عرض مشاركة واحدة
قديم 08-02-2012, 10:55 AM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

أفاق الفكر

مراقب

مراقب

أفاق الفكر غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








أفاق الفكر غير متواجد حالياً


رد: الأدب العربي في العصر الجاهلي

الفخر:

وهذا فن شعري تربطه بالمدح صلات وشيجة، فالمعاني التي تتردد في المدح، هي نفسها مما يتغنى به الشعراء مفتخرين. ذلك أن الحياة العربية في العصر الجاهلي قامت على مواجهة المخاطر، والمزاحمة على الماء والكلأ، والشجاعة في القتال، وما يتصل من ذلك كله بسبب: كالتغني بالبطولات وشن الغارات، وتمجيد الانتصارات، وكثرة العدد والعدة، ومنازلة الأقران، ونجدة الصريخ، والحفاظ على الشرف والجار، وهذه الأمور جميعاً أذكت قرائح الشعراء، ووفرت لهم أسباب التفاخر والتباهي، منفردين ومجتمعين، فانطلقت ألسنتهم بأشعار زاخرة بالعاطفة القوية، والانفعال العميق، تبرز فيها الحقائق التاريخية مجلببة بجلباب الخيال والمغالاة.
وهذا الفخر يكون قبلياً تارة تسيطر عليه روح حماسية جارفة، وهذا شأنه دائماً في مواطن الكر والفر، والأخذ بالثأر وتضييق الخناق على الأعداء، واستطابة الموت عند الحرب، إذ ينطوي شعر الفخر على دفقات قوية من الحماسة، ويكون من ذلك مزيج متلازم. ومن خير ما يمثل هذا الفخر القبلي الحماسي معلقة عمر بن كلثوم التغلبي، التي سجل فيها انتصارات قبيلته، ومنعتها، وما يتحلى به أفرادها من شجاعة وإقدام، وسطوة وهيبة وأنفة وإباء.
وهذه الحماسة المزهوة لا تحول دون إنصاف الشاعر لأعدائه، والإقرار بقوتهم وشجاعتهم، وعرفت في الشعر الجاهلي قصائد من هذا القبيل سميت «المنصفات» ومن أصحابها: العباس ابن مرداس، وعوف بن الأحوص، وخداش بن زهير.
ويكون الفخر تارة أخرى ذاتياً ينبعث من نفوس تهوى العزة والمجد، وتحرص على بناء المكارم، والتباهي بمآثرها الفردية، ويبدو هذا الفخر الذاتي لدى طائفة من الشعراء الفرسان والأجواد، كعنترة، وحاتم الطائي، وعمرو بن الإطنابة، والشعراء الصعاليك كالشنفرى، وتأبط شراً، وهنا يحلو للشاعر أن يتحدث عن نفسه وخصاله، وعراقة أصله، وطيب منبته، ومايتحلى به من كرم ومروءة وحماية للجار، وغير ذلك من الفضائل الخلقية. وفي معلقات طرفة بن العبد، ولبيد بن ربيعة، وعنترة بن شداد، صور كثيرة من هذا الفخر الفردي، تتلاقى على صعيد واحد، وقد وشحها أولئك الشعراء بذكر القصف واللهو، والفخر بشرب الخمرة في معرض الحديث عن الكرم والإكرام.
الرثاء: يلتقي الرثاء والمديح في أنهما كليهما إشادة بالمرء وإعلاء شأنه، لكن الأول إشادة بالميت وخصاله، والثاني إشادة بالحي وتمديد لمآثره وسجاياه. ويمتاز الرثاء أيضاً بأنه فن شعري ثابت المعاني والهدف، لأنه يعبر في معظم أحواله عن انفعال وجداني، وشعور عميق بالحزن والألم، حين تفقد الأسرة أو القبيلة، عزيزاً فيغمرهم الحزن وتتحرك الشاعرية لتعبر عن الأسى المشترك، والخسارة الفادحة والمجد الذي انهد ركنه، والشمائل التي حكم بها الموت للقبر والتراب. وقد يصحب تعداد شمائل الميت، والبكاء عليه، أخذ بأسباب العزاء فيه، ودعوة إلى الصبر على حدثان الدهر، والتأسي بمن طوتهم المنون من قبل، لأن الدنيا دار فراق وزوال، لا دار خلود وبقاء، وليس أمام الإنسان سوى الاستسلام للأقدار، والقبول بالقضاء.
هذه المعاني والأفكار، فيجملتها تتردد في أشعار الرثاء عند الجاهليين، وقد يطغى جانب منها في القصيدة على آخر، أو تتفرع عنها معان جرئية، ولكن تظل المناحي الأساسية بارزة في تلك الأشعار.
وإذا كان المرثي ذا منزلة رفيعة لجأ الشاعر إلى المبالغة وتهويل الخطب وإشراك الطبيعة في استعظام المصاب.
وقد اشتهر عدد من الشعراء أجادوا الرثاء في العصر الجاهلي، منهم: المهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، وأعشى باهلة، ولبيد، وطفيل الغنوي، وأوس بن حجر، وأبو دواد الإيادي. كما عرف كثير من النساء بإجادة هذا الفن الشعري والنبوغ فيه، كالخنساء، وجليلة زوجة كليب، وسعدى بنت الشمردل.

