عرض مشاركة واحدة
قديم 09-24-2012, 05:37 AM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

OM_SULTAN

المشرف العام

OM_SULTAN غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








OM_SULTAN غير متواجد حالياً


رد: مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة " الدكتور عبد المجيد عمر النجار



ثانيا : دعوة إلى الحوار حول الكتاب.


1 ــ مواضع التجديد في البحث.

إلى هنا نكون قد إنتهينا من عكس صورة عن كتاب " مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة " للد. عبد المجيد عمر النجار ولكن لا مناص لكل طالب علم جاد من دراسة هذا البحث المقاصدي المهم وقديما قالت العرب : ليس من رأى كمن سمع. فلنتفرغ الآن بإذنه سبحانه إلى إدارة حوار يتصل بالكتاب كليا وجزئيا معا من ناحية وبهذا العلم الإسلامي الأصيل من ناحية أخرى.
يشتمل هذا الجزء الثاني الأخير من هذا العمل ( عرض الكتاب وإدارة حوار فيه ) على أمرين أولهما تتبع جوانب التجديد في هذا البحث وثانيهما التنبيه إلى مواضع الحوار المقدمة على غيرها في رأيي حول الإجتهاد المقاصدي بصفة عامة.

كلمة بين يدي هذه الفقرة :

يتبين بيسر لكل طالب علم مطلع على هذا البحث الجديد بأن الدراسة تؤطر نفسها ضمن سقف في الإجتهاد المقاصدي الأصولي ظل يظل الباحثين في هذا العلم ـ إن وجدوا أصلا لندرة فادحة ـ. سقف شيده علامتان لم يرق إليهما فحل نحرير حتى يوم الناس هذا وليس ذلك لكمال عملهما أبدا ولكن لقعود طلبة العلم عن ذلك المرقى العالي. ( الإمام الشاطبي والإمام إبن عاشور ) اللذين ظل إنتاجهما يتيما بل آل إلى ما يشبه ما آلت إليه إجتهادات أصولية وفقهية كبيرة في الماضي إذ لم يسعف خلفها نفسه ـ في الأعم الأغلب ـ سوى بتمطيط الشروح وإنشاء الحواشي ورب حاشية زادت أصلها إستغلاقا فوق إستغلاقه بما لا يتناسب مع المقصد من كل علم أي تيسيره للعمل فالعمل هو المقصود من العلم.

يخص الإمامان الشاطبي وإبن عاشور بذلك في علم المقاصد تحديدا وليس في المباحث والدراسات المقاصدية سواء العامة أو ذات الإرتباط الوثيق بأصول الفقه أو أصول الشريعة أو أصول الدين وذلك من مثل أعلام كثيرة في تاريخنا لها فضل وفير متصل بهذا العلم ولكن ليس بشكل مباشر يتجه نحو إرساء أسس علم المقاصد وذلك من مثل العلامتين العظيمين : إبن تيمية وتلميذه إبن القيم والعلامة العز والعلامة القرافي والعلامة الجويني والعلامة الغزالي وسائر أوائل من إتجهوا نحو هذا الإتجاه.

ولذلك فإن مواضع التجديد في هذا البحث المقاصدي الجديد تستند في منهجها العام وليس في التفاصيل والجزئيات إلى ذلك السقف المنيع ولكنها خطوة بعد خطوة ولبنة بعد لبنة تتراكم في مجال الإجتهاد المقاصدي حتى يبعث ربك سبحانه من يكمل مشروعا يتيما في حضارتنا العلمية بدأه الإمام الشاطبي تأصيلا وتقعيدا وبحثا ثم تلاه الإمام إبن عاشور ثم إبتلي باليتم والغربة مرة أخرى حتى صح فيه قول القائل بحق بأن الإجتهاد المقاصدي قارب من قوارب النجاة وشراع من أشرعتها تهمله الأمة في فترة رخائها ليقضي الله أمرا كان مفعولا ثم تهرع إليه أيام الشدة لينجدها الله به ويقضي سبحانه أمرا آخر كان هو أيضا مفعولا.


الموضع الأول : تعزيز الإتجاه الإنساني في الصياغة المقاصدية.

ذاك هو أكبر موضع تجديد ـ في رأيي ـ تضمنه بحث الدكتور النجار والمقصود منه هو إعادة الصياغة المقاصدية على قاعدة ترجمة صياغة المقصد الإسلامي الأسنى التقليدي العام أي إصلاح الإنسان في معاشه والمعاد أو جلب المصلحة للإنسان ودرأ المفسدة عنه .. ترجمة تسبر أغوار الإنسان فطرة مادية وروحية وفردا وجماعة وفي علاقة بالمال وبالسلطان وبالإنسان.

ظهر ذلك التجديد في الصياغة لمناسبة فحوى الفكرة ولكن ظهوره في الفكرة ذاتها كان هو الأبرز بل الأدق وما من شك في أن عوامل كثيرة جعلت الدكتور النجار ينحاز إلى هذا الضرب من الصياغة المقاصدية ذات المنحى الإنساني لعل أهمها بالنسبة لطالب العلم هو تهيئة بعض العلوم الشرعية لخدمة قضية الإسلام الأولى في عصرنا أي : حسن عرض دعوته العالمية للناس كافة بلغة العصر لحما ودما وما من شك في أن الإتجاه الإنساني في كثير من الدراسات والبحوث الفلسفية الغربية وغيرها يكون دافعا من بين دوافع كثيرة. ( فقه المقارنة ).

