عرض مشاركة واحدة
قديم 03-06-2010, 01:20 PM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

fateemah

الاعضاء

fateemah غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









fateemah غير متواجد حالياً


الاتصال الإسلامي الخارجي وحوار الحضارات



الاتصال الإسلامي الخارجي وحوار الحضارات



الإسلام بصفته رسالة مجالها العالم هو خطاب اتصالي تمارسه الجماعات والأفراد والدول على مر العصور. وأهمية الاتصال على الصعيد الداخلي لا تقلل من أهميته على الصعيد الخارجي، لاسيما في هذا العصر الذي تنوعت فيه العلاقات وتشابكت فيه المصالح.

والاتصال الخارجي مع كونه واجباً تفرضه رسالة الدين، فهو في ظل تزايد بؤر التوتر واتساع حالات الاختلاف أضحى ضرورة وجودية لابد من أدائها من أجل تحقيق قدر من التفاهم وإزالة احتمالات الصدام.

ومن هنا تبرز الأهمية المتجددة للاتصال الخارجي، كما تبرز أهمية تطويره في هذا العصر المتغير.


مفهوم الاتصال الإسلامي الخارجي

اتصال الناس بعضهم ببعض، سلوك فطري وحاجة حيوية تقتضيها نزعة التعارف وضرورات العيش، مثلما هو نشاط رسالي يقوم على الإيمان برسالة يُراد إيصالها.

والاتصال يتضمن التعريف، والتوضيح، والإقناع، وإزالة اللبس وسوء الفهم، ناهيك عن كونه أسلوباً يمكن من خلاله ترجمة روحية التعاطف وإبداء الرغبة في التعاون مع الآخرين.

وعموماً يشير الاتصال إلى العلاقة التي تحدث بين الناس داخل نسق اجتماعي معين أو بين مجموعة أنساق، وقد يتم بشكل مباشر من خلال اللقاء الشخصي بين الأفراد والجماعات، أو بشكل غير مباشر بواسطة الكلمة المسموعة أو المطبوعة أو المرئية أو الإلكترونية، أو عن طريق الصور أو غيرها من الوسائل والأنشطة الأخرى.

أما من حيث حجمه، فقد يحدث بين شخصين أو بين شخص أو جماعة وجماعة أخرى محلية أو إقليمية أو دولية(1).

والاتصال إذ يتم على المستويين الداخلي والخارجي فهو على المستوى الخارجي يمثل ـ كما مهدنا ـ أحد الضرورات التي لم تعد تغفلها الدول والمجتمعات كبيرة كانت أو صغيرة، لهذا فالكثير منها ترصد له الميزانيات وتنشأ من أجله المراكز والمؤسسات. وتُعَد إقامة المؤتمرات والندوات والمعارض واللقاءات ـ علمية كانت أو ثقافية أو سياسية أو رياضية أو فنية أو تجارية ـ مداخل وفرص للاتصال وتحقيق المقاصد (2).

إذا كانت كلمة الاتصال بالمعنى العام تعني نقل المدركات وتحقيق الإقناع عبر تقديم صورة واضحة ومحددة للحقيقة موضع المناقشة، فإن الاتصال بمعناه الإسلامي يضم هذا المعنى ويتسع ليشمل أبعاداً أخرى سنأتي على تبيانها بعد قليل.



وظائف الاتصال الإسلامي الخارجي

الاتصال الإسلامي الخارجي كرسالة وضرورة ينطوي على جملة من الوظائف أهمها :

1. الوظيفة الدعوية : تتمثل هذه الوظيفة بدعوة الناس جميعاً إلى الهدي الرباني عبر تعريفهم بالإسلام وإقناعهم بالمدركات والمقاصد والغايات التي يحملها هذا الدين.

وتندرج في إطار هذه الوظيفة عديد من الأنشطة الإعلامية والاتصالية التي تستهدف التعريف والتوضيح والمحو والإثبات وإزالة الرواسب والشبهات ودحض الأكاذيب والأغاليط والدعايات.