والرثاء عند هؤلاء الشعراء والشواعر، منه ما يكون في الأقرباء الأدنين: كما في رثاء المهلهل لأخيه كليب، والخنساء لأخويها صخر ومعاوية، ولبيد لأخيه أربد. ومنه ما يكون في أناس آخرين، من ذوي المكانة والشأن في قبيلة الشاعر، أو في غيرها من القبائل، ممن تقربهم إلى الشاعر صلات وثيقة. ومن ذلك قصيدة أوس بن حجر، التي رثى فيها فضالة الأسدي، وتعد من عيون المراثي في العصر الجاهلي: ومطلعها:
أيتهــا النفــــس أجملــي جـــزعاًإن الـــذي تحـــذرين قــد وقعــا
وقصيدة أبي دواد الإيادي، التي رثى فيها من طواهم الردى من شباب قبيلته وكهولها، وذكر ما لهم من صفات ومفاخر ومجد، وأشاد بما كان لهم من بأس وسخاء في أوقات الشدة والجدب، وما تحلوا به من عقول راجحة وآراء سديدة. وأول هذه القصيدة:
منـــع النـــوم، مـــاوي، التهماموجـــدير بالهـــم مـن لا ينــــام
والرثاء عند الجاهليين يكثر فيه ترداد ألفاظ معينة، كالجملة الدعائية: «لا تبعد» أو «لا تبعدن» كما يكثر الدعاء بالسقيا لقبر الميت: «سقيا لقبرك» «سقاك الغيث» وذلك ليبقى ما حول القبر خصباً ممرعاً.
الهجاء: حظ هذا الفن في الشعر الجاهلي قليل؛ إذا قيس إلى الفخر أو الغزل مثلاً؛ ولكن أثره كبير في النفوس، ووقعه أليم في الأفئدة، لأنه يقوم على إذلال المهجو، وتجريده من الفضائل والمثل التي يفتخر بها القوم، أو التي بها يمدحون. ومن ثم الفخر، والمدح، والهجاء، تجمع ثلاثتها جملة من الفضائل وأضدادها، فالكرم، مثلاً، فضيلة لديهم، وفي مقابله تكون نقيصة البخل والشح، والشجاعة ضدّها الجُبن. وهكذا.
وعلى هذا، فإن الهجاء في الشعر الجاهلي هو انتقاص للخصم، وتعيير له بجملة من المخازي والمساوئ التي يستهجنها مجتمعه، فمنها ما هو في مجال الحروب والغزوات التي حفلت بها حياتهم: كالجبن، والفرار عند اللقاء، والوقوع في الأسر، ودفع الفدية، ومنها ما هو في حيز العلاقات الاجتماعية، والنقائص النفسية: كالبخل، والاعتداء على الجار، واللؤم، والغدر، والقعود عن المكارم، وما يتفرع عن ذلك كله من المعايب والسقطات التي يعدها العربي عاراً يبرأ منه، أو يحذر الوقوع فيه، لئلا يصيب منه الشاعر مقتلاً. فضلاً عما تحرص عليه القبيلة في أفرادها كافة من كرم الأحساب، ونقاء الأنساب، لئلا تتحطم سمعتهم، أو ينهار بناء أحسابهم وأنسابهم، فيكونوا نصباً للهجاء.

