عرض مشاركة واحدة
قديم 09-24-2012, 02:15 PM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

OM_SULTAN

المشرف العام

OM_SULTAN غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








OM_SULTAN غير متواجد حالياً


رد: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ملخص أول

ثالثًا: صيغ العموم المشتهرة: للعموم صيغ كثيرة، نقتصر على ذكر المشتهرة منها، وهي:

1- كل وجميع وما يلحق بهما: ويشترط لعمومها ألاَّ تُسبق بنفي، مثاله: قوله - تعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وقوله - تعالى -: {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].

2- الجمع المعرف بأل الجنسية والمضاف: مثال الأول: المسلمين والمسلمات في قوله - تعالى -: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...} [الأحزاب: 35]، ومثال الثاني: أموال اليتامى في قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

3- اسم الجنس المعرف بأل والمضاف إلى معرفة: ومثال اسم الجنس المعرف بأل: المسلم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم))؛ (رواه الشيخان)، ومثال اسم الجنس المضاف إلى معرفة: أرضهم، في قوله - تعالى -: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} [الأحزاب: 27].

4- أسماء الشرط: وهي: "من" لجمع العقلاء، و"ما" لجمع غير العقلاء، و"متى وإذا" تفيدان العموم في الزمان، و"حيث وأين وأنى" تفيد العموم في المكان، و"أي"، وهي تفيد العموم في ما تضاف إليه.

5- الأسماء الموصولة: وما يفيد العموم منها: "من" للعقلاء، وغير العقلاء، و"ما" الموصولة لغير العاقل غالبًا، و"الذي والتي" وفروعهما إذا كانت محلاة بأل الجنسية، و"أي" الموصولة في الغالب.

6- أسماء الاستفهام: وما يفيد العموم منها: من الاستفهامية، وما، وأين، وأنى، ومتى، وأيان، وأي، وكم.

7- النكرة في سياق النفي وما في معناه: ويشترط لإفادتها العموم ألاَّ يكون النفي الذي يتقدم سِيقَ لسلب الحكم عن المجموع، ومثالها كلمة (إله) في قوله - تعالى -: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 255].

8- ظروف الاستمرار: ومثالها كلمتا "أبدًا ودائمًا" ونحوهما، فتفيدان العموم في الزمان، كقوله - تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} [القصص: 71].


رابعًا: الخلاف في وضع صيغة للعموم:

ذهب الجمهور إلى أن ألفاظ العموم تدل عليه من غير حاجة إلى قرينة، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: قوله - تعالى -: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 31، 32]، ومحل الشاهد تمسك إبراهيم - عليه السلام - به، واستدلوا على ذلك أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الحُمُر الأهلية: ((ما أنزل عليَّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]))؛ (رواه الشيخان)، ومحل الشاهد تمسُّكه - صلى الله عليه وسلم - بالعموم في الآية، واستدلوا أيضًا بإجماع الصحابة والتابعين على ذلك.


وذهب الباقلاني وأبو الحسن الأشعري إلى أنها صيغ مشتركة، ويسمى هذا المذهبُ مذهبَ أرباب التوقُّف، واستدلوا بأدلة، منها: أن هذه الصيغ أوردها الشارع للعموم تارة، وللخصوص أخرى، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون مشتركة بين العموم والخصوص، وبالتالي يجب التوقفُ حتى تَرِدَ القرينة.


وذهب البعض إلى أنها صيغ تُحمل على أخص الخصوص، وهو أقل ما يطلق عليه اللفظ، ويسمى هذا المذهب مذهبَ أرباب الخصوص، واستدلوا بأدلة، منها: أن هذه الصيغَ استُعملتْ في الخصوص أكثرَ من استعمالها في العموم، فتحمل على الخصوص، ما لم تردْ قرينة صارفة، وأن دلالتها على ما زاد على أخص الخصوص مشكوكٌ فيها، فتحمل على أخص الخصوص لتعيُّنه.


خامسًا: قوة دلالة العام: اتفق العلماء على أن العام الذي ورد على سببٍ خاص على صورة السبب، دلالتُه قطعية، إذ إنه لا يمكن تخصيص صورة السبب من العموم، واتفقوا على أنه يدل على أخص الخصوص قطعًا، واختلفوا في غير ذلك من صور العام؛ فذهب الحنفية إلى أن دلالة العام قبل تخصيصه قطعيةٌ في كل فردٍ من أفراده بخصوصه، واستدلوا على ذلك بالوضع اللُّغوي، فألفاظُ العموم وُضعتْ للعموم قطعًا، ولو جاز عدم العموم من غير قرينة، لارتفع عن اللغة والشرع الأمان، ولزم من ذلك التكليف بما فوق الطاقة.


وذهب الجمهور إلى أن دلالة العام على كل فرد من أفراده بخصوصه ظنية، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: أن التخصيص محتمل، وبالتالي لا يمكن القطع بالعموم في كل فرد، وأن أدلة الأحكام العامة خصصتْ في الغالب، وردُّوا على أدلة الحنفية بأن الدليل الأول غير مسلَّم به، وردوا عن الثاني بأنه لا تلازم بين إرادة الخصوص من العام، وارتفاع الأمان عن اللغة.


ويرجح المؤلف مذهب الجمهور، وبالتالي فلا عموم في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، وإنما خصصت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))؛ (رواه الشيخان).


سادسًا: العام بعد التخصيص: اتفق الجمهور من الأصوليين على أن دلالة العام الوارد بعد التخصيص على العموم ظنيةٌ، واحتجوا بأدلة، منها: إجماع الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم على ذلك.


سابعًا: العموم الوارد على سبب: اتفق العلماء على أن صورة السبب تدخُل في الحكم العام الوارد على سبب خاص، واختلفوا في الصور الأخرى، وهي قسمان: الأول: أن يكون عموم اللفظ لها جزءًا من الجواب، بحيث لا يتم إلا به، والثاني: أن يكون عموم اللفظ زائدًا عن الجواب، بحيث يمكن فهمه بدونه، ومثال ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن الوضوء بماء البحر: ((هو الطهور ماؤه، الحل ميتتُه))؛ (رواه أحمد)، ففي جوابه - صلى الله عليه وسلم - عمومان: الأول: لا يتم الجواب إلا به، وهو قوله: ((هو الطهور ماؤه))، وهو عموم جواب، وقوله: ((الحل ميتته))، وهو عموم زائد عن الجواب، وهو خارج عن محل النزاع؛ إذ لا سبب له، فيكون عامًّا في كل ميت من أموات البحر، والأول هو محل النزاع، ومثاله: قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ...} الآية [المجادلة: 3]، فهذه الآية جواب عام في موضع السؤال، وقد اختلف العلماء في الجواب العام في موضع السؤال؛ فذهب الجمهور إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واستدلوا بأدلة، منها: احتجاج الصحابة بالآيات العامة الواردة على سبب خاص، وحمْلها على العموم، كآيات الظِّهار ونحوها، وأن الحكم يؤخذ من نص الشارع، والنص عامٌّ، فيظل على عمومه، وأن العدول من الشارع عن الجواب الخاص إلى ألفاظ العموم يدل عليه، وذهب أبو حنيفة ومن معه إلى أنه يدل على الخصوص، فيقصر على سببه، واستدلوا بأن عناية العلماء واتفاقهم على نقل أسباب النزول يؤكِّد مذهبهم، ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور؛ لقوة أدلتهم، ولأن نقل أسباب النزول لا يدل على ما ذكروه.


ثامنًا: دخول المخاطب في عموم خطابه: اختلف العلماء: هل يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عموم خطابه الذي خاطب به الصحابة أو لا؟ ذهب البعض إلى دخوله؛ لأن أصل اللغة يستلزم ذلك، وذهب البعض إلى عدم دخوله؛ لأن خطابه للغير قد يكون أمرًا أو نهيًا، وفرَّق بعضهم بين الخبر والأمر والنهي، فقالوا: يدخل في الخبر، ولا يدخل في الأمر والنهي؛ لأنه يمتنع أن يأمر الإنسان نفسه وينهاها، ويرجح المؤلف القول الأول، وأنه لا يخرج من الخطاب إلا بدليل.


تاسعًا: دخول العبيد والإماء والكفار في الخطاب العام: ذهب الجمهور إلى العموم، وإلى دخولهم في الخطاب العام، وبالتالي لا يخرجون منه إلا بدليل.


عاشرًا: العمل بالعام قبل البحث عن المخصِّص: يذهب المؤلف إلى أنه يختلف الحكم بالنسبة للعلماء المجتهدين والعوام؛ فالعلماء المجتهدون يعملون بالعام قبل البحث عن المخصص، وأما العوام فلا يجوز لهم العمل بالعام قبل سؤال أهل الذِّكر عن المخصص.


المبحث الثاني

في التخصيص

ويشمل ما يلي:

أولاً: تعريف التخصيص: يراد به في اللغة الإفراد والتمييز، وفي الاصطلاح بيان أن المراد بالعام بعض ألفاظه.

ثانيًا: أركان التخصيص: وأركانه هما المخصِّص، والمخصوص، فالمخصص هو الدليل الخاص الذي به تخرج بعضُ أفراد الخاص عن حكمه، أو يبين أن بعض أفراد العام غير مقصودة للشارع، والمخصوص هو العام الذي دلَّ الدليل على أنه ليس مقصودًا به جميعُ مسمياته.

ثالثًا: الفرق بين النسخ والتخصيص: وأهم الفروق بين التخصيص والنسخ أن التخصيص إخراجٌ لبعض أفراد العام، بخلاف النسخ، فهو رفعٌ للحكم بعد ثبوته، وأن التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد، بخلاف النسخ، فقد يشمل جميعَ أفراد العام، والتخصيص يدخل الأخبار، بخلاف النسخ، فلا يدخلها، والتخصيص قد يكون مقترنًا، بخلاف النسخ، فلا يكون إلا متأخرًا.

رابعًا: شروط التخصيص: يشترط الحنفية للتخصيص أن يكون المخصص مستقلاًّ عن المخصوص، وأن يكون مقارنًا له؛ إذ لو تأخَّر عنه لكان ناسخًا، ويخالفهم الجمهور فلا يشترطون ذلك.


