظام البلاغي

تنظيم كلمات وآيات وسور القرآن وترتيبها لا يقتصر على دقة الكلمات والعبارات، بل هنالك نظام بلاغي لتدرج هذه الكلمات عبر سور القرآن. ففي المثال السابق نجد النظام التالي:

1ـ عرَّفَنا الله تعالى كيف يسبِّحُ الرعد بحمده والملائكة لأن هذه المخلوقات تمتثل أمر الله وتخافه ولا تعصيه، فهل نَعتَبِر؟

2ـ ثم قرر في الآية الثانية أن كل شيء يسبح بحمد الله تعالى... وللأسف كثير من الناس غافلون عن ذكر الله ولقائه وعذابه.

3ـ ثم انتقلت الآية الثالثة لتتحدث عن المستقبل ـيوم القيامةـ عندما يبعثنا الله بعد الموت فنستجيب بحمده, فإما إلى الجنة وإما إلى النار. وحتى نفوزَ بالجنة.

4ـ تأتي الآية الرابعة بالأمر الإلهي (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)، ليعلمنا كيف نسبح ونمجِّد وننزِّه الله تعالى لنفوز برحمة الله ونعيمه ومغفرته, إذن بعد 3 آيات تُقرِّر أن كل شيء يسبح بحمده تعالى... فهل تمتثل أيها الإنسان أمر الله وتسبِّحه وتمجِّده؟ لذلك جاءت الآية الرابعة لتأمرنا بالتسبيح لله تعالى.

كل شيء يسجد لله

إذا كان كل شيء يسبح بحمد الله تعالى تعظيماً له. فهل تستكبر مخلوقات الله عدا الإنسان عن السجود لخالقها؟ القرآن يخبرنا أن كل شيء في الوجود يسجد لله تعالى خوفاً وتواضعاً وتذللاً لله تعالى , وعلى الرغم من ذلك يأبى كثير من الناس الامتثال لأوامر خالقهم ورازقهم وممهلهم...

كلمة (يَسجُدُ) تكررت في كامل القرآن 3 مرات بالضبط في 3 سور :

1 ـ (وَلِلّهِ يَسْجُدُمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) [الرعد : 13/15].

2 ـ (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) [النحل : 16/49].

3 ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [ الحج :22/18].

هكذا عظمة كتاب الله تعالى... تتراءى أمامنا البلاغة الفائقة تتدرج من حيث المعنى :

1 ـ بدأت الآية الأولى بتقرير أن كل من في السماوات والأرض يسجد لله طوعاً وكرهاً , ليدلَّنا على أن الأمر لله وليس لمخلوقاته .

2 ـ في الآية الثانية تحدث الله تعالى عن الدواب التي نظنها لا تعقل ولا تسمع, ولكنها تسجد لله تعالى والملائكة أيضاً يسجدون لله .

3 ـ وأخيراً تحدثت الآية الثالثة والأخيرة أن كل من في السماوات ومن في الأرض يسجد لله وعدَّد بعض مخلوقات الله: الشمس ـ القمر ـ النجوم ـ الجبال ـ الشجر ـ الدواب..., ونلاحظ في هذه الآية كيف انتقل الله تعالى من صيغة الإثبات إلى صيغة الاستفهام (أَلَمْ تَرَ) أي بعد كل هذه الآيات ألم يحنِ الوقت لترى وتوقن أن كل شيء يسجد لله؟

من خلال الآيات الثلاث نلاحظ أن كلمة (يَسْجُدُ) هي كلمة خاصة بالله تعالى لم تُستخدم إلا للتعبير عن أن كل شيء يسجد لله, لذلك نجدها دائماً مسبوقةباسم (الله)! ليؤكد لنا الله على أن السجود هو فقط لله وليس لأحدٍ غير الله, ونرى كيف تتدرج الآيات الثلاث في تعداد المخلوقات:

1 ـ الآية الأولى لم تعدد من أنواع المخلوقات شيئاً.