والهجاء عندهم على ضربين: هجاء فردي، وآخر جماعي يتجه إلى القبيلة نفسها وقد يجمع الشاعر بينهما.
وهجاء الجاهليين عامة يسلك مسلك الجد. ولا يدخله الإفحاش ولا الشتيمة الصريحة، ولكن ربما داخله شيء من السخرية والتعريض والتلميح الموجع، بدلاً من الهجاء المباشر.
الحكمة: الحكمة قديمة في أشعار الجاهليين، لأننا نعثر عليها عند أوائلهم، كامرئ القيس وعبيد بن الأبرص، كما حفلت بها قصائد الشعراء الآخرين على مر السنين. وحكمهم مستمدة من بيئتهم التي عاشوا في كنفها، حرباً وسلماً، وعلاقات وعادات، وأخلاقاً وسجايا.. وهذه الحكم صدى لصفاء الفطرة، ودقة الإحساس، وغنى التجارب، والقدرة على استخلاص العبرة من الحوادث، ولا تخلو، في الوقت نفسه، من قيمة تاريخية، ودلالة اجتماعية، ونواح أخلاقية، وفلسفة عملية تختلف من زمن إلى زمن، ومن إنسان إلى آخر، لأنها تعبر عن آراء أصحابها، ومواقفهم من الحياة والناس، وتفكيرهم في تقلبات الأيام. وتحمل في طياتها نظرات ثاقبة، وبصيرة واعية، إزاء قضايا الناس والحياة، ويسوقها الشاعر في مطاوي القصيدة أو في نهايتها.
وتعد المعلقات أوضح الأمثلة للقصائد التي تحفل بالحكم، على تنوع موضوعاتها وأغراضها، كمعلقة زهير، التي أرسل فيها نحو العشرين بيتاً، وبدا في سردها هادئ النفس، رصين التأمل، واقعي التناول لقضايا الحرب والسلم، والحياة والموت، وخفايا النفس الإنسانية.
وأما طرفة، الشاعر الشاب، فإن حكمه في معلقته تنبع من شخصيته العابثة، التي تريد أن تستبق اللذات قبل أن يفاجئها الموت، لأن الحياة أشبه بكنز يتناقص شيئاً فشيئاً، والموت سيأتي على كل حي، ولا راد لما يأخذ.
وتنبث الحِكم في قصائد الشعراء الآخرين: كلبيد، وعبيد بن الأبرص، وحاتم الطائي، وأوس ابن حجر وعلقمة بن عبدة، والأفوه الأودي. وانفرد منهم أمية بن الصلت بالإكثار من الحكم التي تعتمد على أخبار الأديان والأمم الغابرة، وقراءة الكتب، ولذلك اجتمعت فيها روافد التجربة والثقافة معاً. وكان طابعها دينياً ممزوجاً بالكلام على زوال الحياة وتحكم حوادث الدهر في الناس.
الوصف: الوصف يغلب على أبواب الشعر جميعاً، فهو باب واسع،يشمل كل ما يقع تحت الحواس من ظواهر طبيعية، حية وصامتة. وهكذا كان عند شعراء العصر الجاهلي الذين عايشوا الصحراء في حلهم وترحالهم، وألفوا القفار الموحشة، وما فيها من جبال ووديان ومياه وحيوانات أليفة وغير أليفة، فوصفوا ذلك كله لأنه وثيق الصلة بحياتهم وتقلباتهم.
وكانت الناقة صاحبة الشاعر في جوبه لتلك الفيافي والمفاوز، وعليها اعتماده في كثير من أحواله، لذلك أكثر فيها القول، وافتن في وصف أجزاء جسمها، وصور كل أحوالها في سيرها وسرعتها، وصبرها على مشاق السفر، حتى كادت الناقة تستأثر بنصيب وافر في طول القصائد التي نظمها أصحاب المعلقات وغيرهم، كبشامة بن الغدير، والمثقب العبدي، والمسيب بن علس، وأوس بن حجر، وغيرهم.
والفرس هو الحيوان الثاني الذي يرافق الشاعر الجاهلي، ويقاسمه العيش، ويتحمل معه التعب والعناء، والسير والسرى، ولاسيما في خروجه إلى الصيد، وخوضه الحروب. وقد عني العرب بالخيول الأصيلة، واتخذوا لها أسماء خاصة، وحفظوا أنسابها أيضاً، فلا غرابة أن يصفها شعراؤهم في قصائدهم، ولكل واحد من هؤلاء الشعراء طريقته الخاصة في وصف فرسه، سواء أكان ذلك في مجال الصيد واللهو، كامرئ القيس، أم كان في ميادين الحرب والقتال: كعنترة والمزرَّد، أم كان وصفاً عاماً للفرس، على أنه مجلى النظر وموضع الفخر، كما هو الشأن عند طفيل الغنوي وأبي دواد.
