عرض مشاركة واحدة
قديم 10-08-2012, 11:50 AM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

OM_SULTAN

المشرف العام

OM_SULTAN غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








OM_SULTAN غير متواجد حالياً


رد: حقوق الانسان في الاسلام: كيف تعامل الإسلام مع قضية الرق؟

ثم ننتقل إلى‎ ‎المرحلة التالية، مرحلة التحرير الواقعي‎.

لقد كانت الخطوة السابقة في الواقع‎ ‎تحريراً روحياً للرقيق، برده إلى الإنسانية ومعاملته على أنه ‏بشر كريم لا يفترق عن‎ ‎السادة من حيث الأصل، وإنما هي ظروف عارضة حدت من الحرية ‏الخارجية للرقيق في‎ ‎التعامل المباشر مع المجتمع، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كل حقوق ‏الآدميين‎.

ولكن الإسلام لم يكتف بهذا، لأن قاعدته الأساسية العظمى هي المساواة‎ ‎الكاملة بين البشر، وهي ‏التحرير الكامل لكل البشر. ولذلك عمل فعلاً على تحرير‎ ‎الأرقاء، بوسيلتين كبيرتين: هما العتق ‏والمكاتبة‎.

فأما العتق فهو التطوع من‎ ‎جانب السادة بتحرير من في يدهم من الأرقاء، وقد شجع الإسلام على ‏ذلك تشجيعاً‎ ‎كبيراً، وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى في ذلك إذ أعتق من‎ ‎عنده من الأرقاء، وتلاه في هذا أصحابه، وكان أبو بكر ينفق أموالاً طائلة في شراء‎ ‎العبيد من ‏سادة قريش الكفار، ليعتقهم ويمنحهم الحرية ؛ وكان بيت المال يشتري العبيد‎ ‎من أصحابهم ‏ويحررهم كلما بقيت لديه فضلة من مال. قال يحيى بن سعيد: " بعثني عمر بن‎ ‎عبد العزيز على ‏صدقات إفريقية، فجمعتها ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً‎ ‎ولم نجد من يأخذها منا، فقد ‏أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها عبيداً‎ ‎فأعتقتهم‎".

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق من الأرقاء من يعلم عشرة من‎ ‎المسلمين القراءة والكتابة، ‏أويؤدي خدمة مماثلة للمسلمين. ونص القرآن الكريم على أن‎ ‎كفارة بعض الذنوب هي عتق ‏الرقاب. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على العتق‎ ‎تكفيراً عن أي ذنب يأتيه الإنسان، ‏وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم،‎ ‎فالذنوب لا تنقطع، وكل ابن آدم خطاء كما يقول ‏الرسول. ويحسن هنا أن نشير إشارة خاصة‎ ‎إلى إحدى هذه الكفارات لدلالتها الخاصة في نظرة ‏الإسلام إلى الرق، فقد جعل كفارة‎ ‎القتل الخطأ دية مسلمة إلى أهل القتيل وتحرير رقبة: " ومن ‏قتل مؤمناً خطأ فتحرير‎ ‎رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله " [22] والقتيل الذي قتل خطأ هو روح ‏إنسانية قد‎ ‎فقدها أهلها كما فقدها المجتمع دون وجه حق، لذلك يقرر الإسلام التعويض عنها من‎ ‎جانبين: التعويض لأهلها بالدية المسلمة لهم، والتعويض للمجتمع بتحرير رقبة مؤمنة‎! ‎فكأن ‏تحرير الرقيق هو إحياء لنفس إنسانية تعوض النفس التي ذهبت بالقتل الخطأ. والرق‎ ‎على ذلك ‏هو موت أو شبيه بالموت في نظر الإسلام، على الرغم من كل الضمانات التي أحاط‎ ‎بها الرقيق، ‏ولذلك فهو ينتهز كل فرصة " لإحياء " الأرقاء بتحريرهم من الرق‎ [23]!

ويذكر التاريخ أن عدداً ضخماً من الأرقاء قد حرر بطريق العتق، وأن هذا‎ ‎العدد الضخم لا مثيل ‏له في تاريخ الأمم الأخرى، لا قبل الإسلام، ولا بعده بقرون عدة‎ ‎حتى مطلع العصر الحديث. كما ‏أن عوامل عتقهم كانت إنسانية بحتة، تنبع من ضمائر الناس‎ ‎ابتغاء مرضاة الله، ولاشيء غير ‏مرضاة الله‎.

