عرض مشاركة واحدة
قديم 12-31-2007, 12:33 PM   رقم المشاركة : 4
الكاتب

أفاق : الاداره

مراقب

مراقب

أفاق : الاداره غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









أفاق : الاداره غير متواجد حالياً


مشاركة: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين... الحديث

وكان أبو سليمان يقول:

أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وقال يزيد الرقاشي لحبيب العجمي:

ما أعلم شيئاً أقر لعيون العابدين في الدنيا من التهجد في ظلمة الليل، وما أعلم شيئاً من نعيم الجنان وسرورها ألذّ عند العابدين ولا أقرّ لعيونهم من النظر إلى ذي الكبرياء العظيم إذا رفعت تلك الحجب وتجلى لهم الكريم. فصاح حبيب عند ذلك وخرّ مغشياً عليه.
وكان السري يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلام الليل. وقال أبو سليمان: إذا جن الليل وخلا كل جبيب بحبيبه، افترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، أشرف الجليل جل جلاله فنادى؛ يا جبريل! بعيني من تلذذ بكلامي، واستروح إلى مناجاتي، ناد فيهم يا جبريل:

ما هذا البكاء؟!

عل رأيتم حبيباً يعذب أحباءه؟

أم كيف يجمُل بي أن أعذب قوماً إذا جنّهم الليل تملقوني؟

فبي حلفت إذا قدموا عليّ يوم القيامة لأكشفنّ لهم عن وجهي ينظرون إليّ وأنظر إليهم.

وسئل الحسن: لم كان المتهجدون أحسن الناس وجوهاً؟

قال: لإنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره. رأت امرأة من الصالحات في منامها كأن حُللاً قد فُرقت على أهل مسجد محمد بن جُحادة، فلما انتهى الذي يفرقها إليه دعا بسفطٍ مختوم فأخرج منه حُلةً صفراء، قالت:

فلم يقم لها بصري، فكساه إياها، وقال: هذه لك بطول السهر. قالت:

فوالله لقد كنت أراهتعني: محمد بن جحادة بعد ذلك فأتخايلها عليه. تعني تلك الحلة.
قال كرز بن وبرة: بلغني أن كعباً قال: إن الملائكة ينظرون من السماء إلى الذين يتهجدون بالليل كما تنظرون أنتم إلى نجوم السماء.

يا نفسُ فازَ الصالحون بالتُّقى *** وأبصرُوا الحقَّ وقلبي قد عُمـي
يا حسنهُم والليل قد جنَّـهـم *** ونورهم يفوقُ نـورَ الأنـجُـمِ
ترنّموا بالذكر في لـيلـهـم *** فعيشهم قد طاب بـالـتـرنُّـمِ
قلوبهم للذكر قد تفـرّغـت *** دموعهم كـلـؤلـؤٍ مُـنـظَّـمِ
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت *** وخِلعُ الغفران خيرُ الـقِـسَـمِ

في بعض الآثار يقول الله عز وجل كل ليلة: يا جبريل أقم فلاناً وأنم فلاناً. قام بعض الصالحين في ليلة باردة، وكان عليه
خلقان رثّة فضربه البرد فبكى، فسمع هاتفاً يقول: أقمناك وأنمناهم، ثم تبكي!.

تنبّهوا يا أهلَ وادي المنحنى *** كم ذا الكرى، هبّ نسيمُ وجدي
كم بين خالٍ وجَوّ وساهـرٍ *** وراقـدٍ وكـاتـمٍ ومُـبــدي

قيل لابن مسعود: ما نستطيع قيام الليل. قال: أبعدتكم ذنوبكم.

وقيل للحسن: أعجزنا قيام الليل. قال: قيدتكم خطاياكم. إنما يؤهل الملوك للخلوة ومخاطبتهم من يخلص في ودادهم ومعاملتهم، فأما من كان من أهل مخالفتهم فلا يرضونه لذلك:

الليلُ لي ولأحبابي أُحادِثُـهـم *** قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويَعُـوا
لهم قلوبٌ بإسرارٍ لها مُـلـئت *** على وِدادي وإرشادي لهم طُبِعـوا
قد أثمرت شجراتُ الفهمِ عندَهم *** فما جَنوا إذ جَنَوا مما به ارتفعـوا
سُرُّوا فما وهِنوا عجزاً وما ضَعُفُوا *** وواصَلُوا حبلَ تقريبي فما انقطـعـوا


