عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2010, 03:32 AM   رقم المشاركة : 5
الكاتب

abo _mohammed

المشــرف العــــام

abo _mohammed غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









abo _mohammed غير متواجد حالياً


رد: أروع ماقاله الشيخ عائض القرني



(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)


الصبح آية من آيات الله دالة على بديع صنعه وجميل خلقه، فالصبح له طلعة بهية ووجه مشرق يشع بالجلال والحسن، ومن أراد أن يعرف جمال الصبح فليتأمل قدومه بعد صلاة الفجر كيف يدب دبيباً كالبرء في الجسم وكالمااء في العود ، فإن الصبح يزحف بعد جحفل من الظلام فيطويه أمامه، فكأن الكون وجه تتبلج أساريره، وتشرق قسماته، وترتسم على محياه بسماته، وما أجمل الصبح، قيه يهب النسيم العليل، ويشع النور الهادئ ، والضوء الدافئ، وتبدو الحياة، ويميس الزهر، ويندي الظل، وتتفتح الأوراق، تفتح شفاه المحبين عن أسئلة حائرة، وتتفتق الأكمام تفتق عيون العاشقين عن أسرار دفينة.

في الصباح رجع الصدي، وقطر الندي، وحفيت الهواء، وتمتمة الماء، وتغريد الطيور، وسجع الحمام، وأنغام العندليب ، في الصبح يرتحل الفلاح بمسحاته إلى الحقل ، ويسوق البدوي أغنامه إلى المرعي، ويذهب الطالب إلى مدرسته، والطبيب إلى عبادته، والبائع إلى حانوته، فالصبح أذان معلم بالحياة ، وإعلان بيوم جديد، وملاذ مجيد، لنهار آخر من الجد والعمل والعطاء والنماء.

ولكن أما دعاك هذا اللفظ الشائق في قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أما وقفت معه وقفه إجلال للإبداع واحترام للبيان؟ كيف يتنفس الصبح؟ ! سؤال يجيب عنه من قرأ حروف القدرة على صفحات الكائنات، والصبح يوم يتنفس كأنه محزون فقد أحبابه، فخرجت أنفاسه الحارة من أعماقه، أو كأنه مكبوت يشكو آلامه، فانبعثت من حشاياه آهاتاه، أو كأنه مظلوم صهر الظلم قلبه فانفجرت روح بزفراته، أو كأنه مسجون كبلت يداه وقيدت قدماه، فعبر بلهيب توجعه عن معاناته.

وما أجمل أسلوب القرآن، ففي كل ذرة من اللفظ درة، ومن يدري لعل الصبح تنفس بعد ليل طويل قاس من الظلام والهجر والقطيعة، ولعله تنفس تنفس المسرور بلقاء أحبابه، السعيد برؤية اصحابه؛ لأن الصبح مقبل عن نهر جميل ، وحياة دائبة، وحركة نشيطة من الجد والبذل والتضحية ، والمقصود أن هذا الصبح كان مكظوم الأنفاس، مكبوت الحشي، ثم حانت لحظة الانطلاق فتنفس، وأنا أدعو سلاطين البلاغة ودهاقنة البيان وأرباب الفصاحة أن يقفوا خاشعين أمام (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ليذوقوا لذة الجمال، ومتعة الحسن، ليعلموا سر الإعجاز ، في هذا الكتاب المعجز الخالد، وليدخلوا ديوان عظمة الخالق، ديوان قدرته ليروا جمال المقال، وبديع الأفعال ، من ذي الجلال والإكرام.


(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)

لا تمدحوا أنفسكم فعلمها عند اللطيف الخبير، ولا تثنوا عليها فإن الناقد بصير، وما أجهل الإنسان إذا زكي نفسه وشهد لها بالفضائل وبرأها من الرذائل، وما اثقل كلامه وهو يستعرض على ربه وعلى الناس مناقبه ويسوق محامده ويذكر حسناته.

إن الذي يزكي نفسه في محل التهمة وفي مقام الربية؛ لأن الإنسان بطبعة ظلوم جهول ، يحب نفسه ويعشق ذاته، ويعجب بصفاته ، فإذا نما هذا الطبع وأعلنه في الناس كان دليلاً على قلة تقواه وضحالة معرفته، وأي شئ عند الإنسان حتى يزكي نفسه وهو بين نعمة لم تشكر، أو ذنب لم يغفر ، أو عثرة لم ظهر، أو زلة من ربه تستر؟

أفلا يكفيه أن الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره قبل منه القليل، وغفر له الذنب الجليل، واصلح خلله وستر زللـه ، ثم يأتي هذا الإنسان بدعاوى عريضة ونفس مريضة ليخبر ربه الذي يعلم السر وأخفي أنه ذو تقوى ، والله أعلم بمن اتقي، فهو الذي لا تخفي عليه خافية.

وإن منطق الزور ولسان البهتان أوحي إلي إبليس اللعين بتزكية نفسه الشريرة ليقول لربه: )أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) لتكون هذه التزكية لعنة ما حقه وضربه ساحقة لهذا المريد العنيد، وإن الشهادة الاثمة للنفس سولت لفرعون الطاغية ليقول: ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصرْ) فاذله القوي العزيز، وأرغم أنفه في الطين.

وإن التزكية المفتراة دفعت بقارون الآثم ليفوه بفرية: ) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) ألا فليصمت العيد الضعيف الهزيل، وليسكت المخلوق الفقير، وليخجل العبد المسكين من ربه، وليهضم نفسه، فلولا ستر الله لظهرت الفضائح، ولاولا لطف الله لبدت القبائح، وإن من يتصدر النوادي ليخبر الناس بنسبه الأصيل لهو فاشل، ويحدثهم عن مجده الرفيع لهو أحمق ، ويزكي لهم تقواه لهو مخدوع، ويذكرهم بمناقبة لهو مخذول.

لماذا لا يترك العبد تزكية نفسه لربه، فهو الذي يزكي من يشاء وقوله الحق؟‍!

ولماذا لا يدع الإنسان أعماله تتحدث عنه لا أقواله، وإحسانه لا لسانه؟ وسوف يطهر زيف من مدح نفسه بالباطل، فالناس شهداء الله في الأرض، وألسنة الخلق أقلام الحق، وإن عبداً خلق من نطفة لجدير بأن يصمت، وإن مخلوقاً يحمل فضلاته لحقيق أن يسكت، ونعوذ بالله من لسان حى بالمديح، وقلب ميت بالقبيح، ومن عجب ظاهر، وذنب خفي.

فيامن أخفيت على الناس العيوب، وسترت عن العيوب الذنوب، نسألك صلاح القلوب فإنك علام الغيوب.

(َأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)

تحدث عن جميلينا، أخبر الناس بأيادينا، أعلن نعمنا عليك، لأن الجحود خطيئة والتنكر سيئة ، وكتمان المعروف لؤم ، إن الله يحب من عبده أن يشكره، وأن يثني عليه، وأن يعترف بما وصل من بره إليه؛ لأن الله يحب المدح، فهو أهل له، ويريد الحمد؛ لأنه مستحق له.


ونعم الله تغمر العبد، فإذا قابلها العبد بالحمد والثناء علي مسديها، والمدح والشكر لمهديها بورك فيها، وإذا تنكر لها العبد وجحدها وكتمها محقت وذهب نفعها، والله يلوم الحااسدين من عباده فيقول: )يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) فهم يعلمون أن مانح النعمة هو الله، ولكنهم لؤماء يتنكرون للجميل، وينسون المعروف، وينسبون الفضل لغير أهله.

ورد في أثر : (( إن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها))، فقال أبو معاذ الرازي معلقاً على الآثر: (( يا عجباً ممن لا يري محسناً إلا الله كيف لا يميل إليه بالكلية))، وقال بعض السلف: ((ويحك يا ابن آدم والله لو كساك رجل ثوباً لرأيت إحسانه وعرفت جميله فكيف بمن كل نعمة وصلتك فمن عنده، وكل خير لك لديك فمن لدنه)) وقال المغيرة: (( إن صاحب الكلب يحسن إلى كلبه فلا ينبحه ويحفظ له وده، فكيف بمن غيرك بنعمة))، وقالوا لعابد في البصرة : (0 كيف أصبحت؟)) قال (( اصبحت في نعم غير مشكورة وذنوب غير منسية)). وفي حديث حسن أنه صلي الله عليه وسلم قال : (( سمع سامع بفضل الله ونعمته علينا)) وقال رجل لملك بن دينار : (( أشكو إليك ديوناً لحقتني وحاجة لزمتني، فقال مالك: ويلك كأنك تشكو الله إلى خلقه وله عندك نعم ما شكرت، وأياد طالما كفرت)).

وقال بعض الشعراء:

وإذا شكوت إلى العبــــاد فـــإنمــا
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

وقال الحسن البصري لفرقد السبخي: (( تعال تغدي معنا من هذا الخبيص؛ وهو طعام لذيذ ، فقال فرقد: أنا لا أكل الخبيص لأنني لا أدري شكره، فقال الحسن: قاتلك الله، وهل أديت شكر الماء البارد)).

وكان بعض العباد ينادي: (( سبحان من أعطي الجزيل، ووهب الجليل، ورضي بالقليل ، وستر القبيح من العمل)).

