عرض مشاركة واحدة
قديم 11-20-2004, 03:40 PM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

الزوار


الملف الشخصي








الأخلاقيات الطبية من المقاصد الشرعية

الأخلاقيات الطبية من المقاصد الشرعية

أ. د. عمر حسن قاصولي**
21/09/2004
تجاهل القانون الأوربي العلماني الاعتبارات الأخلاقية المرتبطة بالدين، وبالتالي عجز عن حل قضايا الطب الحديث التي تتطلب الاعتبارات الأخلاقية، وقد أدى هذا إلى ميلاد أخلاقيات طبية غير مطبقة قانونا من قبل الحكومات، وغير مطبقة أخلاقيا تبعا للضمير.

هذا البحث يقترح أن تعتمد نظرية الأخلاقيات الطبية في الإسلام على مقاصد الشريعة الخمس، والتي تعتبر أيضا مقاصد الطب، أي أغراضه.

هذه المقاصد الخمس هي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ النسل، حفظ العقل، وحفظ المال. وأيّ عمل طبي يجب أن يحقق هذه المقاصد حتى نعتبره أخلاقيا، ويعتبر أي إجراء طبي يخرق أيّا من هذه المقاصد إجراء غير أخلاقي.

هذا البحث يقترح -أيضا- أن تستمد القواعد الأخلاقية الأساسية في الإسلام المتعلقة بممارسة الطب من قواعد الشريعة الخمس التي هي: القصد، واليقين، والضرر، والمشقات، والعرف. وتعمل المقاصد والقواعد في شكل تعاوني. والغرض الأساسي من القواعد هو إتاحة قواعد قادرة على حل النزاع بين مختلف المقاصد.

إن تحديا كبيرا يواجه الأطباء المسلمين، وهو كيفية تحرير أنفسهم من النظريات الأوربية الأخلاقية المتناقضة التي تربكهم، والتفرغ للعمل الجاد لتطوير لوائح معينة للتداخلات الطبية المختلفة، ووضع ضوابط طبية لها، وذلك بإحياء الاجتهاد. وهذا الاجتهاد سوف يعتمد على المصادر الأساسية للشريعة، أي القرآن والسنة، وعلى المصادر الثانوية للشريعة، والتي تنقسم إلى مصادر نقلية -أي الإجماع والقياس- ومصادر عقلية -أي الاستشهاد والاستحسان. وكذلك سوف يعتمد الاجتهاد على مقاصد الشريعة وقواعد الفقه وضوابطه.
في العهد المبكر من الطب الشرعي، كانت معظم القضايا تُحل بالرجوع مباشرة إلى المصادر الأساسية، وفي العهد الوسيط كانت القضايا تحل بالرجوع إلى الإجماع والقياس والاستشهاد والاستحسان والاستصلاح، أما في العهد الحديث فإن التكنولوجيا الطبية الحديثة خلقت الكثير من القضايا التي يحتاج حلها إلى نظرة أكثر اتساعا لا تتوافر إلا في نظرية مقاصد الشريعة.


مقدمة :
نقد الأخلاقيات الأوربية
قواعد الأخلاقيات الأوربية
قوانين الأخلاقيات الأوربية
الأخلاقيات الإسلامية وخصائصها العامة
مقاصد الشريعة في الطب
قواعد الشريعة
ضوابط الفقه في الطب

مـقـدمـة :
الأخلاقيات الطبية تنقسم إلى أخلاقيات قديمة وأخرى حديثة. فنجد بعض الأجزاء من قَسَم أبقراط تتعلق بأخلاقيات مهنية طبية، وكذلك كتب ابن سينا عن الأخلاقيات الطبية. والاهتمام بالأخلاقيات الطبية قديما لم يكن بنفس حدة الاهتمام بها في الوقت الراهن؛ حيث إنه كان من المفترض والطبيعي أن يعمل الطبيب وفقا للأخلاقيات والمبادئ، وقد كان هذا حقيقيا إلى مدى بعيد، وهذا لأن التدين كان دافعا قويا في الماضي.
وفي أواخر القرن الرابع عشر الهجري أصبح الاهتمام بالاعتبارات الأخلاقية كبيرا، وهذا يعود إلى سببين: أولهما التطور الكبير في التكنولوجيا الطبية والذي نتجت عنه مشكلات -مثل التلقيح الصناعي وغيرها- ذات أبعاد أخلاقية، وثاني السببين هو زيادة الانتهاكات الأخلاقية من قبل ممارسي الطب. ومن ثم وجدت مهنة الطب الأوربية نفسها في مأزق؛ لأن القيم الأخلاقية لم تكن جزءا من التقاليد الطبية العلمانية. كل هذا أدى إلى حتمية إعادة الاهتمام بضبط الأخلاقيات.
لم يواجه المسلمون هذه الورطة، ويرجع الفضل في ذلك إلى الشريعة الإسلامية التي -على خلاف القانون الأوربي العلماني- تعتمد على نظام كامل من الأخلاقيات؛ مما جعلها قادرة على التعامل مع كل المشكلات الطبية الأخلاقية من وجهة نظر قانونية وشرعية. وفي نفس الوقت تتميز الشريعة الإسلامية بمرونة جعلتها تتكيف مع المشكلات الحديثة. وعلى وجه الدقة يمكننا القول: إن المسلمين لا يتعاملون مع الانضباط منفصلا؛ لأنه بالفعل جزء من الشريعة.
وقد عمد الأطباء المسلمون الذين تدربوا على التقاليد الأوربية في الماضي إلى تطبيق النظريات والقواعد الأخلاقية الأوربية عند التعامل مع المشكلات الأخلاقية في الطب.
هذا البحث يقترح وجوب عودة المسلمين إلى ميراثهم العقلي والتشريعي كمصدر للقواعد الأخلاقية. وينتقد الأخلاقيات الأوربية، مشيرا للعيوب المفهومية العملية التي تعاني منها. ثم يقدم النظام الأخلاقي الإسلامي كدليل ومرشد قوي ومتماسك للمشكلات الأخلاقية في الطب.

