عرض مشاركة واحدة
قديم 06-12-2010, 10:24 AM   رقم المشاركة : 9
الكاتب

أفاق الفكر

مراقب

مراقب

أفاق الفكر غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








أفاق الفكر غير متواجد حالياً


رد: ٍاصول الفقه في سؤال وجواب



الترجيح المقاصدي بين النصوص المتعارضة
مقدمة البحث ١
الباب الأول: مصطلحات ومفاهيم ٣
١٧ – المبحث الأول: ٤
مصطلح الترجيح المقاصدي ٤
المدلول الإفرادي للترجيح المقاصدي ٤
المدلول التركيبي للترجيح المقاصدي ٩
مفهوم الترجيح المقاصدي ١٠
المدلول العلمي للترجيح المقاصدي ١٠
الترجيح المقاصدي في الأدب الأصولي ١٢
٢٧ – المبحث الثاني: ١٨
مصطلح النصوص المتعارضة ١٨
المدلول الإفرادي للنصوص المتعارضة ١٨
المدلول التركيبي للنصوص المتعارضة ٢٢
مفهوم النصوص المتعارضة ٢٣
المدلول العلمي للنصوص المتعارضة ٢٣
النصوص المتعارضة في الأدب الأصولي ٢٥
الباب الثاني: الترجيح المقاصدي بين النصوص المتعارضة ٢٨
٣٥ – المبحث الأول: ٢٩
الترجيح ومقاصد الشرع ٢٩
المقارنة بين الترجيح ومقاصد الشرع ٢٩
القيم المقاصدية في إعمال الترجيح ٣٤
٤٦ – المبحث الثاني: ٣٦
وجوه الترجيح المقاصدي بين النصوص المتعارضة ٣٦
جلب المنفعة ودفع المفسدة ٣٧
مراتب المصالح الثلاث ٤٠
الضروريات الخمس ٤٣
خاتمة البحث ٤٧
المصادر والمراجع ٤٩
١
مقدمة البحث
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله
وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
إن الشريعة الإسلامية متمثلة في كياا منزلة من الشارع الحكيم في صورا
النصية والحكمية، وتتصف هذه الشريعة بخصية التكامل أو التناسق بين أجزائها وأطرافها
حيث إا تتأصل في الجذر السماوي الذي يتكفل على حفظه الشارع الخبير، وكذلك
شأنه المعتصم من التحريف والتبديل والدخل المخلوقي المتصف بالجهل والظلم يعضد
اختصاصها ذا التكامل والتناسق.
وقد يتبادر إلى أذهان المخاطبين باقتضاء الشريعة ما ينافي هذه الميزة إذ يرون أن ثمة
التناقض في نصوص الشريعة التي تفيد التعارض بين الأحكام التي تثبتها، وهذا التعارض
يتصور في اقتضاء نص من النصوص الشرعية على ما يخالف لاقتضاء نص آخر، فألجأم
هذا الحالة إلى موقفين متذبذبين بين الإقدام على النصوص المتعارضة مطلقا وبين التغافل
عنها مطلقا، وهما يستحيلان عقلا وشرعا، وهذا لأن ورود النصوص من أجل الطاعة
بأحكامها، ففي الموقف الأول استحالة لعدم التمكن من الجمع بين الأضداد، وفي الموقف
الثاني استحالة لنبذ النصوص إلى عدم إعمالها وتحقيق العبث والسدى في خطاب الشارع.
وهذا التعامل بين العقل الإنساني وخطاب الشارع ينتج تصورا علميا لدى العلماء
في أم بحاجة ملحة إلى وضع القوانين والضوابط فيه احتياطا من رمي الشبهات والشكوك
من قبل المتجاهلين والمتطفلين في العلم، ورسموا ما يخص بالتركيز على معالجة هذا التعارض
الواقع بين النصوص الشرعية، وصرحوا في بداية حديثهم عنه بأن هذا التعارض ظاهري
المنظر صوري المرأى حيث إنه لم يكن حقيقيا عند واضع الشريعة، ويترتب على عقبه
القول بالنظر النسبي الذي يعترف التعارض فيه وهو اتهد الذي يحس به حين تداوله
الاستنباط من النصوص، وهذا يتطلب من العلماء استقلالية البحث في ما يظهر لهم من
التعارض في النصوص.
والقانون الذي وضعه أهل العلم في درء التعارض تمحور أصلا حول التوفيق بين
مختلف الحديث، وهو من مهمات المحدثين حين تصدوا لدلالات متباينة التي أثبتتها
٢
الأحاديث، ثم ط  وره الأصوليون في طياة مضامين فن أصول الفقه بإصباغ لون جديد في
المنهج المتعارف عليهم حين تلقوا بالنصوص المتعارضة، وفي أياديهم ازدهر هذا القانون
يئة منظمة محتوية على أطراف شاملة من عرض التعارض في دلالات النصوص وأبعادها
الداخلية والخارجية ومراتبها وأنماطها والتعارض في اجتهادات العلماء وفتاويهم وأقضيتهم،
ووضعوا كذلك ما يصلح أن يكون دارئًا للتعارض ومزيلا له من مناهج ومسالك،
وتراعى حين العمد إلى السير بما يدرأ التعارض قدسيُة النصوص الشرعية ومقصدها في أا
أنزلت إلى البشر من أجل إعمالها وطاعتها وليس إهمالها ومعصيتها.
وه  م هذه الدراسة يكمن في النظر في إحدى طرق درء التعارض حيث منها تنطلق
الخطوة الأولى إلى التغلغل في الجانب الكلي الذي تتجه إليه النصوص الشرعية وأحكامها،
وبصيغة أصولية أنه دراسة في نظرية ترجيح النصوص المتعارضة المعتمد على مفهوم مقاصد
الشرع ومنهجه وكيفياته وآفاقه، وبالتحديد أن هذه الدراسة تتوقف على عنصرين هامين
وهما: الترجيح المقاصدي والنصوص المتعارضة حيث عليهما تبنى إجابات للسؤال المثار في
صلاحية توظيف مقاصد الشرع لدفع التعارض الظاهر في النصوص الشرعية من الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية.
واضطرت الدراسة الباحث إلى الكشف عن الأبعاد المقاصدية في النصوص الشرعية
بغية العثور على ما يلائم القيام بالترجيح حين حالتها في التعارض، وكذلك تطلبت من
الباحث الإحاطة بالإطار المفهمي لمقاصد الشرع ليرى إمكانية إدماج المقاصد في الترجيح
وتصبح إحدى مسالك التراجيح في الأدب الأصولي، وصورة هذه النظرية تتمثل في إزالة
تعارض دلالات النصوص بترجيح إحداها وفق مقاصد الشرع، والذي يراعي أكثر حظا
من مفهوم مقاصد الشرع أولى بالتقديم وأرجح على الذي يراعي أقله.
إن إيصال عملية الترجيح إلى مقاصد الشرع أمر ضروري، وهذا لأن المقاصد
عبارة عن آفاق الشرع وحدوده التي تحافظ عليه من التجاوز والتضييق، وفي التجاوز
خوض في غير شرعيات وفي التضييق ركود في شرعيات، وأخيرًا نسأل الله تعالى أن يوافقنا
ويعيننا في إنجاز هذا العمل المتواضع ويجعلنا ممن يخدم كتابه وسنة نبيه والمسلمين جمعاء،
والله خير المقصد.
٣
الباب الأول
مصطلحات ومفاهيم
خص هذا الباب بتداول مقدمات هامة التي تمهد الدراسة للتطرق إلى تفاصيل الحديث عن
الترجيح المقاصدي بين النصوص المتعارضة. وهذا التمهيد يركز على التعريف بمصطلحات
مفتاحية التي ا نخوض في لب الدراسة، وكذلك يركز على تفسير مفاهيم مبدئية التي منها
ننطلق إلى عرض مقصد الدراسة. والاستيعاب الشامل لمصطلحات متداولة في هذه
الدراسة هام بغية علم بأرضية البحث التي يدور حول دلالات هذه المصطلحات، وكذلك
الفهم الكامل لمفاهيم متناولة في هذه الدراسة مه  م بغية معرفة بخلفية البحث التي يتمحور
حول مقتضيات هذه المفاهيم. وتحقيقا للقصد من وضع هذا الباب، يتولد منه مبحثان
اللذان يدرسان مصطلحات الدراسة ومفاهيمها، فأولهما يقدم على دراسة الترجيح
المقاصدي في كونيه مصطلحا علميا ومفهوما منهجيا، وثانيهما يقدم على دراسة النصوص
المتعارضة في كونيها مصطلحا علميا ومفهوما منهجيا. والباب يهدف بمبحثيه إلى تأطير
صورة الترجيح المقاصدي في النصوص الشرعية المتعارضة حيث به تتضح الخطوة الأولى في
السير مع هذه الدراسة.