لقد ساهم الدكتور النجار في هذا البحث مساهمة معتبرة في إعادة تبوئة الإنسان مكانه المناسب في علم المقاصد الإسلامية على قاعدة أن الإسلام إنما جاء له هو ولم يأت لكائن آخر أي جاء لمصلحته في كل أبعاد شخصيته ماديا ومعنويا وفرديا وجماعيا وغير ذلك فإذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي سخر له كل شيء في الكون والخلق تسخير إبتلاء وهداية وتوفيق ليكون الخليفة المستأمن المستعمر المعلم المسؤول .. فإن علم المقاصد ما ينبغي له إلا أن تعاد صياغته بل وبحوثه ودراساته كذلك على أساس ذلك ولم يمنع تلك الصياغة الإنسانية أن تأخذ طريقها إلى دراسات وبحوث عتيقة سوى ما درج عليه العلماء يومها من لغة عصرهم ولا غرو فالبيئة تصنع أهلها صنعا ولا يعني أن كل تلك الدراسات والبحوث عتيقها وحديثها قد تخلصت من ثنائية ناءت بحملها علوم إسلامية كثيرة تسللت إلينا من أثر الغزو الفكري اليوناني القديم وهي ثنائية : الألوهية مقابل الإنسانية وذلك بالرغم من أن الإسلام في مصدريه الأوليين كان صريحا صحيحا في تأكيده نفي مثل تلك الثنائيات فكان بديله عليها هو أن الإنسان عبد حر في الآن ذاته فهو عبد لربه الحق سبحانه ولكنها عبودية حرة على معنى أن الحرية تغذيها بل تنشئها وهو بديل كما ترى ليس فيه ثنائية بين إله وعبد ولا مقابلة بينهما.
ومعلوم أن الدكتور النجار له إهتمام بالإتجاه الإنساني في دراساته الشرعية والفكرية وذلك من خلال تخصيصه لإصدارين عن الإنسان ضمن مكتبته مثلا.

الموضع الثاني : إضافة البيئة مقصدا ضروريا ثامنا جديدا.

كان يمكن في الحقيقة أن يكون هذا الموضع في رأس هذا المبحث أي مبحث مواضع التجديد في دراسة الدكتور النجار ولكن جعلته هنا في مرتبة ثانية بعد تعزيز الإتجاه الإنساني في الصياغة المقاصدية بسبب كونه ـ رغم أهمية هذا الموضع من التجديد ـ جزئيا وليس كليا.



كون البيئة بكينونتها الطبيعية والمادية والمالية مقصدا شرعيا ضروريا .. هو تجديد كبير جدا بل هو الأكبر في الدراسة وهو الموضع الوحيد الذي لم يسبق إليه مطلقا من قبل ولكنه تجديد يثير المداد للتأكيد مرة أخرى ـ وهو تأكيد يظل يتابعنا في كل موضع تجديد ـ على أن الدكتور النجار كان يكتب بحثه المقاصدي الجديد وعينه على تحديات زمانه ومعطيات مكانه ولغة عصره وتلك هي علامة نجاح كل مجتهد وكاتب وباحث في كل علم مطلقا طرا إذ ليس هناك علم خاص بالدنيا ولا علم خاص بالآخرة ولا علم خاص بالقلب وآخر خاص بالبدن إلا عند من حبسوا أنفسهم في سجون غليظة ثخينة من حياة الأسلاف أو حياة الأخلاف ناسبين إلى أنفسهم العبودية والإحتلال من بعد ما أكرمهم سبحانه بالحرية والإستقلال.



أجل. لم يكن هذا البحث لينشأ ثم ليكون لبنة على درب إجتهاد مقاصدي مازالت زخات غيثه تتهاطل شحيحة جدا .. لو لم يهتم بأكبر مشترك بين البشرية اليوم أي البيئة التي لا يسلم من أذى تلويثها إنسان اليوم كائنا ما كان بعده عن مواطن التمدن القاسي والتكدس البشري المكوم بعضه على بعض.



البيئة بكلمة أخرى هي : لغة الناس المشتركة اليوم بمثل ما ستكون ربما بعد عقود أخرى لغة الإنترنت أو ما تكشف عنه الإندياحات الإعلامية الثائرة.



وإذا كان ذلك كذلك فإن الإسلام الذي جاء للناس كافة في كل زمان ومكان وحال وعرف لم يكن ليخطئ هذا الإهتمام ولكن يبرز من ثناياه بإجتهاد رجال جمعوا بين فقه الإسلام وفقه الحياة أما فقه الإسلام وحده فلا يكون إجتهادا إلا مجتهدا لنفسه من النار ينجيها وفقه الحياة وحده لا يكون كذلك إجتهادا إلا مجتهدا لنفسه من الإرهاق النفسي والإنتحار المعنوي يعفيها.



الموضع الثالث : مقاربة نظرية لتفعيل المقاصد الشرعية.



معلوم أن الإمام الشاطبي إهتم بهذا الجانب أي جانب تنزيل المقاصد ولم يعرف عمن سبقه فضلا عمن لحق به ( ولم يلحق به سوى الإمام إبن عاشور حتى يومنا هذا ) إهتمام بهذا الجانب ولكني ألفيت أن الدكتور النجار في هذا البحث إتجه نحو مقاربة نظرية متكاملة في تفعيل المقاصد النظرية للشريعة الإسلامية وربما كان ذلك على غرار كتاب أصولي عظيم له معروف عند طلبة العلم إسمه " فقه التدين " الذي نحا فيه منحيين أصليين : أولهما النحو الفقهي النظري وثانيهما النحو الفقهي التنزيلي. كيف لا وهذا من ذاك وهل ينتج الضرع الواحد لبنين؟



لو حاولت فهم المسألة لما أعوزني القول بأن الدكتور النجار متأطر ضمن حركة الإحياء الإسلامي المعاصرة أي حركة النهضة الإسلامية المعاصرة وحركة الصحوة الدينية التي تجمع بين الهم العلمي والهم العملي وذاك هو الذي ساقه ويسوقه دوما إلى إنتاج علم عامل وذاك هو ما يميزه ويميز كثيرا من أمثاله على كثير من علماء العصر وفقهائه ممن حبسوا العلم في مجالس العلماء كما فعل الأثينيون ( نسبة إلى أثينا اليونانية القديمة ) بالديمقراطية التي حبسوها على النبلاء.