2 ـ الآية الثانية ذكرت : الدواب ـ الملائكة (نوعين فقط).

3 ـ الآية الثالثة ذكرت : الشمس ـ القمر ـ النجوم ـالجبال ـ الشجر... (أنواع متعددة).

هل ينفع الندم؟

مشهد من مشاهد جهنم يصوره لنا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، يقول أصحاب النار (يا ليتنا)، فما هي أمنيات هؤلاء الكفار؟ ولكن ماذا تفيدهم هذه الأماني؟ طبعاً لاشيء، لنستمع إلى هاتين الآيتين حيث تكررت كلمة (ليتنا) لم ترد هذه الكلمة إلا في هاتين الآيتين:

1ـ (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَانُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام:6/27].

2ـ(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَاأَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب: 33/66].

التدرج اللغوي والمنطقي في الآيتين

1ـ الآية الأولى بدأت بوقوفهم على النار (إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ)، ثم الآية الثانية بعد أن دخلوا في النار أصحبَ تُقَلَّب وجوههم فيها (تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ، وهكذا التدرج من الوقوف خارج النار إلى الدخول إليها.

2ـ في الآية الأولى بدؤوا بقولهم أول شيء (فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ)، أي إلى الدنيا، فهذا أول مطالبهم، ثم تمنوا ألاَّ يكذبوا بآيات الله (وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) ثم تمنوا بأن يكونوا من المؤمنين(وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): أي العودة إلى الدنيا... ثم التصديق بآيات الله... ثم الإيمان.

3ـ ولكن في الآية الثانية عندما دخلوا إلى النار وقُلِّبت وجوهُهم فيها، لم يعد لديهم أمل بالعودة إلى الدنيا. وأدركوا مدى أهمية طاعة الله وطاعة رسوله فانتقلوا من مرحلة الإيمان إلى مرحلة الطاعة لله ورسوله، لذلك يقولون عندها: (يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) إذن نلخِّص هذا النظام البلاغي باختصار:

1ـ وقوفهم على النار.... ثم الدخول فيها لتُقَلَّب وجوههم في النار.

2 ـ وتأمل معي التدرج الزمني للآيتين: فلآية الأولي جاء فيها قولهم بصسغة الماضي (فَقَالُواْ)، ولكي لا يظنّ أحد أن هذا القول وهذه الحسرة انتهت، أو ستنتهي، يأتي قولهم في الآية الثانية على صيغة الاستمرار (يَقُولُونَ)، ليبقى الندم مستمراً.

إن هذا النوع من الإعجاز الزمني لاستخدام كلمات القرآن، ألا يدل على أن هذا القرآن كتاب مُحكَم؟

ودائماً كلمة (ليتنا) سُبقت بكلمة (يا) ليظهر لنا الله تعالى المبالغة في التمنِّي للكفار وهم نار جهنم... ولكن هل ينفع الندم؟

لهم ما يشاءون

قلنا في الفقرات السابقة أن الله وضع نظاماً رقمياً لسور القرآن لنستيقن أن هذا القرآن من عند الله تعالى, وأننا نعجز عن الإتيان بمثله مهما حاولنا, عندما نستيقن ذلك نقرُّ ونعترف بأن كل كلمة في كتاب الله تعالى هي حق... وأن وعد الله حق, وأن الجنة حق, وأن النار حق. والقرآن يصور لنا حياة المؤمن في الجنةبعبارة خاصة بأهل الجنة وقد تكررت 5 مرات في الآيات:

1ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ) [النحل: 16/31].

2ـ (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَخَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً) [الفرقان: 25/16].

3ـ (لَهُم مَّا يَشَاءُونَعِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 39/34].

4ـ (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَعِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ) [الشورى: 42/22].

5ـ (لَهُم مَّا يَشَاءُونَفِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 50/35].