٤
المبحث الأول:
مصطلح الترجيح المقاصدي
عنى هذا المبحث النظر في مصطلح "الترجيح المقاصدي" من مدلوليه الإفرادي والتركيبي
اللذين ما يتم التعرف عليه ويكون القول به مسبوقا بفهمه، وثنائي النظر الذي يلفت إليه
من أجل مراعاة طبيعة المصطلح التي تتأصل إلى دلالتين.
إن عملنا في إخضاع هذا المصطلح إلى مدلوليه الاثنين لم يكن خارقا للعادة التي
سار عليها القدامى، بل والوقوف على عناصر المصطلح المتركب لدراستها أمر مسّلم عند
المنطق، وكما فعله الأصوليون حين تصدوا للتعريف بعلم أصول الفقه أووا إلى هذه العملية
التحليلية، وحتى اشتهر لديهم القول ب "أن تعريف المركب يتوقف على تعريف مفرداته
ضرورة توقف معرفة الكل على معرفة أجزائه"، ١ والنظر في جزئيات المصطلح يعين النظر
في كلياته، وثمة ربط نعتي بين العبارتين فيه حيث يتطلب منا بيان أثر هذا الربط في تعريف
المصطلح، لأن الوصف يرسم للموصوف خطا دائريا حين تشغليه وتوظيفه في الوضع
التعريفي، وفيه تقييد لإطلاقه وتخصيص لعمومه وتبيين لإجماله.
المدلول الإفرادي للترجيح المقاصدي:
وكما أشرنا سابقا إلى أن مصطلح "الترجيح المقاصدي" متكون من العبارتين "الترجيح"
و"المقاصد"، وهما يمثلان موضعين من مواضيع فن أصول الفقه اللذين وضعا غالبا في اية
صفحات علم الأصول، ونلفت النظر إليهما كمصطلحين مستقلين اللذين يفيد كل واحد
منهما دلالة لغوية واصطلاحية.
دلالة الترجيح: كلمة الترجيح تعود إلى جذرها اللغوي ر  جح ويرجح وترجيحا،
وهو على وزنه الصرفي التفعيل وبناؤه يفيد التكثير، ٢ وقد ورد في مختار الصحاح أنه يعني
١ محمد بن علي بن محمد الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، تحقيق: أبو مصعب محمد سعيد
البدري (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، ط- ١٩٩٥ ،٦ م) ص ١٧
٢ إبراهيم بن عبد الوهاب الزنجاني، متن البناء ومتن التصريف العزى، (مصر: مطبعة دار إحياء الكتب العربية،
١٢٧٦ ه) ص ٤
٥
رجح الميزان رجحان فيهما أي مال وأرجح ور  جح ترجيحا أي أعطاه راجحا، ٣ ويبدو أن
الرازي رحمه الله ذهب إلى تعريف الترجيح لغة بالميل لاستخدامه في الوزن بين الشيئين،
فإحدى الكفتين مالت إلى ما هو أثقلهما. وكذلك ما ورد في لسان العرب بأن كلمة
ر  جح من رجح، ورجح الشيء بيده وزنه ونظر ما ثقله، وأرجح الميزان َأي أثقله
حتى مال، ٤ ويبدو أن ابن منظور رحمه الله س  وى بين رجح ووزن لهدف كليهما إلى
تمييز الأثقل من الأخف، فيكون الأثقل هو الأرجح، ودليل لتعيين الأثقل ميل إحدى
الكفتين.
ودلالة الترجيح اصطلاحا تعود إلى الأدب الأصولي الذي ط  ورها من مجالها الضيق
في توفيق بين مختلف الأحاديث إلى مجالها الفسيح في عملية دفع التعارض بين النصوص
والأحكام والاجتهادات. ولا نرى ثمة ضرورة سرد كل تعاريف الترجيح التي تداول
الأصوليون في كتابام في هذه الدراسة الموجزة، إلا أن نتعارف على بعضها ونستخلص
بعدها ما يعيننا في فهم الترجيح كعميلة أصولية منهجية.
ونضع في بداية هذا الكلام ما ذكره السرخسي رحمه الله في تعريف الترجيح حيث
أنه يمثل التعريف عند الأصوليين الأحناف، ويقول: "تفسير الترجيح لغة إظهار فضل في
أحد جانبي المعادلة وصفا لا أصلا، فيكون عبارة عن مماثلة يتحقق ا التعارض، ثم يظهر
في أحد الجانبين زيادة على وجه لا تقوم تلك الزيادة بنفسها فيما تحصل به المعارضة أو
تثبت به المماثلة بين الشيئين"، ٥ ويفهم من هذا التعريف أن الترجيح يكون بزيادة وصف
في أحد المتعارضين ٦ وليست هذه الزيادة في أصله، أي الترجيح بالوصف دون الأصل،
لأن وجود الوصف الزائد يجعله أصله مفضلا على ما ليس له هذا الوصف.
٣ محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، مادة رجح (مصر: مطبعة مصطفى الحلبي وأولاده،
١٩٥٠ م) ص ٢٥٤
، ٤ أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، مادة رجح (بيروت: دار صادر، ط- ١
١٩٩٠ م) ج ٢ ص ٤٤٥
٥ أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، أصول السرخسي، تحقيق: رفيق العجم (بيروت: دار المعرفة،
ط- ١٩٩٧ ،١ م) ج ٢ ص ٢٣٣

٦ عبد اللطيف عبد الله عزيز البرزنجي، التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، بحث أصولي مقارن بالمذاهب
الإسلامية المختلفة (بيروت: دار الكتب العلمية، ١٩٩٦ م) ج ١ ص ٧٧
٦
ثم نذكر ما يمثل تعريف الترجيح عند الأصوليين الشافعية وهو ما عرفه فخر الدين
الرازي رحمه الله بأنه "تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى فيعمل به ويطرح
الآخر"، ٧ ويفهم من هذا التعريف أن الترجيح يعمله اتهد ٨ ليهدف إلى نيل أقوى
المتعارضين حسب قدرته على تقويته فتكون قوته نسبية له دون غيره، والأقوى هو
الأرجح وغيره مرجوح، فالمرجوح لا يعمل بل ويهمل حين حضور الأرجح، والراجح
يتأتي حين يقع التعارض في أكثر من الطريقين، وهو لم يقل به الرازي رحمه الله.
ويود الباحث سرد تعريفا مستخلصا من دراسة تعريفات الأصوليين لمصطلح
الترجيح ومناقشتها، وهو تعريف البرزنجي رحمه الله المختار لديه الذي يكون ب "تقديم
اتهد بالقول أو بالفعل أحد الطريقين المتعارضين لما فيه من مزية معتبرة تجعل العمل به
أولى من الآخر"، ٩ ويفهم من هذا التعريف أن الترجيح يقع في الطريقين المتعارضين الاثنين
ولم يقع في أكثر من الاثنين، وظاهر المسألة ينافي هذا التحديد لوجود بعض التعارضات
الواقعة في أكثر من الطريقين لأن التعارض بين الثلاثة وأكثر جائز في العقل كالتعارض بين
الأضداد مثل الأسود لم يعارضه الأبيض فحسب بل كل الألوان يعارضه من حيث دلالته
التي تقتضي السواد، فينتج منه مصطلح الراجح الذي يتوسط الأرجح والمرجوح، وهذا لم
ينتبه إليه المعرف، وقد يقصد الأغلب من التعارض بين الطرق.
وقد تبعه الحفناوي في تعريفه للترجيح إلا أنه لم يذكر القيد "بالقول أو بالفعل"،
ولكنه ذكره أثناء شرحه في المراد بالتقديم بل وزاد فيه الكتابة، أي كأن يكتب اتهدون
في كتبهم ومؤلفام ما يستفاد منه تقديم دليل على آخر، ١٠ والظاهر أن الكتابة تدخل في
الفعل، وقد يقصد من ذكرها الانتباه لضرورا في تصريح اتهد بترجيحه للقضايا
المتعارضة في الشرع.
٧ أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين فخر الدين الرازي، المحصول في علم الأصول، تعليق: محمد عبد القادر عطا
(بيروت: دار الكتب العلمية، ط- ١٩٩٩ ،١ م) ج ٢ ص ٣٨٨
٨ البرزنجي، التعارض والترجيح، المرجع السابق، ج ١ ص ٧٨
٩ المرجع نفسه، ج ١ ص ٨٩
١٠ محمد إبراهيم محمد الحفناوي، التعارض والترجيح عند الأصوليين وأثرهما في الفقه الإسلامي (المنصورة: دار
الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط- ١٩٨٧ ،٢ م) ص ٢٨٢ وما بعدها.
