عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2010, 03:12 AM   رقم المشاركة : 4
الكاتب

abo _mohammed

المشــرف العــــام

abo _mohammed غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









abo _mohammed غير متواجد حالياً


رد: أروع ماقاله الشيخ عائض القرني



كل يوم هو في شأن؛ يفلق الحب والنوي، يعلم ما في الأرحام، يكتب الآجال، يحصي الأعمال، ينزل الأرزاق، يفك القيود، يطلق الأسري، يكلؤ من في البر والبحر، يرعي المسافرين، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
كل يوم هو في شأن؛ يطلع على ما في السرائر، يعلم ما في الضمائر ، يجيب المضطر ، ينقذ من المخاطر، يعصم من المهالك، يهدي من الغي، يبصر من العمي ، يرشد من الحيرة.
كل يوم في شأن؛ يعزل ولاة، يخلع ملوكاً، يهلك دولاً، يبيد شعوباً، يأخذ المتكبرين، يقصم المتجبرين.

وإن من ينظر في الكون نظرة المتبصر ويتفكر في المخلوقات وما يقع في الأرض من أعمال وحوادث يعجب من عظمة الملك الواحد الأحد وسعه اطلاغه وبالغ علمه، جل في علاه، فكل حركة معلومة، وكل لفظة محسوية، وكل نقطة أو ورقة أو ثمرة محصية، عالم هائل من الحياة والموت، والغني والفقر ، والصلاح والفساد، والسلم الحرب، والهداية والغواية، والصحة والمرض، كل ذلك بإذن الملك الحق الذي لا تخفي عليه خافية من أعمال هذه الخليقة، فلا يلتبس عليه أمر، ولا تختلف عليه لغة، ولا يع-عن علمه شيء ، ولا تفوته حركة ، ولا تند عن علمه كائنة، وقد وسع علمه كل شئ ، وقد عم فضله وانتشر إحسانه.

إن العالم شركة صاخبة من البناء والنتاج والتزاوج والتولد والاتفاق والاخالاف والسلم والحرب، تصالح وتقاتل، تآلف وتباين، بيع وشراء، حل وترحال، يقظة ونوم، حياة وموت، لكن المذهل أن ذلك بعلم الأحد الصمد وبتقديره وتدبيره واطلاعه جل في علاه,

ملائكة تكتب وسجلات تحصي وأقلام تخط ودواوين محفوظة، والرقيب الحسيب على ذلك كله عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفي عليه خافية.

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة)

هذا قول إخوان القردة والخنازير الأنذال، يقولون يد الله مغلومة ، أي بخيلة ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء) ، قاتلهم الله كيف تكون يد الجواد الماجد مغلولة، وكل نعمة قديمة أو حديثة، ظاهرة أو باطنة، جللية أو قليلة منه وحده جل في علاه: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه) كيف تكون يده مغلولة؛ تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً، وهو الذي صمدت إليه الكائنات ، وسألته المخلوقات مع اختلاف اللغات، وتعدد اللهجات ، بشتى الحاجات، فأعطي الجميع ، ومنح الكل، وما نقصت خزائنه ولا انتهي فضله، يقول عز وجل: (( يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)).

كيف تكون يده مغلولة وهو الذي يطعم كل مخلوق، ومن فضله يعيش كل حي (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا )يطعم الطير في الهواء، والسمك في الماء، والوحش في البيداء، والدود في الطين، والليث في العرين: )يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) .

عم فضله، وشمل نواله، وعظم كرمه، وظهر جوده، من جاد فمن جوده يجود، عاش أعداؤه من فيض عطائه، وتقلب عبيده في نعمائه.

كيف تكون يده مغلولة وقد طبق العالم إحسانه، وعم الكون امتنانه،ملأ الخزائن، واشبع البطون، فبابه مفتوح، وجوده يغدو ويروح ، وخيره ممنوح، يعطي قبل السؤال، ولا يغيض ما عنده النوال؛ لأنه ذو الجلال والجمال والكمال.

هل من رازق غيره؟ هل من معط سواه؟ هل من متفضل إلا هو جل في علاه؟ وتأمل قود الرد على فرية اليهود وجزالة اللفظ وإشراق المعني وبراعة الحجة، فإنهم قالوا لعنهم الله: ) يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) ، فخصوا يداً واحده، فرد عليهم بقوله: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) ، فرد بالجمع ، ثم قال: ( بَلْ يَدَاهُ ) فذكر اليدين الاثنتين المباركتين، ثم وصفهما بأنهما مبسوطتان بالعطاء، ثم ذكر كيفية العطاء وحال هذا السخاء فقال: ( يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) فتقدس اسمه ما أكرمه، وتبارك في علاه ما أحمله، وعز جاهه ما أعلمه.