ويقسمون المخصصات إلى مخصصات متصلة ومخصصات منفصلة، فأما المخصصات المتصلة فهي:

1- الاستثناء: وهو إخراج بعض الجملة عن حكمها بإحدى أدوات الاستثناء، وأهم أدواته: إلا، وغير، وسوى، وخلا، وعدا، ومنه قوله تعالى - بعد أن عدَّد بعض الأفعال المنكرة -: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68،70]، فالاستثناء أخرج من عموم المستحقين للإثم التائبين.

2- الشرط: ومثاله: حديث: ((تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام، إذا فقهوا))؛ (رواه البخاري).

3- الصفة: وتشمل كلَّ ما يميز بعض المسميات عن بعض، كالنعت، والحال، والظرف، والجار والمجرور، مثاله: قوله - تعالى -: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].

4- الغاية: ويقصد بها نهاية الشيء، وألفاظها هي: حتى، وإلى، مثاله: قوله - تعالى -: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة222].

5- البدل: ومثاله: قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].


شروط الاستثناء: يسوق العلماء شروطًا للاستثناء، بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وهي:

الشرط الأول: الاتصال: ويراد به الاتصال اللفظي أو الحكمي بين المستثنى والمستثنى منه، فالأول يكون بعدم الفصل بينهما بفاصل، والثاني يكون بالفصل بينهما بفاصل يسير، لكنه لا يدل على انقطاع الكلام، كالفصل لبلع ريق، أو سعال، ونحوهما، واشتراط الاتصال هو مذهب الجمهور، واستدلوا بأدلة، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلَف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها، فليكفِّر عن يمينه، وليأتِ الذي هو خير))؛ (رواه مسلم)، والشاهد فيه أنه لو صح الاستثناء المتأخِّر لما أمره بالكفارة، واستدلوا أيضًا بأن الاستثناء إذا صح تأخرُ النطق به لسادت الفوضى، ولما وثق الناس بعهد ولا عقد، ولما حنث في يمينه حالفٌ قط.


ونُقل عن ابن عباس خلاف مذهب الجمهور، فقيل: إنه قال: يجوز تأخر الاستثناء شهرًا أو شهرين، وقيل: سنة، وقد ثبت النقل عن ابن عباس أنه قال: إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة، ومما استدل به أصحاب هذا الرأي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والله لأغزوَنَّ قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشا، إن شاء الله))؛ (أخرجه أبو داود)، ورد على هذا الدليل بأنه لم يكن ثمة فاصل.


وذهب رأي ثالث إلى جواز الاستثناء ما دام في المجلس، واستدلوا بحديث خيار المجلس، ورد عليهم بأن خيار المجلس ثبت بنصٍّ خاص، فلا يقاس عليه.


الشرط الثاني: عدم الاستغراق: وهو شرط متفق عليه، فلو استغرق الاستثناء المستثنى منه، فالاستثناء باطل، كما لو قال من في عصمته ثلاث نسوة: نسائي طوالق إلا ثلاثًا، فيقع الطلاق ولا يصح الاستثناء، وقصر بعضهم هذا الشرط على الاستثناء من العدد، أما الاستثناء بالصفة فالاستغراق فيه جائز؛ لأنه لا ينافي كلام العرب، بخلاف الأول.


الشرط الثالث: أن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى: وقد ذهب بعض العلماء إلى اشتراطه، وقالوا ببطلان الاستثناء إذا لم يتوافر فيه هذا الشرط.


الشرط الرابع: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.


الشرط الخامس: أن ينوي الاستثناء حين النطق بالمستثنى منه: وهو مذهب الجمهور، وخالف فيه بعض العلماء، والراجح مذهب الجمهور.


الاستثناء المتعقب للجمل: صورة المسألة: إذا تعقب الجملَ المعطوف بعضها على بعض استثناءٌ، فهل يعود الاستثناء على الجميع أو لا؟ كما في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68، 70].


والخلاف قائم، سواء أكان الاستثناء واردًا بعد جملة أم ورد بعد مفردات، وسواء كان العطف بالواو أم بغيرها من أدوات العطف، ما لم توجد قرينة تبيِّن علامَ يعود الاستثناء، فذهب الجمهور إلى عَوْده على الجميع، واستدلوا بأدلة، منها: قياس الاستثناء على الشرط، وأن إعادة الاستثناء بعد كل جملة عيٌّ ولكنةٌ في الكلام، والفصاحة أن يذكر بعدها ويعود على الجميع.


وذهب الحنفية إلى أنه يعود على الجملة الأخيرة فقط، واستدلوا بأدلة، منها: أن العموم ثابت في كل جملة بيقين، وعود الاستثناء على الجميع مشكوك فيه، فلا يُرفَع اليقين بالشك، وأن عود الاستثناء إلى ما قبله إنما هو لضروة عدم الاستقلال، والضرورة تقدَّر بقدرها، وقد عاد إلى الأخير باتفاق، فلا ضرورة لعوده على الجميع.


ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور؛ لقوة أدلتهم، وبناء عليه، فالقاذف المجلود إذا تاب تقبَل شهادته؛ لعود الاستثناء في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5] على الجميع، فالتائب المجلود تُقبَل شهادته، ويرتفع عنه وصف الفسق.


الاستثناء من النفي: اتفق العلماء على أن الاستثناء من الإثبات نفي، واختلفوا في الاستثناء من النفي، فذهب الجمهور إلى أنه إثبات، واحتجوا بالإجماع على أن من قال: لا إله إلا الله، أصبح مسلمًا، ولو لم يكن الاستثناء من النفي إثبات، لما أصبح بقوله مسلمًا.


وذهب الحنفية إلى أن الاستثناء من النفي ليس إثباتًا، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور))؛ (رواه مسلم)، وقالوا: لو كان الاستثناء من النفي إثباتًا، لكان معنى الحديث إثبات الصلاة لوجود الطهور، وهو غير صحيح باتفاق، فقد يوجد الطهور ولا توجد الصلاة، ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور.


الشرط الذي يحصل التخصيص به: ذهب بعض المحققين من الأصوليين إلى أن الشرط المخصص هو الشرط اللغوي، وهو ما كان التعليق فيه بإحدى أدوات الشرط المعروفة، وهذا هو الرأي الراجح.


ومما ينبغي ملاحظته أن الشروط اللغوية أسباب، وقد حرَّر هذه القاعدةَ القرافيُّ في أكثر مصنفاته، حيث قسم الشروط إلى شرط شرعي، وشرط عقلي، وشرط عادي، وشرط لغوي، فالثلاثة الأولى يلزم من عدمها العدم، ولا يلزم من وجودها الوجود ولا العدم لذاته، بخلاف الشروط اللغوية، فهي وإن سميت شروطًا إلا أنها في الحقيقة أسباب؛ إذ يلزم من وجودها الوجود، ويلزم من عدمها العدم، فلو قال الزوج لزوجته: إن خرجتِ من بيتي فأنت طالق، فخرجتْ، تكون طالقًا؛ لأن الشروط اللغوية أسباب.


الشرط المتعقب جملاً: يذهب الجمهور إلى أنه يعود على الجميع، وذهب البعض إلى أنه يعود على الجملة الأخيرة، ومذهب الجمهور هو الراجح، ومثاله قوله - تعالى -: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89].


ما بعد الغاية هل يدخل في حكم ما قبلها؟

ذهب الجمهور إلى أنه يدخل في حكم ما قبلها، وذهب بعض العلماء إلى خلافه، وذهب آخرون إلى التفصيل، فاشترطوا لدخول ما بعدها في حكم ما قبلها أن يكون ما بعد (حتى) من جنس ما قبلها، ويذهب المؤلف إلى ترجيح القول الثالث، وبالتالي لو باع رجل لآخر بستانًا، وقال له: بعتك من تلك الشجرة إلى تلك الشجرة، فننظر إلى تلك الشجرة، فإن كانت من جنس المبيع دخلتْ، وإلا فلا.


وأما المخصصات المنفصلة، ويقصد بها كل دليل مستقل بنفسه، بحيث لا يحتاج إلى ذِكر لفظ العام معه، فهي:

1- الحس: ومثال التخصيص به تخصيص عموم قوله - تعالى -: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]، وإخراج الجبال من العموم، فالمحسوس أنها ما صارت كالرميم.

2- العقل: ومثال التخصيص به تخصيص عموم قوله - تعالى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وإخراج ذاته - تعالى - من العموم، فالعقل دالٌّ على أنه - تعالى - لم يخلق نفسه.

3- النص: وهو أربعة أقسام، هي:

أ- تخصيص القرآن بالقرآن: ومثال التخصيص به تخصيص قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، بقوله - تعالى -: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]، فالمطلقة اليائسة من المحيض عدتُها ثلاثةُ أشهر لا قروء.

ب- تخصيص القرآن بالسنة: ومثاله تخصيص قول الله - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس للقاتل شيء))؛ (رواه مالك)، وتخصيص القرآن بالسنة مسألة خلافية، ذهب فيها الجمهور إلى الجواز، واستدلوا بأدلة، منها: إجماع الصحابة على ذلك، ومن هذا أن فاطمة جاءتْ إلى أبي بكر تطلب ميراثها، فبيَّن لها أبو بكر أنها لا تستحق شيئًا من ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نورث، ما تركناه صدقة))؛ (رواه الشيخان)، وذهب بعض المتكلمين إلى عدم الجواز، واستدلوا بقصة عمر مع فاطمة بنت قيس، والرد عليهم أن ذلك ليس لاعتقاد عمر أن السنة لا تخصص القرآن، وقد بيَّن ذلك بقوله: "لا ندري لعلها حفظت أو نسيت"؛ (رواه مسلم)، ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور؛ لقوة أدلتهم، وبالتالي فقراءة الفاتحة ركن في الصلاة، لا مجرد قراءة القرآن مطلقًا.

ج- تخصيص السنة بالسنة: ومثاله تخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فيما سَقَتِ السماء العُشر))؛ (رواه البخاري)، بقوله: ((ليس فيما دون خمس أوسق صدقة))؛ (رواه الشيخان).

د- تخصيص السنة بالقرآن: ومثاله تخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله))؛ (رواه أبو داود)، بقوله - تعالى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29].

4- القياس: وقد اختلف العلماء في جواز تخصيص القرآن والسنة بالقياس، فذهب بعض العلماء إلى الجواز مطلقًا، وذهب البعض إلى المنع مطلقًا، وذهب بعضهم إلى جواز التخصيص بالقياس الجلي، وذهب بعضهم إلى جواز التخصيص بالقياس إذا كان العام قد سبق تخصيصُه، وذهب المؤلف إلى ترجيح القول الثالث، ومثاله: تخصيص قوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، بقياس العبد على الأمَة، والمستفاد عقوبتها من قوله - تعالى -: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].