الفصل الثالث
في ذكر الدعوات المذكورة في هذا الحديث

وهي: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك". فقال النبي ): "تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق".
هذا دعاء عظيم من أجمع الأدعية وأكملها، فقوله ): "أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات". يتضمن طلب كل خير وترك كل شر، فإن الخيرات تجمع كل ما يحبه الله تعالى ويقرب منه من الأعمال والأقوال من الواجبات والمستحبات، والمنكرات تشمل كل ما يكرهه الله تعالى ويباعد منه من الأقوال والأعمال، فمن حصل له هذا المطلوب حصل له خير الدنيا والآخرة، وقد كان النبي ) يستحب مثل هذه الأدعية الجامعة، قالت عائشة: كان النبي ) يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك. خرجه أبو داود.
وقوله: "حب المساكين". هذا قد يقال أنه من جملة فعل الخيرات، وأفرده بالذكر لشرفه وقوة الاهتمام به، كما أفرد أيضاً ذكر حب الله تعالى وحب من يحبه وحب عمل يبلغه إلى حبه، وذلك أصل فعل الخيرات كلها، وقد يقال أنه طلب من الله عز وجل أن يرزقه أعمال الطاعات بالجوارح وترك المنكرات بالجوارح، وأن يرزقه ما يوجب له ذلك، وهو حبه وحب من يحبه وحب عمل يبلغه حبه، فهذه المحبة بالقلب موجبة لفعل الخيرات بالجوارح ولترك المنكرات بالجوارح، وسأل الله تعالى أن يرزقه المحبة فيه. فقد تضمن هذا الدعاء سؤال حب الله عز وجل وحب أحبابه وحب الأعمال التي تقرب من حبه والحب فيه، وذلك مقتض فعل الخيرات كلها. وتضمن ترك المنكرات والسلامة من الفتن، وذلك يتضمن اجتناب الشر كله، فجمع هذا الدعاء طلب خير الدنيا، وتضمن سؤال المغفرة والرحمة، وذلك يجمع خير الآخرة كله، فجمع هذا الدعاء خير الدنيا والآخرة.
والمقصود أن حب المساكين أصل الحب في الله تعالى، لأن المساكين ليس عندهم من الدنيا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يحبون إلا لله عز وجل و "الحب في الله من أوثق عرى الإيمان"، و "من علامات ذوي حلاوة الإيمان"، وهو "صريح الإيمان"، وهو "أفضل الإيمان"، وهذا كله مروي عن النبي ) أنه وصف به الحب في الله تعالى، وروي عن ابن عباس أنه قال: "به تنال ولاية الله، وبه يوجد طعم الإيمان".
وحب المساكين قد وصى به النبي ) غير واحد من أصحابه، قال أبو ذر: أوصاني رسول الله ) أن أحب المساكين، وأن أدنو منهم. خرجه الإمام أحمد، وخرج الترمذي عن عائشة أن النبي ) قال لها: "يا عائشة! أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة".
ويروى أن داود عليه السلام كان يجالس المساكين، ويقول: يا رب مسكين بين مساكين. ولم يزل السلف الصالح يوصون بحبح المساكين، كتب سفيان الثوري إلى بعض إخوانه: "عليك بالفقراء والمساكين والدنو منهم، فإن رسول الله ) كان يسأل ربه حب المساكين".

وحب المساكين مستلزم لإخلاص العمل لله تعالى، والإخلاص هو أساس الأعمال الذي لا تثبت الأعمال إلا عليه، فإن حب المساكين يقتضي إسداء النفع إليهم بما يمكن من منافع الدين والدنيا، فإذا حصل إسداء النفع إليهم حباً لهم والإحسان إليهم كان هذا العمل خالصاً، وقد دل القرآن على ذلك، قال عز وجل: )ويُطعِمون الطعام على حُبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً" إنما نُطعمكم لوجهِ الله لا نريدُ منكم جزآءً ولا شُكوراً( الإنسان: 8،9،وقال عز وجل: )ولا تطرُدِ الذين يدعون ربَّهم بالغَداةِ والعَشيِّ يُريدون وجهَهُ ما عليك من حِسابِهم من شيءٍ وما مِنْ حِسَابِك عليهم مِنْ شيءٍ مع الذين يدعون ربَّهم بالغداةِ والعَشي يريدون وجهَه ولا تعدُ عيناك عنهم تريدُ زينةَ الحياة الدنيا( الكهف: 28.
قال سعد بن أبي وقاص: نزلت هذه الآية في ستة: فيّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال، قالت قريش لرسول الله ): إنا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهم فاطردهم عنك. فأنزل الله عز وجل: )ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه( الآية.