وانظر إلى منهج القرآن كيف أورد الشبهة لاقتضاب ثم رد عليها بإسهاب، وأطنب في تفنيدها ودحضها حتى شفي القلب بهذا البيان الناصع، والبرهان الساطع، بخلاف ضعاف المجادلين فإنهم يتوسعون في عرض الشبهة، ثم يردون عليها رداً ضعيفاً فتبقي آثارها في القلب شبهاً وشكوكاًن فتبارك الله ما أحسن قيله.

وانظر إلي صديق المهيمن وكمال جبروته، فإنه أخبرنا بهذه المقولة الخاطئة الهابطة من هؤلاء الحقراء التافهين، وهي مقولة تتعرض لذلاته المقدسة ومقامه العظيم، ومع ذلك ذكرها صريحة مثلما قالوها، قاتلهم الله. بخلاف البشر، فإنهم لضعفهم وعجزهم لا يذكرون ما يقال عنهم من شتم، وإن قالوا فباستحياء وخجل على مذهب كاد المريب أن يقول خذوني، لكن الله عز وجل لتفرده بكل وصف جميل لم يبال بهذا السقط من القول، والسخف من الحديث، بل ذكره ليدحضه، واخبر به ليدفعه، وهو ما حدث في هذا الخطاب الباهر العجيب.

( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)

هذا وعد من أصدق القائلين، وهي بشري لعباده المؤمنين، ان سنته الماضية وحكنه القاضية، بأن العسر بعده يسر، فلا يضيق الأمر ويشتد الكرب إلا ويتبعه يسر، فبشر كل مكروب ومنكوب بفجر صادق من الفرج يصادر فلول الشدائد، وما أحسن هذه الآية سلوة للمعذبين بسياط الظالمين، وعزاء للمصابين، وبشري لأهل البلاء، وهذه الآية هدية غالية لمن طرح في السجن، وغلت يداه، وكبلت رجلاه، ليعلم أن فرجه قريب، وخروجه وشيك إلى عالم الحرية والانطلاق، وهي تحفة ثمينة لمن اقعده المرض، واضناه البلاء، أنه موعود بشفاء عاجل، وعافية قادمة ، فبعد الجوع شبع، وإثر التعب راحة، وعقب السقم شفاء، وخاتمة الشدة رخاء، ونهاية الفقر غني، النهار يخلف الليل، والنور يطوي الظلام، والماء يزحف على الجدب.

إذا امتدت الصحراء فوراءها رياض خضراء، وإذا اشتد الحبل انقطع ، إذا رأيت السحب فاعلم أن الغيث الهنئ في جوانحها، وإذا هالك الظلام فتيقن أن الصباح مقبل لا محالة.

إن العسر بعده يسران وليس يسر واحد، لتعلم أن مرارة المعاناة لها نهاية، وشظف العيش إلى انقطاع ، وكبد الحياة إلى راحة ، لو أن الخوف دائم لتقطعت النفوس حسرة، ولكن بعد أمن وسكينة، ولو أن الحزن مستمر لزلزلت القلوب زالزالها ولكن يعقبة سرور وأنس، ولو أن اليأس مقيم لاسودت الحياة في العيون، لكن خلفه أمل فلا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمة الله، لا تصارع الأوهام، وتقاتل الوساس، بل انظر من بوابة الرجاء لتري العالم المشهود، والحضرة المأنوسة، والسعادة القادمة، ولتري العناية الربانية تغمرك واللطف الإلهي يحوطك.

( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) فاغسل همومك بنهر التوكل، ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، واحذر من تصديق وعد الآفاك الثيم والشيطان الرجيم؛ لأنه يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، ولكن صدق موعد اصدق القائلين: ) وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .

فبشر آمالك بمستقبل زاه وغد مشرق وفجر باه جديد؛ لأنه سبحانه ما ابتلاك ليهلك، وما أبدك ليخزيك؛ بل أراد أن يذكرك بسوط من ألم، وأن يوقظك من غفلتك لوخزة من ندم، وينبهك من رقدتك بجرعة من سقم؛ لتتذكر بالمصيبة النعمة، والبلاء العافية ، وبالمرض الصحة، وبالسجن الحرية، وحكيم في المسلكين، ولا تدري بالأصلح ، ولا تعلم بالأحسن، بل هو الأعلم الأحكم الأحلم الأرحم، جل في علاه، فارض باخيتاره فاختياره، لك خير من اختيارك لنفسك ، وعلمه بمصالحك أجل وأعظم من علمك؛ لأنك عبد جاهل فقير ضعيف، وهو عليم غني قوي ملك رحمن رحيم:

عسي فــــرج يكون عـسي
نعلــل نفـــــسنا بعــــــسى

فــلا تجـــــزع إذا قابلـ
ـت همـــــــاً يقطع النفسا


فـــأقرب ما يكـــون المر
ء من فــرج إذا يئـــــــسا



( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّح)

الأقضية تقوم على أمرين إما حكم وإما صلح، فالحكم قضية عادلة وحكم نافذ، وقد يترك في نفس أحد الخصمين اثراً، فإن الحق لا يرضي الطرفين كما قال الأول:

إن نصف الناس أعـــــــداء لمن
ولي الأحكــام هذا إن عـدل


ولكن الصلح خير، فهو احسن أثراً، وأسلم عاقبة؛لأنه يبني على كرم النفس، وسماحة الطبع، فهو يأتي عفواً بلا حكم صادر من أحد، بل من جودة السجية، وحسن الخلال ، فالذي يسعي بالصلح مسدد معان محببوب؛ لأنه يريد البناء والخير، ولهذا قال شعيب: ) إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ).

عفا عن ظلمه في عرضه، فالصلح خير علي كل جهة أردت؛ لأنه يندم على الصلح أحد، إذ يعوض الله قابل الصلح سكينة وأمناً، وبرد عفو ولذلة كرم، يجدها في قلبه، لأن المصالح كريم، والكريم واسع البطان، رحب الباع، منشرح الصدر، بخلاف رافض الصلح فإنه يعاقب بحرج في صدره، وضيق في نفسه، جزاء وفاقاً لعمله.

واعتبر هذا بالبخيل والجافي الغليظ واللحوح الشحيح، ففيه من جدب النفس، وقحط الروح، وضيق الخلق، ما يفوق الوصف مجازاة لفعله الشنيع.

وما أجمل هذا التعقيب الباهر الساطع: ( وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ) وهو تحذير للنفوس من هذا المرض الذي يصحبها ، ويغلب عليها فلا تقبل صلاحاً، ولا تعفو عن مظلمة، ولا تتنازل عن حق، ولا تعطي نوالاً إلا من رحم الله، ولكن في قوله: ( وَأُحْضِرَتِ) صورة حية لحضور شبح الجاثم القاتم، وكأنه ليل مكفهر، حضر بأسماله السوداء ووجه العابس.

ثم ذكر الأنفس لأنها مصدر الخير والشر، والجود والبخل، فمن حجث نفسه بالمعروف قبل الصلح وسعي إلى المسامحة ، ومن بخلت نفسه وظنت ضيقت على عباد الله، وسعت في استيفاء حقوقها بشراسة وعناد وفي قوله: (الشُّحَّ ) إشراق في العبارة؛ لأن الشح غاية البخل ومنتهاه، وهو اشمل من البخل الذي هو منع العطاء، وحبس التدفق، يزيد بترك العفو، ورفض المسامحة، والسعي في المطالبة والمعاتبة والمضاربة حتى قال ابن تيمية: المؤمن الصادق لا يضارب ولا يعاقب ولا يطالب، وإنما يمنع الإصلاح، قبول شح الأنفس الأمارة، ولهذا حسن أن يزف في سياق الآية، فمن نجا من شح نفسه عاش صالحاً مصلحاً، فصار كالغمامة أينما حلت هلت، فهو جواد عن الخصومة، سهل عفو عند المنازع، يسير عند الجدال، صفوح عن المعاتبة، بخلاف الشيحيح فهو بخيل بنواله، ثقيل في مطالبه، عنيد في خلافه، شرس في طباعه، وصدق الله: ) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).


(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)

الهماز اللماز إنسان ساقط في مجال الشرف، منحط من رتبة القيم، منسي في ديوان المثل السامية، لأنه هماز للأعراض ، لماز لعباد الله، وهو يهمز بقوله، ويلمز بفعله، فعينه ويده تهمز، ولسانه يلمز، ويل لهذا بالوعيد من عذاب شديد، من منال أكيد، ويل لهذا المتسلق على أكتاف البراء، القارض لأعراض الصالحين.