٧
دلالة المقاصد: كلمة المقاصد ترجع إلى جذرها اللغوي قصد ويقصد وقصدا،
والمقاصد جمع المقصد، والمقصد مصدر ميمي للقصد، والقصد له معنيان إتيان الشيء
والعدل، وَق  صده أي نحا نحوه، ١١ والمقصد يضاهي القصد في دلالته إلا أنه يغاير له في
الشكل الصرفي، ويبدو لنا أن ما يقرب إلى المراد في هذه الدراسة هو دلالته في أنه يعني نحا
وينحو ونحوا. وذكر ابن منظور رحمه الله كلام ابن جني رحمه الله في أصل كلمة قصد في
الحقيقة في أنه يقع لمعان الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء، ١٢ ففي هذا
التفسير للقصد تفصيل لما اقتصر عليه الرازي رحمه الله سابقا، في أن القصد يعني هذه
الكلمات الأربع والنحو، وهي تدور حول دلالة واحدة التي تنضوي تحتها دلالة القصد
اللغوية وهي إرادة الإقدام أو عمليته على غاية ما حيث لم يحكم بوجوده بدوا.
ودلالة المقاصد الاصطلاحية لها صلة وطيدة بما نوقش في دلالتها اللغوية، إلا أا لم
تنتهج بالمنهج الذي تصطلح فيه دلالتها الاصطلاحية، فهي مبحث ذو بال في مباحث علم
أصول الفقه بل وفي كل علوم التي تتخذ وفق المنظور الشرعي. وهذا المصطلح كان فكرة
غير منضبطة لدى الأصوليين القدامى، ولذلك ما كانوا يتعارفون عليه كمصطلح أصولي،
وما صرحوا به في كتابام الأصولية، ومع ذلك ط  وروه كفكرة ونظرية في فهم غايات
موضوعة للشريعة الإسلامية.
وقد اتضح هذا بعد مجيء الشاطبي رحمه الله بكتابه القيم "الموافقات في أصول
الشريعة"، وقد وضع منهجا جديدا لكتابة علم الأصول بناء على مفهوم المقاصد.
والشاطبي رحمه الله مع مكانته هذه لم يكن يتعرض لوضع تعريف وح  د لمصطلح المقاصد،
وقد اكتفى بذكر قسمي المقاصد في بداية الحديث عنها حيث ميز قصد الشارع من قصد
المكلف، ١٣ وقد أشار إلى سبب هذا الريسوني في كتابه "نظرية المقاصد". ١٤ والذي نراه أن
١١ الرازي، مختار الصحاح، مادة قصد، المصدر السابق، ص ٥٦٢
١٢ ابن منظور، لسان العرب، مادة قصد، المصدر السابق، ج ٣ ص ٣٥٥
١٣ أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، شرح: عبد الله دراز (بيروت: دار الكتب
العلمية، د.ت) ج ٢ ص ٣
١٤ أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي (الرياض: الدار العالمية
للكتاب الإسلامي، ط- ١٩٩٢ ،٢ م) ص ٥
٨
الشاطبي رحمه الله قد عرف المقاصد من خلال عرضه لتفاصيلها التي لم تكن متداولة عند
سابقيه، وهذا التعريف في صورة مط  ولة ومتشبعة بين أطراف حديثه عنها في هذا الكتاب.
وثمة عالم في المقاصد الذي لم يتم الحديث عنها بدون ذكره، وهو ابن عاشور
رحمه الله الذي كتب "مقاصد الشريعة الإسلامية"، وتطرق فيه إلى تعريف المقاصد تعريفا
ذا قسمين، والتعريف المبدئي هو "مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة
للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع
خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا
يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في
سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها". ١٥
وقول ابن عاشور رحمه الله بأن هذا التعريف لمقاصد التشريع العامة يدل على أنه
أراد التفريق بين المقاصد العامة والمقاصد الخاصة، وقد أشار إليها بأا تعني "الكيفيات
المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفام
الخاصة،… ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس". ١٦
وهناك تعريف آخر للمقاصد الذي ذكره علال الفاسي رحمه الله في كتابه "مقاصد
الشريعة الإسلامية ومكارمها" حيث يقول فيه: "المراد بمقاصد الشريعة الغاية منها والأسرار
التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامه". ١٧ ونستخلص من هذه التعريفات أن
المقاصد هي المعاني والغايات التي وضعت كل أحكام الشرع من أجلها حيث إن سمة هذه
المقاصد العليا تتمحور حول جلب المنفعة ودفع المفسدة.
وهذا ما يسهل لنا عرض المدلول الإفرادي لمصطلح الترجيح المقاصدي بدراسة
كلي جزئيه من منظوريهما اللغوي والاصطلاحي، ونعمد بعده إلى النظر في المدلول
التركيبي لهذا المصطلح.
١٥ محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد الطاهر الميساوي (كوالا لمبور: البصائر
للإنتاج العلمي، ط- ١٩٩٨ ،١ م) ص ١٧١
١٦ المصدر نفسه، ص ٣٠٠ وما بعدها.
١٧ نق ً لا عن الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المرجع السابق، ص ٦
٩
المدلول التركيبي للترجيح المقاصدي:
وقد مر بنا الحديث عن المدلول الإفرادي لهذه العبارة، وفي هذا الطرف من الدراسة يه  منا
الكلام على مدلوله التركيبي أي دلالته في كونه مصطلحا واحدا يفيد معنى معينا في ف  ن
أصول الفقه.
دلالة الوصف في المصطلح: مصطلح الترجيح المقاصدي من حيث التركيب هو
مركب جزئي وصفي، حيث إن لفظ المقاصد صفة أو نعت ١٨ للفظ الترجيح وهو
الموصوف، ووجود حرف ياء النسبة في لفظ المقاصد يدل على أا تتخذ بصيغة الصفة أو
النعت للفظ الترجيح. والصفة لها أثر في الموصوف ا ضرورة، لأن الصفة إذا وضعت
للموصوف مع قصد عدم أثرها فهذا محال، بل كون الموصوف موصوفا لسبب طروء
الصفة إليه. ومهمة الصفة في الموصوف تتصور في أا رسمت له إطارا دلاليا حيث به
يح  دد الموصوف ويعين، ولكنها لم تحجز نظائرها منه، وقولنا: التفاح الأخضر يلزم منه
تحديد التفاح وتعيينه بكونه أخضر، مع جواز اتصافه بغيره كالأحمر والأصفر.
وفي هذا المصطلح يحتل المقاصد محل الصفة والترجيح في محل الموصوف، والعلاقة
الوصفية بين الترجيح والمقاصد تعطي لكليهما إطارا دلاليا، وهذا الإطار الدلالي يقتضي
اتصاف الترجيح بالمقاصد حيث مدار الترجيح منضبط بما يراد به المقاصد، ويخ  ضع
الترجيح على وفق قوانين المقاصد ومسيراا. ومن حيث التعريف العلمي لهذا المصطلح
ننض  م تعريف الترجيح ١٩ إلى تعريف المقاصد ٢٠ ويكون عملية الترجيح منبنية على مقاصد
الشرع، ومطلق التقديم في تعريف الترجيح مقيد بمقاصد الشرع، وعمومه مخصص ا.
وهذا ما يسهل لنا عرض المدلول التركيبي لمصطلح الترجيح المقاصدي بدراسة
العلاقة الوصفية بين جزئيه، ويكون المصطلح أوضح في ما يأتي من الحديث عن مفهومه
العلمي الأصولي.
١٨ أن الصفة والنعت عند النحويين شيء واحد، والنعت اسم الفاعل نحو ضارب والمفعول نحو مضروب أو ما يرجع
،( إليهما من طريق المعنى نحو مثل وشبه، (انظر: الرازي، مختار الصحاح، المصدر السابق، مادة وصف، ص ٧٥٠
والذي نراه أن الوصف أعم من النعت، بدليل ما تعارف الناس عليه في هذا التفريق.
١٩ انظر إلى صفحة ٦
٢٠ انظر إلى صفحة ٨
١٠
مفهوم الترجيح المقاصدي
عنى هذا الجزء الثاني من المبحث الأول النظر في مفهوم الترجيح المقاصدي بعد أن لفتنا
النظر في تعريفه الاصطلاحي، وندرس في هذا اال مدلولا علميا للترجيح المقاصدي الذي
يتكون من الجانبين من جوانب أصول الفقه، وكذلك ندرس مدى تداول الأصوليين
بالترجيح المقاصدي في مناهجهم الاجتهادية.
المدلول العلمي للترجيح المقاصدي:
يعتني الحديث عن المدلول العلمي للترجيح المقاصدي بالنظر في عرض مفردات الترجيح
بقيود مقاصد الشرع حيث به نفهم المراد بالترجيح المقاصدي، ويكون هذا النظر معتمدا
على التعريفات الفارطة لهما، ونأخذ تعريف الترجيح كمفهوم مبدئي وتعريف المقاصد
كمفهوم توصيفي، والتوصيف يعمد إلى توظيف المبدأ في مقتضى أوصاف وحدود معينة.