وقال رجل لأحد الوعاظ: (( هل تري لي شرب الماء البارد أو الحار؟ قال: اشرب البارد؛ لأنك إذا شربته أروي عرقك، وإذا شربت الماء الحار قلت: الحمد لله بكزازة، أي: بثقالة ومشقة.

وبالجملة ينبغي إظهار نعمة المنعم شريطة أن لا يكون من باب الزهو والرياء والعجب، مع ملاحظة عين الحاسد فإنها تصيب، وقد جعل الله لكل شئ قدراً.

( كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)

تعلموا العلم النافع، واعلموا العمل الصالح ، وعلموا الناس الحكمة، واصبروا على الأذى في ذلك، فإذا فعلتم فأنتم ربانيون.

كونوا مصابيح الدجي، داعة الهدي، الزاجرين عن الردي، الناشرين للفضيلة الناهين عن الرذيلة، المصلحين في الأرض ، المحبوبين في السماء ، فإن فعلتم فانتم ربانيون.

تواضعوا للعباد، ارحموا الناس، أشفقوا على الخليفة، عودوا المريض، فكوا العاني، اطمعوا الجائع، أعطوا الفقير، امنحوا المسكين، انجدوا الملهوف، انصروا المظلوم؛ فهذه أخلاق الربانيين.
وما أشرف وأجل كلمة ربانيين، إنها لكلمة كبيرة في كبيرة في الفم، كبيرة في السماء، كبيرة في الأرض، إنها نسبة إلى رب الناس ، ورب كل شئ، وهو نسب اصيل رفيع، فمن استكمل صفات الربانية وجمعها ووفاها وقدرها حق قدرها فهو رباني، ويكفي العلماء العالمين الصادقين أن يقال لأحدهم رباني؛ فهي أعظم سيرة محترمة لهذا العالم الصادقين أن يقال لأحدهم رباني ؛ فهي أعظم سيرة محترمة لهذا العالم، وأجمل ترجمة خالدة لهذا الإمام، فلا ينسب إلى بلدة ولاقبيلة وإنما ينسب إلى الله رب العالمين: نسب باذخ ومجد عظيم..وصفات أبهي من الإصباح.

أما الرباني، فقال بعض السلف عنه: هو الراغب في الآخرة الزاهد في الدنيا، وقيل: من إذا رايته ذكرت الله وإذا عاشرته تعرفت على الرسول صلي الله عليه وسلم ، وقيل : من حبيبك في الله، وحثك على تقواه، وبصرك الطريق، وردك عن الردى فهو رباني.

ولابد للرباني من إخلاص لا يشوبه رياء، وزهد لا يكدره طمع، وصدق لا يشوهه كذب، وسنة لا تعارضها بدعة، وعزيمة لا يوهنها ترخص، يخضع العقل للنقل، ويطوع الهوى للوحي.

إن من الواجب على طلاب العلم ورواد السنة وأتباع الرسول صلي الله عليه وسلم أن يسمعوا بكل ما أوتوا من قوة إلى مرتبة الربانية ودرجة الإمامة، ونيل شرف هذه النسبة، والله إن الرجل ليرفع رأسه إذا نسبوه لملك من ملوك الأرض، وإن منهم من يفتخر إذا ألحقوه بوزير أو أمير، أو ذكروا أنه من سلالة شاعر او جواد أو شجاع، فكيف ـ بالله ـ حال من نسب إلى مالك الملك قيوم السماوات والأرض رب العالمين، والله لو تقطعت الأقدام مشياً في رضوانه، وتخددت الوجوه من الدموع من خشيته، وتقرحت الأجفان من الدموع عند ذكره، لكان كل ذلك سهلا يسيراً في سبيله جل في علاه.

( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)

أخبر الله عن أوليائه الصادقين ، وعباده الصالحين، بأنه يحبهم ويحبونه، وهو خبر تهش له نفس المؤمن، ويشتاق إليه قلب الولى، والعجيب قول: يحبهم فهو الذي خلقهم وأطعنهم وسقاهم وكفاهم وآواهم ثم أحبهم، وهو الذي رباهم وهداهم وعلمهم وألهمهم وأرشدهم ثم أحبهم، وهو الذي أنزل عليهم الكتاب، وأرسل إليهم الرسل، وبين لهم المحجة ، واوضح لهم الحجة، ثم أحبهم، فيا له من فضل عظيم، وم عطاء جسيم.

أما قوله عنهم: (يُحِبُّونَه) فهذا عجيب أيضاً، فكيف لا يحبونه وقد أوجدهم من العدم، وأطمعهم من جوع، وآمنهم من خوف، وكساهم من عري؟

كيف لا يحبونه وهو الذي وهب لهم الأسماع والأبصار، وحماهم من الأخطار، وحفظهم في سائر الأقطار؟
وكيف لا يحبونه وهو الذي وهب الأموال والأولاد، وأغدق عليهم الأرزاق، وساق إليهم كل ما يطلبونه ومنحهم، كل مايسألونه، وأمنهم من كل يخافونه

كيف لا يحبونه وقد سخر لهم ما في البر والبحر، أرسل لهم السماء بالماء، وشق لهم الأرض بالنبات ، وجعل الأرض بهم فراشاً وذلولاً ومهاداً ، والماء بناء ، ورزقهم من الطيبات ، واصناف الثمرات، ومختلف المطعومات، وسائر المشروبات؟
كيف لا يحبونه وهو الذي أنزل عليهم القرآن، وعلمهم البيان، وهداهم إلى الإيمان ، وحذرهم من كيد الشيطان.

وما أجمل المقابلة بين قوله: ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) فهو حب بحب أزكي من حب الرب، فليت من له مقام في دنيا المحبين أن يتذوق هذه اللفظة المشرقة، وأن ينقلها رسالة قوية لعشاق الفن محبي العيون السود، والخدود والقدود؛ ليعلموا أن حبهم منقوص هابط، وحياتهم ذازية ذابلة، وقلوبهم خاوية خربة، ونفوسهم ظالمة ظامئة، وبصائرهم كسيفة كليلة، أما حب أولياء الله فهو الحب الصادق الصائب الطيب الطاهر الزكي النافع.

والله إن من أجل مطالب لقوي السوي وصوله إلى رتبة ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) .

وإن من أعظم العطايا وأشرف المواهب لهي عطية وموهبة: يحبه ويحبونه، كل حب غير حب الله مقطوع، وكل عمل غير عمل الله ضائع ، كل السعي لغير مرضاته باطل، كل تعب في غير مرضاته عناء:

سهر الهيون لغير وجهك ضــائع
ورضي النفوس بغير حــبك باطل


فيا من خلق خلقاً ثم رزقهم ثم هداهم ثم أحبهم اسألك أن تجعلنا من أحبابك، وخالص عبيدك، وصالحي أوليائك؛ فإنك أهل للإجابة، معروف بالإحسان ، مقصود لكل مطلوب.

( لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)

هذه آية الفرج ما قالها عبد مكروب إلا فرج الله عنه، بذلك صح الخبر. وفيها أسرار عظيمة ورسائل مهمة، لكن لمن له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.

ففي هذه الآية إقرار بالتوحيد، وإثبات للتنزيه، واعترف بالذنب، وهي أركان ثلاثة عليها تقوم العبودية وبها ينال ما عند الله من لطف ورحمة ورزق وهداية ، ولهذا فرج الله عن يونس عليه السلام لما قالها، ويفرج عن كل من قالها من المؤمنين لقوله تعالي: ) وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فركن التوحيد في: لا إله إلا الله، وركن تقديس الرب وتنزيهه في: سبحانك ، وركن الاعتراف بالخطيئة في: إني كنت من الظالمين.

فلا إله ألا أنت، اعتراف بألوهيته سبحانه وكماله وتفرده بكل وصف حسن، وسبحانك نفي النقص والعيب عنه، إني كنت من الظالمين، اعتراف من العبد بالتقصير والخطأ.

فكأن العبد نسب كل مدح وجود إلى ربه ونزهه عن كل شين، وقدح لا يليق به، ثم اعترف هذا العبد بظلمة وعدوانه فكانت هذه الكلمة بحق من أغلى الكلمات واثمنها في ميزان العبودية.

وما من عبد إلا وتمر به كارثة، أو يلم به خطب، أو تقع عليه شدة، فإذا قال هذه الكلمة بقلب حاضر خاشع مخبت أنقذه الله من كل ما أهمه، وفرج غمه ، وأزال حزنه وكشف كربه.

والله عز وجل في كتبه وعلى ألسنة رسله أوجب توحيد على عباده، ونزه نفسه، وأخبر بظلم العبد وكفرانه وتمرده، فجاءت هذه الآية متضمنة هذه المعاني في أحسن وأجمل خطاب وأزهي حلة، حى إن بعض الصالححين كان يعكف بقلبه علي هذه الكلمة ترداداً وتكراراً فيجد من الأنس والراحةوالأمن والانشراح ما يفوق الوصف، وقد شرحها شيخ الإسلام؛ فأحسن وأجاد، ووردت في فضلها آثار، وكان يوصي بها الصالحون من أحبوا، ويكفي في فضلها قوله صلي الله عليه وسلم : (( كلمة أخي ذي النون ما قالها مكروب إلا فرج الله عنه)).