إن هذا الشرير همه فقط اقتناص المعائب ، وجمع المثالب فهو يفرح بالزلة، وتسره السقطة ، وتعجبه الغلظة، فهو يذكر السيئات في الناس ولكنه يتسي الحسنات، يستحضر الأخطاء غير أنها تغيب عنه الإصابات؛ لأن نفسه الأمارة مريضة:


ومن يك ذا فم مـــــريض
يجد مـــراً به الماء الزلالا


ولأن عين رشده بها رمد:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم كعم الماء من سقم


لا يفرح بالفضائل التي تحملها القلوب الطاهرة؛ لأنه جحود حسود، لا يرتاح للصفات الجميلة والمعاني المعاني الجلية في الناس؛ لأن فعله سيئ وقلبه اسود ولسلنه مر:


إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتــــاده من توهم


ويل لهذا الهمزة اللمزة من عذاب الله وغضبه، كيف يجور في حكمه، فهو بالمرضاد لعباد الله، ينشر مساوئهم، يتكفه بمعائبهم، يفرح بزلاتهم، يسعد بعثراتهم ، وهو يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ لأنه مخذول مهين، ويضيق ذرعاً بالأوفياء النبلاء والصالحين الأخيار؛ لأنه مارد اثيم، إن سلامة القلب وعفة اللسان موهبة ربانية يغدقها الله على من يشاء من عباده، فتري صاحبها ستراً عفيفاً، طاهر السريرة، سليم الصدر، يثني على الجانب المشرق في حياة الناس، تعجبه الخلال الحميدة، تفرحه الخصال الجميلة ، يحمل إخوانه على السلامة ، ياتمس للعباد العذر ، يشيد بالمكارم، ويهمل ما سوى ذلك، ليس عنده وقت لتشريح عباد الله على خشبة نقده، وما عنده فراغ لإحراق أوراق الصالحين بناره.

وإن من يتدبر هذه الآية ينتابه خوف مزعج من عواقب إرسال اللسان في الأعراض ، واغتياب عباد الله، وتتبع عوراتهم، وإنها علامة الإفلاس، ونهاية الخذلان، وويل لمن هذا فعله، قاتله الله كيف نسي نفسهن وتقويم اعوجاجه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه ، وبناء ذاته، وذهب ، تبأ له ـ يتفحص ما ستر الله من العباد ، ويكشف المغطي من سجايا الناس، فهو عدو للنجاح، حرب للفضيلة، هدم لصروح المكارم، وويل لكل همزة لمزة.


(مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى)

كتاب الله ليس حديثاً يفتري، فما نظمه شاعر، ولا نفثه ساحر، ولا تفوه به كاهن، بل هو كلام الملك الحق المبين.

إن الأحاديث المفتراة متروكة لأساطين الأراجيف، ودهاقنة الزور، وأبطال الشائعات، وحملة الكذب، أما القرآن فهو الصدق كله، والحق أجمعه، لأن الله قاله، وجبريل حمله، ومحمد أداه ، تعالي الله وتقدس أن يكون كتابه مفتري، فهو أصدق القائلين، يقول الحق وهو يهدي السبيل.

إن أهل الافتراء اصناف من البشر كتب الله عليهم الخذلان منهم دجال مريب، يزرع الخرافات وينشر الأكاذيب ليصرف قلوب الناس إليه، ومنهم شاعر أفاك، يمدح بالباطل ويهجو الثوابت لينال الحظوة ويكسب المنزلة، ومنهم كاهن فاجر ، يدعي علم الغيب ويزعم معرفة المستقبل ليروج بضاعته المزجاة وكسبه الزائف على الخليفة.

أما هذا القرآن الذي طرق العالم، وهز القلوب وأذهل العقول، واسكت الفصحاء، فشأن آخر، إنه فيض من الحقيقة، ونهر من النور، أنزله الحكيم الخبير تبياناً لكل شئ، فهو أحسن الحديث، ,احسن القصص، وأجل المواعظ، واصدق الكلام، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ لأنه نزل لهداية القلوب، وتطهير السرائر، وعمارة الضمائر، فهو معصوم من الفرية، محفوظ من الكذب منزه من الزور.

إن الوحي المقدس محفوظ عن نسج الخيال، وتصوير الوهم، فلا يدخله الشك، ولا يتطرق إليه الاحتمال، ولا يمازجه الهزل؛ لأنه يقين في نقلهن صادق في خبره، عادل في حكمه ، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً.