الجديد في موضع التجديد هذا هو كونه جاء مبحثا ثانيا للكتاب يحتل شطره الثاني ولم يكن مبحثا فرعيا فيه أو إشارة مقتضبة أو حتى متوسعة إلى كيفيات التنزيل وغير ذلك.



الجديد هنا هو أن المؤلف بسط مقدمة علمية مهمة جدا من حيث منطقيتها وتماسكها وترابطها تصلح لأن تكون فعلا مقاربة علمية نظرية لفقه تنزيل المقاصد الشرعية على واقع الناس أن تفضي تحقيقاتها النظرية إلى غير ما شرعت له فتكون النكبة مضاعفة وينفر الناس عن الدين بسبب أنه يجر إلى الشر والضر والأذى والضعف ومخالفة السنن والفطرة والعلم وغير ذلك.



الجديد هنا هو تقدم تلك المقاربة إلى درجة أنها بحثت في مسالك الكشف عن مآلات المقاصد وهو أمر لا أعلم أن أحدا قبل الدكتور النجار كتب فيه إذا كانت الكتابات القديمة ( إلا الإمام الشاطبي الذي إنتهج منهجا آخر ربما يأتي الحديث عنه في القضية المقاصدية عامة وفي منهج التنزيل خاصة وفضلا عن ذلك فإنه الدكتور النجار يجدد تحت سقف الإمامين : الشاطبي والنجار في العموم لا في التفصيل ) كلها تقريبا مبلغها من العلم : الكشف عن مسالك الكشف عن المقاصد نظريا ولكن الكشف عن مسالك المآلات عمليا بحثا نظريا لم يسبق أن كتب فيه باحث مقاصدي.



مرة أخرى يتأثر الدكتور النجار بمعطيات زمانه ومكانه حيث أن فوضى الفتاوى والإجابات في زماننا من حيث تأدية المقصد الإسلامي الرفيع إلى إحداث حرج للناس أو إهدار قيمة ضرورية من ضرورات الحياة المقدسة في الإسلام تقديسا ( حياة الإنسان بصفة خاصة ) وغير ذلك مما يتلبس ظاهرا بلبوس العلم ولكن الفقه يخطئه ألف مرة ومرة بما يسيء إلى الدعوة الإسلامية المعاصرة .. ذلك عامل من عوامل أخرى كثيرة جعلت الدكتور النجار يعكف على صياغة مقاربة علمية لفقه تنزيل المقاصد أو فقه المآلات علما نظريا ومسلكا عمليا.



من دواعي التفعيل للثروة المقاصدية العظمى في الإسلام حتى بصياغاتها التقليدية القديمة فضلا عن جوانب التجديد المعاصرة فيها .. هو فض الإشتباك بين موضعي تنازع معاصر بين فئتين في الأمة أو منها. فئة حصرت المقاصد في جانب ما فكانت إلى إلغائها جملة وتفصيلا أقرب وجاءت تبعا لذلك إجتهاداتها الفقهية المعاصرة جامدة ميتة تناسب عصورا خلت ولا تناسب عصرنا الحاضر وخاصة في بيئاته الأشد تعقيدا وتشابكا من مثل الوجود الإسلامي في الغرب عامة وأوربا خاصة وفئة إنفضت عن الشيوعية وبناتها الغربية إنفضاض كلاب تصدع قحفها فسقى الأرض منه لبنا وإضطرت إلى الإسلام إضطرارا إضطرار المنافق عليم اللسان عندما تدلهم الأرض في وجهه وتمتلأ وهادها ونجادها دينا حيا متحركا ووجدت في مقاصد الإسلام ذريعة إلى بث سمومها وتوهين عرى أصول التدين من مثل الوحدة والهوية وغير ذلك ربما لفراغ علمي في هذا العلم أو لطبيعة العلم المقاصدي ذاته أو لأسباب أخرى لا يهمنا أمرها الآن.



عندها يكون التصدي لهؤلاء وأولئك حماية لمقاصد الإسلام أن تجمد فتشق الحياة أو تميع فيفقد الإنسان فطرته .. فريضة إسلامية ولكنها فريضة إسلامية بمنطق علمي يقتضي بالضرورة إنجاز مقاربة أولية تضبط علاقة النظرية بالتنزيل في الموضوع المقاصدي كما تضبط أسس التنزيل نفسه لا تخريجا وتهذيبا وتحقيقا فحسب ولكن رصدا لمعطيات في الإنسان وفي الزمان وفي المكان تساعد على حسن أيلولة لتثبت هذا وتستثني ذاك وتؤجل ذلك وتقرر خلو مكان تلك.