ومن التعريف السابق لمصطلح الترجيح عند البرزنجي رحمه الله، تستخلص منه
مفرداته التي قام المعرف بتحليلها جامعا ومانعا. وكذلك التعريف لمصطلح المقاصد سابقا
عند ابن عاشور رحمه الله فيه عناصره التي لا بد من الوقوف عليها للكشف عن صلاحية
إدراجها تحت مدلول الترجيح. ونرى ضرورة التقسيم الأحادي لكلتي مفردات الترجيح
وعناصر المقاصد بغية العثور على مفهوم هذا المصطلح، وهو كما يأتي:
١) تقديم – وهو فعل اتهد ٢١ وليس فعل الشارع، لأن الترجيح قضية ظاهرية عند )
اتهد وليس قضية حقيقية عند الشارع، وإدخال عنصر من عناصر المقاصد هنا في
أن التقديم كما أنه يشير إلى تفاوت قوة الأدلة في مفهوم الترجيح، وكذلك يشير إلى
تفاوت قوة المعاني والحكم في مفهوم المقاصد، وهذا مثل تقديم المعاني في المقاصد
العامة على المعاني في المقاصد الخاصة. ٢٢
٢) اتهد – وهو القائم ذا التقديم يملك أهلية الاجتهاد التي اشترطها العلماء، وعنصر )
المقاصد هنا هو ضرورة إحاطة اتهد بعلم مقاصد الشرع، وهذا قد ذكره الشاطبي
٢١ البرزنجي، التعارض والترجيح، المرجع السابق، ج ١ ص ٩٠
٢٢ ابن عاشور، مقاصد الشريعة، المصدر السابق، ص ١٧١ و ٣٠٠
١١
رحمه الله الذي جعل فهم مقاصد الشريعة على كمالها شرط لحصول درجة
الاجتهاد، ٢٣ وقد تبعه بعض المعاصرين كالزحيلي ٢٤ وزيدان، ٢٥ وغيرهما.
٣) أحد الطريقين المتعارضين – والطريق كل ما يوصل المكلف إلى الأحكام الشرعية، ٢٦ )
ويدخل فيه النصوص وغيرها، ولكن المراد في هذه الدراسة النصوص من الكتاب
والسنة، وعنصر المقاصد هنا يتضح في الأبعاد المقاصدية في النصوص ٢٧ بحيث يجرى
الترجيح بين النصوص المتعارضة بالنظر إلى هذه الأبعاد وتفاوت المعاني والحكم
الملحوظة فيها.
٤) مزية – وهي القوة والفضل والزيادة ٢٨ التي ا يعمل التقديم والترجيح بين )
المتعارضين، ونرى أن هذا الجزء من تعريف الترجيح أبرز من غيره في فهم المصطلح
لأن يدخل في هذه المزية المعاني والحكم والغايات التي يعنيها مقاصد الشرع، وهذه
المزية قد تكون وصفا للدليل، وقد تكون حجة مستقلة له، ٢٩ وأما المزية المقاصدية
فهي تكون داخلية للدليل من جانب أا المعاني والحكم، وتكون خارجية له من
جانب أا الغايات والأهداف.
٥) معتبرة – وهي تؤول إلى اتفاق العلماء على اعتبار المزية، وأما المزايا الضعيفة )
والمختلف فيها لا تدخل في الترجيح، ٣٠ ومقاصد الشرع بمعنى المعاني والحكم معتبرة
عند جمهور العلماء إلا شرذمة قليلة، ولكن المراد العام بالمعاني اعتبره جميع أهل العلم
بأن الشرع له المعاني من أحكامه. ٣١
٢٣ الشاطبي، الموافقات، المصدر السابق، ج ٣ ص ٧٦
٢٤ وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، (بيروت: دار الفكر المعاصر، ط- ٢٠٠١ ،٢ م) ج ٢ ص ١٠٧٧
٢٥ عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول القفه، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط- ١٩٩٩ ،٧ م) ص ٤٠٥
٢٦ البرزنجي، التعارض والترجيح، المرجع السابق، ج ١ ص ٩١
٢٧ المزيد من التفصيل للبعد المقاصدي في النصوص الشرعية راجع المبحث الثاني من الباب الثاني من هذا البحث.
٢٨ البرزنجي، التعارض والترجيح، المرجع نفسه، ج ١ ص ٩٥
٢٩ المرجع نفسه، الصفحة نفسها
٣٠ المرجع نفسه، الصفحة نفسها
٣١ أشار الريسوني إلى أن ابن حزم رحمه الله الذي لم يقل بمعاني الأحكام اعتبرها وأطلقها على مقاصد الأحكام،
انظر: الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المرجع السابق، ص ١٥
١٢
٦) أولى – دلالة الأولى في الترجيح تقتضي أولوية تقديم الدليل المحّلى بالمزية على الدليل )
الغير المحّلى ا، وهذه الأولوية لم تبطل الدليل المق  دم عليه أو المرجوح، وله قابلية
للاستدلال به حينا ما، وفيها مراعاة قدسية الدليل الذي يلزم العمل به وليس الإهمال
عنه، والأولوية تشير إلى تفاوت مراتب المعاني في النصوص الشرعية.
وبعد التصدي للتقسيم الأحادي لتعريف الترجيح وإخضاعه تحت مفهوم المقاصد،
فنتمكن من الاكتفاء به لفهم هذا المصطلح، ونستغني عن صياغة تعريف خاص مستقل له
نظرا لوضوحه وعدم احتياجه إليه، لأن بصياغة تعريف له قد يؤدي إلى وضع الآفاق التي
لم تقصدها الدراسة.
الترجيح المقاصدي في الأدب الأصولي:
والذي يه  مه هذا الجزء من الدراسة هو الخوض في الميدان التاريخي أو التراث الأصولي
لمصطلح الترجيح المقاصدي، وهو يدرس مدى تناول الأصوليين به في ف  ن أصول الفقه،
ويكون تناولهم في أنه فكرة ومنهجا فحسب وما تعرضوا لكونه ذا الهيئة الاصطلاحية،
ولم نقف – حسب اطلاعنا الغير الواسع – على هذا المصطلح في كتابات قدامى
الأصوليين بل وهو مختلق من عندنا، ونرى أن هناك مصطلحات أصولية التي تنسب إليها
عبارة "المقاصد"، ٣٢ ونعتقد أن العبرة بما هو يعبر الفكرة ولا بأس بالمصطلح.
وإن الترجيح المقاصدي في التراث الأصولي قد مر على مراحل، وفي بدايته ٣٣ أنه
منهج في معالجة تعارض الأحاديث، وقد ألف العلماء كتبا فيه ومنهم الإمام الشافعي رحمه
الله الذي صنف "مختلف الحديث"، وابن قتيبة رحمه الله الذي صنف "تأويل مختلف
٣٢ وقد استخدم الباحثون هذه العبارة في عناوين كتابام، ويمكن ذكر بعضها هنا: الاجتهاد المقاصدي: حجيته
وضوابطه ومجالاته لنور الدين بن مختار الخادمي وهو كتاب منشور، والاجتهاد المقاصدي عند العز بن عبد السلام
لأم نائل بركاني والتأصيل المقصدي للأدلة الاجتهادية المختلف فيها لبوهدة غالية وهما رسالتان غير منشورتين.
٣٣ إن تأريخ الأدب الأصولي بدأ منذ عهد الرسالة من حيث إنه منهج اجتهادي، ولكن التعارض الذي يقتضي
الترجيح لم يكن واقعا لأن الوحي ما زال نازلا، وقد وقع جزء من درء التعارض وهو بصورة النسخ. وأما في عهد
الصحابة رضي الله عنهم وقعت هذه الظاهرة وعمدوا إلى الترجيح، بل وهم اختلفوا في الترجيح ومناهجه، ومثال
ذلك مسألة وجوب الغسل في الجماع مطلقا ينزل أم لم ينزل.
١٣
الحديث" و"مشكل القرآن" والتبريزي رحمه الله الذي كتب "مشكاة المصابيح" واليزيدي
رحمه الله الذي ألف رسالة في "التعارض والترجيح" والطحاوي رحمه الله الذي كتب
"تأويل مشكل الآثار". ٣٤ وبعد أن ترعرع فن أصول الفقه بظهور العلماء المهتمين بكتابة
المؤلفات الأصولية ونشأت المذاهب الفقهية التي انتهجت على أصول مختلفة صارت مسألة
الترجيح جزءا من هذا العلم، واتخذ صبغة جديدة فسيحة مما كان فيه. والإمام الشافعي
رحمه الله هو أول من كتب في أصول الفقه في كتابه "الرسالة"، ثم تلاه الأصوليون في
كتابة الكتب الأصولية التي سارت على مناهج مختلفة، وتحدثوا عن الترجيح في مبحث
التعارض وكيفية دفعه. وقد أدخل بعضهم مفهوم مقاصد الشرع في الترجيح، مع أم ما
أفردوه في بحث مستقل إلى أن جاء الشاطبي رحمه الله بكتابه "الموافقات"، وأظهر مدلول
هذا المصطلح فيه، وط  وره من بعده من العلماء.