إن على من أعرض عن القرآن واستبدله بأقوال البشر وخيالاتهم واوهامهم ان يتوب إلى ربه من هذا المسلك المشين، والمذهب البشع لأنه استبدل الذي هو أدني بالذي هو خير، فإذا لم تكن الحياة مع القرآن فمرحباً بالموت، وإذا لم يكن العيش مع هذا الوحى فأهلاً بالمنية؛ لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال.

يكفي القرآن شرفاً أنه حديث لا يفتري، ويكفي أحاديث السمر وروايات البشر من حياة الفنانين أنها ترهات؛ لأنها وهم بلا صحة، وخيال بلا حقيقة، وظل بلا صورة، فكان جزاؤها الإهمال والضياع والخمول ، وكان حق القرآن الخلود والبقاء والذيوع: ) فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض)(الرعد: 17).

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)

الأفاك هو الكاذب في قوله: والأثيم هو الفاجر في فعله من جمع هذين الوصفين استحق الخزي والويل ؛ لأن من هذا فعله فهو غاو منحرف، فالكذب واختلاف الأقوال وقلب الحقائق والزور في الحديث، دليل على مهانة صاحبه وخسة طبعه وحقارته.

والفجور وعدم مراعاة عهد الله وميثاقه وحفظ حدوده برهان على مرض القلب وفساده.

وإن من أعظم الذنوب الكذب ، فهو اصل النفاق وماؤه ومادته ، لا أمان له ولا نور عليه، ولا حجة معه؛ لأنه زائف دجال ، والأثيم منتهك للمحرمات، جرئ على الحمي، لا يردعه دين ولا تحميه قيم، وفساد الناس مرجعه إلى الكذب في الأقوال، والفجور في الأفعال، فالكذب ينتج الزور والافتراء والبهتان واليمين الغموس مع ما يتبع ذلك من قلب الحقائق والتضليل على الناس، واللعب بالأحكام وتشويه الأخبار، مع توليد الشائعات وتصوير الزيف الرخيص، والفجور ينتج منه سفك الدماء ، وسلب الحقوق ، ونهب الأموال ، وارتكاب الفواحش، فعاد الفساد في العالم إلى هذين الوصفين الأثيمين ، فحق على من نصح نفسه وأراد نجاته من البوار أن ينقذ نفسه من مغية الكذب والفجور بتحري الصدق واستحباب التقوي، ليحصل للعبد الأمان من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، إن مواهب الدنيا من مال وولد ومنصب وجاه لن تنفع صاحبها ما لم يركب قارب النجاة من الصدق مع الله، وردع النفس عن هواها ، والقيام بأمر الله في الأقوال والأعمال، ويكفي تهديداً ووعيداً قول جبار السماوات والأرض: )وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) .


فما بعد هذا من زاجر وليس وراءه من واعظ، إن قائمة الكذبة والسحرة والكهنة وشهود الزور تندرج تحت عنوان الأفاك، وإن قائمة القتلة واللصوص والزناة وأهل السكر والنهب تنضوي تحت كلمة اثيم ، فمن جمع الإفك والإثم فقد جمع الخسران، وحق عليه البوار ، وكتب عليه الشقاء، جزاء قوله الشنيع، وفعله الفظيع، وما ربك بظلام للعبيد.

(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)

اشغلكم تكاثركم بالأموال والأولاد والأشياء عن الاستعداد للقاء المحتوم واليوم الموعود، والالتهاء بالتكثر عن المقصد خذلان، والاشتغال بالوسائل عن المقاصد إفلاس ، فالتكاثر يكون بجمع المال وتكديسه وتخزينه، فلا ينفق في الحقوق ولا تؤدي به الواجبات، فيكون الفقر الحاضر والشغل الدائم:

ومن ينفق الساعات في جمــــع ماله
مخافـــة فقر فالذي صنع الفقر


والتكاثر في الأولاد والاعتداد بهم بطراً ورئاء الناس دون أثارة من صلاح أو سعي لرشد، والتكاثر بالنعم ترفاً وبذخاً وإسرافاً؛ لتكون من أعظم العوائق عن الهداية والتزود بالصالحات، والتكاثر ضرب من السفة ومذهب من الرعونة النبي صلي الله عليه وسلم يناسب عقول الصبيان وطموح الولدان، والتكاثر بالعوامل بلا ثمرة ، وتذوب في حفظها الأبدان بلا نفع، لأنها عطلت عن الامتثال، وفصلت عن الانتفاع بها، والتكاثر من الملهيات والمسليات والمغريات من شهوات ولذائذ وفنون وهوايات لتصبح الحياة بهيمية ساقطة، والهم سالفة، والعمر اضحوكة ، والبقايا مهزلة:

