عرض مشاركة واحدة
قديم 08-02-2012, 10:57 AM   رقم المشاركة : 3
الكاتب

أفاق الفكر

مراقب

مراقب

أفاق الفكر غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








أفاق الفكر غير متواجد حالياً


رد: الأدب العربي في العصر الجاهلي

وقد استمر ذلك إلى العصر العباسي، وتمسك به كثير من الشعراء والنقاد المحافظين، وتحدث عنه ابن قتيبة في مقدمة «الشعر والشعراء» وعلل مراحل الانتقال من موضوع إلى آخر ضمن القصيدة المدحية، راوياً عن بعض أهل الأدب: «أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكى، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها.. ثم وصل ذلك النسيب، فشكا شدة الوجد، وألم الفراق، وفرْط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه.. فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء.. بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل».
ويعقب ابن قتيبة على ذلك قائلاً: «فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد».
ويمكن تعليل تعدد الموضوعات في طوال القصائد بأن الشاعر كان يخضع لأصول فنية متوارثة تأصلت على مرور الزمن والتزمها الشعراء فغدا الهيكل العام للقصيدة يؤلف وحدة فنية داخلية بديلة عن الوحدة الموضوعية.
ومن خصائص الشعر الجاهلي أيضاً أن هذا الشعر قد وصل إلينا باللغة التي غلبت في العصر الجاهلي قبيل الإسلام، وهي اللغة الأدبية المشتركة بين الشعراء والكتاب والخطباء، وإن كان هؤلاء ينتمون إلى قبائل مختلفة. وقد وصل إلينا هذا الشعر كامل الصياغة، ناضج اللغة، موحد القوالب، ذا قوة وجزالة، ومتانة في العبارة، وإذا وجد قارئه شيئاً من الألفاظ الغريبة فيه، فإنما هي كذلك بحسب ما نعرفه نحن اليوم من تلك الألفاظ التي بعد العهد بها، وندر استعمالها بين الشعراء والكتاب، لكنها لدى الجاهليين أنفسهم كانت مألوفة ومعروفة.
النثر الجاهلي
بنى العرب مجدهم الأدبي، في العصر الجاهلي، على الشعر. ومع أن الكتابة كانت معروفة لهم - فإن ما وصل إلينا من نثرهم قليل جداً. وكانت الكتابة تقتصر على جوانب تتصل بحياتهم السياسية والاجتماعية والتجارية، من رسائل، وعقود ووصايا ومواثيق. وفي القرآن الكريم إشارات إلى كتابة الديون، وحديث عن رحلتي قريش.. ومثل هذه الرحلات التجارية تستدعي الكتابة والتسجيل.
وليس المراد بالنثر الجاهلي هنا ذلك النثر العادي الذي يتخاطب به الناس، وإنما المراد به النثر الأدبي أو الفني الذي يعنى صاحبه بتجويده، وإتقانه لينال إعجاب القارئ، من حكمة تقال، أو قصة تروى، أو مثل يضرب، أو خطبة تلقى، أو رسالة تدبَّج، أو وصية بليغة تنقل.
مثل هذا النثر الفني قليل الوجود بين أيدينا بلفظه الأصلي الذي صدر عن أصحابه لأن حفظ النثر أصعب من حفظ الشعر، لكن الذاكرة الأدبية للرواة اكتسبت على مر العصور أصالة ومراناً، مما أتاح لهم أن يحتفظوا بنصوص من ذلك النثر، في صورتها الأصلية، وبأخرى ليست موافقة لأصلها كل الموافقة، ولكنها صورة قريبة منه، يمكن من خلالها تحديد خصائصه الفكرية والفنية. وهذه النصوص النثرية الجاهلية، الأصلية والقريبة من الأصل، وردت في طائفة من المصادر الأدبية والتاريخية القديمة. وكان في تلك النصوص فنون أدبية نثرية، تأتي في مقدمتها: الخطابة - ويلحق بها المنافرات، وسجع الكهان - ثم الحكم والأمثال - ويلحق بها الوصايا والنصائح - ثم القصص، فالرسائل.
فنون النثر الجاهلي وأغراضه
الخطابة: ازدهرت الخطابة عند العرب متأخرة في الزمن، لأن الشعر كان متفوقاً عليها، فلما أصبح الشعر مطية للتكسب صارت منزلة الخطيب هي المقدَّمة. واشتهر في العصر الجاهلي خطباء كثيرون، مثل: قس بن ساعدة الإيادي، وهانئ بن قبيصة الشيباني وعامر بن الظَّرب العدواني، وعمرو بن كلثوم التغلبي، وأكثم بن صيفي وعمرو بن الأهتم التميميان، وهاشم بن عبد مناف القرشي.