وإذا تصفحنا مؤلفات الأصوليين سنجد أن فيها إشارات إلى مفهوم الترجيح
المقاصدي، وقد تحدثوا عنها في شتى مواضع من علم أصول الفقه، ومنهم من أخذ
بالترجيح المقاصدي في القياس أو العلة بوجه خاص، حين تعرضوا لبيان المناسبة وتقسيم
العلة في القياس، ومنهم من ذكره في مبحث التعارض والترجيح، وأدخلوه في الترجيح
بالمعاني، ومنهم من أشار إليه في مبحث مقاصد الشرع، وجعلوه في مراتب المصالح حين
تعارض بعضها بعضا. وليس همنا في هذا الباب التمهيدي أن نورد كل ما كتبه الأصوليون
في الترجيح المقاصدي لأن فيه نوع من التوسع والتعمق. إلا أننا نرى ضرورة سرد بعضا
منهم ولا سيما الذين أفردوه في مبحث مستقل.
فخر الدين الرازي رحمه الله (ت ٦٠٦ ه):
وفي كتابه "المحصول في علم الأصول" تحدث عن فكرة الترجيح المقاصدي في باب الكلام
في التعادل والترجيح في القسم الرابع في تراجيح الأقسية، ويقول في ترجيح بعض
المناسبات بأنه: "…والمصلحة الدينية إما أن تكون في محل الضرورة أو في محل الحاجة أو
في محل الزينة والتتمة، وظاهر أن المناسبة التي من باب الضرورة راجحة على التي من باب
٣٤ البرزنجي، التعارض والترجيح" المرجع السابق، ج ١ ص ٩
١٤
الحاجة، والتي من باب الحاجة مقدمة على التي من باب الزينة…"، ٣٥ ويتضح مما ذكرنا
من كلام الرازي رحمه الله أنه أدخل مقاصد الشرع في الترجيح، وأن المقاصد تدور حول
مفهوم المناسبة التي اعتبرت من وصف العلية في القياس الأصولي.
الآمدي رحمه الله (ت ٦٣١ ه):
تعرض الآمدي رحمه الله لفكرة الترجيح المقاصدي عند تناوله للترجيحات العائدة إلى صفة
العلة، وهي تتمثل في أنواعها الثلاثة الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع
عشر، وقال: "أن يكون المقصود من إحدى العلتين من المقاصد الضرورية كما بيناه من
قبل، والمقصود من العلة الأخرى غير ضروري، فما مقصوده من الحاجات الضرورية أولى
لزيادة مصلحته وغلبة الظن به…"، ٣٦ ويبدو أن الآمدي رحمه الله سار على ما قاله
الرازي رحمه الله سابقًا، ٣٧ إلا أن الخلاف بينهما في أنه في ترجيح المناسبات عند الرازي
رحمه الله، وأما عند الآمدي رحمه الله أنه في الترجيح في صفة العلة.
ابن الحاجب رحمه الله (ت ٦٤٦ ه):
تبينت فكرة الترجيح المقاصدي عند ابن الحاجب رحمه الله في أنه وافق على ما أخذه
شيخه الآمدي رحمه الله، وكثيرا ما نرى أنه تحدث عن هذه الفكرة في تعارض الأقيسة،
وقد قال في كتابه "منتهى الوصول" أنه: "ويرجح بكون الضابط فيها جامعا للحكمة مانعا
لها على خلافه، والمناسبة على الشبيهة، والمناسبة من المقاصد الخمسة الضرورية على
غيرها، والحاجية على التحسينية…". ٣٨
٣٥ فخر الدين الرازي، المحصول، المصدر السابق، ج ٢ ص ٤٢٠
، ٣٦ علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: سيد الجميلي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط- ٣
١٩٩٨ م) ج ٤ ص ٢٨٦
٣٧ والقول بأن الجديد المفيد عند الآمدي رحمه الله في أنه أدخل المقاصد في باب الترجيحات غير سليم، لأن يدل
على أن الآمدي رحمه الله هو الأول من فعل هذا، ولكن فخر الدين الرازي رحمه الله وهو أقدم منه قد عمل ذلك،
وقد أشار إلى هذا الريسوني، انظر: الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المرجع السابق، ص ٤٢
٣٨ أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر ابن الحاجب، منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل،
(بيروت: دار الكتب العلمية، ط- ١٩٨٥ ،١ م) ص ١٨٢ وما بعدها
١٥
العز بن عبد السلام رحمه الله (ت ٦٦٠ ه):
وأشار العز رحمه الله إلى فكرة الترجيح المقاصدي في كتابه القيم "قواعد الأحكام"، وقد
قال في بداية هذا الكتاب: "وقد أمر الله تعالى بإقامة مصالح متجانسة وأخرج بعضها عن
الأمر، إما لمشقة ملابستها وإما لمفسدة تعرضها، ورجز عن مفاسد متماثلة وأخرج بعضها
عن الرجز إما لمشقة اجتناا وإما لمصلحة تعارضها…"، ٣٩ ويفهم من هذا أن المصالح
والمفاسد متعددة وإخراج بعضها لطروء المشقة إليها أو لوقوع التعارض من جهة مقابلة،
وقد صرح العز رحمه الله بالترجيح بيت المصالح والمفاسد في قوله: "…وأن التقديم أرجح
المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم
المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح
المرجوحة محمود حسن…"، ٤٠ وهذا أوضح من كلامه العام السابق وأن تقديم المصالح
على بعضها حسب أرجحها فأرجح وكذلك المفاسد عند التعارض بينها، والأرجح
يقتضي الراجحة والمرجوحة وتقديمه عليهما عند التعارض.
القرافي رحمه الله (ت ٦٨٤ ه):
إن القرافي رحمه الله أشار إلى هذه الفكرة حين تصدى للمناسب وأقسامه ووقوع التعارض
فيه، وقال: "والمناسب ينقسم إلى ما هو في محل الضرورات، وإلى ما هو في محل الحاجات،
وإلى ما هو في محل التتمات، فيقدم الأول على الثاني والثاني على الثالث عند التعارض"، ٤١
والقصد من ترجيح التعارض المبني على مقاصد الشرع ظاهر من كلام القرافي رحمه الله
ومن قبله، وأنه أشار إليه في تعارض الأقيسة التي عللها معنية للمناسبة، والمناسب له أقسام
متفاوتة، ويقدم أعلاها على أسفلها وأقواها على أضعفها.
٣٩ أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، مراجعة: طه عبد
الرؤوف سعد (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، ١٩٦٨ م) ج ١ ص ٥
٤٠ المصدر نفسه، والصفحة نفسها
٤١ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول،
تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، ط- ١٩٩٣ ،٢ م) ص ٣٩١
١٦
الإسنوي رحمه الله (ت ٦٨٥ ه):
وقال الإسنوي رحمه الله شارحا لكلام البيضاوي رحمه الله: "ويراعي عند التقديم بالمناسبة
تقديم المناسب الضروري ثم المصلحي ثم التحسيني ثم مكمل الضروري على المكمل
المصلحي ثم المكمل التحسيني، ثم يقدم الضروري المتعلق بالدين على الضروري المتعلق
بالدنيا، لأن الأول ثمرته السعادة الأبدية، والثاني ثمرته السعادة الفانية…ثم يقدم الضروري
المتعلق بحفظ الدين على الضروري المتعلق بحفظ النفس، والمتعلق بحفظ النفس يقدم على
المتعلق بحفظ النسب، والمتعلق بحفظه مقدم على المتعلق بحفظ العقل، والمتعلق بحفظه مقدم
على المتعلق بحفظ المال"، ٤٢ وهو على ج من قبله في تقديم ما بين المراتب الثلاث
للمصلحة وما بين الضروريات الخمس.
الشاطبي رحمه الله (ت ٧٩٠ ه):
والشاطبي رحمه الله لم يتحدث عن فكرة الترجيح المقاصدي في باب الترجيح كما فعله
سابقوه، ولكنه ف  صلها في باب المقاصد، ولكنه لم يصرح بالترجيح المعتمد على مقاصد
الشرع عند التعارض بينها، وقال: "المقاصد الضرورية في الشريعة أصل في للحاجية
والتحسينية، فلو فرض اختلال الضروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق، ولا يلزم من
اختلالهما اختلال الضروري بإطلاق…"، ٤٣ ويفهم منه أن الضرورية مقدمة على الحاجية
والتحسينية في حالة التعارض لأن الضرورية أصل لهما، والأصل أولى وأرجح بالتقديم،
ومثل هذا كثيرا في كلام الشاطبي رحمه الله في هذا الباب مع أنه لم يصرح بذلك.