وواجب الدعوة العام هو الذي يحكم هذه الوظيفة { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن }(3)، كما يحكمها منطق " عالمية " الرسالة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس}(4) . والعالمية ـ كما سبق أن أوضحنا ـ لاتنطوي على قسر، فثمة فرق بين "الدعوة" كمفهوم يقوم على الإقناع والاقتناع، و"الدعاية" التي هي نوع من الإثارة تستهدف تطويع الإرادة واستقطابها باتجاه موقف ما كان يمكن أن يصل إليه الفرد أو تصل إليه الجماعة لو تُركا إلى منطقهما الذاتي(5) أو اختيارهما الخاص. وبالتوضيح نفسه تتفارق "العالمية" الإسلامية عن "العولمة" الجارية الآن.

ثم إن الدعوة بما تنطوي عليه من تعريف وما تعتمده من منهج لايمكن لها إلاّ أن تكون حوارية وضد العنف، مادامت الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن هي المعتمد والقوام.

2. الوظيفة الإنقاذية : تتمثل هذه الوظيفة بالاسهامات المادية أو المعنوية التي تُقدم للآخرين للحيلولة دون وقوعهم بالأذى والخسران، وتؤدي هذه الوظيفة في العادة دول ومنظمات أممية. ويمكن للأفراد والمؤسسات الأهلية أن تقوم بها كما هو الحال مع تبرعات الأثرياء والمحسنين وما تقدمه الجمعيات الخيرية ووكالات الغوث من عون مادي أو عيني في زمن الكوارث والمجاعات وانتشار الأوبئة وحالات الجفاف.

وللإنقاذ مستوى يتمثل في حالات الدفاع عن المستضعفين ممن يتعرضون لظلم أو قهر، والذي قد يصل الدفاع عنهم حدوداً عسكرية من غير النظر إلى الوضع الانتمائي لهؤلاء على اعتبار أن الإنقاذ الإسلامي ما هو إلاّ ممارسة تحكمها مبادىء " الرحمة " و " الإحسان" و" التعاطف " و" البر" والدفاع عن " الحقوق" الإنسانية، ومن ثم هو قيمة مطلقة لاتخضع للحسابات النفعية أو التحيزات الخاصة.

3. الوظيفة التعاونية : يتسع الاتصال الإسلامي ليشمل التحرك الهادف إلى التعاون مع الآخر، حتى وإن كان الآخر على صعيد الاتصال مُعْرضاً أو غير مستجيب، فالتواصل لا يرتبط بمثل هذه الاستجابة، لأن العلاقة التعاونية يمكن أن تنسج على قاعدة المصالح والمنافع المتبادلة، بل تجوز ممارستها حتى مع من لايُرجى من ورائه نفعاً مقابلاً، لأن المبدأ هو أن خير الناس من يقدم العون لغيره وينفعه، ولهذا فإن مشروع التعاون ـ ثنائياً كان أو جماعياً ـ على غير ما صعيد يمثل خيراً ومدخلاً لاستمرارية الاتصال، بل إن قنوات الاتصال تظل مفتوحة في كل الأحوال فيما يتعلق بمصالح البشرية وقضاياها الكبرى، كقضية السلام والبيئة ومكافحة الجريمة والأمراض والأوبئة والجوع ونزع أسلحة الدمار الشامل وحقوق الإنسان وغيرها من القضايا التي تستدعي الاهتمام المشترك.

وما يحكم وظيفة التعاون واجب التعاون { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (6)، ولعل الخبرة التاريخية عند المسلمين قد شهدت أشكالاً من التعاون مع الآخر في الشرق والغرب ومن جانب واحد أو من جانبين ودونما بأس أو حرج.

والتعاون بهذا المعنى الذي نتحدث عنه يظل ذا قيمة وتتجلى أهميته أكثر مع عولمة المسكوت عنه والمهمش من قضايا الإنسانية التي يمكن أن يتعاون بخصوصها الجميع.

4. الوظيفة الحضارية : إن الوظائف الثلاث : الدعوية، والإنقاذية والتعاونية تشكل في اجتماعها ما يمكن تسميته بـ "الوظيفة الحضارية". وهذه الوظـيفة في معناها الإسلامي تتضمن استثارة التأمل للبحث عن الحقيقة سواء في بعدها الكوني أو المعرفي أو الاجتماعي، كما تشمل العمل على إيجاد الحلول المناسبة للقضايا الإنسانية والاستمرار في العمل المشترك فيما يتصل بخير البشرية وتقدمها بما يعنيه ذلك من تعاون في جعل الحياة المعيشية أكثر نمواً والحياة الاجتماعية أكثر يسراً ورقياً والحياة الدولية أكثر توازناً وعدلاً.