ولنرى النظام البلاغي الفائق الدقة في تكرار هذه الكلمة الخاصة بأهل الجنة:

1ـ تحدثت الآية الأولى عن جزاء المتقين: جنات... لهم فيها ما يشاءون.

2ـ أما في الآية الثانية فقد أكّد الله تعالى على أن هؤلاء المتقين خالدون في الجنة التي لهم فيها ما يشاؤون, وأن وعد الله حق ولا يُخلف الله وعده (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً).

3ـ أما الآية الثالثة فقد تحدثت عن المحسنين لأن التقوى يُؤدي إلى الإحسان, (والعكس صحيح) هؤلاء المحسنون (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ), أكدت أيضاً أنهم سيكونون بقرب ربهم, ومن كان قريباً من الله فماذا يطلب بعد ذلك؟

4ـ زادت الآية الرابعة تأكيد قرب هؤلاء من ربهم سبحانه وتعالى وأكدت أن هذه الصفات هي (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ).

5ـ وأخيراً لكي لا نظُنُّ أن هذا كل شيء, ختم الله هذه الآيات الخمسة بكلمة (مزيد), فالعطاء مفتوح لا حدود له (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).

بعد كل هذا ماذا يتمنَّى المؤمن؟ فسبحان الذي رتب ونظم هذه الكلمة عبر سور القرآن بهذا الشكل المذهل!!

البحار يوم القيامة

البحار التي يُستخدم ماؤها لإخماد النار سوف تلتهب... تُسَجَّر... وتُفَجَّر، هذه إحدى الحقائق عن يوم القيامة. ولنسأل هل يوجد بلغة الأرقام ما يصدق هذه الحقيقة؟ نلجأ إلى كتاب الله ونبحث عن كلمة (البحار)، كم مرة تكررت في كامل القرآن؟ الجواب بسيط، مرتين في سورتين:

1ـ (وَإِذَا الْبِحَارُسُجِّرَتْ) [التكوير: 81/6].

2ـ (وَإِذَا الْبِحَارُفُجِّرَتْ) [الانفطار: 82/3].

ولا ننسى أن كلمة (البحار) في القرآن لم تستخدم إلا للحديث عن يوم القيامة. ونلاحظ تسلسل الآيتين في القرآن يتناسب مع المفهوم العلمي: فأولاً يكون الاشتعال ثم الانفجار وليس العكس، فجاء تسلسل الآيتين أولاً (سُجِّرت) وثانياً (فُجِّرت)، وهذا مطابق للحقائق العلمية الحديثة.

الأرض يوم القيامة؟

هذه الأرض التي نراها ثابتة ومستقرة سوف تهتزُّ وترجُف يوم القيامة. وهذه حقيقة مستقبلية لاشك فيها، وما لغة الأرقام والنظام الرقمي إلا دليل قوي جداً على صدق كلام الله تعالى. تكررت كلمة (تَرْجُف) مرتين بالضبط في كامل القرآن في سورتين:

1ـ (يَوْمَ تَرْجُفُالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً) [المزمل: 73/14].

2ـ (يَوْمَ تَرْجُفُالرَّاجِفَةُ) [النازعات: 79/6].

إذن كلمة (تَرْجُفُ) تسبقها دائماً كلمة (يوم) ليؤكد لنا الله تعالى أن الأرض ستهتز وترجف في ذلك اليوم ـ يوم القيامة. فجاء التسلسل الزمني مطابقاً لتسلسل الآيتين: الآية الأولى تحدثت عن اهتزاز الأرض، ثم في الآية الثانية تحدث الله عن اهتزاز الأرض المهتزة أصلاً، وهذا لزيادة الاهتزاز والارتجاف.