فالواجب على العبد أن يعطي كل أصل من اصولها الثلاثة ما يستحق، فاصل القول اعتقاده، والعمل بمقتضاه والتبرء بما يضاده، واصل التنزيه عدم عدم نسبة المشابهة والمماثلة له سبحانه بخلقه، أو وصفه بغير ما وصف به نفسه، أو تحوير كلامه والإلحاد في أسمائه وصفاته، وأصل الاعتراف بالاقتراف تحقير النفس، والنظر إليها بعين الازدراء والمقت، فإن هذا العمل يقطع من المسافات ـ أعني احتقار ونفي العجب عنها ـ إلى الله ما لا يقطعه صيام الهواجر، وقيام الليال ، وهذا مراد العبودية وبابها الأكبر وسرها الأعظم والله أعلم.


( كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)


الله واحد أحد في ربوبيته والوهيته واسمائه وصفاته وأفعاله، لا يشبه المخلوق ولا يشبهه المخلوق، لا يماثله أحد، ليس في ذاته شئ من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شئ من ذاته، متفرد سبحانه فليس له سمي يسمي باسمه، ولا يحق لأحد أن يتصف بصفاته، ولا يصح لمخلوق أن ينازعه الألوهية ، او يساميه في الربوبية، أو يدعي لنفسه بعض صفات ربه جل في علاه، وإن أحسن وصف واصدقه ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلي الله عليه وسلم .

فالواجب الوقوف علي هذا، فإنه لا يعلم ما يستحق من التعظيم والتقديس والتنزيه إلا هو سبحانه، واعلم الناس به من الخلق رسوله ومصطفاه صلي الله عليه وسلم ، فمن أخذ وصف الله أو الخبر عنه غير الكتاب والسنة فقد ضل سواء السبيل، وإنما أخطأ من أخطأ من الطوائف المبتدعة والفرق المنحرفة لأنهم تركوا الوحي وكلام المعصوم وحكموا عقولهم السخيفة وآراهم الضعيفة في الغيبات؛ فأتي كلامهم فجاً معوجاً مضطرباً.

وهدي الله اتباع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى قوله الحق واعتقاده ، والله لا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

هذه الآية ترد على أهل التشبيه والتعطيل والتكييف والتمثيل من اشاعرة وماتوريديه ومعتزلة وجهمية ، فهي ـ أي هذه الآية ـ تنفي عن الله كل وصف نفاه عن نفسه، وتثبيت كل صفة جميلة أثبتها الله لنفسه أو رسوله صلي الله عليه وسلم ، ولما نفي المشابهة واللماثلة عاقب بإثبات صفة السمع والبصر له سبحلنه ، لأن النفي المحض ليس مدحاً بل ينفي النقص ويثبت له الكمال ، فليس في النفي نقص وليس في الإثبات مشابهة أو مماثلة ، بل في النفي تنزيه عن العيب ، وفي الإثبات محجة بالجميل من الوصف، وهذه الآية هي عمدة أهل السنة في الرد على كل مبتدع ضال ومنحرف جاهل.

وانظر كيف عم النفي ليكون شاملاً، وذكر صفتين في المدح؛ لأن صفات مدحه كثيرة، ومنهج الوحي في وصف الله تعالي النفي المجمل إلا ما اقتضته الحاجة والإثبات المفصل إلا ما دعي إليه المقام فكل صفة لم يرد بها النقل مردودة ، وكل مشابهة أو مماثلة في الصفة الواردة ممنوعة، وكل سلب للصفة الثابتة مرفوض؛ لأن أهل الضلال أقسام، منهم من سلب الخالق كل صفة؛ فجعله والجماد سواء، وهذا اعتداء، ومنهم من وصف الخالق بصفات من عنده لم يأت بها النقل وهذا خطأ، ومنهم من أثبت البعض ونفي البعض وهذا تحكم مرفوض، ومنهم من اثبت وشبه فزل وضل، ومنهم من اثبت ومثل فجازف وجانب الصواب، وهدي الله أهل الحق إلى إتباع النقل والآثر ، فاصابوا واحسنوا والحمد لله رب العالمين.

( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)

هذه من أعظم الدعوات إن لم تكن أعظمها، فإنها قد جمعت خيري الدنيا والآخرة، فحسنة الدنيا عامة شاملة، وأما حسنة الآخرة فأرفع ذلك الفوز برضوان الله ودخول جنته وجواره ومصاحبة أنبيائه ورسله وصالحي عباده في دار كرامته، والوقاية من عذاب النار وغضب الجبار، وما في ذلك المشهد من الخزي والعار، فصارت هذه الدعوة جامعة مانعة كافية شافية.

وفي الآية أوضح برهان على أنه لا يهب السعادة إلا الله عز وجل، ولا يجلب المحبوب ويصرف المرهوب إلا هو، فمن أحسن فيما بينه وبين ربه كفاه ما أهمه واضناه، واصلح باله واحسن حاله، ونجاه من أخذه الشديد وعذابه الأليم.

وفي الآية تعليم للعباد بأن يدعوا ربهم بحوامع الدعاء المشتمل على كل نفع، وعلى طلب دفع كل ضر، وأن العافية مع الشكر قد تفوق البلاء مع الصبر، وأن طلب السلامة من المصائب وارد، وأن خير الدنيا يطلب خير الآخرة؛ من متاع حسن ومال حلال، وطيب عيش ، وحلاوة عمر، وفي الاية أن وقاية العبد من عذاب النار من أعظم ما يطلب من الله عز وجل ، كيف وما أبكي الصالحين ولا أخاف الأولياء ولا أرق أهل الطاعة مثل تذكر عذاب النار؟‍! ولهذا قال سبحانه: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) وقال في حقيقة الفوز: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز) وانظر إلى جمال كلمة حسنة في الموضعين، فإن كل أمر محبوب مرغوب؛ ولهذا فلا يقصر معناها على خير دون خير؛ لأن هذا تحكم إلا ما صح به الخبر، وما علمنا ربنا أن ندعوه إلا لأنه سوف يجيبنا إذا سألناه كما قال الشاعر:

لو لم ترد نيل ما أرجو واطلبـــه
من جود كفك ما علمتني الطلبا


فقد أمرنا ربنا بالسؤال ووعدنا الإجابة ، فليعلم تأثير الدعاء ونفعه العظيم ومرودوه الكريم على العبد وليقصد العبد إلى الدعاء بالمأثور الوارد في الكتاب والسنة، فهو المختار وهو الصح للعبد؛ لأن الذي علمه العبد هو الذي يعلم السر وأخفي.

(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)


الحياة الطيبة تنال بأمرين: الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وعمل صالحاً نال مرتين حياة سعيدة رغيدة، وجزاء كريماً موفوراً في الآخرة.

ولكن كلمة : (حَيَاةً طَيِّبَةً) عجيبة ، فإنها فيها من الجمال والعموم ما تهش له النفس، فكل أمن وسكينة وسرور وحبور وصحة وأمن وأنس وطمأنية مع صلاح الأبناء واستقامة الحال وحسن المنقلب والعافية من كل مكروه؛ فإنها كلها من الحياة الطيبة، فمن أراد حياة طيبة بلا إيمان ولا عمل صالح فقد حاول المستحيل ، وطلب الممنوع.

وكيف ينال الحياة الطيبة من اساء المعاملة مع ربه الذي منه وحده تنال الحياة الطيبة ، فإن كل خير وصلاح اساسه التقوي، وإن كل شر وبلاء سببه المعاصي والآثام، وهذا معلوم من نص الشرع، قال سبحانه: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) وقال: ) فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) وقال: ) قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) فمن حقق الأصلين وهما افيمان والعمل الصالح سعد في الدارين وأفلح في الدنيا والآخرة، وما أروع القسم في قوله جل في علاه: ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ ) فهذا وعد أكيد وخبر جازم وبري محققة.

وانظر إلى قوله: ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ ) ، ما أحسن اختيارها ، فالذي لا يحييه الله كأنه ميت ولو عاش ، وهالك ولو عمر، وفي كلمة نحيينه من الجاذبية والأسرار والتشويق لهذه الحياة ما يأخذ اللب ويأسر القلب، وانظر كيف نكر الحياة لتكون عامة كاملة، وهذا تنكير تعظيم، وتحت كلمة حياة من الأسرار والمعاني ما يفوق الوصف، فإن هذه الحياة تشمل حياة القلب بالإيمان والهدي، فلا يموت أبداً يوم تموت القلوب، وحياة العقل بحسن الإدراك وصواب البصيرة وسداد الراي، وحياة الجسم بالعافية وحسن المعيشة، والسلامة من الآفات والنجاة من الكدر، والأمن من المتالف.

أقسم وهو أصدق القائلين على أنه سوف يجزيهم بأحسن منه، ولم يقل بحسن أو بخير او بجميل، بل قال بأحسن؛ بل قال بأحسن؛ لن في العمل حسن واحسن ، فالله يجزيهم بأحسن عمل عملوه، وتقاس بقية الأعمال على أحسنها ، فيثاب على أحسن صلاة صلاها في حياته، وتساوي بها بقية الصلوات، وهكذا سائر الأعمال، وهذا من كرمه وجودة وتفضله جل في علاه.