ولاشك أن الاضطلاع بمثل هذه الوظيفة مشروط بتوفير نفسية مبرأة من نزعات التمركز والعنصرية واتجاهات التعصب وكره الغير، وهذا يعني أن الأداء الاتصالي بشكله الحضاري لايمكن بلوغه ما لم يكن ثمة إيمان بالتعاون، انطلاقاً من التسليم بمدركات وحدة الخلق وحق الاختلاف ونسبية الحقيقة، ومن ثم الوعي بأن ما يجمع بين الناس من قواسم مشتركة حري بأن يدفعهم إلى التعاون والعمل المشترك. وما " الوسطية" و " الشهادة على العصر" المشار إليهما في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيـداً }(7) إلاّ معان تدل على تلكم الوظيفة الحضارية.

إنه في إطار ما عرفناه عن الا تصال الإسلامي الخارجي، مضموناً ووظائف وأهدافاً، يمكننا القول بأنه ليس ثمة تعارض بين النشاط الاتصالي ومشروع الحوار بين الحضارات. ولتأكيد هذا المعنى سنتابع شروط الاتصال الإسلامي وما تقتضيه العملية الاتصالية من تكيف وتجدد.



مقومات وشروط الاتصال الإسلامي الخارجي.

المقومات التربوية : هناك جملة من القيم والمبادىء والأفكار التربوية التي تؤسس للسلوك الاتصالي أهمها :

النزعة الأممية : دائرة الهوية التي ينتمي إليها المسلم ليست مغلقة على عنصر أو شعب معينين ولا على جغرافية محددة، بل هي مفتوحة على كل الناس على اختلاف أعراقهم وألوانهم ولغاتهم وجغرافياتهم، باعتبار أن الناس جميعاً من أصل واحد ومن نفس واحدة { هو الذي خلقكم من نفس واحدة}(8) . وبناء على ذلك فإن المتصل الإسلامي لابد أن يكون مشبعاً بالنظرة الأممية التي ترفع من درجة ارتباطه بالإنسان العالمي، وتقوي من شعوره بتحمل المسؤولية على نطاق واسع وعلى النحو الذي يدفعه إلى التعرف ويهيؤه إلى قبول الشراكة والعمل العام من أجل الإنسانية جمعاء.

مبدأ عالمية الدعوة : حركة الدعوة الإسلامية تبدأ باتجـــاه النفــس والأهـل { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}(9) ثم تمر عبر الجماعة القريبة {وأنذر عشيرتك الأقربين} (10)، وتتواصل إلى حيث الإنسانية { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً }(11) {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا ً}(12)، ولهذا تستمد التربية الدعوية مقوماتها من إثارة الدوافع الإيمانية ومن تعميق الإحساس بالقيمة العليا للهداية وثواب العمل على تحرير الإنسان من تعرجات الزيغ والضلال " لأن يهدي الله بك أحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس" (13).

ولاشك أن الانخراط في هذه المهمة وعلى النطاق العالمي الواسع إنما يعكس نمط الشخصية الإسلامية التي تشكل هذه الممارسة عنصراً من عناصر تكاملها.

الشعور بمسؤولية الإنقاذ : اهتمت التنشئة السياسية التقليدية في الغرب بقيم القوة والتفوق والسيادة (14) كآليات للاتصال، حتى أن الفرد ليتعلم بأن الهيمنة قيمة تفرضها مسؤوليات المركز " المتقدم" وضرورة تفرضها وظـيفة " التحضير" لا سيما مع آخر "متوحش" أو " متخلف" لايضر معه الشكل الاستعماري ولا فعل الاستحواذ.

أما التربية الإسلامية، فهي إذ ترفض هذا المنظور، تؤكد على أن المُتصل به حتى وإن كان متخلفاً فلا يصح التعامل معه على أساس القهر والازدراء، بل إن الإنقاذ هو المبدأ الذي يحكم العلاقة بصرف النظر عما تتمخض عنه العملية الاتصالية من استجابات أو مواقف. فقيم الحب والتسامح والمشاعر الإنسانية الطيبة تؤسس تربوياً لحركة الإنقاد وتطهر النفس من أية نوازع تحقيرية.