5- الإجماع: ومثاله تخصيص عموم قوله - تعالى -: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] بالإجماع على عدم جواز الأكل من هدي جزاء الصيد.

6- المفهوم: وينقسم إلى موافق ومخالف، مثال التخصيص بالأول: تخصيص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته))؛ (رواه ابن ماجه)، بمفهوم الموافقة المستفاد من قوله - تعالى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23].


ومثال الثاني: تخصيص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الماء طهور لا ينجِّسه شيء))؛ (رواه أحمد)، بمفهوم المخالفة المستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))؛ (رواه أبو داود).


الفصل الثالث

المطلق والمقيد

أولاً: تعريف المطلق والمقيد: المطلق في اللغة: الخالي من القيد، وفي الاصطلاح: هو ما دل على الماهية من غير وصفٍ زائد عليها، مثاله: (رقبة) في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، فالرقبة مطلَقة لم توصف بوصف زائد على الماهية، والمقيد في الاصطلاح: هو ما تناول معينًا أو موصوفًا بوصف زائد على الماهية، وهو نوعان: المعين، كالعلم، وغير المعين الموصوف بوصف زائد على الماهية، مثاله: قيد الإيمان في الرقبة في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

ثانيًا: حمل المطلق على المقيد: اتفق العلماء على أن الدليل المطلق عن القيد يُحمَل على إطلاقه، وأنه إذا ورد دليل على تقييد المطلق فيحمل عليه.

ثالثًا: اللفظ المطلق في موضع المقيد في موضع آخر: إذا أُطلق اللفظ عن القيد في موضع، وقيِّد في موضع آخر، له صور بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وهي:


الصورة الأولى: اتحاد الحكم والسبب في الموضعين: ويحمل فيها المطلق على المقيد اتفاقًا، مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم - عن لباس المُحرِم: ((من لم يجد نعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين))؛ (رواه الشيخان)، وقوله: ((فليلبس الخفين))؛ (رواه الشيخان)، فيحمل المطلق على المقيد، وبالتالي يجب على المحرم قطع أسفل الخفين إذا لم يجد نعلين.

الصورة الثانية: اختلاف الحكم والسبب في الموضعين: ولا يحمل فيها المطلق على المقيد اتفاقًا، مثاله: قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله - تعالى -: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فلفظ الأيدي المقيَّد في الثانية بكونه إلى المرافق، لا يحمل عليه الأيدي في قطع يدي السارق.

الصورة الثالثة: اتحاد الحكم واختلاف السبب: وقد اختلف العلماء في هذه الصورة؛ فذهب البعض إلى حمل المطلق على المقيد من طريق اللغة، وهم بعض الشافعية وبعض الحنابلة، وذهب البعض إلى حمل المطلق على المقيد من طريق القياس، بشرط توافر شروطه، وهو رأي بعض الحنابلة، وذهب البعض إلى عدم حمل المطلق على المقيد، وهو رأي الحنفية، ومثاله: قوله - تعالى - في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وقوله - تعالى - في كفارة القتل الخطأ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، ويذهب المؤلف إلى ترجيح حمل المطلق على المقيد بطريق القياس لا اللغة.

الصورة الرابعة: اتحاد السبب واختلاف الحكم: وقد اختلف العلماء في هذه الصورة؛ فذهب البعض إلى حمل المطلق على المقيد، وهو رأي بعض الشافعية، وذهب الجمهور إلى خلافه، ومثاله: قوله - تعالى - في الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وقوله - تعالى - في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، فالأيدي مقيدة في آية، ومطلقة في آية، وقد اتحدَّ السبب، وهو إرادة رفع الحدث، واختلف الحكم، وهو الوضوء والتيمم.

رابعًا: شروط حمل المطلق على المقيد: يشترط العلماء لحمل المطلق على المقيد شروطًا، وهي:

1- أن يكون القيد من باب الصفات، كالإيمان في الرقبة.

2- ألا يعارَض القيد بقيد آخر.

3- أن يكون المطلق واردًا في الأوامر والنواهي.

4- ألا يقوم دليل على منع التقييد.


الفصل الرابع

المنطوق والمفهوم

تمهيد: يقسم جمهور الأصوليين الدلالات إلى منطوق ومفهوم، ويقسمها البعض إلى منظوم وغير منظوم، ويعرف المنطوق في الاصطلاح بأنه: ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق، كدلالة قوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] على الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويعرف المفهوم في الاصطلاح بأنه: ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق، كدلالة قوله - تعالى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على تحريم ضرب الوالدين وشتمهما.


ويقسم الجمهور المنطوق إلى صريح وغير صريح؛ فالصريح يتناول: المطابقة والتضمن، وغيرُ الصريح يتناول دلالة الاقتضاء، ودلالة الإيماء، والإشارة (المفهوم بنوعيه).


وأما الذين عبَّروا بالمنظوم وغير المنظوم، فيقسمون المنظوم إلى دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، ويقسمون غير المنظوم إلى الاقتضاء والإيماء، ومفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، ونحن سنسلك هذا التقسيم الأخير.


1- دلالة المنظوم: وهي دلالة اللفظ على معناه بالوضع اللغوي، وتشمل المطابقة والتضمن.

2- دلالة الالتزام: وهي ما دلَّ عليه اللفظ بغير صريح صيغته ووضعه، وتشمل دلالة الاقتضاء، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء، ودلالة المفهوم، ونتناولها تباعًا:

أولاً: دلالة الاقتضاء: وهي دلالة اللفظ على معنى مسكوتٍ عنه، لا يصدق الكلام ولا يكون صحيحًا شرعًا أو عقلاً إلا بتقديره، والمعنى المقدَّر يسمى المقتضى، وينقسم إلى: ما يتوقف عليه صدق الكلام، كما في حديث: ((لا وصية لوارث))؛ (رواه البخاري)، فالواقع وجود الوصية للوارث، ولصدق الكلام لا بد من تقدير: صحيحة أو نافذة.


ومنها ما يتوقف صحة الكلام شرعًا على تقديره، كما في قوله - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ففي الشرع أن القضاء لا يجب إلا على من أفطر، وبالتالي يجب تقدير مقتضى، وهو: فأفطر؛ ليستقيم المعنى شرعًا.


ومنها ما يتوقف عليه صدق الكلام عقلاً، كما في قوله - تعالى -: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]، ففي العقل أن القرية لا تُسأل؛ لأنها أحجار وأشجار، وبالتالي لا بد من تقدير مقتضى، وهو: أهل؛ ليستقيم المعنى عقلاً.


ثانيًا: دلالة الإشارة: وهي دلالة اللفظ على حكمٍ غير مقصود للمتكلم، ولا سِيقَ الكلامُ من أجله، لكنه لازم للمعنى، كدلالة قوله - تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] على صحة صيام من أصبح جنبًا من أهله.


ثالثًا: دلالة الإيماء: وهي دلالة اللفظ على مقصودٍ لازم للمتكلم، يفهم منه التعليل؛ لاقتران الحكم بوصف مناسب، كدلالة قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] على أن علة القطع السرقة.


رابعًا: دلالة المفهوم:

1- مفهوم الموافقة: وهو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه؛ إما لكونه مساويًا له، أو لكونه أولى منه، مثال المفهوم الأَولى: دلالة قوله - تعالى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على تحريم ضرب الوالدين وشتمهما، ومثال المفهوم المساوي: دلالة قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] على تحريم الإتلاف أيضًا؛ لأن فيه تفويتًا لمال اليتيم أيضًا، وهذا المفهوم حجة عند الجمهور، وخالفهم الظاهرية.

2- مفهوم المخالفة: وهو دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، وينقسم إلى:

أ- مفهوم الصفة: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة))؛ (رواه مالك)، فصفة السوم تدل بالمفهوم على أن المعلوفة لا زكاة فيها.

ب- مفهوم الشرط: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل: هل على المرأة غسل إذا احتلمت؟: ((نعم، إذا رأت الماء))؛ (رواه البخاري)، فشرط رؤية الماء يدل بالمفهوم على أنها إذا لم يغلب على ظنها الإنزال، فلا غسل عليها.

ج- مفهوم العدد: ومثاله: قوله - تعالى -: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فيدل بالمفهوم على أن جلد أقل من ثمانين غير مجزئ، وهو داخل في مفهوم الصفة.

د- مفهوم الغاية: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول))؛ (رواه ابن ماجه)، فيدل بالمفهوم على أن المال الذي حال عليه الحول تجب فيه الزكاة.

هـ- مفهوم التقسيم: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الثيِّب أحق بنفسها، والبكر تستأذن))؛ (رواه مسلم)، فيدل بالمفهوم على أن البكر ليست أحقَّ بنفسها، وأن الثيب لا تستأذن، وهو داخل في مفهوم الصفة.

و- مفهوم اللقب: ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مِثلاً بمثل))؛ (رواه مسلم)، فيدل مفهومه أنه يجوز التفاضل في بيع غير الذهب.


حجية مفهوم المخالفة: وهو حجة عند الجمهور، ما عدا مفهوم اللقب، وخالفهم جمهور الحنفية في ذلك، والراجح مذهب الجمهور؛ وذلك لقوة أدلتهم، ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأزيدنَّ على السبعين))، والشاهد فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - فهم أن ما زاد على السبعين حكمُه مختلف عن السبعين، واستدلوا أيضًا بفهم الصحابة - رضوان الله عليهم - أن تخصيص الوصف بالذكر يقتضي انتفاء الحكم عما سواه، واستدلوا بأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عما لا يجوز للمُحرِم أن يلبسه، فأجابهم بقوله: ((لا يلبس القميص، ولا السراويلات، ولا البرانس))؛ (رواه الشيخان)، والشاهد فيه أنه أجابهم عما لا يلبسه؛ لأنهم إن عرفوا الممنوع، فما عداه جائز.


شروط العمل بالمفهوم: يشترط العلماء للعمل بالمفهوم شروطًا، منها:

1- ألاَّ يكون الوصف قد خرج مخرج الغالب.

2- ألا يكون الحكم المذكور المسوق جاء إجابة عن سؤال أو بيانًا لحكم واقعة.