وقد تعددت أغراض الخطابة وأنواعها، إزاء هذا الازدهار، فكانت وسيلة للتحريض على القتال، أو للأخذ بالثأر، وربما كانت في الوقت نفسه سبيلاً إلى إصلاح ذات البين أو إرساء قواعد السلم. وقد تكون في إشاعة المفاخر، والإشادة بالأنساب أمام الملوك وزعماء القبائل، والأمراء.
وقد تلقى الخطب في مناسبات الزواج، والمصاهرات بين ذوي الأحساب والأنساب، فيتكلم خطيب من كل جانب. قال الجاحظ: «كانت خطبة قريش في الجاهلية، يعني خطبة النساء: باسمك اللهم ذكرت فلانة، وفلان بها مشغوف. باسمك اللهم، لك ما سألت، ولنا ما أعطيت».
وكانت للخطباء سنن وتقاليد يتبعونها عند إلقاء خطبهم، كأن يقف الخطيب على مرتفع من الأرض، معتمداً على قوسه، أو ممسكاً بعصا يشير بها، وقد يخطب راكباً على ناقته، وبيده الرمح، وقد لاث العمامة على رأسه.
ومما يمدح به الخطيب عندهم: حضور البديهة، وقلة التلفت، وقوة الجنان، وظهور الحجة، مع جهارة الصوت. وفي مقابل ذلك كانوا يعيبون على الخطيب التنحنح، والانقطاع، والاضطراب، والتعثر في الكلام. وقد استقرت للخطابة في العصر الجاهلي مجموعة من الخصائص الفنية، كان الخطباء يحرصون عليها في خطبهم، منها مراعاة السجع في مقامات الفخر خاصة. أما في خطب المحافل وإصلاح ذات البين، مثلاً، فكانوا يستخدمون الأسلوب المرسل الذي لا يغفل صاحبه - في الوقت نفسه - تجويده وتنقيحه، والتروي فيه، سعياً إلى إثارة السامعين واستمالتهم. وهذا ما جعلهم يؤثرون قصر العبارة في خطبهم، وتوشيحها ببعض الحكم والأمثال، أما الخطبة نفسها فقد تطول، وقد تقصر، ولكل منهما مقام وموضع وقدر من العناية.
المنافرات: وهي مفاخرات كانت تحدث بين اثنين أو أكثر من سادة العرب وأشرافهم، وفيها يشيد كل من المتفاخرين بحسبه ونسبه ومجده وسجاياه، أمام حكم من أشراف العرب أو كهانهم، ليكون له القول الفصل في تفضيل أحد الطرفين على الآخر. ولكن الحكم يسعى في كثير من الأحيان إلى الصلح بين المتنافرين، تفادياً للشر، ويتحاشى الحكم لأحدهما على الآخر، ويلقي عليهم كلاماً بليغاً يدعوهما فيه إلى السلام والصفاء. ومن ذلك ما كان من هرم ابن قطبة الفزاري، حين تنافر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة بعد أن اشتد النزاع بينهما، فجعل هرم يطاولهما، ويمهد للصلح بينهما، حتى قال لهما أخيراً: «أنتما كركبتي البعير، تقعان إلى الأرض معاً وتقومان معاً». فرضيا بقوله وانصرف كل منهما إلى قومه. واشتهر من هؤلاء الحكام أيضاً: ربيعة بن حذار، والأقرع ابن حابس، ونفيل بن عبد العزى، وهاشم بن عبد مناف.
وربما جرت المنافرة بين قبيلتين: كربيعة ومضر، أو قيس وتميم. وهذا ما يحيل المنافرة إلى صورة من صور الخطابة، إذ يقف كل سيد ليعدد مآثر قومه أمام الحكم، بحضور سادة القبائل وأشرافها ويحاول التأثير في السامعين ليحوز الإعجاب والحكم له بالغلبة على خصمه.
وإذا فصل الحكم بين المتنافرين، سجع في كلامه حيناً، وأرسله حيناً آخر. وهو يحرص على السجع والقسم ولاسيما إذا كان من الكهان.
سجع الكهان: والكهّان عند العرب طائفة ذات قداسة دينية، وسلطان كبير لدى القبائل، شأنهم شأن الحكام في المنافرات. وكانوا يزعمون الاطلاع على الغيب، وأن لكل منهم رئيّاً - أي صاحباً من الجن - يعرف الكاهن عن طريقه ما سيكون من أمور. وكان الناس يتوافدون على هؤلاء الكُهّان من مختلف الجهات فيحكمونهم في منازعاتهم، ويستشيرونهم في أمورهم الخاصة وما يزمعونه من أعمال، أو ما يرونه في منامهم من أحلام. وكانوا يستخدمون في أحكامهم وأقوالهم ضرباً من النثر المسجوع عرفوا به.
وقد ظهر في العرب عدد من هؤلاء الكهان، وفيهم من كانوا حكاماً في المنافرات أيضاً. ومنهم: سطيح الذئبي، وشق الأنماري، وسلمة ابن أبي حيّة، المشهور باسم عُزّى سلمة، وعوف الأسدي، .بل كان فيهم نساء كاهنات أيضاً، من أمثال: فاطمة الخثعمية، وطريفة اليمينية، وزبراء.