ثم أنظر إلى الجمع في الآية بين الذكر والأثي فيمن يعمل، والإيمان والعمل الصالح في العمل، والحياة الطيبة والأجر الأحسن في الثواب، فهي اثنان من اصناف ثلاثة ، فذكر الذكر والأنثي؛ ليعلم الجنس، والإيمان والعمل الصالح يشمل اصول العمل والحياة الطيبة، والأجر العظيم يستغرف كرامة الله لعباده.


( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)

تطمئن القلوب من خوفها فتسكن إلى موعود ربها مع الثقة به، وحسن التوكل عليه، وصدق اللجوء إليه.
وتطمئن من حزنها فتجد الأمن من كل غم وهم وحزن، فتعيش راضية مرضية؛ لأنها بربها ومولاها راضية.
وتطمئن من قلقها فتستقر بعد التذبذب ، وتهدأ بعد التمزق، وتثبت بعد الاضطراب.
وتطمئن من الشتات، فيجتمع شملها، ويتحد توجهها ، ويلم شعتها،وتنجو من شتات أمرها.
وتطمئن من كيد شيطانها، وغلبة هواها، وتحرش أعدائها، وكيد خصومها، وشرور أضدادها.
فليس للقلب دواء أنفع من ذكر الله، فمهما حصل القلب علي مطلوبه ورغباته بدون ذكر الله فإن مصيره القلق والتمزق والفرق والخوف والغم والهم والحزن والكدر والاضطراب.
أبي الله أن يؤمن من عصاه، وأن يؤنس من خالفه، واتبع هواه، وكيف يطمئن من بينه وبين الله وحشة وبينه وبين خالقه قطيعة، وكيف يأنس من نسي مولاه، وأعرض عن كتابه، وأهمل أوامره، وتعدي حدوده.

إن طمأنينة القلب عي السعادة التي يسعي لها الكل، ويبحث عنها الجميع، فمنهم من خطبها عن طريق المال فجمع وأوعي، وحصل وكنز، فإذا المال بلا إيمان شقاء وإذا الحطام بلا طاعة وباء، ومنهم من طلب السعادة عن طريق المنصب فصب من أجله دمعة وعرقه ودمه، فلما تولاه بلا إيمان كان فيه حتفه وهلاكه وخيبته، ومنهم من طلبها عن طريق اللهو من غناء وشعر وهواية فما حصل عليها ولا نالها، لأنه عزلها عن عبودية ربه عز وجل.

فيا من تكاتفت سحب همومه اذكر الله لتسعد، ويا من أحاط به حزنه وأقلقله همه اذكر الله لتأنس، ويا من طوقه كربه وزلزلة خطبه اذكر الله لتأمن ، ويا من تشتت قلبه وذهب لبه اذكر الله لتهدأ ، ذكر الله دواء وشفاء وهناء، وذكر غيره داء ووباء وشقاء، ويكفي الذكر فضلاً أن الله يذكر من ذكره، ويكفي الذكر شرفاً أنه العلم الوحيد الذي يبقي مع أهل الجنة، ويكفي الذكر أجراً أنه أفضل عمل، الذكر حياة ولكن المبنج لا يحس، والمخدر لا يشعر، والميت لا يتألم ، والذكر أمن وسكينة ولكن العاصى مفرط، والفاجر هالك.

وفي كلمة (تَطْمَئِنُّ) رخاء ونداء وطلاوة ، فكأن القلوب كالأرض، فما سهل منها فهو المطمئن، وما صعب وشق فهو القاسي الموحش المقفر، فليت سحب الرضوان وغمام الرحمان تترك غيث الوحي على القلوب لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من الذكر والشكر والإنابة والمحبة والرهبة والرغبة: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً)

يغرس لعباده الصالحين في القلوب محبة ووداً فيسري حبهم في الأرواح، وتنطلق الألسنة بالثناء عليهم، ويوضع لهم القبول في الأرض ، ومالك الحب هو الله، ومفاتيح القلوب بيد الله، فإذا فتحها لمحبة عبد وجدت محبته وحملت مودتته، إن حب الخليقة الصالحة دليل على حي الخالق جل في علاه، وإن القبول في الأرض دليل على القبول في السماء ، والناس شهداء لله كما صح به الحديث، فمن أحبوه وودوه واثنوا عليه خيراً فهو خير بار راشد، ومن كرهوه ومقتوه وأبغضوه فهو شرير خاسر.

إن القلوب خزائن الرحمن، وإن ألسنتة الخلق أقلام الحق، وإن المؤمنين شهود عدول على من أحبوه أو أبغضوه ، إن لمحبة التاس أسباباً ، ليحبوا من أحبوه كصدق إيمانه بربه، وطهارة باطنه، ونقاء نفسه، وسلامة صدره، وقوة إخلاصه.

وإن لبغض الناس أسباباً ليبغضوا من أبغضوه : من نفاقه وفجوره واستهتاره بحدود الله، وتنكره لدين ربه، وظلمة وجوره، وسواد قلبه، وفساد روحه ، وخسة طبعه.

إن من يملك الأبدان لا يملك القلوب، وإن من تنافقه الألسن قد لا تحبه الأرواح، إن السوط والسيف والهيبة لا تجلب حباً ولا تدفع كرهاً، وإنما الجالب للمحبة والدافع للبغض رب العالمين، محبة العباد لا تشتري بالدرهم والدينار، ولا تعرض في الأسواق، ولا ينادي عليها في المحافل ، إنها نعمة يهبها الله من يشاء من عباده ،فتجد هؤلاء المحبوببين محفوفين بالمحبة، مستقبلين بالمودة، مغمورين بالثناء الحسن، إن حضروا حيتهم القلوب، وإن سافروا شيعتهم الأرواح، فلهم مساكن في نفوس العباد، ومنازل في قلوب الخلق ، رحمة من ربك ولطفاً من إلهك، صح في الحديث: (( إن الله إذا احب عبداً دعاء جبريل فقال له: إني احب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً قال لجبريل : إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه، ثم ينادي أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فابغضوه ، ثم يوضع له البغض في الأرض))،.

إذا فالحب والبغض من عند الله، فمن أراد محبة في قلوب الخلق ومودة عند المؤمنين فليطلبها ممن يملكها، جل في علاه، بطاعته والإذعان لأمره، واتباع رسوله، والاهتداء بهدايته، وصدق النصح لعباده، وسلامة النية، وحسن الطوية ، وطهر الضمير، حينها فليبشر بحب الله له ومودة المؤمنين.


(َمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ)

عن ماذا يتساءل هؤلاء الناس ولماذا هم مختلفون ؟! إنهم يتساءلون عن اليوم الآخر الذي ما سمع الناس بمثله وما طرق العالم شبيهه، وهؤلاء الكفار المختلفون لهم أقوال فيه، ولكنه والله نبأ عظيم، وخبر ضخم، وقصة كبري ، كيف لا يكون نبأ عظيماً وفيه يتنزل الملك الجبار لفصل القضاء، وفيه ااطاير الصحف ويوضع الميزان ، ويمد الصراط، وفيه تكور الشمس وتكدر النجوم، وتسجر البحور ، وتسير الجبال، وتحشر الوحوش، وتعطل العشار، وتخرج النفوس، وتضع كل ذات حمل حملها، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتري الناس سكاري وما هم بسكاري، ولكن عذاب اللله شديد.

والله سمي زلزلة الساعة شيئاً عظيماً، فلا اعظم ولا أدهي ولا أشد منه، فمثل لنفسك تلك المشاهد والصور والمواقف التي تجعل الولدان شيباً، وحضر قلبك لهذا المقام العظيم الذي سوف تعيشه لحظة بلحظة، وتراه رأي العين، فلا فدية ولا خلة ولا شفاعة إلا لمن استحقها، واستشعر هول ما سوف تشاهده وفظاعة ما تراه، فإن الرسل يسألون ماذا اجبتم؟ قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب؛ فكأنهم نسوا ماذا قال لهم قومهم من هول المقام وفظاعة الموقف.

وتذكر يوم يطلب الوالد من ابنه ـ وقد رباه وغذاه وكساه ـ حسنة واحدة فيأي ويمتنع ، ويقول : نفسي نفسي، وتأتي الأم لوحيدها وتطلب من وليدها، وقد حملته وأرضعته وتعاهدته، تطلب منه حسنة فيبخل بها على أمه وينادي: نفسي ، نفسي، وتفكر في موقف كل رسول وهو، معصوم من اذلنب، مقبول عند الرب، يصيح: نفسي، نفسي، ذلك اليوم عسير، والخطب صعب، والحاث جلل، والمشهد مذهل، والوصف يقصر، والبيان يعجز، واللسان يتعلثم ، والذاكرة تخون، ومن أراد معرفة ذاك اليوم فليطالع بقلب مخبت منيب تائب ما ذكر الله عنه في كتابه ، وما وصفه رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد أن يخرج هذا العبد من قلبه كل شبهة تحجب الدليل ، وكل شهة تمنع الاعتبار، فإن العجمماوات تصيح من هول يوم القيامة، وإن الجبال تنسف لذلك اليوم ، وإن الأرض تميد، وإن السماء تنشق، وإن القبور تبعثر، وكل شئ يغير فاللهم سلم سلم، فإليك المشتكي، وعليك التكلان، وبك المستعان، وأنت المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك.