وقال خباب بن الأرت في هذه الآية: جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فوجدوا رسول الله ) مع صهيب وعمار وبلال وخباب قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي ) حقروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: نعم. قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً. قال: فدعا بصحيفة، ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل عليه السلام فقال: )ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعَشيِّ يُريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيءٍ وما من حسابك عليهم من شيءٍ فتطردَهم فتكون من الظالمين( ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة ابن حصين فقال: )وكذلك فتنَّا بعضهم ببعضٍ ليقولوآ أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا أليسَ الله بأعلَم بالشاكرين( النعام: 53 ثم قال: )وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا فَقُلْ سلامٌ عليكم كتبَ ربُّكم على نفسه الرحمة( الأنعام: 54. قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبتيه، وكان رسول الله ) يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل: )واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداةِ والعَشيِّ يُريدون وجهَه ولا تعدُ عيناك عنهم( ولا تجالس الأشراف، )ولا تُطِعْ مَنْ أغفلنا قلبَهُ عن ذِكرِنا( الكهف: 28 يعني: عيينة والأقرع. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي ) فإذا بلغنا الساعة التي يقوم قمنا وتركناه حتى يقوم. خرجه ابن ماجة وغيره.

وكان النبي ) يعود المرضى من مساكين أهل المدينة ويشيع جنائزهم، "وكان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين حتى يقضي حاجتهما"، وعلى هذا الهدي كان أصحابه من بعده والتابعون لهم بإحسان.
وروي عن أبي هريرة قال: كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، وكان النبي ) يكنيه: أبا المساكين. وفي رواية: أنه كان يطعمهم، وربما أخرج لهم عكة فيها العسل فشقوها ولعقوها.
وكانت زينب بنت خزيمة أم المؤمنين تسمى أم المساكين لكثرة إحسانها إليهم، وقد توفيت في حياة النبي ). وقال ضرار بن مرة في وصف علي بن أبي طالب في أيام خلافته: كان يعظم أهل الدين، ويحب المساكين. ومر ابنه الحسن رضي الله عنهما على مساكين يأكلون، فدعوه فأجابهم وأكل معهم، وتلا: )إنَّه لا يُحبُّ المُستكبرين( النحل: 23 ثم دعاهم إلى منزله فأطعمهم وأكرمهم. وكان ابن عمر لا يأكل غالباً إلا مع المساكين، ويقول: لعل بعض هؤلاء أن يكون ملكاً يوم القيامة.
وجاء مسكين أعمى إلى ابن مسعود وقد ازدحم الناس عنده فناداه: يا أبا عبد الرحمن! آويت أرباب الخز واليمنية وأقصيتني لأجل أني مسكين. فقال له: أدنه. فلم يزل يدنيه حتى أجلسه بجانبه أو بقربه. وكان مطرف بن عبد الله يلبس الثياب الحسنة ثم يأتي المساكين ويجالسهم. وكان سفيان الثوري يعظم المساكين ويجفو أهل الدنيا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء، والأغنياء هم الفقراء. وقال سليمان التيمي: كنا إذا طلبنا علية أصحابنا وجدناهم عند الفقراء والمساكين. وقال الفضيل: من أراد عز الآخرة فليكن مجلسه مع المساكين.
ومن فضائل المساكين أنهم أكثر أهل الجنة كما قال النبي ): "قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين" وقال ): "تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين" وسئل النبي ) عن أهل الجنة، فقال: "كل ضعيف متضعف".
وهم أول الناس دخولاً كما صح عنه ): "أن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين عاماً". وفي رواية: "أنهم يدخلون الجنة بنصف يوم، وهو خمسمائة سنة".
وهم أول الناس إجازة على الصراط كما صح عنه ) أنه سئل: من أول الناس غجازة على الصراط؟ فقال: "فقراء المهاجرين".
وهم أول الناس وروداً الحوض كما قال ): "أول الناس وروداً عليه: فقراء المهاجرين، الدنس الثياب والشعث رؤوساً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد".

وهم أتباع الرسل كما أخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام أن قومه عيروه باتباع الضعفاء له فقالوا: )أنؤمنُ لك واتَّبعكَ الأرْذَلون( الشعراء: 111، وكذلك قال هرقل لأبي سفيان لما سأله النبي ): وهل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاءهم. قال هرقل: هم اتباع الرسل.