ويلاحظ في نصوص الكهان أنها تحمل طابع التكلف الشديد في سجعها ولهذا لا يطمأن إليها كلها، فربما شاب بعضها الوضع والنحل، وربما كان بعضها محفوظاً صحيحاً، لقصره وإيجازه.
ومن خصائص أسجاع الكهان أنها - في جملتها - كلام عام، لا يرشد السامع إلى حقائق جلية، وإنما يضعه في الغموض والإبهام، باصطناع السجع، والإيماء، وقصر الجمل لإلهاء السامع عن تتبع ما يلقى إليه من الأخبار العربية، وجعله في حالة نفسية مضطربة تساعد الكاهن على الوصول إلى ما يريد، بكل سهولة ويسر، ويكون المخاطب، بتلك الإشارات الغامضة، والألفاظ المبهمة، والأقسام المؤكدة، والأسجاع المنمقة، مستعداً لقبول كل ما يقال له، بلا جدال أو اعتراض، وتأويل ما يسمعه بحسب حالته ومدى فهمه.
الحكم والأمثال: وربما كانت وحدها التي وصلت إلينا كلها كما نطق بها أصحابها، بلا تغيير أو تحريف، ولا زيادة أو نقص، لما تمتاز به من تركيز بالغ، وإيجاز شديد، وقبول للحفظ والشيوع على الألسنة في كل مناسبة، وبذلك تكون أصح ما بقي من النصوص الجاهلية، وأقربها إلى أصولها الأولى، وإن كانت لا تقدم صورة كاملة عن النثر الجاهلي.
الحكم والأمثال جمل قصيرة بليغة، خالية من الحشو، أوحت بها تجارب الحكماء والمعمرين في الحياة والعلاقات بين الناس، وهي ثمار ناضجة من ثمرات الاختبار الطويل، والرأي المحكم. وقد اشتهر عند العرب في العصر الجاهلي طائفة من أولئك الحكماء، مثل: لقمان عاد وهو غير لقمان الحكيم، المذكور في القرآن الكريم، وأكثم بن صيفي، وعامر بن الظرب، وأكثم بن عامر، وهرم بن قطبة، ولبيد بن ربيعة. وبعض هؤلاء يُعدون في الخطباء، وحكام المنافرات أيضاً. ولا يكاد يوجد في العصر الجاهلي سيد، أو شريف، أو خطيب مشهور إلا أضيفت إليه جملة من الحكم والأمثال.
والفرق بين الحكمة والمثل، أن الحكمة قول موجز جميل، يتضمن حكماً صحيحاً مسلماً به. لأنه نابع من الواقع ومعاناة التجارب في الحياة، مثل: «آخر الدواء الكي، وأول الشجرة النواة، وإنك لا تجني من الشوك العنب، وإن العوان لا تعلم الخمرة...».
وأما المثل فهو - في أصله - قول يقترن بقصة أدت إليه، ويدري به اللسان أول مرة، ثم يدخل في نطاق الأمثال حين يستشهد به في مقامات مماثلة، وفي حالات مشابهة للحالة الأولى التي ورد ذلك القول فيها. ولذلك تحكى الأمثال بألفاظها الأصلية، بلا تغيير ولا تصرف، مهما كان وضع المخاطب أو نسق الكلام.
وقد دون العرب حكمهم وأمثالهم منذ أوائل العصر الأموي، وهذا مما ساعد على حفظها وتواترها على الألسنة.