3- ألا يكون المسكوت عنه أولى من المذكور بالحكم.


منهج الحنفية في تقسيم طرق الدلالة: يقسمها الحنفية إلى أربعة أقسام، وهي: دلالة العبارة (عبارة النص)، وهي ما يسمى عند الجمهور بالمنطوق، ودلالة الإشارة (إشارة النص)، ودلالة الاقتضاء (اقتضاء النص)، وهي نفسها عند الجمهور، ودلالة النص، وتسمى عند الجمهور بمفهوم الموافقة.



الفصل الخامس

النص والظاهر والمجمل

أولاً: النص: يراد به في اللغة الكشف والظهور، وفي الاصطلاح: ما دل على معناه دلالة لا تحتمل التأويل، كدلالة العدد في قوله - تعالى -: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].


ثانيًا: الظاهر والمؤول: يراد بالظاهر في اللغة نقيض الباطن، وفي الاصطلاح: هو المعنى الراجح الذي دل عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحًا، كدلالة الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي))؛ (رواه الشيخان) على الوجوب مع احتمال الندب احتمالا مرجوحا.



ويراد بالمؤول في اللغة المرجوع به، وفي الاصطلاح: هو اللفظ المحمول على المعنى المرجوح بدليل، وعليه فالتأويل: حمل اللفظ على المعنى المرجوح بدليل، فإن كان الدليل قويًّا، فهو تأويل صحيح، وإن كان الدليل ضعيفًا، فهو تأويل فاسد، مثال الصحيح: تخصيص العموم في قوله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] بأحاديث النهي عن البيع على بيع الآخرين، والنجش، وغيره من بيوع الغرر، ومثال الفاسد: تأويل الحنفية لحديث: ((أمسكْ منهن أربعًا، وفارق سائرهن))؛ (رواه مالك) على أن المراد إمساك الأربع الأول، ومفارقة الأخريات، ونحوها من التأويلات الفاسدة؛ إذ لا دليل عليها.


ويشترط العلماء لصحة التأويل شرطين اثنين: الأول: احتمال اللفظ للمعنى المصروف إليه لغة، أو شرعًا، أو عادة، وأن يقوم دليل صحيح على التأويل.


ثالثًا: المجمل والمبين: يراد بالمجمل في اللغة المبهم، وفي الاصطلاح: هو ما دلَّ على معنيين لا مزية لأحدهما عن الآخر بالنسبة إليه، وهو قسمان: مجمل قد بيِّن، ومثاله: لفظ (الحق) الوارد في قوله - تعالى -: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فقد بينت النصوص أن المراد به الزكاة، ومجملٌ باقٍ على إجماله، ومثاله: الحروف المقطعة في أوائل السور، وهذا القسم يسميه البعض المتشابهَ الذي استأثر الباري - تعالى - بعلمه.


وأما أسباب الإجمال، فمنها: الاشتراك في اللفظ، كما في لفظ القروء الوارد في سورة البقرة [البقرة: 228]، فهو محتمل للأطهار والحيض، ومنها: اشتهار المجاز، وكثرة استعماله، حتى يصير مساويًا للحقيقة، كإطلاق العين على الجاسوس مجازًا، ومنها: الإطلاق أو التعميم، كما في قوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، قبل بيان كيفيتها.


وأما الفرق بين المجمل والمشترك، فالمجمل يرجع إلى الفهم، والمشترك يرجع إلى وضع اللغة.


ويقسم الحنفية الألفاظ من حيث وضوح الدلالة وخفاؤها، إلى ألفاظ واضحة الدلالة، وألفاظ خفية الدلالة؛ فواضح الدلالة يشمل: الظاهر، والنص، والمفسَّر، والمُحكَم، وخفي الدلالة يشمل: الخفي، والمشكل، والمجمل، و المتشابه، ونحن نتناول هذه الدلالات عندهم تباعًا:

1- الظاهر: ويظهر المراد به للسامع من صيغته، كقوله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فالمعنى ظاهر للسامع، وهو حلُّ البيع.

2- النص: ويظهر المراد منه بمعنى في المتكلم، كقوله - تعالى -: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فهي نص على جواز النكاح بما لا يزيد على الأربع.

3- المفسر: وهو ما زاد وضوحه على النص بمعنى في النص أو بغيره، كقوله - تعالى -: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30].

4- المحكم: وهو المحصن عن احتمال النسخ والتبديل، كقوله - تعالى -: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة29].

5- الخفي: وهو ما خفي المراد منه لعارض في الصيغة، كدلالة قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] على قطع يد النبَّاش.

6- المشكل: وهو ما اشتبه معناه بحيث لا يعرف إلا بمزيد تأمل، كقوله - تعالى -: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، يحتمل أنه يدل على إتيان المرأة في دبرها، وبمزيد التأمل يدل على المنع؛ لأن القبل حرث، والدبر فرث.

7- المجمل: وهو اللفظ الذي لا يفهم المراد به إلا ببيانٍ مِن المتكلم، كلفظ الربا في قوله - تعالى -: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فالربا الزيادة، وليس هذا المعنى مرادًا؛ لأن البيع لم يشرع إلا من أجل الربح، فلم يفهم المقصود بالربا إلا ببيان من المشرع.

8- المتشابه: وهو ما انقطع رجاءُ معرفته، كالحروف المقطعة في القرآن.


والمجمل يحتاج إلى بيان، والمبين في اللغة الموضح، وفي الاصطلاح: هو الدليل الذي يوضح المراد بالمجمل، وأما المبين، فهو ما يحتاج إلى بيان.


والبيان واجب عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو مراتب بعضها أقوى من بعض، فيشمل: القول، والفعل، والكتابة، والإشارة، والتنبيه، والترك.


وإذا كان البيان واجبًا في حقه - صلى الله عليه وسلم - فيمتنع تأخيره عن وقت الحاجة اتفاقًا، واختلفوا في تأخيره عن وقت التلقي إلى وقت الحاجة، والمعنى: هل يمكن أن يخاطب الشارع المكلفين بخطاب فيه تكليف لم يأتِ وقته بعدُ؟ ذهب الجمهور إلى جواز ذلك مطلقًا، واستدلوا بأدلة، منها: قوله - تعالى -: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19]، والشاهد أنه - تعالى - عطف البيان على الاتباع بـ "ثم"، وفيه تأخير للبيان عن وقت الحاجة، فدل ذلك على الجواز.


وذهب الحنفية ومن معهم إلى عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة مطلقًا؛ لأنه يؤدي إلى وقوع المكلَّف في اعتقاد ما لم يُرِدْه الله، وهو يمتنع على الحكيم - تعالى.


ويذهب المؤلف إلى ترجيح مذهب الجمهور؛ لقوة أدلتهم.


وقد فرع العلماء على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة قواعد، منها: حجية الإقرار منه - صلى الله عليه وسلم - لما فعل أمامه، ورتب الشافعية على ذلك أن ترك الاستفصال في مقام الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال، وفرعوا على الخلاف في تأخير البيان عن وقت الحاجة، أن الخاص الذي تأخر عن العام يعتبر ناسخًا أم مخصصًا؟ فالأول مذهب الحنفية، والثاني مذهب الجمهور.


الباب الرابع

التعارض وطرق دفعه

أولاً: تعريف التعارض والتعادل: يأتي التعارض في اللغة بمعنى التقابل، ويعرِّفه أصحاب الأصول بأنه: تقابل بين دليلين على سبيل الممانعة، وهو تقابل في الظاهر لا في حقيقة الأمر.


ويأتي التعادل في اللغة بمعنى: التساوي، وقد جعله بعض الأصوليين مساويًا للتعارض، والراجح أن التعادل يعني تساوي الدليلين من كل وجه، بحيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر فيتساقطان، وحينها يبحث المجتهد عن دليل آخر، أو أنه يتوقف، أو يتخير، أو يأخذ بالأشد، أو بالأخف مما دل عليه الدليلان المتعادلان.


ثانيًا: شروط التعارض، وموقف المجتهد منه: يشترط بعض الأصوليين لحصول التعارض شروطًا، لو تحققت لانغلق باب الترجيح وامتنع الجمع بين الدليلين، ولا داعي لذكرها، وقد اختلف الأصوليون في موقف المجتهد من التعارض، فقال بعضهم: يتخير؛ لأن كل مجتهدٍ مصيب، وقال آخرون بالتوقف؛ لعدم تبيُّن وجْه الحق، وقال غيرهم: يأخذ بالأشد؛ لأن الحق شديد، وقال آخرون: يأخذ بالأيسر؛ لأن الدين يسر، ولعل الراجح أن يتوقف إن لم يتبين له الرجحان، فإن حضر وقت العمل أخذ بالأحوط، أو قلَّد الأعلم، وإن سئل قال: لا أعلم.


ثالثًا: طرق دفع التعارض الظاهري: هذه الطرق هي الجمع بين الدليلين، أو الحكم بالنسخ، أو الترجيح بينهما، وقد ذهب الحنفية إلى أن على المجتهد أن يصير أولاً إلى الحكم بالنسخ، وإلا فيصير إلى الجمع بين الدليلين، فإن لم يصر إلى الترجيح، وذهب الجمهور إلى أن على المجتهد الجمع بين الدليلين، وإلا فيصير إلى النسخ، فإن لم يصر إلى الترجيح، ونتناول هذه الطرق وأمثلتها تباعًا:

1- الجمع: وذلك بإظهار أنه لا تضاد بين الدليلين، وأن التعارض ظاهري، فيؤولهما على وجه يزيل التعارض، مثال ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسأَلها))؛ (رواه مسلم)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن بعدكم قومًا يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون))؛ (متفق عليه)، ووجه التعارض أن الأول مدح من يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها، والآخر ذمه، فيجمع بينهما بتأويل الأول في حق الشاهد الذي لا يعلم به صاحب الحق، ويحمل الثاني على الشاهد الذي يعلم به وبشهادته صاحب الحق، وبهذا يرتفع التعارض.


2- النسخ: ويقصد به في اللغة الإزالة، ويعرف في الاصطلاح بأنه: رفْع حكمٍ ثَبَتَ بخطاب متقدم بحكم ثبت بخطاب متأخِّر، وقد خرج بقولهم: "بخطاب" ما ثبت بمقتضى البراءة الأصلية فرفع حكمه لا يسمى نسخًا، والنسخ لا يكون إلا بكتاب أو سنة.