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ )

بذنوب العباد فسد الهواء، بخطايا الناس تكدر الماء، بسيئات بني آدم تعطلت الأرزاق ، كان آدم في الجنة فاكل من الشجرة، وأهبط إلى الأرض لتبدأ رحلة الصراع بين الخير والشر والحق والباطل، ولقد كانت الأرض طاهرة حتى لوثها قابيل بدم هابيل، وكانت الدنيا تستفيق على صوت التوحيد حتى أزعجتها اصوات الإلحاد من الحمقي الأنذال الذين يقول أحدهم: أنا أحيي واميت إلى آخر تلك القائمة الزائفة ااشوهاء من هؤلاء الرقعاء السخفاء، فكل خراب في العالم اساسه ظلم العباد، ، وكل دمار في الكون سببه جور الناس على حد قول أبي طالب:

كلمـــــا أنبت الزمــــان قناة
ركب المرء في القناة سنانا


إن خطايا الخلق تظهر في عقوبات الإله، يجدها الإنسان في الكون من احتباس القطر، وهوج الريح، وقصف الرعد، وهيجان البحر، وغلاء الأسعار، وجور الحكام، وظلم القضاة، وشح الموارد، وحدب الديار، وفساد الثمار، وذبول الأشجار ، وتعكير الجو؛ لأن الذنب مشؤوم ، والخطيئة عقيمة، والسيئة قاتلة.

كيف تصلح الأرض وقد أغضب من في السماء، كيف يسعد المخلوق وقد خالف الخالق، كيف تقوم للناس حياة وواهب الحياة سبحانه يعصي ويتجاهل أمره.

إن سنة الله في الدول والشعوب والناس لا تتبدل، فمع العدل والتقوى يسعد الناس ، وتدور ا{زاق، وتتوفر الأقوات، وتقوم السواق، وتسكن الفتن، ويعم الأمن، ومع الظلم والمعاصي يحصل الخلل في كل شأن من شؤون الحياة، كما تقدم.

فانظر إلى عصر رسول الله صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فإنها الفترة الزمنية الزاهية الذهبية في حياتنا، إنها غرة في جبين الدهر، ودرة في تاج الزمان، وبدر في ليل العالم لما حصل في زمنهم من عزة للدين، وطاعة لرب العالمين،وقيم بكل ما يرضي الله من قول وعمل واعتقاد.

ثم انظر إلى عصر الحجاج وأبي مسلم الخرساني والفاطميين والإسماعلية، وكل ظالم وزنديق ومارق وعدو لله، كيف سفكت الدماء، وهتكت الأعراض، ونهبت الأموال، وسلب الآمن، وضاعت الأمة، وعمت الفتنة، وتفاقم الحال، وساءت المعيشة، وعمت البغضاء، وانتشر التقاطع، وظهر الخلاف، وبرز الشقاق، وبزغت البدع، وتواري العدل، وغرب الفلاح وما ربك بظلام للعبيد.


(ِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )

من النفس يبدأ التغيير، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، البداية من داخل العبد، من صلح حالة بقيت نعمته، ودامت عافيته، واستمر الهدي معه: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ومن فسد وأعرض حلت به النقمة، وادبرت عنه النعمة، ونزل به الشقاء: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) .

من أراد ما عند الله من العناية والكفاية والهداية فعليه أن يشرح صدره للحق الذي بعث به محمد صلي الله عليه وسلم ، ويتقبله بقبول حسن، ويجاهد في الله حق جهاده، كما هي تمام النصح لله والرسول وللمؤمنين ، مع سلامة الباطن، والتقيد بتعاليم الشرع، وصدق الهجرة إلى الله، بتوحيده وشكره وذكره وطاعته ، ومن تعرض لمقت الله وغضبه بتعطيل أمره، وتفريغ نصوص وحيه من محتواها ، والإدبار عن التقوي، والانحراف عن الجادة، والزيغ عن الحق، والتفلت على حدود الله، فليبشر بعذاب واصبن ونكد حاضر، وشقاء لازم وهم دائم؛ جزاء تنكره للحقيقة؛ وشططه في سلوك الطريقة، وبغيه وعدوانه ولا يظلم ربك أحداً.

هل يظن العبد أن الهداية سوف تطرق عليه بابه وتسأل عنه في مضجعه، كلا فالهداية يبحث عنها في مظانها في كتاب الله المشرق المغدق النير، في السنة المطهرة النقية المباركة ، في الصف الأول من بيوت الله حيث النفحات هناك والعناية واللطف ، في خلع أسمال الباطل ، في التبرء من المعتقدات الخاطئة، والشبهات المهلكة، والشهوات القاتلة، في العكوف على الوحي كتاباً وسنة ومدارسة وفهماً وتدبراً وعملاً ودعوة وجهاداً.

إن سلعة الله غالية لا يعرضها الباعة في أسواقهم، ولا ينادي عليها التجار في متاجرهم، إنها أغلي وأعلى من هذا الامتهان، إنها ثمينة يستاهلها من طلبها وحرص عليها وجاهد من أجلها، وبذل الغالي والرخيص لينالها، ودفع نومه وعرقه ودمعه وروحه ثمناً لها، حينها تزف له أجمل ما تكون في أبهي حلل وأزهي لباس وأعظم تاج.

لما غير بلال بن رباح العبد الفقير نفسه واستقبل الهدي؛ توج بتاج مؤذن الإسلام ، وصاحب الرسول صلي الله عليه وسلم ، وضيف الرحمن في الفردوس.

ولما غير أبو جهل الوجيه المشهور ما في نفسه، وقلب بصيرته، وانسلخ من فطرته؛ أهين وأرغم أنفه، وذاق المذلة، وأدركه الخزي عاجلاً وآجلاً.

إن علي العبد أن يبدأ هو برحلة النجاة وهجرة الإنقاذ ، ويركب في سفينة الحق لئلا يدركه طوفان الغضب فيغرق مع من غرق من المردة الملعونين.


(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )

هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم من المعتقدات والأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق والآداب والسير، فهو يدل علي الأكمل والأحسن دائماً، فكلما اشتبهت الأمور واختلطت الآراء وماجت القلوب ، جاء القرآن بهداه وستاه، فهدي إلى الأرشد، ودل على الأتقي والأسمي.

لماذا القرآن وحده يهدي للتي هي أقوم؛ لأنه من فوق، وكتب البشر من تحت، ولنه من السماء، ومذكرات العبيد من الأرض، ولأنه من رب العالمين، أما هي فمن الطين، ولأنه من عند الله، وآراهم من أفكارهم المضطربة وقلوبهم الزائغة، فالذي أنزل القرآن هو الخالق، والذي صن ما يعارضه مخلوق، وعظمة القرآن في أن من تكلم به أحكم الحاكمين، وأحسن الخالقين، وخالق الناس أجمعين، فكيف لا يكون كلامه فوق كل كلام، وهداه أعظم من كل هدي ؛ لأنه عليم خبير بصير، ومن سواه جاهل غبي إلا من اهتدي بهداه، فبقدر اهتداء العبد بهذا النور يحصل له من سداد الرأي ونور البصيرة على قدر ما بذل وطلب واستفاد.

فالقرآن يهدي للتي هي اقوم في المعتقدات، فهو يدعو للتوحيد الصحيح، والدين الخالص، والعبادة المعتدلة، وهو يهدي للتي أقوم في الحكم، من حيث العدل والإنصاف ، ومراعاة الحقوق، والبعد عن الظلم والهضم والقهر والاستبداد ) فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق) وهو يهدي للتي هي أقوم في الأخلاق؛ فهو يدعو إلى طهر الضمير، وزكاء النفس، وسلامة الصدر، ونقاء اللسان ، وعفاف الخلق، ومكارم الصفات، وأشرف الآداب : )خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) .

وهو يهدي للتي هي أقوم في البيع والشراء، وسائر العقود، وكافة المنافع ، فلا غش ولا غرر ولا نجش ولا ربا حيلة ولا خديعة ولا غبن ولا تدليس ) وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) .

وهو يهدي للتي هي أقوم في المعيشة والكسب والإنفاق والبذل، فلا إسراف ولا تقتير ، ولا ولا بذخ ولا شح ولا إمساك ولا تضييع )وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً).

وهو يهدي للتي أقوم في الدعوة والإصلاح والتربية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا غلظة ولا فظاظة ولا مداهنة ولا تمييع، بل حكمة ولين ورفق ورشد وهدي: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )

وهو يهدي للتي هي اقوم في الآداب والفنون، فلا تعد على الحدود، ولا استخفاف بالقيم، ولا تلاعب بالمبادئ ولا جفاف وجمود وجحود ورهبانية، وإنما جمال لاحتشام، ومتعة بأدب، وذوق بعفاف، وحسن بالتزام: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) .

(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ )

واجب على من أقبل على الدين أن يقبل عليه بهمة وحرص، وان يبذل جهده في التمسك به وحمله بأمانة وإن تلقي الأمر بكسل وبرود برهان على موت الهمة ودناءة النفس، إن الضعيف مضطهد، وإن القيام بشعائر الدين على صورة من الترهل والهزال؛ دليل على عدم المحبة والاقتناع.