من يهن يســـهل الهوان عليه
مــــا لجــــرح بــميت إيــلام


إن المسؤول الذي ألهاه التكاثر بالأوسمة والنياشين والألقاب لهو عابث يحفر لنفسه قبراً في عالم الخذلان، والإحباط ، وإن العالم الذي ألهاه التكاثر بجمع الغرائب ، وحشد العجائب، والتطاول بمحصوله، والتباهي بمحفوظه، على حساب العمل لهو خاسر أشغله ذلك عن مرتبة الربانية، ودرجة الإمامة.

وإن الكاتب الذي ألهاه تكاثر نتاجه، واشغله هذا السيلان، ونمو بريق الشهرة، وخدعه زخرف المديح لهو كاتب مخذول، إن من قدم الصورة على المضمون، والظاهر على النية والقصد ، والدنيا عن الآخرة، والمخلوق على الخالق لهو عبد ضال سعيه وخائب منقلبه.

إن ركعة خاشعة من عابد صادق أجل من ألف رجعة لعبد ساه لاه عابث، إن قراءة آية بتدبر وتفهم خير من ختمة كاملة بلا حضور ولا تفكر، وإن مطالعة صفحة بإمعان أعظم من سرد مجلدات مع شرود وذهول، وإن الحسن أحسن من الكثرة ) لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) وإن حوضاً من ماء عذب أنفع من بحر ماؤه مالح، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

( هَيْتَ لَكَ )

تقول امرأة العزيز ليوسف عليه السلام: هيت لك، قال: معاذ الله، وكلمة هيت لك فيها من الجذب فيها من الجذب والإغراء والفتنة ما يقود النفس الأمارة للاستجابة ، ولكن الله سلم وعصم ولطف.

ويا لمقام يوسف، وقوة يوسف، وصلابة عزيمته وجلالة نفسه يوم هزم هذا الإغراء الفاتن بالكلمة الطاهرة الخالدة، معاذ الله ، وياليت كل مسلم إذا ماجت أمامه الفتن وتعرضت له الإغراءات أن يفزع إلى من: معاذ الله، ليجد الحفظ والصون والرعاية، ويحتاج المسلم كل وقت إلى عبارةك معاذ الله ، ليجد الدنيا بزخرفتها وزينتها ناديه: هيت لك، والمنصب ببريقه وطلائه يصيح: هيت لك، والمال بهالته وصولته يقول: هيت لك ، والمرأة بدلالها وحسنها وسحرها تعرض نفسها وتصيح: هيت لك، فمن ليس عنده معاذ الله ماذا يصنع؟‍!

وإن الفتنة التي تعرض لها يوسف لهي كبرى، وإن الإغراء الذي لقيه لهو عجيب ، فهو ـ عليه السلام ـ شاب ع-غريب في الخلوة وفي أمن الناس؛ لأنها زوجة الملك، ثم هي مترفة متزينة ذات منصب وجمال وشرف ومال، وهي التي غلقت الأبواب ودعته إلى نفسها فاستعصم، ورأي برهان ربه ونادي: معاذ الله ، فكان الانتصار على النفس الأمارة والهوي الغلاب، فصار يوسف مثلاً لكل عبد غلب هواه، خاف ربه، وحفظ كرامته، وصان عرضه.

ونحن في هذا العصر بأمس الحاجة إلى مبدأ : معاذ الله ، فالمرأة السافرة، والشاشة الهابطة، والكلمة السافة، والمجلة الخليعة، والأغنية الماجنة؛ كلها تنادي هيت لك، وجليس السوء ، والصاحب الشرير، وداعية الزور، وشاعر الفتنة؛ كلهم يصيحون هيت لك، فإن وفق الله وحصلت العناية، وحلت الرعاية صاح القلب صيحة الوحداني: معاذ الله.