إن الإعداد المتصل لا يتم انطلاقاً من إثارة غرائز السيطرة أو تحريك دوافع النهب واغتنام الفرص، بل يتم عبر تقوية نزعة الخير وروح التعاطف، فالحضور على الساحة الدولية من باب تقديم المساعدات المالية أو العينية أو الفنية أو المشاركة في أعمال الإغاثة أو التطبيب أو محو الأمية أو نحو ذلك، هو عمل إنقاذي لا تحكمه الاعتبارات النفعية أو الدعائية، لأن منطق الإنقاذ بمعناه الإسلامي لا يجعل المنقذ ينتظر من أحد جزاء ولاشكوراً. والإنقاذ إذا ما تمخض عن مكاسب فهذه ليست شرطاً له، وتلك فكرة جوهرية في تربية المُتصل، وشعور لابد من أن يُغرس في ذهنية جماعة الاتصال كي لا تقع الأنشطة الإنقاذية في مدار الجاذبيات وهوى الاستعراض.

وأخيراً فإن التربية على ممارسة الإنقاذ من شأنها أن تنمي روح المبادرة التي تدعم العمل الإنساني وتقوي الصلات بين مختلف الجماعات والشعوب.

قيمة التعاون : يحتل التعاون الذي يقوم على النفع والخير مكانة رفيعة في سلم القيم الإسلامية؛ فخير الناس من نفع الناس، وهذا مطلوب على أن لا يستهدف التعاون شراً أو إضراراً بآخرين { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (15) . وبهذا المعنى تهتم التربية الاتصالية بالحث على التعاون بصفته قيمة مطلقة لاتحكمه بالضرورة شروط نفعية. فإذا كان من شأن التعاون أن يحقق مردوداً لطرف أو ينتج منافع متبادلة، فإن مبادراته لاتتوقف على شرط التبادل، فالتعاون يمكن أن يتواصل حتى وإن كان النفع مقتصراً على جهة الطرف الآخر.

وانطلاقاً من المضمون الأخلاقي والديني لهذه القيمة تعمل التربية الإسلامية على ترسيخ الشعور بأهمية التعاون وتعظيم جدواه بصرف النظر عن مردوده على الصعيد الذاتي. كما أن التعاون على الخير ومقاومة كل أشكال الشر يظل تعبيراً عن قيمة أساسية قوامها البر والتقوى.

وهذا هو الذي يحكم العلاقة التعاونية بين رجل الاتصال الإسلامي والآخر.

القدوة العالمية : إن تجسيد مفهوم القدوة في شخصية المتصل وأنشطته يمثل حالة اتصالية شديدة التأثير، فالمتصل الذي تتجسد في شخصه قيم الصدق والتجرد والتواضع والصبر والاحترام والتسامح سيكون أكثر تأثيراً من ذلك المتصل الذي لا تتوفر فيه هذه الصفات، كما أن المتصل الذي ينسجم عنده القول مع العمل سيكون محل اهتمام المتلقي وتقديره بخلاف المتصل مزدوج الشخصية.

إن القدوة لا تتحقق إلا بالتطابق بين شخصية المتصل ورسالته من جهة، وبين أسلوبه ورسالته من جهة أخرى.

فمثلا حين يتحدث المتصل عن مفهوم " التكافل الاجتماعي " بصفته أحد المدركات الإسلامية، فإنه لا معنى لحديثه هذا إذا لم يكن هو خير من يجسد هذا المفهوم؛ إذ ما قيمة الكلام عن التكافل حين يصدر عن مترف لايجد قارئوه أو مستمعوه قوت اليوم ؟ وما جدوى أن يهدي متصل مصاحف لأناس هم بأمس الحاجة إلى مساعدات أخرى كان قادراً على القيام بها؟ وأي معنى لمن يتحدث عن العالمية والمساواة وهو يستبطن العنصرية أو الاستعلاء على الآخرين؟.

كما لا يتحقق مفهوم القدوة الفعال في متصل يتخذ من الكذب أو الخداع أو التضليل أو التزييف أساليب في الاتصال.