أما المكاتبة، فهي منح الحرية‎ ‎للرقيق متى طلبها بنفسه، مقابل مبلغ من المال يتفق عليه السيد ‏والرقيق. والعتق هنا‎ ‎إجباري لا يملك السيد رفضه ولا تأجيله بعد أداء المبلغ المتفق عليه. وإلا ‏تدخلت‎ ‎الدولة (القاضي أو الحاكم) لتنفيذ العتق بالقوة، ومنح الحرية‎ ‎لطالبها‎.

وبتقرير المكاتبة، فتح في الواقع باب التحرير في الإسلام، لمن أحس‎ ‎في داخل نفسه برغبة ‏التحرر، ولم ينتظر أن يتطوع سيده بتحريره في فرصة قد تسنح أو لا‎ ‎تسنح على مر الأيام‎.

ومنذ اللحظة الأولى التي يطلب فيها المكاتبة - والسيد‏‎ ‎لا يملك رفض المكاتبة متى طلبها الرقيق، ‏ولم يكن في تحريره خطر على أمن الدولة‎ ‎الإسلامية - يصبح عمله عند سيده بأجر، أو يتاح له ‏‏- إذا رغب - أن يعمل في الخارج‏‎ ‎بأجر، حتى يجمع المبلغ المتفق عليه‎.

ومثل ذلك قد حدث في أوربا في القرن‎ ‎الرابع عشر - أي بعد تقرير الإسلام له بسبعة قرون - ‏مع فارق كبير لم يوجد في غير‎ ‎الإسلام، وهو كفالة الدولة للأرقاء المكاتبين - وذلك إلى جانب ‏مجهود الإسلام الضخم‎ ‎في عتق الأرقاء تطوعاً بلا مقابل، تقرباً إلى الله ووفاء بعبادته‎.

تقول‎ ‎الآية التي تبين مصارف الزكاة: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين‎ ‎عليها... وفي ‏الرقاب … " [24] فتقرر أن الزكاة تصرف من بيت المال - وهو الخزانة‏‎ ‎العامة في العرف ‏الحديث - لمعاونة المكاتبين من الأرقاء لأداء ثمن التحرير، إذا‎ ‎عجزوا بكسبهم الخاص عن أدائه‎. ‎‎

وبهذا وذاك يكون الإسلام قد خطا خطوات فعليه‎ ‎واسعة في سبيل تحرير الرقيق، وسبق بها ‏التطور التاريخي كله بسبعة قرون على الأقل،‎ ‎وزاد على هذا التطور عناصر – كرعاية الدولة – ‏لم يفىء إليها العالم إلا في مطلع‎ ‎تاريخه الحديث. وعناصر أخرى لم يفىء إليها أبداً، سواء في ‏حسن معاملة الرقيق، أو في‎ ‎عتقه تطوعاً، بغير ضغط من التطورات الاقتصادية أو السياسية التي ‏اضطرت الغرب‎ ‎اضطراراً لتحرير الرقيق‎ ‎كما سيجيء‎.

وبهذا وذاك تسقط حذلقة الشيوعيون‎ ‎ودعاواهم " العلمية " الزائفة، التي تزعم أن الإسلام حلقة من ‏حلقات التطور‎ ‎الاقتصادي جاءت في موعدها الطبيعي حسب سنة المادية الجدلية – فها هي ذي ‏قد سبقت‎ ‎موعدها بسبعة قرون – والتي تزعم أن كل نظام - بما في ذلك الإسلام - إن هو إلا‏‎ ‎انعكاس للتطور الاقتصادي القائم وقت ظهوره، وأن كل عقائده وأفكاره تلائم هذا التطور‎ ‎وتستجيب له، ولكنها لا تسبقه، ولا تستطيع أن تسبقه، كما قرر العقل الذي لا يخطىء‎ ‎ولا يأتيه ‏الباطل من فوقه ولا من تحته، عقل كارل مارس تقدست ذكراه! فها هو ذا‎ ‎الإسلام لم يعمل بوحي ‏النظم الاقتصادية القائمة حينئذ في جزيرة العرب وفي العالم‎ ‎كله، لا في شأن الرقيق، ولا في ‏توزيع الثروة، ولا في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو‎ ‎المالك بالأجير [25]، وإنما كان ينشئ نظمه ‏الاجتماعية والاقتصادية تطوعاً وإنشاء‎ ‎على نحو غير مسبوق، ولا يزال في كثير من أبوابه ‏متفرداً في التاريخ‎.