وأكثر تلك الحكم والأمثال لا يعرف أصحابها أو قائلوها، وقد سيقت بأسلوب سهل، لا أثر للصنعة الإنشائية فيه، وبعضها بل أكثرها، يعد من الإنشاء الرفيع، والسبك الجيد. وكثير منها أشطار موزونة، ربما كانت مقتطعة من أبيات كاملة، مثل: «رضيت من الغنيمة بالإياب» وهو عجز بيت لامرئ القيس، و«خلا لك الجو فبيضي واصفري» وهو أيضاً عجز بيت لطرفة. «والبس لكل حالة لبوسها» وهو رجز قديم، لا تعرف تتمته ولا صاحبه.
ولا تخلو صياغة بعض الحكم والأمثال أحياناً، من خروج على النظام اللغوي. كقولهم: «مكره أخاك، لا بطل» و«أعط القوس باريها» و«أجناؤها أبناؤها» والقياس: «جناتها بناتها» لأن «فاعلاً» لا يجمع على «أفعال».
وهذه الحكم أو الأمثال هي - على كل حال - صورة لحياة العرب في الجاهلية، ولأساليبهم ولهجاتهم، وجانب من نثرهم، فيها البساطة والسهولة التي لا تخلو أحياناً من السجع والاحتفال بتوازن الكلمات وجمال الصنعة والتصوير.
الوصايا: يمكن إلحاق الوصايا بالحكم والأمثال لتضمنها كثيراً من تلك الأقوال الموجزة النابعة من التجربة، حتى لكأن الوصايا أحياناً قائمة على جملة من الحكم والأقوال المأثورة.
وتروى هذه الوصايا عادة على ألسنة طوائف من الحكماء والمعمرين، الذين عرفوا بكثرة تجاربهم وخبرتهم في الحياة، من أمثال: ذي الإصبع العدواني، وزهير بن جناب الكلبي، وعامر بن الظرب العدواني، وحصن بن حذيفة الفزاري. ومن النساء: أمامة بنت الحارث. ويغلب على الظن أن هذه الوصايا جميعاً رويت بالمعنى، ولكنها لا تخلو من بعض العبارات الأصلية المحفوظة، ولاسيما في الوصايا القصيرة. وهي - مع ذلك - تقدم صورة عن هذا الفن النثري، لأن من رووها أو حفظوها قد راعوا أصوله وتقاليده.
وما وصل إلينا من تلك الوصايا بعضه موجه إلى الأبناء والبنات، وبعضه الآخر موجه إلى أفراد من القبيلة. أما من حيث الموضوع والمضمون؛ فيمكن تقسيم الوصايا إلى نوعين:
وصايا اجتماعية: كالوصايا المتعلقة بالزواج، والمال، والصداقة، والعناية بالخيل وإكرامها، ومكارم الأخلاق كتهذيب اللسان، وتربية النفس، والحث على الصدق، والبذل والجود... ومن شواهدها وصية ذي الإصبع العدواني - لما احتضر - لابنه أسيد.
وصايا سياسية: تكون بين الراعي والرعية، والدعوة إلى الحرب، والدعوة إلى السلم والتحذير من التنازع. والطابع العام للوصايا هو الأسلوب المرسل، الذي يترك فيه الموصى نفسه على سجيتها، من دون تنميق أو زخرفة، مؤثراً وضوح العبارات، ورشاقة التراكيب، وقصر الجمل بما يحقق المناسبة بين المعنى واللفظ وطبيعة المقام الذي تقال فيه الوصية.
القصص: ومن فنون النثر الجاهلي القصص وما يتصل منها بسبب، كالأسمار، والحكايات، والأساطير، التي تتناثر في كتب الأدب والتاريخ والأمثال، والتفسير، وكتب الشواهد النحوية والبلاغية، ومؤلفات الشرَّاح مما يؤلف ذخيرة قصصية غزيرة، تمثل في مضمونها جوانب من المجتمع العربي في العصر الجاهلي، أو ما هو قريب منه، إذا صحت نسبتها إلى ذلك العصر.