لنعد إلى التساؤل التقليدي: مَن الذي وضع هذه الكلمة في هاتين السورتين؟ ومَن الذي حدَّد استخدام هذه الكلمة بما يخصّ يوم القيامة وليس أي شيء آخر؟ أليس هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟

السراج المنير

في كتاب الله تعالى لكل كلمة خصوصيتها, ومن بين الكلمات الكثيرة كلمة (منيراً) التي تكررت مرتين في كامل القرآن في الآيتين:

1ـ (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً) [الفرقان: 25/61].

2ـ (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) [الأحزاب: 33/46].

في الآية الأولى الحديث عن القمر والشمس, أما الآية الثانية فتتحدث عن الرسول , وكأن الله يريد أن يقول لنا إن الرسول الكريم هو بمثابة الشمس والقمر للمخلوقات. فكما أن الإنسان لا يستطيع العيش من دون الشمس والقمر كذلك لا يمكن للمؤمن أن يحيا من دون تعاليم وأخلاق ودعوة الرسول . وهذا الترتيب للآيتين يثبت أن القرآن من عند الله.

البعد الزمني للكلمة القرآنية

لنتأمل هاتين الآيتين في صفة بني إسرائيل وكيف عبَّر عنهم البيان الإلهي:

1 ـ (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَاوَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) [البقرة: 2/93].

2 ـ (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَاوَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 4/46].

إن عبارة سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا لم ترد في القرآن كله إلا في هذين الموضعين وكما نرى الحديث دائما على لسان بني إسرائيل، وكأن الله تعالى يريد أن يقول لنا بأن هذه الكلمة لا تليق إلا بهؤلاء، فهي لم ترد على لسان أي من البشر إلا بني إسرائيل!

هذه الحقيقة نكتشفها اليوم لنعلم حقيقة هؤلاء اليهود الذين حرفوا كلام الله، لذلك جاءت كلمة (وَعَصَيْنَا) لتعبر تعبيراً دقيقاً عن مضمون هؤلاء. وقد لاحظتُ شيئاً عجيباً في هاتين الآيتين:

الآية الأولى جاءت بصيغة الماضي قَالُواْ ، فهذا يدل على ماضيهم وتاريخهم في المعصية. ولكي لا يظن أحد أن هذا الماضي انتهى جاءت الآية الثانية بصيغة الاستمراروَيَقُولُونَ للدلالة على حاضرهم ومستقبلهم في معصية أوامر الله تعالى، فهم في حالة عصيان مستمر.

لم يكتفوا بعصيانهم بل أغلقوا قلوبهم وغلفوها بغلاف من الجحود والكفر، ويأتي البيان القرآني ليصف قلوب هؤلاء على لسانهم، ولنستمع إلى هاتين الآيتين:

1 ـ (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌبَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 2/88].

2 ـ (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌبَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 4/155].

وهنا من جديد نجد أن عبارة قُلُوبُنَا غُلْفٌ لم ترد في القرآن كله إلا في هذين الموضعين، وهذا يثبت أن كلمات القرآن تُستخدم بدقة متناهية فكلمة غُلْفٌ هي كلمة خاصة ببني إسرائيل بل لا تليق هذه الكلمة إلا بهم. ولكن هنالك شيء أكثر إدهاشاً.

1 ـ فــالآيــة الأولـى جـــاءت علـى صيغــة المـــاضـي وَقَالُواْ لتخبرنا عن ماضي هؤلاء وحقيقة قلوبهم المظلمة، ثم جاءت الآية الثانية بصيغة الاستمرار وَقَوْلِهِمْ لتؤكد حاضرهم ومستقبلهم أيضاً، وهذا التدرج الزمني كثير في القرآن، فتسلسل الآيات والسور يراعي هذه الناحية لذلك يمكن القول بأن القرآن يحوي من الإعجازات ما لا يتصوره عقل: لغوياً وتاريخياً وعلمياً وفلسفياً وتشريعياً ورقمياً، ألا نظن أننا أمام منظومة إعجازية متكاملة في هذا القرآن؟