ابن عاشور رحمه الله (ت ١٣٧٩ ه):
وقد أتى ابن عاشور رحمه الله بتقسيم مقاصد الشر إلى المرتبتين: القطعية والظنية، وقال في
هذا الصدد: "مثال المقاصد الشرعية القطعية ما يؤخذ من متكرر أدلة القرآن تكرار ينفي
احتمال قصد ااز والمبالغة، نحو كون مقصد الشارع التيسير…ومثال المقاصد الظنية
٤٢ شعبان محمد إسماعيل، ذيب شرح الإسنوي على منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي،
(القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، ١٩٧٦ م) ج ٣ ص ٢٣٨ وما بعدها
٤٣ الشاطبي، الموافقات، المصدر السابق، ج ٢ ص ١٣
١٧
القريبة من القطعي…مثل قوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار، فإنه داخل تحت
أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مثبوت منعه في الشريعة كلها في وقائع
جزئيات وقواعد كليات…واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتة
بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة، وبحسب خفاء
الدلالة وقوا." ٤٤ ونفهم من قطعية المقاصد وظنيتها أن القطعي مقدم على الظني عند
التعارض، وتفاوت مراتب الظنون في المقاصد يدل على أن الأعلى هو الأرجح.
وهذا مما يتسنى لنا عرض بعض العلماء الذين تطرقوا إلى فكرة الترجيح المقاصدي،
وقد وضح التطور الفكري الذي مر عليه الترجيح المقاصدي في التاريخ الأصولي، وهي قد
تكون هذه الفكرة رائدة عند المعاصرين حين تحدثوا عن أنواع الترجيحات،وأمثالهم
البرزنجي رحمه الله، ٤٥ والزحيلي، ٤٦ والحفناوي، ٤٧ وغيرهم.
وذا وصلنا إلى اية الحديث عن الجزء الأول من المصطلح الأساس لهذه الدراسة،
وجانبي الترجيح المقاصدي مصطلحا ومفهوما يرسمان لنا إطارا معرفيا عند تدواله في
الميدان التطبيقي في الباب الثاني، وقد ُفهم هذا المصطلح بعد هذا العرض المطول كأنه
منهج في درء التعارض الظاهري في الشرع، بل وهو مسلك ترجيحي الذي يدور حول
معاني الأحكام وإفضاءأا، وإعماله يتوقف على المعاني والإفضاءات.
٤٤ ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، المصدر السابق، ص ١٥٩ وما بعدها
٤٥ البرزنجي، التعارض والترجيح، المرجع السابق، ج ٢ ص ٣٢٧
٤٦ الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، المرجع السابق، ج ٢ ص ١٢٣٤
٤٧ الحفناوي، التعارض والترجيح، المرجع السابق، ص ٣٨٨
١٨
المبحث الثاني:
مصطلح النصوص المتعارضة
قام هذا المبحث بوظيفة مضاهية للمبحث الأول في دراسة مصطلح البحث، إلا أن الفرق
بين هذا المبحث الثاني والمبحث الأول الماضي في جزء المصطلح بحيث إن الأول يعتني
بدراسة الجزء الأول منه وهو "الترجيح المقاصدي"، وأما الثاني يعتني بدراسة الجزء الثاني
منه وهو "النصوص المتعارضة".
وما يبدو لنا أن هذه العبارة تكون على غرار العبارة السابقة في كوا متركبين من
الكلمتين اللتين أضيفت الأولى إلى الثانية بتعلق الوصف، فيكون عملنا هنا – كما عملنا
سابقا – إخضاع عبارة "النصوص المتعارضة" على دراستها في مدلوليها الإفرادي
والتركيبي، حيث إن مدلولها الأول نعرف به دلالة كلتي الكلمتين في منظوريهما اللغوي
والاصطلاحي، ونعرف بمدلولها الثاني دلالة الوصف فيها الذي يربط بينهما.
المدلول الإفرادي للنصوص المتعارضة:
القصد من وضع هذا الطرف من الدراسة هو الإحاطة بمقتضى المصطلح بتحليل جزئياته،
والذي يتبادر في أذهاننا أنه متكون من العبارتين "النصوص" و"المتعارضة"، وهما يشكلان
منطلقا أساسيا لفهم المصطلح الأول الذي طال الكلام عنه في المبحث السالف، ونلتف
النظر المتمعن إليهما من حيث إما مصطلحان مستقلان اللذان يفيد كل واحد منهما
دلالة لغوية واصطلاحية.
دلالة النصوص: كلمة النصوص جمع لكمة النص، وهي تؤول إلى جذرها اللغوي
ن  ص ين  ص ن  صا، ويقول صاحب مختار الصحاح: "ن  ص الشيء رفعه…ون  ص الحديث إلى
فلان رفعه إليه، ون  ص كل شيء منتهاه"، ٤٨ وقال صاحب لسان العرب: "الن  ص رفعك
الشيء، ون  ص الحديث ين  صه ن  صا رفعه، وكل ما ُأظهر فقد ن  ص"، ٤٩ وهو أن النص
المضاف إلى الحديث والكلام يعنى الإخبار والإيصال، وأما النص المطلق يعني الإظهار.
٤٨ الرازي، مختار الصحاح، المصدر السابق، مادة نصص، ص ٦٨٧
٤٩ ابن منظور، لسان العرب، المصدر السابق، مادة نصص، ج ٧ ص ٩٧
١٩
وإن مصطلح النص له دلالات عديدة عند الأصوليين، ومرة أنه نوع من أنواع
مصادر الأحكام، ومرة أنه قسم من أقسام دلالة الألفاظ على المعنى، ومرة أنه وصف
للدليل في دلالته وقوته. وننظر إلى ما تناوله الأصوليون في التعريف بالنص، وقال الغزالي
رحمه الله في هذا الصدد: "النص اسم مشترك يطلق في تعارف العلماء على ثلاثة أوجه:
الأول:…اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع…، الثاني: ما لا
يتطرق إليه احتمال أصلا…اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى…، الثالث:…ما لا
يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل…"، ٥٠ والمراد بالنص هنا قسم من أقسام دلالات
الألفاظ على المعاني، وهذا الذي اشتهر عند الأصوليين عندما تعرضوا لمصطلح النص.
والنص في إطلاق ثان يقتضي معنى آخر غير هذا المعنى للنص في تقسم دلالة
اللفظ، وهو"…كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة سواء كان ظاهرا أو نصا أو
مفسرا حقيقة أو مجازا عاما أو خاصا اعتبارا منهم للغالب…"، ٥١ وهو يشمل كل أنواع
دلالات الألفاظ، وكونه ملفوظا مفهوم المعنى قد يمنع من دلالات غير واضحة نحو المتشابه
وامل والخفي والمشكل.
وقد يطلق النص للمعنى العام ويندرج تحته كل نص سواء أكان ظاهرا أم نصا أم
مفسرا أم أو محكما، ٥٢ وقد يفهم من قوله كل نص أنه يشمل كل أنواع النصوص سوء
كانت الشرعية وغير الشرعية التوقيفية والتوفيقية الاجتهادية وغير الاجتهادية، وهذا لم
يراد به في هذه الدراسة.
وقد أورد معنى النص بالتفريق بين إطلاقه الأصولي وإطلاقه الفقهي، ويتضح معناه
عقب هذا التفريق نظرا في أن الفقه وأصول الفقه متباينان في وجه، وبحيث إن النص في
عرف الأصوليين هو كما أشار إليه الغزالي رحمه الله سابقا، وإنه في عرف الفقهاء يعنى
٥٠ أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تصحيح: نجوى ض و (بيروت: دار
إحياء التراث العربي، ط- ١٩٩٧ ،١ م) ج ١ ص ٢٤٤ وما بعدها
٥١ محمد بن علي التهانوي، موسوعة كشف اصطلاحات الفنون والعلوم، مراجعة: رفيق العجم (بيروت: مكتبة
لبنان ناشرون، ط- ١٩٩٦ ،١ م) ج ٢ ص ١٦٩٥ وما بعدها

٥٢ محمد فتحي الدريني، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، (بيروت: مؤسسة الرسالة،
ط- ١٩٩٧ ،٣ م) ص ٦٧ الهامش: ١
٢٠
الكتاب والسنة مطلقا، ٥٣ أو نظم القرآن والسنة في مقابلة الأدلة الأخرى من الإجماع
وغيرها، ٥٤ وحمل هذا المعنى على إطلاق الفقهاء اعتبارا للغالب، ولأنه قد أطلقه الأصوليون
في كتابام عند الحديث عن الأدلة الشرعية، وقسموها على النص والحمل على النص.
وثمة معنى آخر للنص وهو الذي نقصده في هذه الدراسة، وهذا المعنى يؤول إلى
كل آية قرآنية أو حديث نبوي، ٥٥ وإذا ُقيد هذا المعنى باال الأصولي الفقهي كما في هذه
الدراسة وهو نصوص الأحكام من الكتاب والسنة، ٥٦ وسنعتمد على هذا المعنى عند السير
مع هذه الدراسة في أن إعمال الترجيح المقاصدي نظرية وتطبيقا متوقف على النصوص
القرآنية والحديثية دون غيرهما أو بوجه خاص التي تتعلق بالأحكام دون غيرها.