إن استجابة الناس كثيراً ما ترتبط بمدى توفر الانسجام والتناغم بين سلوكيات المتصل ورسالته من جهة وبين أساليبه ورسالته من جهة أخرى، لذلك فإن الإخفاق في تقديم القدوة الحسنة سوف لا يأتي برد فعل سلبي ضد المتصل فحسب، بل ربما ضد رسالته. لهذا يتحمل المتصل الإسلامي مسؤولية دينية وأخلاقية كبيرة في هذا الخصوص توجب عليه أن يراقب نفسه ويتابع صدى أدائه وأن يعكف دائماً على المراجعة والتقويم.

والتربية الإسلامية، إذ ترسخ هذا الفهم العالي للقدوة، تحث على الانخراط في الانشغالات العالمية المشتركة بمناقبية جديرة بأن تشع معطياتها في عالم الآخرين.

الوعي بالوظيفة الحضارية : الإسلام مشروع اجتماعي وحضاري يتحمل أتباعه مهمة الحضور في مختلف دوائر الحضور العالمية. والوعي بقيمة هذه المهمة وإدراك مغزاها يجعل المسلم في حالة من التماس الدائم مع هموم العالم كله. وإذا كان متعيناً عليه أن يقوم بهذا الدور الملقى على عاتقه بموجب قوله تعالى:{ لتكونوا شهداء على الناس }(16) ، فهو مجبر على إن يكون على اتصال وثيق بأكبر عدد من الذوات البشرية ومشاكلها كذلك، ومن ثم يتعين على "حضوره" أن يعانق أقصى حد ممكن في المكان لكي تعانق " شهادته" أقصى كم ممكن من الوقائع. وعلاوة على ذلك، فإن المسلم في هذه الحالة ليس صاحب دور سلبـي محض؛ إذ أن حضوره نفسه يؤثر على الأشياء وعلى أعمال الآخرين، وعندئذ يكون الشاهد حاضراً، ويمكن لحضوره أن يغير سير الأحداث، وأن يجنب الوقوع في المحظور. وعلى هذا فإن رسالة المسلم في عالم الآخرين لا تتمثل في ملاحظة الوقائع، ولكن في تبديل مجرى الأحداث بّردها إلى اتجاه " الخير" ما استطاع إلى ذلك سبيلاً"(17).

لهذا فإن وظيفة التربية الإسلامية أن هي تقوية هذا الشعور وتنمية الاستعداد لتقبل تبعاته سواء من منطلق كونه واجباً "عينياً " أو "كفائياً"، أو بحكم ما يفرضه الانتماء للمشروع الحضاري الإسلامي وما يرتبه من مسؤوليات على ذلك الصعيد.

والحقيقة أن الدعوة، ونزعة الإنقاذ، وروحية التعاون، والقدوة، والشهادة على العصر، جميعها مدركات تشكل بمجموعها تلك الوظيفة الحضارية التي تحدد للمسلم رؤاه الإنسانية وسلوكياته الاتصالية باتجاه العالم وما يمكن أن يسهم به على صعيد الحوار بين الشعوب.

إن الوعي بالوظيفة الحضارية يعني ضمناً إدراك أن الصراع ليس حتمياً، وأن الحوار يمكن أن يكون البديل الممكن والمقبول.



الشروط العلمية والفنية

إضافة إلى المقومات والشروط القيمية والأخلاقية والسلوكية، ثمة شروط علمية وفنية لابد من توافرها في العمل الاتصالي، سواء من جهة المتصل، أو من جهة صياغة المحتوى، أو من جهة الوسائل، أو من جهة المخاطب الذي يوجه إليه العمل المذكور.

أ) المتصل وشروط تكوينه : هناك شروط ثقافية وعلمية وفنية لابد من توافرها في المتصل، هي :

ـ الثقافة الإسلامية والثقافة العامة : من الشروط الأساسية التي ينبغي توفرها في شخصية المتصل، المعرفة الكافية والصحيحة بالقرآن والسنة، وبالإسلام عقيدة وشريعة ونظاماً، على النحو الذي تصبح بموجبه هذه الثقافة جزءاً من شخصيته لامجرد معرفة أكاديمية أو مكتسب فوقي، ذلك أن التفاعل الحقيقي بين المتصل وثقافته شرط أساس في تحقيق أهليته لهذا الدور: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} (18).