معنى كل ذلك هو أن الخلاف في الجملة والعموم ليس في تخريج المقاصد كليا أو جزئيا ولكن الخلاف هو في فقه تنزيلها لتبدأ عملها المرسومة له أو بتعبير علمي أدق : ضبط محلها ضبطا دقيقا وضبط ما يتحمله منها وإحداث الموازنة بين المصالح بعضها بعضا وبين المفاسد بعضها بعضا وإستبصار مقادير المصلحة والمفسدة من كل مصلحة ومن كل مفسدة عادة ما تتلبس فيهما هذه بتلك كما قرر ذلك جهابذة هذا الفن قديما أما الموازنة بين المصالح والمفاسد جملة فهي أمر لا يكاد الخلاف فيه في دائرة معلومة من أهل العلم يكون ذا بال. ولنا في قالة إبن تيمية خير نبراس علمي " ليس العاقل من يعلم الخير من الشر ولكن العاقل من يعرف خير الخيرين وشر الشرين " ذاك هو الميزان الذي أشار إليه سبحانه منزلا منه مع الكتاب ( القرآن الكريم ) جنبا إلى جنب في سورة الحديد. ذلك هو الميزان الذي وهنت عراه في أيدي الناس والأمة فلم يفعل الكتاب الكريم فعله المطلوب في حياتنا لأنهما صنوان توأمان شقيقان لا ينفصلان ( الكتاب والميزان).



الموضع الرابع : إبراز البعد الجماعي في الإجتهاد المقاصدي.



هذا موضع تجديد كبير جدا بل هو الأهم إلى جانب البعد الإنساني مباشرة في مقاربة الدكتور النجار وهو ذات طابع كلي وليس جزئي من مثل التجديد في مسألة إعتبار حفظ البيئة مقصدا عاليا ولكني أخرته هنا لأسباب منها أن التزاحم بين كل تلك المواضع التجديدية في دراسة الدكتور النجار كان على أشده فمن أقدم ومن أؤخر ومنها أن البعد الجماعي في البحث العلمي الحاضر ربما لم يشدني كثيرا ولم يفعل في فعل تجديدات أخرى بسب الإلف والعادة إذ أن البعد الجماعي لما درجت عليه فعاليات الصحوة الإسلامية المعاصرة علما وعملا أضحى أمرا مسلما بدهيا بل هو أس المشروعية ومحل نكير على فعاليات أخرى تختار أو يختار لها منهج التمزيق والشرذمة لجسم الإنسان الواحد وجسم الإسلام الواحد وجسم الأمة الواحد وغير ذلك.



أعني أن هذا الموضع من التجديد في دراسة الدكتور النجار رغم عظمته وهيبته لم يفاجئني لما أعرفه عن توجه الكاتب وتوجه الباحثين المعاصرين ممن أنتجتهم الصحوة الإسلامية المعاصرة أو كانوا لها أو فيها بوجه من الوجوه نصراء ونقباء ولذلك أخرته ولكنه في التجديد في هذا الموضع مقدم مقدم.



لقد أشرت في هذه التلخيص للكتاب في أكثر من موضع على ما أذكر إلى أن الدكتور النجار كان من السباقين إلى نقد الصياغات المقاصدية التقليدية القديمة ينعي عليها كما ينعي عليها رجال سبقوه وآخرون لحقوا به قصر نفسها على البعد الفردي وإهمال البعد الجماعي وإنك لتعجب حقا والله كيف غاب هذا المقصد الأبرز الأعظم عن أمثال أولئك الجهابذة ـ جهابذة بأتم معنى الجهبذة ـ والآيات والأحاديث والأعمال النبوية والراشدية التي تنطق بها نطقا لا تكاد تحصى فعلا وحقيقة. إنه دون شك إلف وعادة وتأثير للبيئة على تكوين الإنسان وإتجاهه العلمي إلا قليلا جدا فيما ندر من الناس لا بل قل إنه أثر من آثار ذلك الإنقلاب الأموي الغاشم جدا الذي حقق نذارة محمد عليه الصلاة والسلام في قوله " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة كلما نقضت عروة تشبث الناس بالتي بعدها ". عكف كثير من العلماء على حسبان ذلك نبوءة وغفلوا عن كونها نبوءة في الظاهر ونذارة خطيرة من نذير عريان في الحقيقة والجوهر. ولقد أحسن المفكر الإسلامي الكبير الدكتور عبد الله فهد النفيسي حين سمى ذلك الحدث قبل عقود طويلة في كتاب كامل " إنقلاب أموي " وهو إنقلاب فعلا أكره الناس على الإهتمام بخويصة النفس ونبذ الشأن العام فتأثرت بذلك الإجتهادات العلمية حتى في المادة المقاصدية التي هي مادة منهجية أصولية يعول عليها في توصيب الحكم وحسن توجيه البوصلة الإسلامية العامة.



كان الدكتور النجار إذن من السباقين إلى نقد الصياغات المقاصدية التقليدية القديمة بسبب توجهها الفردي وإهمالها للبعد الجماعي ( للإنسانية وللأمة سواء بسواء إذ الإسلام دين العالمين كما أن ربه سبحانه هو رب العالمين ورسوله عليه الصلاة والسلام هو رسول العالمين ) وها هو اليوم ينفذ ذلك النعي وذلك النقد في دراسة تولي ذلك البعد ما يستحقه من إهتمام يكفيك منه أن الوحي الكريم ( القرآن الكريم أساسا ) لم يوجه خطابا واحدا للناس في كل المناحي حتى التقوى والصيام والعبادات القلبية الخاصة الشخصية الباطنية جدا .. بصيغة الفرد ولكن جاءت كل خطاباته بصيغة الجماعة في كل الأحوال وكل الحقول لم يخص منها حتى حاكما أو إماما أو فقيها أو عالما ولكن كانت موجهة دوما بشكل مفتوح إلى الناس ثم إلى المؤمنين أي إلى الأمة والبشرية إلا ما كان خطاب جنس من مثل ( يا أيها الإنسان ) أو كان خطابا خاصا به عليه الصلاة والسلام وحتى في هذا الخطاب الأخير فإن الصيغة في كثير من المواضع ـ إن لم يكن أكثرها ـ تكون بصيغة الإفراد ولكن المعنى هو بصيغة الجمع وذلك على أساس أنه عليه الصلاة والسلام ولي المؤمنين والناس أجمعين فهو خطاب للمؤسسة الحاكمة ولكن الغالب هو الخطاب الجماعي العام. أجل. إنك لتعجب كيف طغت رغم ذلك الصياغة الفردية. ولكن لكل علم نصيب ولكل علم نصيب ولكل عصر نصيب.