وقد بقي الناس يتداولون هذه القصص عن طريق الرواية الشفوية، حتى بدأ تدوين بعضها في العصر الأموي، ولكن لم يصل إلينا شيء منه، بل وصل ما دُوَّن في أوائل العصر العباسي، وما بعد ذلك، بعد أن تنقلت روايته في المجالس، وزيد فيه، ونقص منه، ولا يعرف مدونه ولا راويه، وإن حمل بعضه على الأصمعي وغيره، سواء في ذلك ما كان فيه إطالة وتفصيل، أو قصر وإيجاز. وقد كانت هذه القصص الجاهلية المتداولة نواة للقصص الشعبي الذي ازدهر في العصرين: العباسي والمملوكي.
ولهذا كله، يقع الشك في صحة نصوص القصص التي ترفع إلى العصر الجاهلي، من حيث الصياغة على الأقل. ذلك أنها لم تدون في ذلك العصر قط، ولا فيما هو قريب منه، بل صيغت بأساليب العباسيين، ومن بعدهم، الذين تصرفوا فيها صيغة ومضموناً، ولاسيما الطويلة منها. وتكفي الإشارة إلى أن أيام العرب وملامحهم الحربية تؤلف ينبوعاً قوياً لتلك القصص، وقد دونها أبو عبيدة في شرحه لنقائض جرير والفرزدق. ومن هذا التراث القصصي أيضاً ما يتصل بملوك المناذرة والغساسنة والدولة الحميرية، وغيرهم ممن سبقوهم أو عاصروهم، كالزباء أو زنوبية. ومنه أيضاً قصص العشاق وأخبارهم، وبعض الأساطير عن الحيوانات كقصة الحية والفأس في خبر المثل: «كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟».
هذا، إلى قصص أخرى متناثرة في كتاب الأغاني وغيره عن عمرو بن كلثوم وربيعة بن مكدم، وعبد الله بن جدعان، وغيرهم. وكل ذلك من موروثنا النثري، ولكنه لا يمثل أسلوب الجاهليين ولا صياغتهم.
الرسائل: وآخر أنماط النثر الجاهلي وفنونه الرسائل، التي تعد أقل فنون النثر شيوعاً، ولكنها أكثرها حاجة إلى التدوين لاستخدام الجاهليين إياها في الأمور التجارية والسياسية والقبلية، وفي السفارة بينهم وبين الأكاسرة وملوك المناذرة والغساسنة. ومما يثبت ذلك أن لقيط بن يعمر الإيادي. مثلاً، كان يحسن الفارسية، وكان من مقدمي تراجمة كسرى سابور، وكذلك كان عدي بن زيد العبادي وإخوته من كتاب الأكاسرة والمترجمين عندهم.

وما وصل إلينا من نصوص الرسائل الجاهلية قليل جداً، منها ما هو ذو طابع سياسي كرسالة النعمان بن المنذر إلى كسرى، حين جهز إليه وفداً ضم وجوه العرب من قبائل مختلفة، ليتكلم كل منهم أمام كسرى بما يحضره عن مآثر العرب ومفاخرهم إذا صح هذا الخبر.
ومن تلك الرسائل ما يكون في القبائل، من عهود ومحالفات تقتصر على أغراض ضيقة جداً، ويمكن أن تعد وثائق تاريخية. ومثالها كتاب التحالف بين عبد المطلب بن هاشم، وقبيلة خزاعة على التناصر والتعاون مدى الأيام في جمل مرسلة معبرة، تطول وتقصر، مع قوة وإحكام.


رد مع اقتباس