إن الصلاة المقبولة تحتاج إلى قوة في حضور القلب وخشوعه، واستحضار النية، ومحاربة الوسوسة وواردات النفس، وإن التلاوة الصحيحة تحتاج إلى قوة من حيث حسن التدبر وجميل التأثر ومدافعة الشرود، وإت الدعوة إلى الله تحتاج إلى قوة في جمال العرض، وبلاغة الوعظ، والإبداع في الخطاب، والصدق في النصيحة: ) وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) .

إن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف؛ لأن المؤمن القوي قوة للدين، وهيبة للملة، فعطاؤه أكثر ، ونفعه أوفر ، الكلمة القوية تهز القلب، وتهش لها النفس ، وتؤتي أكلها من الاستجابة والمتابعة ، وإن الحجة القوية تدفع الباطل وتدحض الشبهة، وإن الكتاب القوي يكسب الخلود والذيوع، والانتشار.

القوي يصمد في الأزمات ويثبت في المصائب، ويدافع عن مبادئه وينتصر لدينه، والضعيف يغلب عند أقل الحوادث ، وينهار في ميدان الكفاح، فيؤتي افسلام من قبله، ويدخل العدو من بوابته.

شبهة لا تردها قوة يقين تصبح كفراً، وإلحاد لا يردعه إيمان يصير ديناً للمنحرفين ، وشهوة لا يدمغها قوة صبر تحول العبد إلى بهيمة وكسل.

ماذا ينفعنا مؤمن ضعيف كسول خامل؟ وماذا يجدي علينا جيل بائس محطم غارق في الشهوات؟ وهل يصنع النصر على أيدي جبناء أغبياء، وهل يصاغ النجاح بأماني كاذبة، ووعود خائبة، وظنون خداعة.

إن صلاة الفجر لا تدرك إلا بعزيمة ونشاط، وإلا انهزمت النفس تحت مطارق النوم والراحة؛ ولذلك صح أنه صلي الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ وثب للصلاة ليلاً، بلفظ وثب لتعي مدلولها وسرها.

لقد استعاذ عليه الصلاة والسلام من العجز والكسل ، فالعجز في الإرادة، والكسل في الحرم، وهما مصدر كل فشل وإخفاق ، إن الله ثبط المنافقين لأنهم لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، ونصر الله المجاهدين ؛ لأنهم صبروا وثبتوا وتقدموا، وهذه سنة مطرودة : )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) .

يقول عمر بن الخطاب فاروق الإسلام: ( اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة)، ففاجر مصابر وتقي منهار مصيبة؛ لأن الفاجر الفاتك النشيط شيطان مريد، والتقي الخامل العاجز المقصر؛ جبان رعديد ، والإسلام يريد رجلاً قوياً حازماً بصيراً:

لا يدرك المجــــد إلا سيــد فطن
لما يشق علــى السادات فعـــال


لا خامل جهلت كفــاه مـا بذلــت
ولا جبـــان بغير السيف سـأل



لولا المشقــــة ساد الناس كلهم
الجــود يفقــر والإقدام قتــال


نريد عالماً ربانياً قوياً؛ لأن الضعيف يغلبه الوهم وينتصر عليه الظن، ولا يؤدي الأمانة كما هي، ونريد فقيهاً قوياً لأن الضعيف لا تمييز عنده، ولا برهان لديه، ولا فرقان يحمله.

ونريد مجاهداً قوياً؛ لأن الضعيف مسحوق مخذول يؤتي الإسلام من قبله، فإذا اجتمع في العبد قوة وأمانة وتقوى وعزيمة ومراقبة وصرامة فهو الرجل حقاً: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) .


(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم)

تعظون الناس ولا تتعظون ، تنصحون الناس ولا تنتصحون ، تأمرون بالمعروف ولا تأتونه، وتنهون عن المنكر وترتكبونه، قولكم جميل، وفعلكم قبيح، النطق حسن، والفعل سيئ ، تزكزن الناس بكلامكم وأنفسكم مقفرة من البر، موحشة من الهدي، يستنير الناس بوعظكم الخلاب ونصحكم الجذاب ، وأنتم في ظلمة المعصية واقفون، وفي ليل الخطايا حائرون، إن من أعظم النكبات على دين الله إخفاق حملته ودعاته في العمل بتعاليمه، حينها يصبح فعل هؤلاء حجة قاطعة لكل مارق ، وبينه واضحة لكل منافق يرتكب المعصية ، بدليل فعل هؤلاء السيئ ، وترك الطاعة بدليل عمل هؤلاء الخاطئ ، فلا يثق الجهلة بنصوص الشرع، لأن أناساً ممن يحملون هذه النصوص عطلوا العمل بها والاهتداء بهديها والانتفاع ببركتها.


الطبيب إذا تناول السم أمام المريض كيف يثق فيه المريض أو ينتفع بدوائه وعلاجه؟

وغير تقي يأمـــر الناس بالتقي
طبيب يداوي الناس وهو عليل


الخياط إذا مزق الثوب فقد مصداقيته في الخياطة ، النجار إذا كسر الباب خسر ثقة الناس في معرفته وحذقته، والدعاة إلى الحق والفضيلة إذا أهملوها وهجروها غسلت الأمة أيديها منهم، يصبح كلامهم الرنان رماداً تذروه الرياح، يصبح وعظهم البليغ منقوشاً، تصبح كتاباتهم وتآليفهم ركاماً من الزيف والغش والبهرجة.

وحمل الرسالة بالذات أمناء على الملة، أوصياء على الجيل، حفاظ للمبادئ ، فأي عثرة منهم ثلم في جدار الشريعة ، وحرج في جسم الديانة.

إن الربانية في العلم والدعوة ليست عمائم كالأبراج، والأكمام كالإخراج، والفتاوى معلبة جاهزة ترضي أهل الشأن، ويكسب من ورائها الدرهم والدينار، والمنصب والعقار(( يؤتي بالرجل فيدور في النار فتندلق أقتابه كما يدور الحمار برحاه، فيقول أهل النار؛ مالك يا فلان؛ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ، قال: بلي ، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وانهاكم عن المنكر وآتيه، هكذا وصف المعصوم صلي الله عليه وسلم هذه الفئة ومصيرها عند الله عز وجل، وأحد الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، قارئ قرأ القرآن ولم يعمل به.

إن حفظ المتون، وجمع الفنون، وإلقاء الخطب الرنانة، والجلجلة بالمواعظ الطنانة، سهل يسير ، يجيده الجمع الغفير، ويقوم به الكثير، لكن تطبيق هذه التعاليم والعمل بها، وتنفيذ أوامرها ، واجتناب نواهيها، والصدق في حملها، ومراقبة الله في دلالتها أمر شاق صعب متعب لا يقوم به إلا ربانيون طهرت أرواحهم ، زكت أخلاقهم ، حسنت سيرتهم، وصفت سريرتهم:



يا أيهــا الرجل المعلم غيـــره
هلا لنفسك كـــان ذا التعليم

أبدأ بنفسك فانهها عن غيهــــا
فإذا انتهت عنه فــــأنت حكيم


يا أيها الدعاة إلي المبادئ المقدسة، يا حملة الرسالة ويا أمناء الكلمة، لم تقولون ما لا تفعلون.؟! فقهاء في القول، جهلة في الفعل، أولياء على المنبر، عتاة في الميادين.

إن دمعة من خاشع اصدق من مائة خطبة من واعظ، وإن قطرة من شهيد أبلغ من مائة قصيدة حماسية من شاعر، وإن غضبه لله من عالم أوقع في القلوب من مائة درس في النهي عن المنكر.

إن أعظم ما يفعله صاحب الدعوة أن يكون سراجاً وهاجاً بعلمه وصدقة وإخلاصه وخلقه، إن فرعون قال: ) مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) ويشهد الله أنه كاذب خبيث ماكر، والمنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله، فقال الله: ) وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) والرعديد الجبان يقول في غزوة تبوك: (( أئذن لى ولا تفتني)) أي أخشي على نفسي الفتنة إذا غزوت الروم من فتنة النساء، فيقول الله: ) أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ).

إن مصيبة أحبار اليهود ومن شابههم من هذه الأمة أنهم تعجلوا ثواب علمهم في دنياهم الفانية الزهيدة، ارضوا الناس بسخط الله فطوعوا النصوص لشهواتهم ، ولووا أعناق الأدلة لأهوائهم، إن خدم الدليل مقاصدهم فهو ثابت محكم صريح، إن عارض الدليل أغراضهم فهو محتمل مؤول له وجوه وله معان أخري، إن وقعوا في ملذات الدنيا استدلوا بقوله: )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) إن تركوا الأمر والنهي والقيام لله ذكروا الحكمة والرفق واللين، إن سعوا للمناصب والجاه أوردوا قول يوسف عليه السلام: )قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) والله عز وجل لا يلعب عليه كما يلعب على الصبيان، ولا يخادع كما يخادع الولدان، فهو العالم بالسرائر ، المطلع على ما في الضمائر، العليم بالنيات، الخبير بالخفيات: )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) .