جاء إهتمام الدكتور النجار بهذا المستوى التجديدي الجماعي مؤسسا حقا وضافيا حقا وذلك على واجهتين : واجهة التنظير الكيفي المعرفي للقيم التي تخدم ذلك المعنى من مثل العدل والحرية والكرامة والشوى والتكافل والتآخي وكلها مقاصد إسلامية ناصعة ظاهرة نص عليها بالنص القرآني الصحيح الصريح وبذا تكون تلك هي أعلى المقاصد طرا مطلقا ولا يهم بعد ذلك أن كانت مقاصد أصلية أو تبعية بتعبير الإمام الشاطبي أو مقاصد غائية أو وسائلية بتعبير الدكتور النجار. وواجهة تعيين المؤسسات الحاضنة لذلك التوجه الجماعي في فقه المقاصد الإسلامية من مثل الإسرة والدولة وما بينهما من مؤسسات نقابية وعلمية وعشائرية تحفظ التوازن بين الأدنى والأعلى.



الدكتور النجار إذن يعتبر أن الجماعة في الإسلام ( جماعة الأمة أساسا ) مقصد شرعي قطعي ضروري أعلى وهو عين الحق والله وهو موضع تجديد مقاصدي كبير يعزز جبهة المصالح الضرورية في الشريعة الإسلامية : يحفظ القديم ويثبته ويغذي شرايينه الداخلية أي الدين والنفس والعقل والمال والنسل ثم يلحق به مقصدين إثنين : الجماعة والبيئة.



الموضع الخامس : مسلك العمل النبوي ضمن مسالك الكشف عن المقاصد.



قبل الإطلاع على هذا يجدر بطالب العلم الإطلاع على دراستين لكل من الدكتور أحمد الريسوني والدكتور النجار في هذا الموضوع ( الكشف عن مسالك الكشف عن المقاصد ) لا بسبب إتصال الموضوع ولكن بسبب أنه لا يعلم إلى حد الساعة من رصد ذلك سواهما من منهج إمامي المقاصد طرا مطلقا : الشاطبي وإبن عاشور.



قد تجد أحيانا من يحاول إلحاق كتاب المرحوم الفاسي بشيء من ذلك ولكنه في الحقيقة إذا كان مؤلفا بذلك أولى فهو كتاب الذريعة للراغب عليهم رحمة الله سبحانه جميعا ولكن كلاهما ( الفاسي والراغب ) ينتميان إلى المكارم والمحاسن والمحامد ضمن بحث يغلب عليه الطابع الأدبي الخلقي التحسيني رغم إحتوائه على لقطات أصولية ومشاهد علمية بالمعنى التدقيقي الصارم.



بل إن الراغب وفق توفيقا كبيرا جدا في ضبط ثلاثة أصول مقاصدية عظمى كبرى يتأطر تحتها كل إجتهاد في السابق وفي اللاحق وهي الكلمات المأثورة عنه : العبادة والخلافة والعمارة.



طبعا لا يتسع المجال هنا لتلخيص محاولتي الريسوني والنجار في ضبط منهج الكشف عند كل من الإمامين الشاطبي والنجار سيما أنهما إختلفا في تحديد ذلك ولكن المقصد من إثارة ذلك هو تنبيه طالب العلم إلى ذلك ليكون على علم أشمل وأدق بالموضوع.



إهتم الإمامان بالسنة ( بكل مفاهيمها الأصولية والفقهية ) مسلكا للكشف عن المقاصد ولكن ذلك الإهتمام جاء على سبيل الضم إلى القرآن الكريم أي أنهما إعتمدا الأمر والنهي وعللهما سواء كانا من القرآن أو من السنة وربما كان الإمام إبن عاشور أوسع إطنابا في ذلك من حيث إيراد الحديث والتوسع في الإستنباط منه بخلاف الإمام الشاطبي الذي يمكن أن نقول بإطمئنان كبير إلى أن بحثه المقاصدي نحا في إتجاه ضبط منهج أصولي ولذلك تجده يتقصد بناء القاعدة ويجتهد في بنائها كما إعتمدا الإستقراء في الأدلة الجزئية والكلية من المصدرين الأوليين كذلك إضافة إلى توخي اللغة العربية لحسن فقه ذلك كما بين الإمام الشاطبي في مقدمة ذلك كله.



ولكن الإعتماد على العمل النبوي سواء كان قولا أو فعلا أو إقرارا أو حتى صفة لمن يريد إلحاق الصفة لم يكن مستقلا في عمل الإمامين والحقيقة أنه عند الدكتور النجار لم يكن كذلك مستقلا بسبب أنه لم يتوسع في هذا المبحث ولكن العنوان ( عنوان هذا المسلك ) كان ينبئ على أن الدكتور النجار ربما يهدف ضمن إجتهاده المقاصدي إلى إدراج السنة بمفهومها الواسع أصوليا وفقهيا مسلكا مستقلا من مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة الإسلامية.