ومن المفيد في باب النسخ أن نتعرف على مشروعية النسخ، وشروط الناسخ، وطرق معرفة النسخ، فأما مشروعية النسخ، فلقوله - تعالى -: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وأما شروط الناسخ، فهي: أن يكون نصًّا من الكتاب أو السنة، متأخرًا عن المنسوخ، وفي قوته أو أعلى منه قوة، فالقرآن لا ينسخ إلا بقرآن مثله، والسنة تنسخ بالسنة، فلا ينسخ القرآن بالسنة عند الشافعي، واختاره بعض أصحابه، وحجتهم في ذلك أن السنة لا يمكن أن تكون خيرًا من القرآن ولا مثله، وقد قال الله - تعالى -: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].


وذهب الجمهور إلى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة أو المشهورة، وردُّوا على دليل الشافعي بأن المقصود بالخيرية في قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} الخيرية للمكلف، واستدلوا بإمكان ذلك عقلاً، ووقوعه شرعًا، ودللوا على الوقوع بأن حديث: ((لا وصية لوارث))، نسخ قولَه - تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180].


وذهب المؤلف إلى ترجيح رأي الشافعي، ورد على دليل النسخ بأنه دليل احتمالي؛ لأن آية الوصية منسوخة بآية المواريث، لا بالسُّنة.


وأما طرق معرفة النسخ، فهي: النص عليه، كما في حديث: ((كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها))؛ (أخرجه مسلم)، وأن يتأخر أحد النصين المتعارضين عن الآخر ويعرف التأخر بكلام الصحابي أو غيره، واتفاق الصحابة على النسخ، مثال ذلك: أن مفهوم حديث: ((الماء من الماء))؛ (أخرجه مسلم) أنه لا غسل من غير إنزال، واتفق الصحابة على نسخه بحديث: ((إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها، فقد وجب الغسلُ))؛ (متفق عليه)، وترْك الصحابة والتابعين العمل بالحديث من غير نص، مثاله: حديث: قتل السارق في المرة الرابعة (أخرجه الخمسة)، ولم يعمل به الصحابة ولا التابعون.


3- الترجيح وشروطه وحكمه: وهو مأخوذ من رجحان الميزان، ومعناه ميلان إحدى كفتيه، ويعرفه أصحاب الاصطلاح بأنه: "بيان اختصاص أحد الدليلين عن مقابله بمزيد قوة"، وشروطه ثلاثة، وهي: تحقُّق التعارض الظاهري بين الدليلين، وتعذُّر الجمع بينهما، وعدم إمكان إعمال النسخ لعدم التعرف على تاريخ الدليلين.


وحكمه: الوجوب في حق المجتهد، إذا تعارض عنده دليلان ولم يتمكن من الجمع بينهما، أو إعمال النسخ، وقد حكى غير واحد الإجماعَ على وجوب العمل بالدليل الراجح، ومما يدل عليه قوله - تعالى -: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55]، وكذا الإجماع.


وجوه الترجيح: الترجيح إما أن يكون بين الأدلة النقلية أو بين الأدلة العقلية، فإن كان بين الأدلة النقلية، فطرقه ثلاث، هي: الترجيح من جهة السند، أو من جهة المتن، أو لأمر خارجي، وإن كان بين الأدلة العقلية فله طرق ذكرها العلماء، ونتناول هذا تباعًا:


رابعًا: طرق الترجيح بين الأدلة النقلية:

1- الترجيح من جهة السند: ويكون إما بكثرة الرواة، فيرجح ما رواه الأكثرون على ما رواه الأقلون، وهو مذهب الجمهور، وخالفهم في ذلك الحنفية، وقاسوه على الشهادة، فكما أنه لا ترجيح عندهم بكثرة الشهود، فلا ترجيح كذلك بكثرة الرواة، والراجح مذهب الجمهور؛ لأن القياس على الشهادة قياسٌ مع الفارق، وهو لا يصح.


وإما أن يكون الترجيح بفقه الراوي، فتقدَّم روايةُ الأفقه على من هو دونه في الفقه، سواء أكانت الرواية باللفظ أم بالمعنى.


وإما أن يكون الترجيح بكون أحد الرواة هو صاحبَ القصة، أو له صلة قوية بما رواه، فيكون فيها أعلم من غيره، كتقديم رواية ميمونةَ حين قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال على الروايات المخالفة، وكتقديم حديث عائشة، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبًا وهو صائم، على الروايات المخالفة.


وإما أن يرجح بقوة الحفظ والضبط، كتقديم ما يرويه عبيدالله بن عمر بن عبدالعزيز على ما يرويه أخوه عبدالله؛ وذلك لقول الشافعي: "بينهما فضل ما بين الدرهم والدينار".


وإما أن يكون الترجيح بتقديم الحديث المسند على الحديث المرسل؛ وذلك للخلاف في حجية الحديث المرسل.


2- الترجيح من جهة المتن: وله طرق، أهمها:

أولاً: تقديم ما هو خاص على ما هو عام، وترجيح الأخص من العامَّينِ على الأعم منهما، وإليه ذهب الجمهور، وخالفهم فيه الحنفية، حيث يرون التساوي بينهما.

ثانيًا: ترجيح ما هو عام محفوظ على ما هو عام مخصوص.

ثالثًا: ترجيح ما كانت مخصصاته أقل على ما كانت أكثر.

رابعًا: ترجيح العام المطلق على العام الذي ورد على سبب، في غير صورة السبب؛ لأن العام الوارد على سبب يقصر عليه، وترجيح ما فيه إيماء إلى العلة على ما ليس كذلك، فيرجح حديث: ((من بدَّل دينه، فاقتلوه))؛ (رواه البخاري)، على ما في الصحيحين من النهي عن قتل النساء والصبيان؛ لأنه ورد على سبب، وفيه إيماء إلى العلة.

خامسًا: ترجيح ما يدل على المقصود من جهتين، على ما يدل عليه من جهة واحدة، فيقدم حديث: ((إنما الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة))؛ (رواه البخاري)، على حديث: ((الجار أحق بصقبه))؛ (رواه البخاري).

سادسًا: ترجيح الدليل المساق لبيان الحكم، على ما لم يسق له، كترجيح الحنفية لأحاديث النهي عن بيع المنابذة، على عموم قوله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275].

سابعًا: ترجيح الدليل المخالف للبراءة الأصلية على الموافق لها، وهذا مذهب الجمهور، وترجيح الدليل المحرِّم على الدليل المبيح، ومثالهما ترجيح أحاديث تحريم الحُمر الأهلية على أحاديث إباحتها.

ثامًنا: ترجيح الدليل المثبت للحكم على الدليل النافي له، كترجيح حديث بلال في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - داخل الكعبة، على حديث أسامة؛ وذلك لأن مع المثبت مزيدَ علم.

تاسعًا: ترجيح النص على الظاهر، والحقيقة على المجاز، والمنطوق على المفهوم.


3- الترجيح لأمر خارجي: وطرقه هي: أن يعضد أحد الخبرين ظاهر القرآن، كترجيح خبر التغليس على خبر الإسفار في صلاة الفجر، وترجيح القول على الفعل المجرد؛ ذلك أن الفعل المجرد قد يحتمل الخصوصية له - صلى الله عليه وسلم - وترجيح ما عليه عمل معظم السلف على ما ليس كذلك؛ وذلك لأن احتمال إصابتهم للراجح أكبر، وترجيح ما وافق القياس على ما خالفه، وترجيح الدليل الذي فسَّره الراوي على غيره مما لم يفسر.


الترجيح بين محامل اللفظ الواحد: وللترجيح بين ما يحتمله اللفظ الواحد قواعدُ نذكرها تباعًا، وهي:

أولاً: ترجيح الحقيقة غير المهجورة على المجاز غير الغالب، كترجيح مذهب أهل السنة في حمل صفات الله - تعالى - على الحقيقة لا على المجاز.

ثانيًا: ترجيح الحقيقة الشرعية على الحقيقة العرفية، فيكون لفظ الصلاة في حديث: ((لا تقبل صلاة بغير طهور))؛ (رواه مسلم) محمولاً على الصلاة الشرعية لا على الدعاء.

ثالثًا: ترجيح حمل اللفظ على المجاز لا على الاشتراك، كلفظ النكاح يحتمل أن يكون لفظًا مشتركًا بين الوطء والعقد، ويحتمل أن يكون مجازًا في العقد، فيرجح الأخير.

رابعًا: ترجيح ما لا يحتاج إلى إضمار على ما يحتاج إليه، كحديث: ((ذكاة الجنين ذكاة أمِّه))؛ (رواه الخمسة إلا النسائي)، يرجح فيه مذهب الجمهور، وتكون ذكاة أمه ذكاة له.

خامسًا: ترجيح حمل اللفظ على الإنشاء لا على التأكيد، فإذا قال رجل لزوجته: أنت طالق طالق، فالأصل أن يحمل على الإنشاء لا على التأكيد، عند من لا يقول بالنيَّة.

سابعًا: الترجيح بين المعقولين: ونقصد بالمعقولين الأقيسة، وطرق الفقه الأخرى التي لا تندرج تحت النقل والقياس من استصحاب، واستصلاح، واستقراء عند من يراه.


ونحن سنتناول ها هنا الترجيح بين الأقيسة فقط، وأهم هذه الطرق تقديم القياس الذي هو في معنى الأصل على قياس العِلة والشَّبَه، كتقديم قياس العبد على الأمَة في تنصيف الحد بجامع الأصل، على قياسه على الحر الذَّكر بجامع الذكورة.


وكذا تقديم القياس الذي هو في العلة على قياس الشبه والطرد، كتقديم قياس (البيرة) المسكرة على الخمر بجامع الإسكار، على قياسها على عصير التفاح بجامع الشبه في الصورة والشكل.


وكذا تقديم القياس مطرد العلة، على القياس الذي علَّته غير مطردة، كتقديم تعليل الربا بالطعم في الأصناف الستة عند الشافعي، على تعليله بالكيل عند غيره؛ وذلك لأن علة الطعم مطردة، بخلاف علة الكيل.