إبليس يغريني ونفسي والهوي
مــا حيلتي في هذه أو ذاكا


ولنا في التاريخ المحفوظ مطالعة في سير الأبرار، فمنهم من تعرضت له السلطة ، ومنهم من دعته الوزارة، وثالث طلبه المال، ورابع طاردته الشهوة، وآخر تعلقت به الدنيا، وكلهم فر وهو يقول: معاذ الله؛ فكان جزاؤه عوضاً أغلي، ومنزلاً أعلي، وعطاء أحلى، ورفعة عند ملك الملوك الذي ملكه لا يبلي، وخزائنه لاتنفد ، وجاره لا يضام،في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ)

المنافقون يهتمون بالظاهر على حساب الباطن، أجسامهم روية، وقلوبهم خاوية، ظاهر مغري، وباطن مخزي، في العلن رجال وفي الخفاء خفافيش، ألسنة حالية ونفوس مريرة، فأول ما تشاهده منهم طلعات بهية، وهياكل قوية، وعضلات مفتولة، وسواعد مشدودة ، شبع وسمن، ودعاوى عريضة، وتمدح أجوف، ولكنهم يحملون هماً ساقطاً، وعزائم منحطةن ونيات خبيثة، ومرادات قبيحة، مرض ينخر في قلوبهم، وشك يعصف بنفوسهم، وخواء يعشعش في ضمائرهم، أما ألسنتهم فهي اسواق لبضاعة الكذب، ومتاحف للزور والبهتان، وأما قلوبهم فأطلال باليه أقام بها النفاق، وحل بها الكفر، وملأها الرجس.


إن المسألة ليست بالصور والهندام وجمال الأشكال وبهاء الهياكل ، ولكن المسألة مسألة قلوب تبصر النور، ونفوس تفيض بالخير، وسجايا تشع بالفضيلة.

إن من يرتاب في أمر الله، ويشك في دينه، ويعرض عن عبادته ،ويحارب رسله، ويعادي اولياءه، ويسخر من عباده لهو أولى الناس بالنبذ والإذلال والإهانة ؛ لأنه خبيث النفس، خائن الضمير، ميت الإرادة.

إن هؤلاء الذين تعجبك أجسامهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا ينفقون إلا وهم كارهون، فهم اضعف شيء عن الطاعات، وفعل الصالحات ، وأداء الواجبات، ولكنهم أقوياء في اقتطاف الشهوات، وتصيد اللذائذ، وركوب المعاصي.

إن الله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أجسامنا ، ولكنه ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فلا يغرك جسم لا قلب فيه، وهيكل لا روح فيه، وجثمان ليس به حياة:


لا باس بالقـــوم من طول ومن عظم
جسم البغال وأحلام العصـافير

وعلينا النظر إلى الحقائق ومعادن الناس وأخلاقهم وصفاتهم:

خذ بحد السيف واترك نصلــه
واعتبر فضل الفتي دون الحلل


إن الرجال لا يقومون بالثياب ، وإن العظماء لا يقاسون بالأشبار، ولا يوزنون بالأرطال، ولكن قيمتهم عملهم الصالح، وقياسهم أخلاقهم الجميلة، ووزنهم تاريخهم المشرق.

إن شعرة في رأس عبد الله بن مسعود؛ الصحابي خير من مليون رجل من أمثال عبد الله بن أبي سلول؛ المنافق السمين البدين البطين، وإن ظفر بلال بن رباح أفضل من جيش من أمثال أبي جهل الضخم الفخم المريد الرعديد، لأن المسألة مسألة إيمان وفقه وصلاح وتقوى لا لحم ولا عظم ولا شحم ولا دم.


(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)

المطففون صنف من الناس يستوفون حقوقهم من الناس ولا يوفون الناس مالهم بل يبخسونهمن فحقوقهم على الناس وافية كاملة، وحقوق الناس عليهم ناقصة، إن كان الحكم لهم رضوا وقبلوا، وإن كان عليهم نفروا وأعرضوا، لهم مكيلام في الأحكام والأقضية والحقوق، فهم ومن أحبوه محقون دائماً، مبرؤن أبداً، أعرضهم محمية، واشياؤهم محفوظة، وأموالهم محصنة، وسواهم مبطلون، متهمون ، لا حق لهم ولا حفظ ولا رعاية.

إن كالوا أو وزنوا لأنفسهم فالزيادة لهم، وإن كالوا أو وزنوا لغيرهم فالنقص لسواهم، إن حكموا في قضية فالحق معهم، وإن حكموا على غيرهم ظلموا وجاروا، إن جادلوه دائماً، فهو مبطل متعد لا دليل له ولا حجة.