دلالة التعارض: وكلمة المتعارضة في صيغة اسم الفاعل المؤنث لكلمة التعارض،
والتعارض يرجع إلى جذره اللغوي عرض يعرض عرضا وتعارض يتعارض تعارضا،
والتعارض على وزنه الصرفي التفاعل وهو يفيد المشاركة، ٥٧ وكما ورد في مختار الصحاح
أن عرض يعني ظهر وأعرض أي أظهر واعترض الشيء صار عريضا كالخشبة واعترض
الشيء دون الشيء أي حال دونه، ٥٨ وورد في لسان العرب أن عارض الشيء بالشيء
معارضة قابله وعرض الشيء يعرض واعترض انتصب ومنع وصار عارضا كالخشبة
والعرض المانع، ٥٩ ويمكن الاستخلاص من هذه المعاني اللغوية لأصل التعارض عدة
الكلمات: المنع والظهور وحدوث الشيء بعد العدم والمقابلة والمساواة والمثل. ٦٠
٥٣ بدر الدين محمد بن ادر بن عبد الله الزركشي، تشنيف المسامع بجع الجوامع لتاج الدين السبكي، دراسة
وتحقيق: سيد عبد العزيز وعبد الله ربيع (القاهرة: مكتبة قرطبة، ط- ١٩٩٩ ،٣ م) ج ١ ص ٣٣١
٥٤ محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي، (بيروت: دار النهضة العربية، ١٩٨٦ م) ص ٤٥٢
٥٥ عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، المرجع السابق، ص ٣٤٠ الهامش: ٢
٥٦ محمد أديب صالح، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة لمناهج العلماء في استنباط الأحكام من
نصوص الكتاب والسنة، (بيروت: المكتب الإسلامي، ط- ١٩٩٣ ،٤ م) ج ١ ص ٥٠
٥٧ الزنجاني، متن البناء، المصدر السابق، ص ٥
٥٨ الرازي، مختار الصحاح، المصدر السابق، مادة عرض، ص ٤٤٩ وما بعدها
٥٩ ابن منظور، لسان العرب، المصدر السابق، مادة عرض، ج ٧ ص ١٦٧ وما بعدها
٦٠ البرزنجي، التعارض والترجيح، المرجع السابق، ج ١ ص ١٥ وما بعدها
٢١
ودلالة التعارض الاصطلاحية تدور حول هذه المعاني اللغوية إلا أا تقيد ببعض
الشروط والضوابط لاعتبارها موضوعا من مواضع علم أصول الفقه الإسلامي، وقد
اصطلح الأصوليون على عبارة التعارض بصيغ التعريف المختلفة ولكنها متحدة في المراد
العام، ونذكر بعضها في يلي:
١. عرفه السرخسي رحمه الله: "…فهو تقابل الحجتين المتساويتين على وجه يوجب كل
واحد منهما ضد ما توجبه الأخرى كالحل والحرمة والنفي والإثبات…" ٦١ واستخدم
لفظ التقابل لتعبير معنى التعارض،
٢. وعرفه الشوكاني رحمه الله: "وفي الاصطلاح تقابل الدليلين على سبيل الممانعة" ٦٢
واستخدم كذلك لفظ التقابل لتعبير معنى التعارض، والجزء الثاني من التعريف يدل على
مفهوم التعريف الأول للسرخسي رحمه الله،
٣. وعرفه التمرتاشي رحمه الله: "وهي تقابل الحجتين على سواء في حكمين متضادين في
محل واحد في حالة واحدة بين اثنين، ٦٣
٤. وعرفه البرزنجي رحمه الله بعد مناقشته لتعريفات الأصوليين: "التمانع بين الأدلة
الشرعية مطلقا بحيث يقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر" ٦٤
وإنعام النظر فيما مضى من الحديث عن معنى التعارض يرى أن بين مفهوميه
اللغوي والاصطلاحي علاقة، وهي في أن التعارض يمنع من العمل بما وقع فيه التعارض،
وهو يكون عارضا للقائم بمقتضى المحل الذي يتضمن التعارض، وهو كذلك يقتضي
التساوي والتماثل بين المتعارضين، ولكن إذا قيدنا التعارض بأنه الشرعي فهو ظاهري،
والتساوي فيه يكون في النظر الأ  ولي بحيث إذا نظرنا فيه بالتمعن والتفحص نجد أن في أحد
المتعارضين فضل ومزية، ومنه ننطلق إلى عملية الترجيح الذي هو مسلك من مسالك درء
التعارض في الشرع، وليس التعارض العقلي أو الطبيعي الغير الشرعي.
٦١ السرخسي، أصول السرخسي، المصدر السابق، ج ٢ ص ١٤
٦٢ الشوكاني، إرشاد الفحول، المصدر السابق، ص ٤٥٤
٦٣ محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد الخطيب التمرتاشي، الوصول إلى قواعد الأصول، تحقيق: محمد شريف
مصطفى أحمد سليمان (بيروت: دار الكتب العلمية، ط- ٢٠٠٠ ،١ م) ص ٢٦٧
٦٤ البرزنجي، التعارض والترجيح، المرجع السابق، ج ١ ص ٢٣
٢٢
المدلول التركيبي للنصوص المتعارضة:
وكما أخذنا في المدلول التركيبي لمصطلح الترجيح المقاصدي سالفا، إن هذا المصطلح
يضاهيه في طبيعة العلاقة بين عبارتيه، وهي العلاقة الوصفية بحيث عبارة النصوص
موصوف لعبارة المتعارضة وهي صفة، وكلامنا في هذا الجزء من الدراسة منحصر على
الإشارة إلى دلالة الوصف في هذا المصطلح.
دلالة الوصف في المصطلح: وقد أشرنا إلى نظرية هذه الدلالة عند تعرضنا لبيان
دلالة الوصف في مصطلح الترجيح المقاصدي فلا حاجة إلى تكرارها هنا، ٦٥ غير أننا نريد
أن نو  ضح مفهوم الإطار الدلالي الذي ترسمه هذه الدلالة الوصفية في طبيعة العلاقة بين
العبارتين في المصطلح، ويبدو أنه قد ُذكر بدون إيضاح مقنع ونتعمد في ذلك لنط ول
الكلام عنه في البحث عن المصطلح الثاني وهو النصوص المتعارضة، ولأننا نرى أن
المصطلح الثاني يفتقر إليه أكثر افتقارا لكونه مو  ضعا دراسيا لإجراء المصطلح الأول.
وإن الوصف أو الصفة في السياق يتطلب إخضاع الموصوف تحت مقتضياته
وآفاقه، ولهذا أن إعمال الصفة في الجملة الخبرية يكتمل بجميع دلالاا، وإعمال الموصوف
فيها يكتمل بما تدل عليه دلالات الصفة، وفي هذا المصطلح أن عبارة "المتعارضة" صفة،
وإعمالها في المصطلح يكتمل بجميع دلالات التعارض المتعارف عليها في أصول الفقه،
وإعمال الموصوف وهو عبارة "النصوص" يكتمل بما تدل عليه دلالات التعارض أي أن
النصوص التي وقع فيها التعارض دون غيرها.
والإطار الدلالي الذي يربط بين هاتين العبارتين في المصطلح يكمن في أن النصوص
الشرعية التي تتمثل في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مخصصة من معناها العام بكوا
متعارضة أو مقيدة من معناها المطلق بكونه متعارضة، وإذن، إن النظر البحثي في هذه
الدراسة يتوقف على النصوص المتعارضة فحسب دون الخوض في التعارض بين الأقيسة
وأقوال العلماء والأحكام العقلية، والإطار الدلالي للنصوص ح  دده كوا متعارضة وليس
العكس، ونتعامل مع النصوص تعاملا موصوفيا ونتعامل مع التعارض تعاملا وصفيا،
ونعالجهما مع مراعاة كونيهما في المصطلح.
٦٥ انظر إلى صفحة ٩
٢٣
مفهوم النصوص المتعارضة
وقد التمسنا بعض الذي يف  هم منه مفهوم مصطلح النصوص المتعارضة عند تطرقنا إلى
دراسته سابقا، إلا أننا نراه أنه  عرض بأفكار متبعثرة مترامية، وقصدا من تنظيم هذه
الأفكار توضيحها نضع الجزء الثاني لهذا المبحث، وسنعرض في هذا اال مدلولا علميا
للنصوص المتعارضة بذكر ما يندرج تحتها وما لا يندرج، ومدى صلاحية استخدام هذا
المصطلح لتعبير المقصد، وكذلك سندرس وقوع هذا المصطلح في الأدب الأصولي من
حيث إنه فكرة ومن حيث إنه مصطلح.