وكذا تقديم القياس الذي علته مثبتة، على القياس الذي علته نافية، والذي ثبت بالنص حكمُ أصله، على ما ثبت حكمُ أصله بالظاهر، وتقديم ما وافق أصول الشرع الثابتة على ما له أصل واحد فقط، وتقديم ما وافق ظاهر القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة، على ما لم يوافق ذلك.


الباب الخامس
الاجتهاد

أولاً: تعريفه: يعرفه أصحاب اللغة بأنه بذْل الجهد، والجهد يطلق على الوسع والطاقة، ويعرف في الاصطلاح بأنه: بذْلُ الوسع من أجْل إدراك حكمٍ شرعي عن طريق الاستنباط ممن هو أهل له، وقولنا: "بطريق الاستنباط" قيد في التعريف خرج به بذل الوسع من أجل إدراك الحكم الشرعي عن طريق حفظ المتون، أو النصوص الشرعية الدالة صراحة على الحكم، فلا يسمى اجتهادًا.


ثانيًا: أركان الاجتهاد: أركانه ثلاثة، وهي: المجتهد، والمجتهد فيه، والنظر وبذل الجهد، ويطلق الأول على الفقيه المستكمل لشروط الاجتهاد، ويطلق الثاني على الواقعة التي يبحث المجتهد عن حكمها بالنظر والاستنباط، ويطلق الثالث على فعل المجتهد الذي به يتوصل إلى الحكم.


ثالثًا: الاجتهاد في عصر الصحابة والتابعين وكبار الأئمة:

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرجعَ الناس في الفتوى، ومع ذلك فقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يجتهدون في غيابهم عنه، كما حصل في قوله لهم: ((لا يصلينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة))؛ (متفق عليه)، فجاءهم وقت العصر ففهم بعضهم أنه قصد استعجالهم لا حقيقة الأمر، فصلَّوا في الوقت، وفهم بعضهم أنه قصد حقيقة الأمر، فصلَّوا في بني قريظة، فلم يعنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا منهم.


واجتهد الصحابة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ونُقل إلينا كثير من اجتهاداتهم، ومن ذلك رأي ابن عباس في العول، فلا يراه في الفرائض، خلافًا لجمهور الصحابة، ودليلهم في ذلك قياس العول على قسمة الغرماء.


وجاء عصر التابعين وكثرت الوقائع واختلط المسلمون بغيرهم من أمم الأرض، فصارت الحاجة ملحَّةً للاجتهاد، فاجتهد التابعون وكان اجتهادهم متأثرًا بمن تفقَّهوا عليه من الصحابة، فتأثَّر تابعو العراق بابن مسعود وعلي، وتأثر تابعو المدينة بابن عمر - رضي الله عنهم جميعًا - وظهرتْ إثر ذلك مدرسةُ أهل المدينة (أهل الحديث)، ومدرسة أهل العراق (أهل الرأي).


رابعًا: شروط المجتهد:

1- الإسلام، فلا يصح من كافر.

2- العقل، فلا يصح الاجتهاد من مجنون.

3- البلوغ، فلا يصح من قاصر.

4- العدالة، فلا تقبل رواية مجروح، فضلاً عن اجتهاده.

5- معرفة آيات الأحكام وأحاديثه صحيحها وضعيفها، سواء أدلتْ على الأحكام بطريق النص أم الظاهر، ولا يشترط معرفة أكثر من دليل في المسألة الواحدة، ما لم يكن الدليل الآخر فيه زيادة حكم متعلق بالمسألة، من قيد، أو شرط، ونحوهما.

6- معرفة الناسخ والمنسوخ من أحكام الكتاب والسنة، ويكفيه أن يعرف أن الدليل الذي استدل به ليس بمنسوخ.

7- معرفة مواطن الإجماع؛ حتى لا يخالفها، فيقع في محظور.

8- معرفة بقية الطرق الموصلة إلى الفقه كالقياس، والمصالح المرسلة، والاستصحاب، والأعراف والعادات في الأحكام المبنية عليها.

9- معرفة دلالات الألفاظ وما يصح وما لا يصح من الأساليب.

10- معرفة مراتب الأدلة وكيفية الجمع بينها، وطرق الترجيح بينها عند التعارض.


خامسًا: تجزؤ الاجتهاد:

ويقصد به أن يجتهد الفقيه في باب أو مسألة من مسائل الفقه دون غيرها، وقد أكثر الأصوليون من الكلام حول هذه المسألة، ومحل النزاع: هل يجوز الاجتهاد في مسألة من مسائل الفقه في حق من توافرت فيه شروط الاجتهاد العامة، وهي: معرفته للعربية، ودلالات ألفاظها، وقدرته على الاستنباط، وأن يتعرف على ما يحتاجه فيها من مسائل الأصول، دون أن يحيط بأدلة الفقه كلها، أو لا؟


ذهب العلماء إلى أن من لم تتوفر فيه هذه الشروط، لا يجوز له أن يجتهد ولو في مسألة واحدة، واختلفوا فيمن توافرت فيه الشروط العامة، فذهب الجمهور إلى أنه يجوز له الاجتهاد ما دام توافرت فيه شروط الاجتهاد العامة وأحاط بأدلة المسألة، ولو لم يحط بأدلة الفقه كلها علمًا، ودليلهم في ذلك أن كثيرًا من العلماء كانوا يتوقَّفون في بعض المسائل؛ لعدم إحاطتهم بأدلتها.


وذهب بعض العلماء إلى أن الاجتهاد لا يتجزأ، وأن من لم يحط بأدلة الفقه كلها لا يجوز له أن يجتهد في باب أو مسألة، وهو منقول عن أبي حنيفة ولم يذكره نصًّا، واختاره الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول"، ودليله على ذلك أن المسائل الفقهية متصلة بعضها ببعض، كالسلسلة الواحدة، وليس بإمكان من لم يحط بالأدلة كلها أن يحيط بأدلة مسألة من المسائل.


وفصَّل بعضهم، فأجاز تجزئة الاجتهاد في الأبواب لا في المسائل، ودليله على ذلك أن المسائل في الباب الواحد متصلة بعضها ببعض.


وذهب المؤلف إلى جواز تجزئة الاجتهاد بالضوابط المذكورة سابقًا في المسألة الواحدة دون النوازل؛ وذلك لأن أدلة المسائل قد حصرتْ كلها أو معظمها، فيمكن الاطلاع عليها، بخلاف مسائل النوازل.


وأما ثمرة الخلاف، فتتجلى في مدى الاعتداد بفتوى من لم يحط بأدلة الفقه كلها، وهل يجوز العمل بها من العامة، وهل يدخل ضمن المجتهدين، فلا ينعقد الإجماع إلا بموافقته أو لا؟


سادسًا: اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجتهاد الصحابة في عهده:

أما اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - فالجمهور على أنه إذا لم يأتِه الوحي، قد يجتهد، وقد يتوقف إلى نزوله، وإذا اجتهد: فهل هو مسدَّد؟ ذهب بعضهم إلى أنه مسدد وعدم إمكان خطئه في الاجتهاد، وذهب بعضهم إلى أنه قد يخطئ، ولكنَّ الله - تعالى - يبيِّن له الحق في الحال.


والمتأمل في النصوص يتأكَّد عنده أن الرأي الأخير هو الصواب، قال - تعالى -: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]، وقال أيضًا: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1، 2]، ومحل الشاهد أنه اجتهد وعوتب، والمعاتبة لا تكون إلا على خطأ، وليس هذا انتقاصًا؛ بل هو دليل على بشريَّته وصدْقه وتبليغه عن ربه.


وأما اجتهاد الصحابة - سواء في غيابهم عنه، أو في حضوره بإذنه - فجائزٌ وواقع، ودليل الاجتهاد في حال غيابهم عنه ما وقع من عمار - رضي الله عنه - في التيمم للجنابة، وهو في الصحيحين، وأما للحاضر بإذنه - صلى الله عليه وسلم - فمثاله: اجتهاد سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في الحكم على بني قريظة، وهو في الصحيحين، ودليل قيد الإذن قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].


ويؤخذ من هاتين المسألتين حكمُ العودة إلى الظن مع إمكان تحقق اليقين، فقال بجوازه من أجاز الاجتهادَ في المسألتين، ومنَعَه من منع الاجتهادَ فيهما.


سابعًا: هل المصيب في مسائل الاجتهاد واحد؟

اختلف العلماء: هل المصيب في مسائل الخلاف واحد أو أنه يتعدد؟ ومحل خلافهم المسائل الاجتهادية العملية، ويخرج عنها المسائل العملية القطعية، وكذا المسائل العلمية العقدية، فقد اتفقوا أن المصيب فيها واحد.


ونقل خلافه عن القاضي العنبري والجاحظ، وهو مخالف للعقل، وحمل المحققون من أهل العلم - ومنهم ابن تيمية - كلامَ العنبري على المجتهدين من أهل الملة، فإنهم إذا استفرغوا جهدهم في إدراك الحق في مسائل الأصول أو الفروع، فلا يأثمون.


وبناء على ما سبق؛ فإن الكلام يكون في مسألتين:

الأولى: هل يقال لكل من المختلفين: إنه مصيب؟

والثانية: هل يأثم إذا خالف ما هو الحق عند الله؟


المسألة الأولى: هل يقال لكل واحد من المختلفين: إنه مصيب؟

عرفنا أن محل النزاع هو المسائل الاجتهادية العملية، وهي المسائل التي يكون دليلها ظنيًّا، والعقل لا يمنع من تصويب المختلفين فيها، وقد اختلف العلماء هل الجميع مصيبون، أو المصيب واحد؟ والقول بأن المصيب واحد هو الأرجح؛ وذلك للأدلة الآتية:

1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر))؛ (متفق عليه)، فقد سمى أحد المجتهدين مخطئًا.

2- إذا كان المجتهدون كلهم مصيبين مع اختلافهم، لانعدمت الحاجة إلى المناظرة والاستدلال؛ لأن الخلاف يكون من خلاف التنوُّع، والإجماع على خلافه.

3- إذا كان الحق متعددًا عند الخلاف، فيلزم منه المحال في بعض المسائل، وهو الجمع بين الضدين.

4- إجماع الصحابة على خطأ بعض الاجتهادات، ومنه قول ابن مسعود عن رأيه: "وإن كان خطأ، فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله"؛ وهو في النسائي ومسند أحمد، ولا مخالف له من الصحابة.