إن كتبوا التناريخ والسير فالثناء لهم، والمدح ينهال عليهم وعلى اشياعهم ، والسب والنقص لمن خالفهم، العالم المقصر إذا احبوه فهو وحيد العصر وفريد الدهر، والعالم المتقن المحقق إذا كرهوه فهو ضعيف واهم، الخطيب الثقيل البارد من أصحابهم مفوه مصقع ، والخطيب البارع الأعجوبة إذا خالفهم فهو ذو عي وبرود وسماجة ، الشاعر الهزيل من شيعتهم فذ باقعة، والشاعر العبقري من أعدائهم متكلف متصنع، إن أحبوا سلطاناً ظالماً فهو عندهم بركة العصر وريحانة الدنيا، وإن كرهوا سلطاناً عادلاً فهو الغاشم الظالم، أدلتهم صحيحة أبداً ضعيفة ساقطة ولو كانت قوية محكمة ، يرون سيئاتهم هم حسنات ، ومناقب غيرهم مثالب، من مدحهم ولو بالباطل فهو صادق وبالحق ناطق، ومن نقدهم ولو بالحق فهو كذاب آثم.

إن أخطأ أحدهم فهو مأجور، وذنبه مغفور ، وسعيه مشكور، وإن أصاب من خالفهم فهو مأزور لا معذور، الورد في بستان من أبغضوه شوك، والحنظل في حديقة من أحبوه ياسمين، إن يكن لهم الحق يأتوا مذعنين، وإن يكن عليهم يتولوا عنه معرضين، يحكمون لأنفسهم قبل سماع الدعوى وعرض الحجة، ويحكمون عاى من سواهم قبل قيلم البينة وحضور الشهود، حبيبهم إذا أخطأ قالوا: التمس لأخيك عذراً، وعدوهم إن اصاب قالوا: لن نستطيع عليه صبراً؛ (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) .


( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ )

لما أعرض أهل سبأ عن طاعة الله مزقهم كل ممزق، وقال: فجعلناهم أحاديث، وفي هذه العبارة من قوة الأسر وروعة البيان ما يهز النفس، فكأنه حول هذه الأمة القوية إلى أحاديث فقط تدور في المجالس على السنة السمار.

لك أن تعمم هذا المثل على كل أمة سادت ثم بادت، أما اصبحت اقوالا تدار في المجالس، أما ذهبت قوتها، وسحق جبروتها، ومات ملوكها، ولم يبق إلا مجرد الخبر عنهم فحسب، أين الدول؟ أين الملوك؟! اين الجيوش؟! ذهبوا ولم يبق من ميراثهم درهم ولا دينار، وإن بقي من بيوتهم الألنس، فلم يفصل في هلاكهم وكيف دمروا وماذا بقي من بيوتهم ومتاعهم، وإنما طوي الزمان والمكان، ثم أخبرنا أنه ما بقي منهم إلا الخبر عنهم، وإن حياة تنتهي إلى هذه الخاتمة لحقيق أن يزهد فيها، وأن يرغب عنها.

فبينما تري الأمم دائبة في صنع وجودها ساعية في بناء حضارتها، وإذا بها هباء منثور ليس في الوجود منهم إلا كلمات تخبر عنهم، وهنا وقف أمام قدرة القوي القهار وهو يأخذ أعداءه هذا الأخذ في لمحة الطرف، ثم لم يبق منهم باقية ، ولم يترك لهم اثراً، ثم التفت إلى جمال عبارة القرآن واسرارها، وسرح الطرف في هذا الحسن لتري الإعجاز في الإيجاز، والقوة في الأسر، والمتعة في التأثير، وانظر إلي الواقع، وأسأل نفسك أين الحضارات التي ملأت الأرض، واين الدول التي طبقت الدنيا، تعيش الدول ألف سنة ثم تنتهي فلا يبقي من آثارها إلا كلمات على شفاع السمار، وجمل على ألسنة الركبان:

أعندكم خبر عن أهل أندلس
فقد مضي بحديث القوم ركبان


اقرأ متن ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) على حضارة تدمر ودمشق وبغداد والزهراء والحمراء وقرطبة وغرناطة، فإذا هي قاع صفصف، أين التيجان والسلطان والهليمان: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ، إن من يتدبر: ( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) يعلم هوان الخليقة على الله، وتفاهة من حاد الله، وسخف من حاربهز

إن عدتهم وعتادهم وقوتهم لا تواجه من الله إلا بكلمة: كن؛ ليصبح الجميع أحاديث تتلى في النوادي ، وقصصاً تساق في المجامع، فلا قصورهم حمتهم ، ولا جيوشهم منعتهم، ولا أموالهم شغفت لهم.


رد مع اقتباس