إذا كان ذلك كذلك فإنه باب واسع للتجديد في مسالك البحث عن مقاصد الشريعة إذ لا شك فيه أن السنة هي التي تولت لا بيان القرآن فحسب ولكن كذلك تولت غرس المقاصد الإسلامية في النفوس وفي واقع الحياة البشرية في ذلك الوقت بما تتيحه الظروف يومها بطبيعة الحال لأن المقاصد الإسلامية علم يجمع بين النظرية وبين التطبيق بل يكون التطبيق شاهدا على النظرية ومثبتا لها.



ربما يكون المطلوب في الإجتهاد المقاصدي المعاصر هو إفراد العمل النبوي بدراسة منهجية شاملة ودقيقة لإستنباط مسالك الكشف عن المقاصد الشرعية كليا وجزئيا وفي مختلف أدوار ترتيبها وتصنيفها من تنوع ذلك العمل النبوي الكبير ولا شك في أن فقه مقامات المشرع كفيل بجزء كبير من ذلك.



أما جمع منهج الكشف من القرآن والسنة معا دون تمييز لا بين القرآن والسنة من ناحية ولا بين القول والفعل في السنة من ناحية أخرى ولا بين السنة والسيرة من ناحية ثالثة ولا بين مختلف المقامات التشريعية له عليه الصلاة والسلام من ناحية رابعة ولا بين معطيات زمانه ومكانه وما كانت تتيحه من حرية تصرف من ناحية خامسة .. ذلك منهج يصلح في الجملة ولكنه لا يسعف البحث المقاصدي المعاصر عندما يريد التخصص والتمنهج ونشدان بناء علم للمقاصد يكون خادما حرا مستقلا لأصول الفقه وليس تابعا لا ينفك عنه فيما يدور تحت الإستصلاح والإستحسان والإستعراف والإستصحاب وغير ذلك من المصادر التشريعية المقاصدية العظمى.



بكلمة مختصرة مفيدة : التعمق والتوسع في مسلك العمل النبوي بإستقلال إرتباطي عن القرآن الكريم يحيل على مسلك آخر مهم جدا هو مسلك حسن فقه الواقع المعيش وما تتيحه ظروفه المختلفة المتنوعة من إمكانات تنزيل وحسن أيلولة ولكن كذلك لحسن فقه للمقاصد نظريا عندما تكون عين على المتن المكتوب وأخرى على المتن المعيش بآماله وآلامه ولكن ذاك أمر دونه مجاهدات علمية أخرى كبيرة ومغالبات فقهية يقيض الله الجهابذة إن شاء الله تعالى.



الدكتور النجار في بحثه المقاصدي هذا يقصر العمل النبوي مسلكا من مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة ( الإسلام ) على مقام التبليغ ولكن بسبب عدم توسعه في ذلك بصفة عامة فإن موضع التجديد فيه ثابت من ناحية ومواضع الإجتهاد في ذلك أكثر إلحاحية لبناء علاقة بين القرآن والسنة خاصة بمفهومها الأصولي من ناحية في الإجتهاد المقاصدي المعاصر ولبناء علاقة داخلية أخرى بين مختلف المقامات النبوية إستئناسا على الأقل قد يرقى مراقي أعلى من ناحية أخرى.



الموضع السادس : إثراء الأوعية المقاصدية الداخلية وضبطها.



هذا موضع تجديد كبير واسع ومهم في منهج التأليف العلمي والفكري عند الدكتور النجار بصفة عامة وفي تآليفه الشرعية بصفة خاصة وفي هذا البحث المقاصدي الجديد بصفة أخص وأشد.



يتخذ هذا الموضع التجديدي في البحث مظاهر كثيرة أبرزها ما يلي :



أولا : الإهتمام بمسالك الحفظ لكل مصلحة ضرورية عليا من المصالح الثمانية التي إنحاز إليها الدكتور النجار وذلك بطريقة منطقية علمية تعتمد على أمرين :



... الكشف عن مسالك الحفظ بتيسير الأسباب وجلب العوامل المساعدة وغير ذلك.



... الكشف عن مسالك الحفظ بدفع العوائق وإزالة الأشواك وغير ذلك.



لك أن تأخذ مثلا أول مقصد ضروري أعلى أي حفظ الدين لتلاحظ بأن ما جاء به الدكتور النجار لم يكن مسبوقا إليه خاصة من حيث القدرة العجيبة الفائقة على الضبط والترتيب والتوزيع والإدارة وتحري الشمول والدقة وإعتماد المقارنة وغير ذلك من التخطيط العلمي.



المجني من ذلك هو تنزيل المقاصد الشرعية في واقع الناس وأفكارهم منزلة معروفة معلومة يسيرة مفصلة يلمسها القارئ العادي فضلا عن طالب العلم بسبب ما يحيط به قلم الدكتور النجار من تجسيد كيفي وكمي تكاد تلمسه بأصبعيك.



القول العلمي في ذلك هو أن الدكتور النجار إهتم بالمقاصد الوسائلية إهتماما كبيرا لم يسبق إليه خاصة فيما يتعلق بأسلوبه في الكتابة والتأليف أي الإعتماد على الضبط الكمي والترتيب النوعي والإنبساط الشمولي.



ذلك أن المقاصد العليا لا خلاف عليها ولكن الخلاف ربما يكون فيها لطائفة من طلبة العلم أو طائفة من الناس وذلك بسبب بقائها متعالية متأرجحة في مظانها العليا كمن ينظر إلى عروس حسناء في هودجها العالي المذهب لا يكاد يدرك عن تفاصيلها شيئا كثيرا فهو يعجب بها ولكن لا يستمتع بالقرب منها ولا بشم ريحها ورغم ذلك يظل الإعجاب بها يشدهه ويغريه كما يظل العجز عن الوصول إلى تفاصيلها حائلا دون الإستمتاع بها في حياته اليومية.