وهنا‎ ‎يخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر: إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخطوات كلها‎ ‎نحو تحرير الرقيق، وسبق بها العالم كله متطوعاً غير مضطر ولا مضغوط عليه، فلماذا لم‎ ‎يخط ‏الخطوة الحاسمة الباقية، فيعلن في صراحة كاملة إلغاء الرق من حيث‎ ‎المبدأ؟‎

وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن ندرك حقائق اجتماعية ونفسية‎ ‎وسياسية أحاطت بموضوع ‏الرق، وجعلت الإسلام يضع المبادئ الكفيلة بتحرير الرقيق،‎ ‎ويدعها تعمل عملها على المدى ‏الطويل‎.

يجب أن نذكر أولاً أن الحرية لا تمنح‎ ‎وإنما تؤخذ. وتحرير الرقيق بإصدار مرسوم كما يتخيل ‏البعض لم يكن ليحرر الرقيق‎! ‎والتجربة الأمريكية في تحرير الرقيق بجرة قلم على يد أبراهام ‏لنكولن خير شاهد لما‎ ‎نقول، فالعبيد الذين حررهم لنكولن - من الخارج - بالتشريع، لم يطيقوا ‏الحرية،‎ ‎وعادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا، لأنهم - من الداخل‏‎ - ‎لم ‏يكونوا قد تحرروا بعد‎.

والمسألة على غرابتها ليست غريبة حين ينظر إليها‎ ‎على ضوء الحقائق النفسية. فالحياة عادة. ‏والملابسات التي يعيش فيها الإنسان هي التي‎ ‎تكيف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية ‏‏[26] والكيان النفسي للعبد يختلف عن‎ ‎الكيان النفسي للحر، لا لأنه جنس آخر كما ظن القدماء، ‏ولكن لأن حياته في ظل‏‎ ‎العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات، فتنمو ‏أجهزة الطاعة‎ ‎إلى أقصى حد، وتضمر أجهزة المسؤولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد‎..

فالعبد‎ ‎يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده، فلا يكون عليه إلا الطاعة‎ ‎والتنفيذ. ‏ولكنه لا يحسن شيئاً تقع مسؤوليته على نفسه، ولو كان أبسط الأشياء، لا‎ ‎لأن جسمه يعجز عن ‏القيام بها، ولا لأن فكره – في جميع الأحوال - يعجز عن فهمها ؛‏‎ ‎ولكن لأن نفسه لا تطيق ‏احتمال تبعاتها، فيتخيل فيها أخطاراً موهومة، ومشكلات لا حل‎ ‎لها، فيفر منها إبقاء على نفسه من ‏الأخطار‎!

ولعل الذين يمعنون النظر في‎ ‎الحياة المصرية - والشرقية - في العهود الأخيرة يدركون أثر هذه ‏العبودية الخفية‎ ‎التي وضعها الاستعمار الخبيث في نفوس الشرقيين ليستعبدهم للغرب. يدركونها ‏في‎ ‎المشروعات المعطلة التي لا يعطلها - في كثير من الأحيان - إلا الجبن عن مواجهة‎ ‎نتائجها! ‏والمشروعات المدروسة التي لا تنفذها الحكومات حتى تستقدم خبيراً انجليزياً‎ ‎أو أمريكياً [27].. ‏الخ. ليحتمل عنها مسؤولية المشروع ويصدر الإذن بالتنفيذ! والشلل‎ ‎المروع الذي يخيم على ‏الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر، لأن‎ ‎أحداً من الموظفين لا يستطيع أن ‏يصنع إلا ما يأمره به " السيد " الموظف الكبير،‎ ‎وهذا بدوره لا يملك إلا إطاعة " السيد " الوزير، ‏لا لأن هؤلاء جميعاً يعجزون عن‎ ‎العمل، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل وجهاز الطاعة ‏عندهم متضخم، فهم أشبه شيء‎ ‎بالعبيد، وإن كانوا رسمياً من الأحرار‎!

هذا التكيف النفسي للعبد هو الذي‎ ‎يستعبده. وهو ناشىء في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة ‏الحال، ولكنه يستقل عنها،‎ ‎ويصبح شيئاً قائماً بذاته كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض، ثم يمد ‏جذوراً خاصة به‎ ‎ويستقل عن الأصل. وهذا التكيف النفسي لا يذهب به إعلان تصدره الدولة ‏بإلغاء الرق‎. ‎بل ينبغي أن يغير من الداخل، بوضع ملابسات جديدة تكيف المشاعر على نحو ‏آخر، وتنمي‎ ‎الأجهزة الضامرة في نفس العبد، وتصنع كياناً بشرياً سوياً من كيانه المشوه ‏الممسوخ‎.


رد مع اقتباس