المسألة الثانية: هل يأثم إذا خالف ما هو الحق عند الله؟

اتفق جمهور العلماء على أن المجتهد مأجور، فإن أصاب الحق فأجران، وإن لم يصبه فأجر واحد، ولا إثم عليه، وخالفهم في ذلك ابنُ علية وبعض الظاهرية، ودليل مذهب الجمهور قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر))؛ وهو في الصحيحين، وهذا الخلاف مبنيٌّ على خلاف في مسألة أخرى، وهي: هل لله - تعالى - في المسألة الواحدة حكمان أو حكم واحد؟


ثامنًا: تجديد الاجتهاد: نعني بتجديد الاجتهاد أن يعيد المجتهد النظرَ في حكم واقعة تجدَّد وقوعُها، أو تكرر سؤالُه عنها، مع سبق نظره فيها، وغلبة الظن بحكم الله - تعالى - فيها، فهل يفتي بما أفتى به سابقًا فيها دون إعادة النظر أو أنه يجب عليه إعادة النظر؟ وما الحكم إذا نسي طريق اجتهاده الأول؟ ويخرج من مجال الخلاف ما إذا وجد ما يستدعي إعادة الاجتهاد كتغيُّر العرف في مسألة بُني الحكم عليها، فيجب عليه إعادة الاجتهاد، وقد ذُكر في المسألة أقوال، أشهرها ما يلي:

القول الأول: يجب عليه تجديد الاجتهاد في الصور الثلاث كلها؛ لأنه إذا لم يعد كان مقلدًا لنفسه.

القول الثاني: عدم وجوب إعادة النظر؛ لأن الأصل في الاجتهاد عدم التغير، وهو مما يجوز البناء عليه؛ ولأنه لا دليل على إعادة الاجتهاد.

القول الثالث: إذا كان ذاكرًا لطريق اجتهاده، فلا يجب عليه الإعادة، وإن نسي الطريق أعاد الاجتهاد، وهو الراجح، ودليلهم على عدم الإعادة مع ذكر الطريق، أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، حتى يظهر ما يعارضه، ودليلهم على الوجوب حال النسيان أنه لو أفتى بما سبق دون معرفة لدليله، يكون مقلدًا، والقادر على النظر لا يجوز له التقليد.


تاسعًا: أسباب تغيير المجتهد لاجتهاده:

1- معرفة دليل لم يكن قد عرفه من قبل.

2- معرفة دلالة دليل على الحكم لم يكن قد تنبَّه له.

3- حدوث تغير في عادة أو عرف كان الحكم قد بني عليها.

4- حدوث تغير في المصالح أو المفاسد المترتبة على الفعل المفتى بحُرمته أو بجوازه.

5- عدم تحقق مناط الحكم في الحادثة النازلة.


عاشرًا: القواعد المبنية على تغيُّر الاجتهاد:

1- قاعدة: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد: فإذا أفتى المجتهد أو قضى بناء على اجتهاد، ثم تغيَّر الاجتهاد منه أو من غيره، فإن حكمه السابق لا ينتقض، وفتواه لا تنتقض كذلك إذا اتَّصل بها العمل.


2- قاعدة نقض الاجتهاد المخالف لنص صريح في الكتاب أو السنة، أو لإجماع صريح ثابت:

سواء كان النص قطعيَّ الثبوت أو ظني الثبوت، إلا أنه يشترط لنقض الاجتهاد بظني الثبوت ألاَّ يعارضه نصٌّ آخر يساويه أو يقاربه في القوة.


3- هل يجب على المجتهد أن يخبر من أفتاه بتغير اجتهاده؟

هذه مسألة خلافية، والجمهور على أنه لا يجب عليه ذلك، وقيل: يجب إذا لم تتصل الفتوى بالعمل، وكان بالإمكان إخباره من غير مشقة، وهو أرجح؛ لأنه من باب النصيحة المأمور بها، ويندرج تحت التعاون على البر والتقوى المأمور به.

وما سبق فيما إذا لم يخالف المجتهد نصًّا صحيحًا من كتاب أو سنة لا معارض له، أو إجماعًا، فإن خالفه فيجب عليه إخبار من أفتاه بالفتوى؛ حتى لا يقع في الإثم، وقد أفتى ابن مسعود أنه يجوز للرجل أن ينكح أم زوجته إذا لم يكن قد دخل بها، فأخبره الصحابة بحرمة ذلك، فأخبر من استفتاه.


4- قاعدة جواز تغير الفتوى بتغير الزمان: قد يتغيَّر الحكم أو الفتوى في المسألة الواحدة بسبب تغير أعراف الناس وعاداتهم وبتغير الزمان، ونحو ذلك مما له أثر في الحكم.


وقد توسع في هذه القاعدة بعض المتأخرين، حيث إنهم لم يقصروها على الأحكام الراجعة إلى العرف والعادة، وأنكرها بعض العلماء؛ حيث فهم منها أنها عامة في جميع الأحكام، وذهبوا إلى أن الحكم الشرعي لا يتغير، وإنما قد لا يعمل به إذا تخلف مناطه، ومثَّلوا لذلك بالنفقة، فقد كانت تقدَّر بالشيء اليسير من الطعام واللباس بحكم العرف، وفي هذا الوقت لم يعد كافيًا، فهذا الحكم لم يتغير؛ ولكنه قاعدة عامة يُترَك للقاضي تطبيقُها على المختصمين معتمدًا على عرف البلد.


ونص هذه القاعدة عند ابن القيم، ليس فيه إلا عدم الإنكار على من غيَّر فتواه لتغير الزمان، والحكم في هذا كالفتوى، فيجب على القاضي أن يعرف أعراف الناس وعاداتهم حتى يقضي بينهم.


الباب السادس

التقليد

أولاً: تعريفه: أما معناه في اللغة، فوضع القلادة على العنق، وأما تعريفه عند أهل الاصطلاح، فقد اختلف العلماء في تعريفه، وترتب على ذلك اختلافهم في حكمه؛ فقد عرفه البعض بأنه: قبول قول الغير من غير حجة، وعرفه البعض الآخر بأنه: قبول قول القائل وأنت لا تعرف من أين قاله، أو هو أخذ مذهب الغير من غير معرفة دليله.


وعند الموازنة بين التعريفين نجد أن التعريف الثاني أضبط، ويؤخذ عليه أنه لم يرد على سؤال فحواه: هل يخرج الإنسان من مرتبة التقليد إذا عرف دليل المسألة، وإن لم يكن قادرًا على دفع الشُّبه عن الدليل، والجواب عن أدلة القول الآخر؟ والظاهر أن أكثر الأصوليين والفقهاء لا يخرجونه عن مرتبة التقليد بمجرد معرفة الدليل؛ ولهذا كان الأحرى بهم تعريف التقليد بأنه: "أخذ مذهب الغير من غير معرفة رجحان دليله"؛ وذلك كي يصدق وصفُ المقلد على الذي يقلد ولا يعلم رجحان الدليل، وإن عرفه.


ثانيًا: أركان التقليد: أركانه ثلاثة، هي: المقلِّد، والمقلَّد، والمقلد فيه، فالمقلِّد - بكسر اللام - هو العامي، والمقلَّد - بفتح اللام - هو المجتهد، وأما المقلد فيه فهو الحكم الشرعي الذي يؤخذ من المجتهد من غير معرفة لرجحان دليله.


ثالثًا: حكم التقليد: ينقسم التقليد إلى تقليد في الأصول وتقليد في الفروع، وقد اختلف الأصوليون في هاتين المسألتين، وحصل خلط كبير في نقل الأقوال في هاتين المسألتين، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى عدم اتفاقهم على تعريف التقليد.


فمن عرفه بأنه: "قبول قول الغير من غير حجة"، قصدوا بذلك أن القول المقلد فيه لا حجة عليه سوى قول المجتهد أو فعله، وذهبوا إلى تحريم التقليد والمنع منه، ولا يفهم من هذا أنهم منعوا العوام من سؤال العلماء فيما أشكل عليهم من أمور دينهم؛ فإنه لا خلاف في أنه يجب على العامي أن يسأل العلماء عما أشكل عليه من أمور دينه، وهذا لا يسمى تقليدًا عندهم ما دام أفتى العالم في المسألة بدليل؛ بل يكون العامي متبعًا لشرع الله.


وأما من عرفه بأنه: "قبول قول الغير من غير معرفة دليله" أو نحوه، فإنهم يفرِّقون بين التقليد في أصول الدين، والتقليد في فروعه، فمنعوا التقليد في الأصول وأجازوه في الفروع، وعليه نستعرض الخلاف في المسألتين: التقليد في الأصول، والتقليد في الفروع.


المسألة الأولى: التقليد في الأصول: يظن بعض الأصوليين أن أصول الدين مسائل الاعتقاد عمومًا، وهذا غير صحيح؛ فأصول الدين: الأمور التي يدخل الإنسان بها في الإسلام، وهي: الإيمان بالله وأنه المستحق وحده للعبادة، والإيمان بصدق محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فهذه هي الأصول التي ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز التقليد فيها، وإنما يتوجَّب على كل مسلم أن يتعرف على أدلتها، وأن يعتقد رجحانها حتى تثبت في قلبه ووجدانه، ومن أدلتهم دليل عقلي، وهو: أن المقلد إما أن يشكَّ في صدق من قلَّده أو يتيقن صدقه، فإن كان شاكًّا فإيمانه مع الشك باطل، وإن كان متيقنًا فلا يخلو حاله من أمرين: إما يقين مبني على نظر واستدلال، أو يقين مبني على ثقة بالمقلد، فإن كان الأول فلا يكون مقلدًا، وإن كان الثاني فلا فرق بين إيمانه وإيمان النصارى بما يقوله قساوستهم ورهبانهم.


وقد اختلف العلماء في وجوب النظر على الجميع، والصحيح أنه واجب على القادر عليه؛ حتى لا يهتز إيمانه لأدنى شبهة، وأما ثمرة الخلاف، فتظهر في أن الموجبين للنظر في تلك المسائل يؤثمون من تركه مع القدرة عليه، ولا يعدُّونه شرطًا لصحة الإيمان، فالإيمان صحيح ما لم يخالطه شك.


المسألة الثانية: التقليد في الفروع: يراد بالفروع ها هنا ما لم يكن من الأصول التي مرَّ ذكرها، فيدخل فيها بعض المسائل العقدية، والفقه ومسائل أصوله.