ويلكم من الله: معكم كتاب من الله فيه الهدى والنور وأنتم تعلمون ما فيه فهلا زجركم علمكم بالكتاب عن فعلكم المشين؟! هلا أثر فيكم هذا الكتاب الذي تدرسونه لأن العالم بحجة الله ليس كالجاهل بها، والمطلع على شرع الله ليس كالغافل عنه.

إن العلماء إذا أعرضوا وفسدوا كانوا أكثر إساءة، واكبر معصية من الجاهل الغر الذي ما استضاء بالعلم.

فيا من تعلم العلم وتلقن الحكمة ثم اعرض عن العمل إنما أنت شاهد على نفسك، ساع في هلاكك؛ لأن المنتظر والمأمول من صاحب العلم تقواه لمولاه، وسعيه في رضا ربه ومحافظته على ما في الكتاب، ثم سألهم سؤال توبيخ وتبكيت فقال: ) أَفَلا تَعْقِلُونَ).

أين العقول السليمة ؟ أين الآراء السديدة؟ أخفقتم في النقل، أعرضتم عن الكتاب ، وفسدتم في العقل فعرضتم أنفسكم للعذاب، إن العاقل يدله عقله على الهدى ويجنبه الردي، وإن من اثر العذاب على الرجمة، والغواية على الرشد لفاسد العقل، سيئ التدبير، غائب الرشد، ولو كان محنكاً في أمور الدنيا، داهية في طرق السياسية ، ماهراً في الكسب، ذكياً في المعيشة.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)

كلمة (رَبَّكَ) إشعار بالرعاية، وسابق المنة، وقدم النعمة، فإن من رباك سيظهرك على من عاداك، ( وبالمرصاد) فيها من التخويف والتهويل ما يبهر الألباب، ويخلع النفوس، فهو سبحانه يخفي مكره عن أعدائه حتى يترصدهم فيأخذهم عى غرة، فإن عذابه بغته، وعقوبته فجأة، فخو بالمرصاد لأعدائه يبرمون وينكث ما أبرموا، يدبرون فيقتل ما دبروا، والراصد دائماً أقدر على البطش من المكشوف لعدوه، لأن عنده من فنون الحيل وصنوف المباغتة وأنواع المداهمة ما يبطل على الخصم حيلة، ويعمي سبله ، ويظهر خلله.

وقل لي بربك: أي زلزال هذا التهديد لكل كافر رعديد إذا كان الله بالمرصاد ، لقد أمر الله عباده أن يقعدوا لأعدائه كل مرصد، وأخبر أنه أعد للجن المردة شهاباً رصداً، لكن لما وصف نفسه الجليلة قال: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) وهذه الكلمة تصلح عنواناً لكل موعظة، ينذر بها العصاة؛ لأنها عامة مخيفة مرعبة، فخو بالمرصاد لمن نقض العهد، وأخلف الوعد، وفجر في الخصومة، وخان الميثاق ، وهو بالمرصاد لمن ترك الطاعة، وارتكب المعصية، وتعدي الحدود، واقترف المحرمات، والله مرصد لأعدائه ويحبك لهم نهاية البؤس، وخاتمة الدمار وطريقة المصرع، وكيفية الأخذ ، فلا يلعب أحد على نفسه فينخدع بحلم الرحمن الرحيم، فإنه يمهل ولا يهمل ، وليعلم كل عبد أن ربه مطلع على أعماله، عالم بأحواله، بصير بمآله.

إن أحمق الناس من غرته نفسه، وخدعه هواه، وزين له الشيطان طريق المعصية حتى وقع في الفخ.


(قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)

ما اشد تنكر هذا الإنسان لربه، وما ‘ظم جحوده لخالقه، خلقه ربه من العدم فشك في وجود ربه، واطعمه من جوع فشكر غيره، وأمده بالقوة فعصي بها مولاه، هذا الإنسان إن لم يهتد بهدي الله فهو كنود، يمرض فيشخع، فإذا شفاه ربه نسي وتكبر، يفتقر فيخضع، فإذا أغناه الإله طغي وبغي، يبتلي فينكسر ويدعو، فإذا عافاه خالقه تجبر وعتي، عنده آلاف النعم فيكتمها ويطلب غيرها، لديه مئات المواهب فيجحدها ويسأل سواها، ثقيل على الطاعة، خفيف إلى المعصية، بطي عند الأوامر، سريع عند المناهي، قدري في الطاعة ، جبري في المعصية ، يتلهف على المفقود، ولا يشكر الله على الموجود.

سماع الأغاني أخف عليه من سماع المثاني، سهرة لهو أحب إليه من ساعة مناجاة، رفقة البطالين اشهي لديه من صحبة الصالحين، يأكل الطعام ولا يشكر من أطعمه، ويشرب الشراب ولا يحمد من سقاه، النعم تغمره من كل مكان وهو في شرود ونسيان، خلقه ربه فعبد سواه، وأمره ونهاه فاتبع هواه، لو أهدي له مخلوق خميلة لشكرها، كل نعمة لديه من ربه قد كفرها، يحبر القصائد في مدح العبيد، ولا يمدح ذا العرش المجيد، يسطر المقامات في الثناء على المخلوق الهزيل، ولا يسطر مقامه في الثناء على العزيز الجليل، يقف على أبواب البخلاء، ولا يقف على باب رب الأرض والسماء، مع العلم أنه لا يصله منهم ذرة إلا بقدرة الملك الحق، وبمشيئة الغني الحميد، يمنحه رب المال، فيقول : إنما أوتيته على علم عندي، يوليه ربع قطعة من ارضه فيقول: أليس لى ملك هذه الأرض، بقوتي ملكت وبقدرتي حكمت، يهبه ربه قوة الأعضاء وصحة الجسم فيركض مغروراً ويقترف الخطايا مسروراً.

إذا كان له عند ربه مسألة ذل وتمسكن حتى ينالها، ثم يمر متكبراً جاحداً، إذا أصابته رزية بكي وشكي وتأوه، فإذا كشفها الله ذهب مختالاً فخوراً، إذا جاع انكسرت نفسه، فإذا شبع سهي ولها ولغي، يأكل بلا حمد، ويشرب بلا شكر، ويسكن بلا ثناء، وين\تنعم بلا اعتراف، يمن على ربه ركعات بلا خشوع، وتلاوة بلا تدبر، وصدقة بلا نية، ولا يحفظ لربه نعمة الحياة والرزق والمال والولد، والعينين البصيرتين، والأذنيين السميعتين ، والشفتين واللسان واليدين، والأنف والرجلين، تصب عليه النعم صباً، وتنهمر عليه العطايا انهماراً وهو لئيم مريد عنيد.

على من تلعب يا كفور، ومن تخادع يا مغرور، إن صلي سهي ، وإن قرأ لها، وإن تكلم لغا، يأخذ ولا يعطي ، يحفظ عدد النعم ووصفها ، وينسي شكرها والثناء على من أهداها، جماع مناع طماع، إن مرض حسب أيام المرض ولياليه وساعاته، وإن تعافي نسي شهور العافية وأعوامها، إذا أعطي درهماً فهو مثل أحد عنده، وإن أعطاه ربع قنطاراً النبي صلي الله عليه وسلم ذهب فهو ذرة في ميزانه، إلا من آمن وشكر، واحسن وصبر، وأطاع وذكر.

(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)

هذا اصدق مدح لربنا جل في علاه، فالله نور هذا العالم، فكل نور يشع فمن نوره جل في علاه، فالقلوب في ظلمة حتى يصلها نور توحيده، والبصائر معتمة حتى يطلع عليها نور هدايته، والعالم في دياجير الظلم حتى يشرق عليها نور ربه، فالنفس النيرة إنما استنارت بنور الله لما عرفت شرعه وأبصرت هذاه، والعقل النير إنما فتح عليه لما اصابه حظه من نور الله، والكلمة السديدة إنما حسنت وجملت لما اضاءت بنور ربها ، والفعل الحسن الراشد إنما صلح لأن الله وهبه من نوره، والمجتمع المستنير إنما استقام أمره لما أدركه نور من نور ربه ، فكل نور في العقول والنفوس والأفئدة فمن الملك الحق، فبنوره اشرقت السماء والأرض، وصلح أمر الدنيا والآخرة، واستقام الحال، وطاب المآل ، وكتبه سبحانه نور يبصر بها العمي، ويهدي بها الضلال، ويرشد بها أهل الغي، ورسله نور يبعثهم بالحق فينقذون بإذنه من الهلاك، ويردعون من الردى، وينجون من المعاطب، وصراطه المستقيم نور به يهتدي المهتدون، وعليه يسير العابدون، وفيه يسلك الصاقون، ومن أهل العلم من قال في قوله تعالي: )اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) قال : منورهما يعني الشمس والقمر والكواكب ، ور تعارض، فكل نور معنوي، أو حي ظاهر أو باطن فمن لدن لحكيم الخبير جل في علاه.

فليطلب النور من عند الله فإن كل أرض لا يشرق عليها نوره فهي أرض ملعونة، وكل قلب لا يبصر نوره قلب غاو، وكل نفس لم تهتد بهداه نفس خاوية، العالم إذا لم يهبه الله من نوره صار عالم سوء، وصاحب زور، وحامل بهتان،والحاكم الذي حرمه الله نور غادر جبار، غشوم ظلوم ، وكل عبد حرم نور ربه فقد تم خسرانه وعظم حرمانه.