كما أن اتجاهات المتصل وموقفه اتجاه نفسه واتجاه موضوع اتصاله يمثل موقفاً ثقافياً يؤثر ولاشك على عملية الاتصال ـ كما في نموذج "ديفيد برلو" في الاتصال(19)، وبالتالي فتفاؤل المسلم برسالته وإيمانه القوي بها وموقفه الإيجابي إزاء ما يحمله من مهام إنما يمثل شرطاً أساسياً من شروط الاتصال.

والواقع أن فهم المتصل لثقافته الإسلامية يختلف من متصل إلى آخر. ولا جدال أن الفهم الصحيح والعميق لايتأتى من مجرد المعرفة الأصولية، بل من إدراك للعصر ومتغيراته، والقدرة على إنزال الأفكار والنماذج على الواقع، وبذهن يلبي مطالب التغيير والتجدد. لهذا فإن من مدعّمات الرسالة قدرة المتصل على إجراء المقارنات الموضوعية بين الإسلام والأديان والأيديولوجيات الأخرى إذا كان انتماء المجتمع المُخاطَب هو لأديان أو آيديولوجيات أخرى.

إنه من حسن الاتصال أن يكون لدى المتصل معرفة بالاتجاهات السائدة على النحو الذي يمكنه من إجراء المقاربات الذكية التي تساعده على تنوير المُخاطَبين وإقناعهم والوصول معهم إلى حالات من التفاهم.

وإضافة إلى الثقافة الإسلامية لابد من إلمام المتصل بالثقافة العامة بمعناها الموسوعي الشامل للمعرفة بالشعوب والبلدان التي يعمل في أوساطها المتصل، والوعي بالأطر التاريخية والسياسية والثقافية المحيطة، فضلاً عن معرفة بالقوى والتيارات السائدة.

إن هذا اللون من التحصيل لابد من تأطيره بألوان من الثقافة النفسية والاجتماعية والأدبية والفنية والطبيعية، ذلك أن فعالية المتصل في مخاطبة الآخر تتوقف إلى حد كبير على مدى إحاطته بالثقافة الإنسانية ووعيه بسياقات العصر وأحداثه الجارية.

ولاشك أن حيازة هذه المستويات ستشكل أرضية ملائمة لإجراء الكثير من الحوارات التي قد تقود إلى الفهم والتفاهم.

ويدخل تعلم اللغات الأجنبية وإجادتها من تلك الثقافة المطلوبة.

علم الاتصال وفنونه الحديثة : الشروط الثقافية لا تكفي وحدها في صناعة المتصل الناجح، بل لابد من توافر شروط المعرفة بعلوم الاتصال وفنونه، كالإعلام والدعاية وعلم النفس الاجتماعي والرأي العام وتكوين الاتجاهات وتغييرها، فضلاً عن مبادىء الحوار وقواعده والإعلاميات عامة، وهي جميعاً مهمة وضرورية بالنسبة إلى أي برنامج في التأهيل الاتصالي.

إن نقطة البداية في المعرفة الاتصالية هي الإلمام بأركان الاتصال والإدراك الكافي لشروط كل ركن وما يتطلبه من مستلزمات.

وإعداد المتصل يتطلب صفات إقناعية ونفسية وجماعية وتنظيمية وبدنية(20)، كما يشمل جوانب نظرية وتطبيقية (21). وقبل هذا لابد أن يكون المُتصل عالِماً بمحتوى الرسالة ومجتهداً في عرضها، ويمتلك مهارة استخدام وسائلها بما يتلاءم مع موضوع الاتصال ومكانه وزمانه، فضلاً عن إدراك المتصل لخلفية المُخاطب وظروفه وأُطره الاجتماعية، واختيار أنسب الأساليب والتقنيات للاتصال به، ذلك أنه بدون إيجاد التوافق والتناغم بين المتصل والمتصل به لا يمكن أن يكون الاتصال ميسراً، وهذا يتطلب ابتداء وجود مجال خبرة مشترك يوفر الفهم(22) المتبادل بين طرفي العلاقة.