المدلول العلمي للنصوص المتعارضة:
ونرى ضرورة الإقدام على التقسيم الأحادي لتعريفات هاتين العبارتين بغية النظر في مدى
الوفاق واللئام بينهما بحيث ننطلق منه إلى نيل المدلول العلمي للمصطلح، وهو كما يلي:
١) النص – ويراد به النص الذي وقع فيه التعارض أي تقابل بين النصين فأكثر أو تمانع )
بينهما، وصورته أن هناك نصان واردان وتقتضي دلالة أحدهما خلاف ما تقتضيه
دلالة الآخر، ٦٦ والتعارض في هذه الدلالة التي سيق النص من أجلها، ولا يقع
التعارض في ثبوت النص، لأن الثبوت فوق الدلالة وينظر إليه أ و ً لا قبل النظر في
الدلالة، والدلالة متوقفة على الثبوت عند التعارض، فليس هناك التعارض المعتبر بين
الثابت بالقطع والثابت بالظن مع أن دلالتهما متعارضة. ٦٧
٢) النصوص – وهي تشمل الآية القرآنية والسنة النبوية، وأن التعارض وقع فيهما، )
وصوره الثلاث: الأولى، التعارض بين الآيات القرآنية بعضها بعضا، والثانية، التعارض
٦٦ وعند تعريف البرزنجي رحمه الله (ص ٢١ من هذا البحث) أنه قيده ب "يقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر"
ثم أشار في شرحه إلى أنه خرج به الدليلان الشرعيان المتوافقان (انظر: البرزنجي، التعارض والترجيح، المرجع
السابق، ج ١ ص ٢٨ )، وقد يفهم من استخدامه لعبارة عدم أن أحد الدليلين المتعارضين يدل على الوجود وثانيها
يدل على العدم أي نفي ذلك الوجود، وهذا يفيد حصر التعارض فيهما مع أنه يشمل كذلك المخالفة، ولأن
التعارض لا يقع في الوجود والعدم فحسب بل يقع في الأمور المخالفة كالأضداد.
٦٧ وهذه الخصية أي الثبوت والدلالة تتحلى ا النصوص الشرعية فقط دون غيرها، وهي ترجع إلى جانبين
النصوص عند ورودها إلينا من حيث كيف وصل إلينا وما هو وصل إلينا، والأول يهتم بالجانب الخارجي للنص
والثاني يهتم بالجانب الداخلي له.
٢٤
بين الأحاديث النبوية بعضها بعضا وفيها تفصيل، أي التعارض بين الأحاديث
المتواترة، والتعارض بين أحاديث الآحاد، والتعارض بين المتواترة والآحاد، والثالثة،
التعارض بين الآيات والأحاديث وفيها تفصيل، أي التعارض بين الآيات والأحاديث
المتواترة، والتعارض بينها والآحاد. وأن الثابت بالقطع يرجح على الثابت بالظن بل
ولا يعتبر وقوع التعارض بينهما، ٦٨
٣) الأحكام – وهي قيد للنصوص ويراد ا الأحكام الشرعية غير الأحكام العقلية )
والطبيعية والحسية، وتقصد هذه الدراسة الأحكام الفقهية ٦٩ دون الأحكام الشرعية
مطلقا التي تحتوي على الأحكام العقدية والفقهية والخلقية، والنصوص كما قيدت
بكوا متعارضة وهي كذلك مقيدة بكوا مفيدة للأحكام الفقهية،
إن إطلاقنا على مصطلح النصوص المتعارضة إشارة إلى حدوث التعارض بين
النصوص الشرعية، وهو قد يفهم منه بأنه حدوث حقيقي، أي أن الخطاب الصادر من
الشارع الحكيم يقع في موقع يتعارض فيه بعضه بعضا، وهذا ينافي صفة الكمال والعلم من
الشارع، وهيهات هيهات. وأما الذي نقصده من استخدام هذه المصطلح هو حدوث
التعارض في النصوص حدوثا صوريا، أي أنه يتجّلى في نظر اتهد الذي لم يحط به العلم
الحقيقي، وأنه لم يوجد التعارض في نفس الأمر. ٧٠ وهذا التصور الإنساني تجاه النصوص
يلاحظ أا تتعارض بعضها بعضا فيلجأ إلى إزالة هذا التصور من الأذهان بالسير في
كيفيات درئه ودفعه. وقد يعسر القبول عند البعض بأن التعارض في النصوص صوريا
ظاهريا مع أن الواقع يشهد على أنه حقيقي، وهو ابتلاء ابتلينا به ليعرف المطيع من
العاصي.
٦٨ وفيه مسائل كثيرة مطولة عند الأصوليين وتفرقوا إلى مواقف وآراء، ومن هذه المسائل المتعلقة ذه الفكرة هي:
وقوع التعارض في الشرع حقيقيا أم صوريا، ووقوع التعارض بين القطعيات، واشتراط التسوية في التعارض وغيرها،
ولمزيد من التفصيل راجع: البرزنجي، التعارض والترجيح، المرجع نفسه، ج ١ ص ٣١ وما بعدها، والحفناوي،
التعارض والترجيح، المرجع السابق، ص ٢٩ وما بعدها.
٦٩ وقد ُقيدت الأحكام لتكون دالة على أا جزء من الأحكام الشرعية بإضافتها إلى أعمال الإنسان أو المكلفين،
وخرجت ذا القيد الأحكام العقدية والخلقية منها (انظر: الغزالي، المستصفى، المصدر السابق، ج ١ ص ١٥ وفخر
.( الدين الرازي، المحصول، المصدر السابق، ج ١ ص ٤ والزحيلي، أصول الفقه، المرجع السابق، ج ١ ص ٢١
٧٠ انظر: الشاطبي، الموافقات، المصدر السابق، ج ٤ ص ٢١٧ وما بعدها
٢٥
النصوص المتعارضة في الأدب الأصولي:
وقد س  جل تاريخ الأدب الأصولي في صفحاته أمثلًة للنصوص الشرعية المتعارضة، وفي هذا
الطرف من الدراسة يمكننا عرض هذه الأمثلة ضمن الحديث عن مفهوم النصوص
المتعارضة، ومن أجل توضيح المراد سنمر ذا العرض التاريخي مع مراعاة مراحل الأدب
الأصولي ومناهجه التي تطورت حينا بعد آخر، والقصد من وضع هذا العرض هو التأكد
من وقوع التعارض – الصوري – في النصوص الشرعية كما شهده تاريخ الأدب
الأصولي.
وفي عصر الرسالة كان الوحي ما فتئ نازلا من السماء إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، والصحابة كانوا يكتبون القرآن ويحفظونه، والبيان الصادر من الرسول صلى
الله عليه وسلم كان الوحي كذلك إلا أن الصحابة رضي الله عنهم لاحظوا الفرق بين
الوحي المتلو وبين الوحي الغير المتلو، ولكنهم اعتنوا ما حفظا ودراسة كالنصوص
الشرعية. وفي هذا العصر لم يكن التعارض بين النصوص متعارفا عليه نظرا لاستمرارية
نزول الحي ووروده، إلا أن هناك النسخ الذي حدث لتحقيق مبدأ التدرج في تشريع
الحكم، ٧١ وفيه نوع من مفهوم التعارض وهو أن النسخ قد يكون فيه تعارض الدلالة بين
النص الناسخ والنص المنسوخ كالنسخ في حكم شرب الخمر، ٧٢ وقد لاحظ الصحابة
رضي الله عنهم نوعا من التعارض بين النصوص من الآيات والأحاديث ولجئوا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم للتوضيح والبيان.
وفي عصر الصحابة رضي الله عنهم كانوا وقعوا في مسألة التعارض بين النصوص
الشرعية لا سيما الأحاديث النبوية، وعالجوا هذه المسألة بالأخذ بمناهج ومسالك التي
رأوها صالحة لدفع التعارض ودرئه، وفي هذه المناهج استخدموا طرقا عديدة أمثال ترجيح
أحد النصين المتعارضين أو الجمع بينهما أو نسخ أحدهما، وهو ش ّ كل سببا من أسباب
٧١ عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط- ١٩٨٩ ،١١ م) ص ٩٥
٧٢ إن الآية الأولى تقول بأن في الخمر منافع وإثما ولكن إثمه أكبر من نفعه (البقرة: ٢١٩ ) فنزلت الآية الثانية التي
تنهى عن شرب الخمر في أوقات الصلاة (النساء: ٤٣ ) ثم نزلت الآية الثالثة التي تجعل الخمر من ضمن أعمال
الشيطان وأمرت باجتنابه (المائدة: ٩٠ )، والتعارض حادث في دلالات هذه الآيات الثلاث، لأن الأولى تدل على
عدم حرمته مطلقا، والثانية تدل على حرمته مقيدا، والثالثة تدل على حرمته مطلقا، ووجه التعارض بينها واضح.
٢٦


التوقيع :




لا اله الا الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم








رد مع اقتباس