وهم أفضل من الأغنياء عند كثير من العلماء أو أكثرهم، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، منها قول النبي ) حين مر به الغني والمسكين في المسجد: "هذا يعني: المسكين خير من ملء الأرض من مثل هذا يعني: الغني". وقد خرجه البخاري وغيره.
ومنهم من لو أقسم على الله لأبره كما في الصحيح عن النبي ) أنه قال في أهل الجنة: "كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره". وفي رواية: "أشعث ذو طمرين"، وفي رواية خرجها ابن ماجة: "أنهم ملوك الجنة"، وفي الحديث المشهور: "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" خرجه الحاكم وغيره.

رُبَّ ذي طمرين نِضْوٍ *** يأمَـنُ الـعَـالَـمُ شَـرَّهُ
لا يُرى إلاّ غـنــياً *** وهـو لا يمـلــكُ ذَرَّهْ
ثم لو أقسمَ في شـيءٍ *** علـى الـلـهِ أَبَـــرَّهْ

قال ابن مسعود: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، سرج الليل، مصابيح الظلام، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض.

طوبى لعبدٍ بحبلِ الله مُعْتَصَمُـه *** على صراطٍ سَويٍّ ثـابـتٍ قـدمُـه
رثّ اللباس جديدِ القلب مُستتـرٍ *** في الأرض مشتهرٍ فوقَ السما وَسْمُه
ما زال يستحقرُ الأُولَى بِهمَّـتـه *** حتى ترقّى إلى الأخرى به هِمَـمُـه
فداك أعظمُ من التاج مُـتّـكـئاً *** على النمارق مُحتفّـاً بـه خَـدَمُـه

واعلم أن محبة المساكين لها فوائد كثيرة، منها: أنها توجب إخلاص العمل لله عز وجل، لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون
إلا لله عز وجل، لأن نفعهم لا يرجى غالباً. فأما من أحسن إليهم ليمدح بذلك فمل أحسن إليهم حباً لهم بل حباً لأهل الدنيا، وطلباً لمدحهم له بحب المساكين.
ومنها: أنها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين كما سبق عن رؤساء قريش والأعراب ومن حذا حذوهم من هذه الأمة ممن تشبه بهم، حتى إن بعض علماء السوء كان لا يشهد الصلاة في جماعة خشية أن تزاحمه المساكين في الصف.
ويمتنع بسبب هذا الكبر خير كثير جداً، فإن مجالسة الذكر والعلم يقع فيها كثيراً مجالسة المساكين، فإنهم أكثر هذه المجالس، فيمتنع المتكبر من هذه المجالس بتكبره، وربما كان المسموع منه الذكر والعلم من جملة المساكين، فيأنف أهل الكبر من التردد إلى مجلسه كذلك يفوتهم خير كثير. وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم قالوا: )لولا نُزِّلَ هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتين عظيم( الزخرف: 31 يشيرون إلى عظماء مكة والطائف كعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة ونحوهما من صناديد قريش وثقيف ذوي الأموال والشرف فيهم ممن كان أكثر مالاً من محمد ) وأعظم رياسة عندهم، ورد عليهم سبحانه بأنه يقسم رحمته كما يشاء، وأنه كما رفع درجات بعضهم على بعض في الدنيا فكذلك يرفعها في الآخرة، وأن رحمته بالنبوة والعلم والإيمان خير مما يجمعونه من الأموال التي تفنى، فهو يخص بهذه الرحمة الدينية من يشاء ويرفعه على أهل النعم الدنيوية، وقد خص محمداً ) بما لم يشركه غيره من هذه النعم كما قال تعالى: )وأنزل الله عليك الكتابَ والحكمةَ وعلَّمكَ ما لم تكنْ تعلمُ وكانَ فضلُ الله عليك عظيماً( النساء: 113.
وقد كان علي بن الحسين يجلس في مجلس زيد بن أسلم فيعاتب على ذلك فيقول: إنما يجلس المرء حيث يكون له فيه نفع. أو كما قال: يشير إلى أنه ينتفع بسماع ما لم يسمعه من العلم والحكمة، وزيد بن أسلم أبوه مولى لعمر، وعلي بن الحسين سيد بني هاشم وشريفهم.