يمكن في هذا الصدد لطلاب العلم النجباء أن يجمعوا بين نظرية الإمام الشاطبي التي لم يسبق إليها في مسألة إحداث مقاصد للمكلف من الشريعة إلى جانب مقاصد للشريعة من المكلف وبين هذا الموضع التجديدي للد. النجار وذلك لمزيد من التوسع في التفصيل بما يقرب المقاصد عمليا من المسلم العادي وبما يعين طالب العلم على مزيد من الكشف عن مقاصد وسائلية أخرى يجود بها العصر الحديث لحماية المقصد الأصلي الضروري الكلي سواء بطريق تيسير السبب أو بطريق سد ذريعة الفساد.



كل ذلك العمل الإجتهادي من شأنه أن يغذي الأوعية المقاصدية الداخلية ويساعد على التنزيل وقبل ذلك على حسن الفهم وبذلك تتغير الحياة ويأخذ الإصلاح طريقه بيسر إلى الناس.





ثانيا : الإهتمام بهيئة بناء المقاصد ترتيبا وأولوية وضبط معايير لذلك.



لقد مر بنا فيما سبق أن محاولة الدكتور النجار إتخذت لها الإنسان محورا مقاصديا تدور حوله كل المقاصد مناسبة لمنهج ومقصد شريعة إنما تنزلت من عالم الغيب غيرة على هذا المخلوق الجديد أن يضل الطريق وليس الجديد في الفكرة ولكن الجديد هنا هو في إلتقاط المشهد الشرعي حين يلتقي مع المشهد المعاصر في الإتجاه الإنساني لبيان علوية الدين وصلاحيته لهذا الزمان ومعطياته كذلك.



كانت الأولوية المنهجية المقدمة إذن في فكر الدكتور النجار هي أولوية الإنسان مطلقا طرا.



ولكنه لم يقتصر على ذلك بل غذاه بترتيب آخر بنى على مقتضاه مقاصده الضرورية الثمانية وهو ترتيب يؤطر الإنسان ضمن دوائره كلها أولا بأول من الدين الذي يوجه بوصلته العامة نحو إتجاهها الفطري الصحيح حتى البيئة الطبيعية المادية التي يترجم فيها الإنسان حياته ويدير فوق أديمها رسالته في العبادة والخلافة والعمارة أي أنه ربط بين السماء التي أعلنت هذا الدين وبين الأرض التي فيها وعليها يطبق ذلك الدين.



إعادة الترتيب وفق معيار قديم ليس أمرا في متناول كل من هب ودب ولكنه يسير على من وفقه الله سبحانه إلى الجمع دوما بين الأصل والعصر أما من تنكب أحدهما فهو إلى الحول أقرب.



إعادة الترتيب ليست عملا إداريا مهملا أو مستقلا عن خلفية فكرية ثقافية فلسفية ولكنه صياغة جديدة لموروث قديم آن أوان تجديده.



إعادة الترتيب هي بكلمة واحدة بمثل عمل المخرج في الفنون السنمائية وغيرها والناس كلهم أجمعون اليوم بحكم الواقع الفني يعلمون دور الإخراج في تهذيب العقول والأذواق وإستقرار الفطرة أو في تعذيبها.



كان الترتيب عند الدكتور النجار يعتمد ثلاثة معايير كبرى : أولها الإنسان وثانيها الحاجة المعاصرة وثالثها الجماعة وعاء واسعا يحتضن تنفيذ مقاصد الشريعة.



ولذلك جاءت محاولته جذابة.



لا يتسع المجال هنا لألقاء أضواء أخرى كاشفة لما أسماه الدكتور النجار إعادة تصنيف المقاصد الشرعية ولكن بالرجوع إلى الكتاب يتبين لكل طالب علم بأن إعادة التصنيف مهمة جدا لمن يريد إعادة بناء عقله بناء إسلاميا صحيحا سليما يجنبه الوقوع في أحد مطبين خبيثين : إما الترحيب بإحتلال السلف لعقولنا أو بإحتلال الخلف لها أما الإستمتاع بشخصية مستقلة فردية وجماعية في الآن نفسه فلا سبيل إليه.



إعادة التصنيف الذي إعتمده هذا الكتاب يراعي حاجات الواقع المعاصرة وجوانب القوة والضعف في الحضارات والثقافات والتجارب النمائية الراهنة وبذلك يجد فيه طالب العلم والقارئ العادي حاجته ونهمه ثم يدفعه إلى إجتهاد جديد يبتغي التطوير والتحسين دوما.



أما التكديس للمقاصد سواء تعلق التكديس في مجالاتها الكلية أو الجزئية فهو أمر لا يبني منهجا علميا ولا يؤسس نظرية للمقاصد فضلا عن علم ولكن يضيف معلومات مكومة بعضها على بعض لا علاقة لها بالعصر وحاجاته ولا حتى بهندسة الإسلام من حيث قيامه على ترتيب عقلي منطقي في كل بعد من أبعاده وعبادة من عباداته وسلوك من مسالكه.



ثالثا : الإهتمام بالشمول المقاصدي بلغة معاصرة.