ولم يكتف الشعراء بوصف الناقة والفرس، وإنما وصفوا ضروب الحيوان الأخرى في بيئتهم ولاسيما الثور الوحشي، والبقرة الوحشية، وجعلوا وصفهم لهذين الحيوانين ذريعة إلى وصف الناقة بالسرعة والخفة عن طريق تشبيهها بأحدهما، وتخيل معركة ضارية بين الثور، أو البقرة من جهة، وكلاب الصيد من جهة أخرى. وتنتهي هذه المعركة غالباً بنجاة الحيوان الوحشي، وتغلبه على الكلاب، أو طعنه أحدها بقرنه.
كما يرد في قصائد الشعراء أوصاف لحيوانات أخرى: كالهر، والديك، والحية، والذئب،والنعامة، والغراب. وهذه الأوصاف كلها تأتي في ثنايا القصائد الطويلة، أما مطالع تلك القصائد فقد استأثر بها وصف الأطلال والرسوم الدارسة، التي تؤلف ركناً قوياً ثابتاً في أول القصيدة الطويلة، كالمعلقات وغيرها، إذ يقف الشاعر على تلك الأطلال ويصفها ويناجيها، ويذكر ما فعلته فيها الرياح والأمطار مشبهاً إياها بآثار الكتابة أو الوشم.
وكذلك وصف الشعراء الجاهليون مظاهر الطبيعة حولهم كالليل، والسحاب، والرعد، والبرق،ووصفوا كذلك الخمر ومجالس الشرب واللهو والحرب وأسلحتها المختلفة. وهذا كله يدل على عناية أولئك الشعراء وغيرهم بوصف كل ما يحيط بهم وصفاً دقيقاً، في بساطة وجمال، وصدق في التعبير عن المشاعر والإحساسات، وتعاطف مع الحيوان عامة، بوساوسه وحذره وجرأته. معتمدين على القالب القصصي في كثير من الأحيان، وعلى التشبيه وسيلة للأداء والتصوير.
خصائص الشعر الجاهلي:
هذا الشعر الذي وسم بأنه «ديوان العرب» وسجل حياتهم وعاداتهم، قد صور البيئة التي نشأ فيها أصحابه أصدق تصوير، في واقعية وبساطة ووضوح، لا غلو فيها ولا تعقيد، إلا بما يتفق ومهمة الشعر، من حيث كونه فناً جمالياً لا يلتزم الحقيقة والواقع التزاماً علمياً دقيقاً، وإنما يهدف إلى الإمتاع والإثارة والتشويق. ومن شأنه في هذه الحالة أن يتجاوز الواقع أحياناً، أويعتمد على الخيال والتصوير الحسي المستمد في الوقت نفسه من البادية ومعطياتها، منتقلاً بين الحقيقة والمجاز، في نقل الصور والمشاهد، أو التعبير عن الأفكار والمشاعر، في إيجاز حيناً، وإطالة حيناً آخر بحسب المقام والغرض.
ويلاحظ في الشعر الجاهلي كثرة ذكر الأماكن والمياه والوديان، ولاسيما في مطالع القصائد، وصفاً أو مناجاة، لأنها تحفل بالذكريات الحية: فهي مواطن الأحبة ومسارح الصبا وميادين الحروب والانتصارات.
والطابع القصصي يغلب على الكثير من المواقف، في جاذبية وجمال، ولكنه يميل إلى السرعة والإيجاز، كما في وصفهم للحيوان الوحشي، ووصف الصعاليك لمغامراتهم وغزواتهم الفردية، وغزل بعض الشعراء كالمنخل اليشكري، والمرقشين: الأصغر والأكبر. ويبدو ذلك أيضاً في أبيات أوس بن حجر التي وصف فيها قصة القوس وحفظ الراعي لها في رأس جبل عال، حتى حظي بها امرؤٌاستخدمها في الرمي، بعد أن أعدها صانعها وتأنق فيها.
وقد يتشابه الشعراء الجاهليون، في بعض المعاني، والصور حتى في الألفاظ أيضاً، وهذا ظاهر في أوصافهم للناقة والفرس، والمرأة، وأدوات الحرب، والوقوف بالديار، حتى ضاق عنترة ذرعاً بذلك فقال: هل غادر الشعراء من متردم؟، ومثله زهير في قوله:
مـــا أرانـــا نقـــول إلا معـــاراًأو معـــاداً مــن قـــولنا مــكرورا
وسبب ذلك ضيق الحياة في ذلك العصر، واقتصار البيئة على معطيات واحدة، وشدة تطبع العربي بتلك البيئة التي ترعرع فيها، ونشأ على أعرافها وتقاليدها. واقتفاء الشاعر خطا من سبقوه من الشعراء وتأثره بهم. ولكن هذه الظاهرة لم تحل دون بروز شخصية الشاعر الفنية، وأدواته الخاصةفي التعبير والتصوير، والابتكار والتوليد، والنفوذ إلى دقائق كثيرة، يجلوها أتم جلاء، ويكشف عنها ببراعة ومهارة.
ومما يلفت النظر، في طول القصائد الجاهليات، فقدان وحدة الموضوع منها. ويخضع ذلك لما دعاه النقاد بمنهج القصيدة، أو هيكلها.


رد مع اقتباس