ب) تكييف المحتوى : من حيث اللغة والمدلول : من شروط الاتصال الجيد أن يُخاطب المستهدف بلغته وإن أمكن بلهجته، فذلك أدعى إلى تحقيق الاتصال السريع الفعال، كما من المهم أن تراعى في الخطاب المباشر أو غير المباشر المعاني والمدركات التي يعيها المستقبِل، لذا من غير المناسب أن تُستخدم دلالات متداولة في الإطار اللغوي : العربي أو الفارسي أو الأوردي ...إلخ، وتترجم حرفياً إلى لغات الآخرين، ذلك أن لكل جماعة مرجعيتها الرمزية وحُزم دلالاتها الفكرية، وعلى هذا الأساس لابد من تكييف المفاهيم والمعاني ونقلها في إطار صياغات واضحة وبسيطة وغير معقدة، بحيث تتناسب مع لغة المُخَاطب ومدركاته، وبما يُقرّب المفهوم أو الخطاب إلى ذهنه، ذلك أن الفهم اللغوي أو الدلالي إذا ما أسيء فهمه، فقد يعطي انطباعاً سلبياً يتصادم مع ما يرجوه المتصِِل.

من حيث التلاؤم مع الخلفية الثقافية والأطر الاجتماعية : لنجاح الاتصال لابد أن يُكيف المحتوى بحسب الخلفية الثقافية والإطار الاجتماعي للمتلقي، لذا فإن مايوُجه للأفريقي يجب أن يلائم شخصيته وإطاره الاجتماعي، وما يوُجه للأوربي يجب أن يلائم شخصية الأوربي وإطاره الاجتماعي، وهذا بالنسبة للآخرين.


وعلى مستوى آخر، ما قد يقدم للمتدين قد لا يناسب تقديمه إلى العلماني، ومايُقدم للوثني قد لايليق بالكتابي، فثقافة المتلقين وسيكولوجيتهم ومعادلاتهم الاجتماعية وما يكتنف كلاً منهم من ظروف واهتمامات لحظة الاتصال، هو ما ينبغي أن يحدد صياغة المضمون، ومن ثم فإذا كان من المناسب توزيع شريط كاسيت يحوي مضموناً يلائم المتلقي في الهند، فإنه قد لايكون ملائماً تقديمه إلى متلق آخر في السويد أو اليابان، فلكل قوم أو جماعة مايناسبهم وما يلائم ظروفهم وأطرهم الاجتماعية العامة من موضوعات وصياغات.

من حيث الطرق والأساليب : طبيعة المتلقي وتوقعاته وملابسات الموقف الاتصالي وشروط الزمان والمكان والظروف الآخرى المحيطة تلعب أدواراً في تحديد الطرق والأساليب المناسبة للاتصال.

فعلى مستوى الطرق، يمكن اللجوء إلى المحاضره أو الخطبة أو المناظرة أو الإعلان أو الكتابة، وذلك بحسب ما يقتضيه واقع حال المتلقي ونوعيته ووضعه ومستواه، وما يكتنف لحظة الاتصال من أوضاع وملابسات.

أما على صعيد الأساليب، فقد يصح اللجوء في حالة إلى أسلوب الاستمالات العاطفية، فيما لا ينجح في حالة أخرى إلاّ الأسلوب المنطقي القائم على الحجة والبرهان. كما قد يكون من الملائم اتباع أسلوب العرض الأُحادي، فيما لايكون ملائماً في حالات إلاّ العرض الذي يجمع بين وجهة النظر وما يخالفها. وإذا كان الأسلوب التكراري مفيداً في بعض الحالات، فقد لا يكون ذا معنى في حالات غيرها.

إن الخطاب الاتصالي الذي يجنح إلى التعالي الأخلاقي والنبرة التوبيخية أو أسلوب الإدانة والإفحام، قد يكون مردوده عكسياً، فلو كان الوسط المخاطب تسوده مثلاً بعض الانحرافات فليس من المناسب أن يواجه بالتعرية أو النقد القاسي، كما قد لايكون من الملائم أن يواجه المنقود بالأفكار والبدائل التصحيحية دفعة واحدة، فقد يكون من المستحسن الأخذ بالمسايرة والمغالبة التدريجية مع تجنب الإيغال في النفاذ إلاّ بالقدر الذي يشعرمعه المتصل بأنه قد تقدم في مجال التأثير وإحداث الاستجابة بما يطمئنه من جدوى ما يقوم به وبما يدفعه للتحرك خطوات أوسع أو أعمق حتى يبلغ الغاية.