أعظم حصائص القرآن أنه نور؛ لأنه من عند الله جل في علاه، فهو الذي تكلم به وأوحاه، وفصل آياته، وأحكم بيناته: )ُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ومحمد صلي الله عليه وسلم نور؛ لأن الله بعثه ووهبه من نوره وهداه بهداه )ُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ومحمد صلي الله عليه وسلم نور؛ لأن الله بعثه ووهبه من نوره وهداه بهداه (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً).

وبقدر اهتداء العبد ومتابعته وصدقه في طاعته يمنحه ربه نوراً من نوره يبقي معه حتى يصل به إلى جنات النعيم.

والمؤمنون لما صدقوا في العمل بالكتاب واتباع الرسول صلي الله عليه وسلم جعل الله نورهم يسعي بين ايديهم جزاء وفاقاًن ولما أعرض من أعرض من أعداء الله حرمهم الله ذلك النور فبقوا في الظلمات فما لهم من نور، فنور الفطرة مع نور الهداية، ونور الكتاب مع نور الرسول ، ونور البصيرة مع نور الحجة ) نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).

(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )

فقدرة عظيم ، ووجه كريم، وفضله واسع، وجوده شامل، ولكن العباد ما قدروا الله حق قدره، خلق الخلق وتكفل بالرزق، وحفظ النفوس، واطلع على السرائر ، وعلم النيات، ولكن الناس ما قدروه حق قدره.

عفا وكفا وشفا، وشفا، علم وحلم وحكم، أغني وقني وأعطي، ساد وجاد وهو رفيع العماد، ولكن الخلق ما قدروه حق قدره.

الأرض جميعاً قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، والكون ذرة في ملكه، والخليقة فقيرة إليه، ولكنهم ما قدروا الله حق قدره.

من اشرك معه غيره، وعبد معه سواه، وادعي له نداً، واخترع له مثيلاً، وجعل له شبيهاً، فما قدره حق قدره.
من أقسم بغيره، أو أعطي به وغدر، أو حلف به وفجر، وأخذ نعمه فما شكر، ونسيه وما ذكر ، فما قدروه حق قدره.
من تعدي حدوده، وارتكب محرماته، واستهزأ بىياته، وألحد في اسمائه وصفاته، فما قدره حق قدره.
من حارب أولياءه، وناصر أعداءه، وعصي أمره، وغمط بره، واستهان لعظمته، فما قدره حق قدره.
من أعرض عن كتابه، وشاق رسوله، وكذب بلقائه، وتهاون بوعده ووعيده، فما قدر الله حق قدره.

حق قدره أن يطاع فلا يعصي، ويذكر فلا ينسي، ويشكر فلا يكفر، ويحب حباً يملك على العبد كل حركة فيه.
حق قدره أن يفوض الأمر إليه، ويتوكل عليه، ويرضي بحكمه ، ويستسلم له، وينقاد لأموامره، ويذعن لقضائه.
حق قدره أن لا يخالف، ولا يحارب، ولا يمثل، ولا يشبه، ولا يكيف، ولا تضرب به الأمثال، وتصرف لغيره الأعمال.
حق قدره ان يقصد بالسعي، ويخلص له العمل، ويجرد له التعظيم، ويفرد بالربوبية والأولوهية والأسماء والصفات.
حق قدره أن يرضي به ولياً ورباً وألهاً وحاكماً وكفيلاً ووكيلاً وحسيباً؛ لأنه وحده المتفرد المتوحد، وهو الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
أشرك بع أعداؤه وحاربه خصومه، ونسبوا له الولد والصاحبة، وشبهوه بخلقه؛ لنهم ما قدروه حق قدره.

كذبوا رسله، وقتلوا أنبياءه، وآذوا أولياءه، وكفروا آلاءه وعطلوا صفاته واسماءه؛ لأنهم ما قدروه حق قدره.
بارزوه بالمعاصي، واغضبوه بالذنوب ، قابلوه بالسيئات، وأتوه بالخطايا؛ لأنهم ما قدروه حق قدره.
هجروا المساجد، تركوا المصاحف، عطلوا الشريعة، أماتوا الدين، انتهكوا المحرمات ، لأنهم ما قدروه حق قدره.
كيف لا يقدر له حق قدره، وصفاته جليلة، وأسماؤه جميلة، ومنه كل نعمة كثيرة أو قليلة.

كيف لا يقدر له حق قدره وهو الذي صور فأبدع، وخلق فأحسن، وأعطي فأغني، وتولي فنصر.

كيف لا يقدر له حق قدره ومن نظر في مخلوقاته وتأمل مصنوعاته وتفكر في موجوداته هاله ذلك وأدهشه وحيره. فكيف لا يقدر من خلق وأوجد وبرأ وصتع وصور، جل في علاه، كيف لا يقدر من رفع السماء، وبسط الأرض، وأرسي الجبال ، واجري الماء، وسير الهواء، ومد الضياء ، وأوجد كل شئ كما شاء، فهو صاحب الجميل ذو المنة له الملك وله الحمد وله الثناء الحسن.

إن من تقدير الله حق قدره طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهي عنه وزجر، وتصديقه فيما أخبر، والرضا بما قدر ، والشكر علي ما يسر، والحمد له على أنه ستر وغفر، مع متابعة رسوله والعمل بكتابه، والقيام بطاعته وهجر معاصيه، والرضا به رباً، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلي الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.


(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)

استوي استواء يليق بجلالة ويتناسب مع كماله، لا يشبهه استواء المخلوق الناقص القصير؛ لأن الله أحد في ربوبيته وألوهيته واسمائه وصفاته وأفعاله، فاستوي هنا بمعني علا وصعد، وانظر إلى عظمته في هذا الاستواء فإنه سبحانه وتعالي فوق فله علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر ، علا فقهر، وحكم فقدر، واطلع فستر، وعلم فغفر ، وانظر إلى اسم الرحمن وما فيه من صفة الرحمة العامة الشاملة، واختار عن هنا هذا الأسم؛ لأن رحمته غلبت غضبه، فهو رحمن بالدنيا والآخرة، واستوي يدبر ملكه ويصرف خليقته، فهو بائن من خلقه بذاته، ليس في ذاته شي من مخلوقاته وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، وهو بعلمه مع خلقه، وبحفظه مع أوليائه يعلم ويبصر، ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويعلم ويري حبة الخردل في الصخرة الملساء، ما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا تلفظ من همسة إلا يسمعها ، وما تدب حركة إلا يطلع عليها، يعلم السر وأخفي من السر، ويعلم ما يكون وما هو كائن،وما لم يكن لو كان، كيف يكون.

على العرش استوي يخلق ويرزق، ويقضي ويحكم، ويقدم ويؤخر، ويعز ويذل، ويولى ويعزل، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يحوله مكان ولا يحد بزمان، أخذ بالنواصي وملك الرقاب، نصر أولياءه، وسحق أعداءه، من أحبه قربه، ومن حاربه خذله وأدبه، ترفع إليه المسائل ،وتصعد إليه الحاجات، وترفع له الأعمال ، وتحصي لديه الأقوال ، وتكشف عنده الأحوال، يحفظ من في البر، ويرعي من في البحر، يطعم الجائع، ويسقي الظمآن، ويكسو العاري، وينجي الملهوف ويعطي المسكين ، ويكشف الكرب، ويزيل الخطب، ويسهل الأمر الصعب، ويغفر الذنب، ويقبل التوبة.

على العرش استوي، بني السماء ، وبسط الأرض، وقدر الأوقات، واوجد المخلوقات، وبعدما طحي ودهي وأرسي الجبال، ومهد الفجاج، وأخرج الماء والمرعي، ووهب الأرزاق، وقدر الآجال، وكتب المقادير، وأحصي كل شئ عدداً، خلق الخلق بحسبان، أتقن صنعه، واحسن خلقه، وأبدع موجوداته، واستوى على العرش ليتفرد بالملك وحده، وعلو القهر والقدر وحده، فليس له شريك في ربوبيته، ولا نديد في ألوهيته، ولا شبيه أو مثيل في أسمائه وصفاته، من نازعه الملك محقة، ومن نازعه الكبرياء والعظمة قصمه.

وانظر إشراقة الكلمات الثلاث وجمالها وفخامتها وهي: الرحمن، والعرش، واستوى.

فالرحمن : إعلام لعباده برحمته مع فوة قهره وعلو قدره، ثم هي على صفة المبالغة لعموم الرحمة وعظمتها، والعرش: سرير الملك مع ما في هذه الكلمة من عزة وجبروت وقوة وجلال، وكلمة استوي: فيها من معاني العلو والرفعة والشرف والسؤدد والمجد ما يفوق الأوصاف، ويعجز العقول، ويحير الأفكار ، فسبحانه من ملك جبار، ومن عزيز غفار.

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون* وسلام على المرسلين* والحمد لله رب العالمين.


التوقيع :



قال تعالى :
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[فصلت:33]






رد مع اقتباس