2 ـ في الآية الأولى نلاحظ قول الله تعالى وردّه عليهمبَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ ، وهذا منتهى الذل أن يلعنهم الله فماذا بقي لهم من الأمل في الدنيا أو الآخرة؟ ولكن الآية الثانية نجد قول الله ورده عليهم بصيغة ثانية: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا وهذا يؤكد أنه لا أمل لهذه القلوب أن تنفتح أمام كلام الله، فقد لعنهم الله وطبع على قلوبهم فماذا ينتظرون بعد ذلك؟

3 ـ ولكن هل تنطبق هذه المــواصفـات على جميـع اليهــود؟
إن نهايتَي الآيتين تجيبنا على ذلك، فالآية الأولى انتهت بـ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ للدلالة على قلة إيمانهم أما الآية الثانية فانتهت بـفَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً حتى المؤمنون منهم عددهم قليل جداً.

إذن هم قليلو الإيمان كيفاً وكماً. وهنا نتساءل: أليست هذه معجزة بلاغية فائقة؟

وهكذا لو سرنا عبر قصة بني إسرائيل في القرآن ومواقفهم مع نبي الله موسى عليه السلام، لرأينا أن كل شيء يسير بنظام، وهذه القصة تحتاج لبحث مستقل بل مجموعة من الأبحاث لكشف أسرار معجزة هذا القرآن.

الترتيب الزمني للقصة

يبشر الله عباده المؤمنين برسول كريم اسمه أحمد ‘، وتأتي البشرى على لسان روح الله وكلمته المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فيقول هذا الرسول الكريم لبني إسرائيل مبشراً لهم: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) [الصف: 61/6]. ونحن نعلم أنه لا نبي بعد رسول الله ‘ فهو خاتم النبيين.

إن عبارة (من بعدي) في هذه الآية تدل على زمن، هذه العبارة تكررت في القرآن، ونسأل: كيف تكررت هذه العبارة وعلى لسان مَن وردت؟ وما هو ترتيب الآية السابقة التي جاءت على لسان المسيح عليه السلام؟ لنستمع إلى هذه الآيات الأربعة:

1 ـ (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِيقَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:2/133].

2 ـ (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَأَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 7/150].

3 ـ (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِيإِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [ص: 38/35].

4 ـ (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِياسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) [الصف: 61/6].

إن كلمة (بعدي) لم ترد إلا في هذه الآيات الأربعة من القرآن، ولكن السؤال على لسان من وردت هذه الآيات؟ إذا استعرضنا هذه الآيات من القرآن وجدنا أن:

1 ـ الآية الأولى في سياق قصة يعقوب عليه السلام.

2 ـ الآية ثانية في سياق قصة موسى وهارون عليهما السلام.

3 ـ الآية الثالثة في سياق قصة داود وسليمان عليهما السلام.

4 ـ الآية الرابعة في سياق قصة المسيح عليه السلام والبشرى.

هذه لغة القصة في كتاب الله تعالى, ولكن ماذا تخبرنا لغة التاريخ؟

إن تسلسل هذه الآيات الأربعة مطابق تماماً للتسلسل التاريخي لهذه القصص، فنحن جميعاً نعلم دون خلاف أن التسلسل التاريخي للأنبياء الأربعة هو: يعقوب ثم موسى ثم داود ثم المسيح عليهم السلام، لذلك جاء تسلسل الآيات الأربعة موافقاً لهذا الترتيب. وهنا ربما ندرك الحكمة من أن ترتيب سور المصحف يختلف عن ترتيب نزول سور القرآن، لأن هذا الترتيب فيه معجزة!

ولكن هنالك ملاحظة مذهلة وهي أن كلام المسيح عليه السلام والبشرى التي جاء بها، ورد في آخر هذه الآيات وهذا دليل على أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإسلام هودين العلم، لذلك فقد علمَّ الله أنبياءه ورُسلَه الكرام فقال في حق يعقوب عليه السلام: (وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُوَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 12/68].