وفي كل الأحوال تظل أساليب مخاطبة الآخر بمثابة أدوات لحوار متواصل وهي على الدوام قابلة للتكييف والتعديل، وأنه من الأسلم التعامل مع السلوك الفردي أو الجماعي على أساس "الفرصة المفتوحة"، وليس من الصحيح تضييق ما وسعه الله من حق الاختلاف، كما ليس من الحصافة إطلاق الأحكام النهائية، وإغلاق الباب.

من هنا يبدو خطأ النظرية التي يعتنقها غير قليل من المسلمين والتي مفادها أن العالم كله ضدنا أمس واليوم وغداً، وهي نظرية متشائمة ولا نعتقد أنها تقود إلى شيء غير الكراهية أو الانسحاب.

إن الإيمان القوي بجدوى الاتصال من شأنه أن يعطي نتائج إيجابية، فلربما {يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}(23)، وما دام هذا الإمكان وارداً فلِمَ لايكون الاتصال قائماً، لا سيما وأن احتمال اقتطاف الثمار الإيجابية أقوى مع أولئك الذين يبتغون الهدى ولكن لا يعرفون إليه السبيل (24).

ج) الوسيلة : التنويع والاختيار المناسب: الوسيلة هي الأداة أو القناة التي تحمل الرسالة: وبالنظر لأهميتها سواء من حيث الشكل أو الطبيعة أو الكفاءة، فقد اعتبرها باحث الإعلام المعروف" مارشال ماكلوهن " أهم من المضمون(25).


ومن شروط الاستخدام الجيد للوسيلة حسن اختيارها، فإذا كنا نعرف أن الاتصال الإسلامي الخارجي زمن البعثة النبوية قد استخدم المبعوثين والرسائل حيث كان النبي ص يوفد إلى زعماء القبائل وأهل الجهات، وكان يكتب إلى الملوك كملك فارس وملك مصر وملك الحبشة، فإن قنوات الاتصال المعاصر قد أضحت من التنوع والاتساع ما قد يوفر إمكانات متعددة ومتنوعة للاتصال، وبما يلبي ظروف كل حالة.

إن الاستخدام الأمثل لكل وسيلة يرتبط بأمكنة الاتصال الشخصي وأوقاته وظروفه، ففي حالات قد يكون الاتصال المباشر هو الأنسب، وفي حالات قد تكون الوسائل غير المباشرة كالإذاعة والتلفزيون والصحف هي الأنسب، وفي حالات ثالثة يكون من الأنسب الجمع بين الاتصال المباشر وغير المباشر.

من هنا من الضروري على رجل الاتصال أن يكون على دراية كافية بطبيعة كل وسيلة وما تحمله من إمكانات وتقنيات، وأن يكون على إلمام كافٍ باستخدامها، وأن يختار الوسيلة المناسبة للخطة الإعلامية المناسبة. فمن المعروف أن المسموع غير المرئي، والمكتوب يختلف عن غير المكتوب، والاتصال الشخصي غير الاتصال الجماهيري.

الوسيلة واستخدام الإطار الجمالي المناسب : يدخل في مجال الصياغة المناسبة تقديم الوسيلة في إطار جمالي مناسب، فالناس بطبيعتها تتأثر بالخطابات والعروض المقدمة ضمن أطر ووسائل فنية جميلة، كالنص المُصاغ بشكل جيد والصورة المتحركة أو البطيئة التي تلائم المقام، والسيناريو والإخراج المتقنين، والكتاب المطبوع طباعة فاخرة والمزين بحروف جميلة أو رسومات دالة وجذابة، كل ذلك أفضل في مجال التأثير من الأعمال المقدمة بطريقة بدائية أو ساذجة أو رثة. فالكتاب ذو الورق الردىء أو التنفيذ الطباعي المضطرب أو الفهارس المتعبة أو الغلاف القبيح أو العنوان الباهت، يُفقد رسالة المتصل الكثير من التأثير، وكذلك الخطبة التي تعوزها قوة المعنى وجمال الأداء. وهكذا بالنسبة لبقية الأعمال والأنشطة، حتى ليمكننا القول بأن الاتصال الذي يجري ضمن إطار فني عالٍ قد يكون مؤثراً ولو كان ضعيفاً أو كاذباً، ولربما يتفوق على الاتصال الصادق إذا ما افتقد هذا الأخير تلك العناصر الجذابة(26).






رد مع اقتباس