ولما اجتمع الزهري وأبو حازم الزاهد بالمدينة عند بعض بني أمية لما حجّ وسمع الزهري كلام أبي حازم وحكمته أعجبه ذلك، وقال: هو جاري منذ كذا وكذا، وما جالسته وما عرفت أن هذا عنده!. فقال له أبو حازم: أجل إني من المساكين، ولو كنت من الأغنياء لعرفتني فوبخه بذلك. وفي رواية عنه أنه قال له: لو أحببت الله أحببتني، ولكنك نسيت الله فنسيتني. يشير إلى أن من أحب الله تعالى أحب المساكين من أهل العلم والحكمة لأجل محبته لله تعالى، ومن غفل عن الله تعالى غفل عن أوليائه من المساكين فلم يرفع بهم رأساً، ولم ينتفع بما اختصهم الله عز وجل به من الحكمة والعلوم النافعة التي لا توجد عند غيرهم من أهل الدنيا.
وقد كان علماء السلف يأخذون العلم عن أهله والغالب عليهم المسكنة وعدم المال والرفعة في الدنيا، ويدعون أهل الرياسات والولايات فلا يأخذون عنهم ما عندهم من العلم بالكلية.
ومنها: أنه يوجب صلاح القلب وخشوعه، وفي المسند عن أبي هريرة أن رجلاً شكى إلى رسول الله ) قسوة قلبه، فقال له: "إن أحببت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم".
ومنها: أن مجالسة المساكين توجب رضى من يجالسهم برزق الله عز وجل، وتعظم عنده نعمة الله عز وجل عليه بنظره في الدنيا إلى من دونه. ومجالسة الأغنياء توجي السخط بالرزق، ومد العين إلى زينتهم وما هم فيه، وقد نهى الله عز وجل نبيه ) عن ذلك فقال تعالى: )ولا تَمُدَّنَّ عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم زَهْرَةَ الحياةِ الدنيا لنفتِنَهم فيه ورزقُ ربِّك خيرٌ وأبقى( طه: 131، وقال النبي ): "انظروا إلى من دونكم ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم". قال أبو ذر: أوصاني رسول الله ) أن أنظر إلى من دوني ولا أنظر إلى من فوقي، وأوصاني أن أحب المساكين وأن أدنو منهم.
وكان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يجالس الأغنياء فلا يزال في غمّ، لأنه لا يزال يرى من هو أحسن منه لباساً ومركباً ومسكناً ومطعماً، فتركهم وجالس المساكين فاستراح من ذلك.
وقد روي عن النبي ) أنه نهى عائشة من مخالطة الأغنياء. وقال عمر: إياكم والدخول على أهل السعة فإنه مسخطة للرزق.
واعلم أن المسكين إذا أطلق يراد به غالباً من لا مال له يكفيه، فإن الحاجة توجب السكون والتواضع، بخلاف الغني فإنه يوجب الطغيان، ولهذا ذم الفقير المختال وعظم وعيده لأنه عصى بما ينافي فقره، وهو الاختيال والزهو والكبر.
ولما كان المسكين عند الإطلاق لا ينصرف إلا إلى من لا كفاية له من المال وصى الله تعالى بإيثار المساكين وإطعامهم الطعام، ومدح من يطعمهم، وذم من لا يحض على إطعامهم، وجعل لهم حقاً في أموال الصدقات والفئ وخمس الغنائم وحضور قسمة الأموال.
وهؤلاء المساكين على قسمين: أحدهما: من هو محتاج في الباطن وقد أظهر حاجته للناس، والثاني: من يكتم حاجته ويظهر للناس أنه غني فهذا أشرف القسمين، وقد مدح الله عز وجل هذا في قوله تعالى: )للفقرآءِ الذين أُحْصِروا في سبيلِ الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسَبُهم الجاهلُ أغنيآءَ من التَّعفُّفِ تعرفُهم بسيماهم لا يسألون الناسَ إلحافاً( البقرة: 273، وقال النبي ): "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين من لا يجد ما يغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدق عليه". وقال بعضهم: هذا المحروم المذكور في قوله عز وجل: )للسآئلِ والمحرومِ( الذاريات: 19، فأخبر النبي ) أن من كتم حاجته فلم يفطن له أحق باسم المسكين من الذي أظهر حاجته بالسؤال، وأنه أحق بالبر منه، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يعرفون من المساكين إلا من أظهر حاجته بالسؤال، وبهذا فرق طائفة من العلماء بين الفقير والمسكين، فقالوا: من أظهر حاجته فهو مسكين، ومن كتمها فهو فقير. وفي كلام الإمام أحمد إيماء إلى ذلك، وإن كان المشهور عنه أن التفريق بينهما بكثرة الحاجة وقلتها كقول كثير من الفقهاء، وهذا حيث جمع بين ذكر الفقير والمسكين كما في آية الصدقات، وأما إن أفرد أحد الاسمين دخل فيه الآخر عند الأكثرين.
وقد كان كثير من السلف يكتم حاجته ويظهر الغنى تعففاً وتكرماً، منهم: إبراهيم النخعي كان يلبس ثياباً حسناء، ويخرج إلى الناس وهم يرون أنه تحل له الميتة من الحاجة.


رد مع اقتباس