أما العبد الصالح في قصته مع موسى عليه السلام فقد قال الله فيه (فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُمِن لَّدُنَّا عِلْماً) [الكهف: 18/65].

وفي قصة داود وسليمان عليهما السلام فقد علمَّ الله سليمان علوماً كثيرة فقال: (وَعَلَّمْنَاهُصَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) [الأنبياء: 21/80].

ولكن عندما يكون الحديث عن خاتم النبيين يأتي البيان الإلهي ليمدح هذا النبي الأمي ‘ ويؤكد بأن كل كلمة نطق بها إنما هي وحي من عند الله تعالى. يقول تعالى عن نبيه وحبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام: (وَمَا عَلَّمْنَاهُالشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) [يس: 36/69].

والعجيب حقاً أن كلمة (عَلَّمْنَاهُ) وردت مع أنبياء الله وعباده المؤمنين دائماً بصيغة الإثبات إلا مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فقد جاءت بصيغة النفي (وما عَلَّمْنَاهُ) ليؤكد لنا أن القرآن هو كتاب الله تعالى وليس للرسول عليه الصلاة والسلام ولا حرفاً فيه بل كلٌّ من عند الله. وهذه الحقيقة اللغوية ثابتة لأن كلمة (عَلَّمْنَاهُ) تكررت في القرآن كله 4 مرات، والحديث عن 4 عباد صالحين هم: يعقوب ـ الخَضِر ـ داود ـ محمد عليهم السلام، وجاء ترتيب هذه الآيات الأربعة موافقاً ومطابقاً للتسلسل التاريخي.

1 ـ قصة يعقوب عليه السلام.

2 ـ قصة موسى مع الخضر عليهما السلام.

3 ـ قصة داود وسليمان عليهما السلام.

4 ـ حديث عن محمد صلى الله عليه وسلم.

ونتساءل: هل جاء الترتيب الزمني والترتيب القرآني متطابقاً بالمصادفة؟ وهل يمكن لمصادفة أن تتكرر؟

بعد هذه النتائج التي لا تقبل الجدل وبعدما رأيناه من إعجاز لغوي وتاريخي نطرح سؤالاً على كل من لم يؤمن بهذا القرآن: كيف جاء هذا النظام المُحْكَم؟

خاتمة

بقي سؤال واحد نطرحه على كل من في قلبه شك من هذا القرآن ومن رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام:

هل بقي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم متذكراً جميع كلمات القرآن طيلة 23 سنة؟ فإذا كان أعظم كتاب الأدب والشعر ينسى ما كتبه في اليوم التالي، فكيف بنبي أمي لايقرأ ولا يكتب؟ ولو كان هذا النظام البيني المبهر من صنع محمد، فلماذا لم يفتخر به أمام قومه ويكشفه لهم؟

إن اكتشاف تناسق ونظام لغوي في كتاب أُنزل قبل أربعة عشر قرناً لهو إثبات مادي على أن هذا القرآن منزل من الواحد الأحد سبحانه، والقائل:

{وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس: 10/37).

ملاحظة للقراء:

هذه هي الحلقة الأولى في سلسلة الإعجاز البياني في القرآن والسنة، وسوف نتبعها إن شاء الله بأبحاث أخرى قريباً. وباعتبار أن هذه الحقائق البلاغية تُعرض للمرة الأولى من خلال هذا الموقع المبارك، فنأمل من القراء الأفاضل تزويدنا بملاحظاتهم وآرائهم، واكتشافاتهم أيضاً! فجميع كلمات القرآن رتبها الله تعالى بتناسق وتدرج وإعجاز لغوي محكم، ويستطيع كل مؤمن أن يُبحر في رحاب كلمات كتاب الله تعالى، ويرى عجائبه التي لا تنقضي. مستجيبين لنداء الحق تبارك وتعالى:

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)

بريد المؤلف: Cant See Links


Cant See Links


رد مع اقتباس