نقد الأخلاقيات الأوربية

- المبادئ الأخلاقية الأوربية:
يستخدم البحث كلمة "أوربي" هنا من الناحية الثقافية، وليس الجغرافية، ليشير إلى الأفراد ذوي الأصل الأوربي الذين يعيشون في قارة أوربا، وقارة أمريكا الشمالية، وأمريكا الجنوبية، وأستراليا والأجزاء الأخرى من العالم التي كانت مستعمرة من قبل الأوروبيين على مدى الخمسمائة عام الماضية. والحضارة الأوربية لها جذورها الإغريقية الرومانية وعاداتها اليهودية المسيحية.
ولقد واجه الأوربيون مشكلة في التعامل مع القضايا الأخلاقية بعد إبعاد الدين عن الحياة العامة على مدى القرون الخمس الماضية من العلمانية التي تلت النهضة الأوربية، فأصبحت الفضيلة بالنسبة إليهم هي إجماع العامة على ما هو صحيح وقويم وعلى ما هو باطل.
على سبيل المثال، فإن مجموعة المبادئ والقواعد لسلوكيات المهن المختلفة (أي الدستور لكل مهنة) يتم تحديدها بالإجماع داخل كل مهنة، وتوضع الخطوط المرشدة أخلاقيا من خلال الاستنتاج من الوقائع في المشكلات الأخلاقية العملية. هذا الاستنتاج من الممكن أن يكون ضعيفا وغير متماسك لو لم يكن مبنيا على نظام تحتي مترابط من القيم الأخلاقية.

والقانون الأوربي ليس دائما متماسكا في التعامل مع القضايا ذات الطبيعة الأخلاقية، وبناء على ذلك فإن القانون الأوربي لا يجيز دائما كل الممارسات المقبولة أخلاقيا، وكذلك لا يحظر كل الأنشطة غير الأخلاقية، بل أحيانا يحظر بعض الممارسات المقبولة أخلاقيا.
وأيضا يتعامل مع بعض المواقف بطريقة متناقضة؛ فمثلا يعاقب القانون الأوربي الرجل المتزوج من امرأتين عقابا شديدا من أجل جريمة تعدد الزوجات، في حين أن الرجل الذي يعاشر أربعة نساء كصديقات (لا زوجات) وينجب منهن لا يعاقب قانونيا، بل ويقر القانون أبوته ويقر الحقوق المادية الخاصة بالميراث والإعالة لهؤلاء السيدات وأولادهن.
ومن هنا نجد أن النظرية الأخلاقية الأوربية توفر فقط إطار العمل الذي يجري بداخله الاستنتاج والحكم الأخلاقي، لكن لا توجد نظرية أوربية أخلاقية واحدة مترابطة، وهذا يعود لأسباب تاريخية، حيث إن الإمبراطورية الرومانية حينما اختارت المسيحية أصبح نظام القيم الأخلاقية المتبع حلا وسطا بين الديانة الإغريقية الرومانية الأوربية الوثنية المشتركة من جهة، واليهودية المسيحية من جهة أخرى.
وخلال النهضة الأوربية تم تهميش دور الكنيسة المسيحية نسبيا، وحدثت عودة جزئية إلى الأفكار الإغريقية الرومانية، وهذا أدى إلى ظهور التركيبة المعقدة من المفاهيم الأخلاقية والفلسفية الخاصة بأوربا العلمانية. وفي ظل هذه الظروف أصبح من الصعب تحديد أو اتباع نظرية أخلاقية واحدة مترابطة.
ومع بداية النهضة تعدت العلمانية تدريجيا على الحياة الحضارية، ومع بداية القرن العشرين أصبحت كل أوجه الحياة الأوروبية -بما فيها الطب- علمانية. ولقد كان التجلي العملي لهذه العلمانية في تهميش دور الدين والقيم الأخلاقية وتحديد دورها فيما يخص المعتقدات الخاصة لكل فرد. فالقانون الأوربي العلماني هو جوهر إنكار الاعتبارات الأخلاقية؛ لأن الأخلاقيات مرتبطة بالدين. وعند تطبيق القوانين العلمانية في المجال الطبي أظهرت عجزا، وذلك لظهور قضايا طبية تتطلب اعتبارات أخلاقية للتعامل معها.
وأصبحت المهنة الطبية والمجتمع ككل غير قادر على مواجهة التحديات الجديدة، وأصبح من الضروري تطوير أخلاقيات طبية علمانية جديدة لمواجهة هذه التحديات. ولقد كان من المؤسف أن المسلمين بما لديهم من ميراث عقلي متمثل في أصول الفقه يتبعون الأوربيين.
ويعتبر الأوربيون قَسَم أبقراط هو نقطة البداية للاستنتاج الأخلاقي الذي تكامل بآراء الفلاسفة والمفكرين الأوربيين، بهدف تطوير نظريات أخلاقية تستخدم لحل المشكلات العملية. فبداية من عام 1976م أصبح Beauchamp و Childress روادا في وضع النظريات والمبادئ للأخلاقيات الطبية الأوربية.


رد مع اقتباس