وقد اختلف العلماء في حكم التقليد في تلك المسائل؛ فأجازه الجمهور، ومن أدلتهم إجماع الصحابة على أن العوام إذا سألوا أجيبوا، وإجماعهم على أنه يجب على الجاهل سؤال العالم، وإقرار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للرجل الذي زنى ابنه سؤالَه أهل العلم، والحديث متفق عليه، وحديث: ((ألا سألوا إذ لم يعملوا))؛ وهو في الترمذي.


وذهب بعض العلماء - كابن حزم والشوكاني - إلى تحريم التقليد، وتحريمهم هذا مبنيٌّ على تعريفهم، ولو وافقناهم على تعريفهم لوافقناهم على حكمهم، وعليه فلا يمكن أن نحرِّم التقليد على المسلمين؛ لأن أكثرهم يعملون بالأحكام بلا معرفة لأدلتها الخاصة.


رابعًا: حكم تقليد المجتهد لمجتهد آخر: نقل الأكثرون من أهل الأصول اتفاقَ العلماء على أنه لا يجوز للمجتهد أن يترك ما غلب على ظنِّه ويعمل بظن غيره، إذا توصل في مسألة من المسائل إلى ظن غالب بحكم الله - تعالى - فيها، وحصر الأصوليون الخلاف في المسألة فيما إذا كان المجتهد لمَّا ينظر في المسألة بعدُ، أو أنه نظر فيها ولما يتوصل إلى ظن غالب.


وقد أخطأ بعضهم فحصر الخلاف في حالة ما إذا اتَّسع وقت المجتهد للنظر والاجتهاد، ونقل الاتفاق على أنه يجوز للمجتهد إذا ضاق الوقت أن يقلِّد، وهذا غير صحيح؛ فذلك داخل في الخلاف أيضًا.


وأهم ما قيل في المسألة أربعة أقوال: الأول: أنه لا يجوز له التقليد مطلقًا، وهو رأي جمهور الأصوليين، ومن أدلتهم على ذلك: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك))، فيه أن المجتهد المقلَّد في رأيه ريبةٌ، فينبغي ألاَّ يقلده المجتهد، وهذا الاستدلال فيه نظر.


ومن أدلتهم قوله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فهو إذًا للعاجز دون المجتهد، ومن أدلتهم عموم الأدلة التي تذم التقليد.


وأما الرأي الثاني، فيقولون: إنه لا يجوز للمجتهد التقليد، إلا إذا حضر وقتُ العمل ولم يتَّسع وقتُه للنظر، أما إن نظر فلا يقلد، وهو رأي ابن سريج، ومعه في ذلك ابن تيمية، ودليلهم: أنه إذا لم يتسع وقته للنظر، أو نظر فلم يظهر له الحكم، يكون بمثابة العامي، فيجوز له التقليد؛ ولأن الشرع إنما علَّق سؤال أهل العلم على عدم العلم بالبيِّنات.


وأما أصحاب الرأي الثالث، فيقولون بجواز تقليد المجتهد لمن هو أعلم منه فقط، ذهب إلى ذلك الشيباني، ودليله على ذلك عقلي، يرى فيه أن العالم مع من هو أعلم منه بمثابة العامي مع العالم.


وذهب رأي رابع إلى جواز تقليد العالم للصحابة، والظاهر رجحان القول الثاني الذي يجيز للمجتهد أن يقلد إذا ضاق الوقت، أو لم يتوصل لغلبة ظن بحكم، والتقليدُ أولى من ترك العمل، وأما الإفتاء فلا يجوز له أن يفتي برأي غيره.


خامسًا: سؤال العامي من شاء من المفتين: من حقِّ العاميِّ أن يسأل من شاء من أهل الذِّكر، وله سؤال المفضول دون الفاضل، وهو رأي الجمهور، ودليلهم على ذلك إجماع الصحابة والتابعين، فقد كان العوام يسألون المفضولَ منهم مع وجود الفاضل، فيفتيهم، ثم إنه لم ينقل عن أحد منهم أنه كان لا يفتي في مسألة مع وجود من هو أفضل منه في البلدة.


وذهب بعض العلماء إلى أن يجب على العامي أن يبحث عن الأعلم والأتقى ليسأله، وقالوا: هذا هو اجتهاد المقلدين: البحثُ عن الأعلم والأتقى.


سادسًا: موقف المستفتي من اختلاف المفتين: إذا استفتى أكثر من عالم في مسألة، فأفتى كل بفتوى، فما موقف العامي من ذلك، وبمَ يأخذ؟ الظاهر الأخذ بفتوى الأعلم، فإن كانوا في العلم سواء، فالأتقى والأورع، وعليه إن جهل حالهم أن يسأل العارفين بأحوالهم، ويأخذ بقول من غلب على ظنه علمُه وورعه وتقواه، وذهب بعض العلماء إلى أنه يتخير، وقيل: يحتاط، وقيل: يستسهل، والرأي الأول هو الصحيح الراجح.


سابعًا: تقليد الميت: في المسألة ثلاثة أقوال:

الأول - وهو رأي الجمهور -: أن تقليد الميت جائز، وقد حكى بعضهم الإجماعَ عليه، واستدل بعضهم على جوازه بالقياس على شهادة الميت قبل الحكم بها، واستدل البعض على الجواز بالضرورة؛ لعدم وجود المجتهد المطلق.


الثاني: أن تقليد الأموات ممنوع مطلقًا، و قد يفهم هذا من كلام الرازي؛ ذلك أنه قال بجواز نقل الفتوى عن الأحياء دون الأموات، ودليل هذا القول أن الميت لا يعتدُّ بقوله في الإجماع، كما أنه يجب على العلماء تجديد الاجتهاد، والميت لا يمكن له ذلك، كما أن اختلاف الزمان والمكان والوقائع يؤثِّر على الفتوى فتتغيَّر، فما يكون مفسدة في زمن، يكون مصلحةً في زمن، والعكس كذلك، ولا يمكن تقدير هذا من الأموات.


والراجح: أن الوقائع والأحكام التي أفتى بها المتقدمون إما أن يغلب على الظن أنه لا مدخل لتغير الزمان فيها، فيعمل بها، أو يغلب على الظن عكسه، فتترك، ولعل تأخر الفقه عن مسايرة تطور الحياة راجع إلى عدم مراعاة ذلك بخصوص ما لم يرد فيه نصٌّ صحيح صريح خالٍ من المُعارض.


ثامنًا: التلفيق: يراد به في الغالب: الإتيان بكيفية لا توافق قول واحد من المجتهدين المتقدمين في مسألة واحدة، ويمثِّلون للتلفيق المختلف فيه بتوضُّؤ رجل ماسحًا على شعرات من رأسه أخذًا بمذهب الشافعي، وعدم اعتماده للنقض بمس المرأة أخذًا برأي أبي حنيفة، ثم يصلي بهذا الوضوء، فإن صلاته باطلة على مذهب أبي حنيفة؛ لأنه لم يمسح ربع رأسه، وباطلة على مذهب الشافعي؛ لانتقاض وضوئه بلمس المرأة.


وقد يراد بالتلفيق ما هو أعم من هذا المعنى عند بعض الفقهاء، حيث يدخِلون فيه أخْذ المقلد في مسألة بمذهب إمام، وفي أخرى بمذهب إمام آخر، ولو لم يكن هناك تلازُم بين المسألتين، ولا يمكن منع التلفيق بهذا المعنى، إلا عند من يلزمون المقلِّد الأخذَ بمذهب واحد في جميع الأحكام، وقولهم هذا فاسد؛ إذ لا دليل عليه إلا إفراطهم في التقليد؛ فقد أجمع الصحابة والتابعون أن للمقلد أن يسأل من العلماء من شاء في كل مسألة على حدة.


وقد يراد بالتلفيق إحداث قول جديد في مسألة من المسائل بأن يكون مركبًا من قولين سابقين، وقد سبق بيان ذلك.


وقد يراد به أن يفتي المجتهد بقول مع عدم اعتقاد رجحانه، يكون هذا القول مركبًا من قولين، وإنما أفتى به؛ ليخلص المستفتي من مشكلة وقع فيها، وهو ما يدخل فيما يسمى بـ (مراعاة الخلاف).


والصواب: أن على المجتهد إذا رأى رجحان قول في حق مستفتٍ بعينه رفعًا للحرج، ومراعاة ليسر الشريعة، ففتواه حينئذٍ تكون صحيحة.


أما المعنى المشهور للتلفيق، فهو: "الإتيان بكيفية لا توافق قول واحد من المجتهدين المتقدمين في مسألة واحدة"، وقد اختلف العلماء في جوازه، فإذا وقع من غير قصد فلا شك في أنه يكون جائزًا؛ لأن من حق المكلف أن يعمل برأي من استفتاه إجماعًا، وإن وقع بتعمد من مجتهد، فإن كان يرى رجحان القول مطلقًا، أو يرى رجحانه في هذه الصورة، فإن فتواه صحيحة على الراجح، وإن كان لا يرى رجحانه لا في هذه الصورة ولا مطلقًا، ففتواه باطلة.


وإن حصل التلفيق من مقلِّد بقصد، فغيرُ صحيح؛ وذلك لأنه يحتمل أن يقع في مخالفة النصوص من حيث لا يدري، ولأن ذلك من اتباع الهوى، وهو ينافي التدين.


ولصحة التلفيق شروطٌ شرطها بعض العلماء، أهمها: عدم مخالفته لنص صحيح من الكتاب أو السنة أو مخالفته للإجماع، وألا يقصد منه التنصل من عهدة التكليف.


تاسعًا: تتبُّع الرخص: ويقصد به الأخذ بأخف ما قيل في المسائل الخلافية، وهو قد يحصل من مجتهد أو مقلد، فإن حصل من مجتهد، فلا يجوز إلا إذا غلب على ظنِّه عن طريق الاجتهاد رجحانُه مطلقًا، أو رجحانه في صورة من الصور التي سُئل عنها، فإن حصل من مقلِّد، فقد أجازه بعض العلماء، والصحيح منعُه؛ وذلك لأن الواجب في حق المقلد أن يسأل أهل العلم لا أن يتتبَّع الرخص، ولأن تتبُّعها يؤدي إلى التحلل من عهدة التكاليف الشرعية، وفيه اتباع للهوى؛ ولذلك قال بعضهم: من تتبع الرخص فقد تزندق.



رابط الموضوع: Cant See Links


رد مع اقتباس