كان يمكن للد. النجار أن ينحاز إلى تصنيف مقاصدي أو إعادة ترتيب ينحو في إتجاه إعتماد التقسيم المعاصر بوجه ما لحياتنا المعاصرة أي بناء المقاصد وفق مقاصد سياسية وأخرى إقتصادية وثالثة إجتماعية ورابعة خارجية وغير ذلك ولكنه جمع بحسب رأيي بين ذلك وبين منهج آخر لم يبتعد فيه كثيرا عن الصياغات المقاصدية التقليدية القديمة من جهة ولكنه في الآن نفسه لم يبتعد فيه كثيرا عن الإلتحام بمثل تلك الحاجة التي تدعو إلى بيان المقاصد السياسية للإسلام وكذلك الإقتصادية والإجتماعية ( سيما الأسرة ) وغير ذلك.



هنا موضع تجديد كذلك رغم إنحيازه لمنهج تناول محدد من لدن المؤلف ولذلك جاءت المحاولة متوازنة بين التأليف التقليدي القديم وبين بعض المحاولات المعاصرة. عيب الأولى أنها ليست في بعض مفاصلها فضلا عن صياغاتها لعصرنا والحقيقة أن العيب عيبنا وليس عيبها لأن العيب يتحمله من يلتقط ما وجد بين يديه دون تعقل وتدبر وتجديد وعيب الآخرة أنها جارت في صياغة التجديد جورا جعلها إلى الإنشاء الفكري أقرب من التحقيق العلمي.



خذ إليك مثل مقصد الجماعة في الإسلام في هذا البحث وكيف بناه الدكتور النجار في الأسرة وفي المؤسسة الدولية الحاكمة ومختلف الدوائر الإجتماعية التي يأوي إليها الفرد بالضرورة ليتأكد لك ذلك الشمول المقاصدي بلغة معاصرة تجمع بين التحقيق العلمي والإنشاء الفكري كما تجمع بين الفرد والأسرة والجماعة مؤسسة حكومية ومهنية وغير ذلك.



وهو شمول يتخذ له وجوها عدة منها أنه يعتمد على ترتيب نوعي للمقاصد أي بحسب إنتمائها لنوع ما من أنواع الحياة وهو تقسيم في الجملة والأصل بطبيعة الحال معياري تقتضية الضرورات الدراسية العلمية سيما أن منهج الدكتور النجار يقوم أول ما يقوم على الضبط الصارم متأثرا بتكوينه الفلسفي الكلامي.



الإهتمام بالمادة في محاولة الدكتور النجار لا تكاد تجد له أثرا كبيرا في محاولات سابقة.



ذلك مظهر ثالث من مظاهر تغذية الأوعية الدموية لعلم المقاصد الشرعية وبذلك يكون الدكتور النجار قد جدد في الأصول العظمى ( البيئة ) وفي الفروع والشرايين الداخلية ولكن تجديده هنا كان هو الأبرز والأكثر بسبب تتبعه للتفاصيل والجزئيات.



مثلته في عمله ذلك بطبيب دعي إلى إجراء عملية جراحية على إنسان في غرفة العناية المركزة فهو في نظر بعضهم قد فارق الحياة وفي نظر بعضهم الآخر تستوي حياته مع موته فلما جاء ذلك الطبيب هرع إلى تغذية الأوعية الدموية الداخلية وتتبع الشرايين التي تبث الحياة في الجسم فصبر على ذلك التتبع جزئية جزئية حتى ملأت الحياة ذلك الجسم الذي كان يظن قبل قليل أنه فارق الحياة أو هو على وشك ذلك.



تلك مواضع تجديد ستة كبرى معلومة لكل طالب يدرس الكتاب بتأن وحسن فقه ولكن مواضع التجديد الأخرى أدنى مرتبة جديرة هي الأخرى بالإشارة ولكن لا يتسع المجال هنا لضيقه عنها وربما تكفي الإشارة إلى موضع واحد منها وهو موضع تيسير هذا العلم للمسلم العادي بما لا يجعله حكرا على طالب العلم وهو الأمر الذي تعرض له الدكتور النجار في هذه المحاولة بلسان القلم صريحا مرات.



ضرب لذلك أمثلة لمسلم عادي يجتهد في دينه من مثل الصلاة والقبلة وغير ذلك وهو إتجاه محمود جدا إذ أنه يجمع بين وطر طالب العلم من خلال تحري لهجة علمية مقاصدية تتميز بالضبط الصارم التي كثيرا ما تكون في مواضع التفعيل مثلا قاعدة إنطلاق لإنتاج قواعد مقاصدية منضبطة قطعية مات الإمام إبن عاشور دون أن يدرك أجلها ولكن كان له سبق المناداة بها حسما لخلاف لا مقبول ولا مفهوم في هذا العلم .. وما يمكن أن يفيده المسلم العادي في حياته اليومية عندما يكون واعيا بالحد الأدنى لمقاصد الإسلام.







2 ــ مواضع الحوار حول الكتاب خاصة والإجتهاد المقاصدي عامة.





الموضوع الأول : دعوة الدكتور الريسوني بقيت مؤجلة بمثل دعوة الإمام إبن عاشور.



دعا الدكتورالريسوني منذ سنوات إلى الإهتمام بمقاصد العقيدة بمثل ما تلفى مقاصد الشريعة من إهتمام على الأقل ولكن لم تجد لها الفارس المغوار ولكني لا أتفق مع الدكتور النجار فيما كتبه في بحثه هذا فيما يتعلق بهذا الموضوع حيث قال : " ... وإن كانت هذه المقاصد أبين في الأحكام الشرعية العملية والحاجة إلى العلم بها أوكد لدوران الإجتهاد عليها وأما العقائد فإن مجال الإجتهاد فيها مجال محدود ضيق ".



ربما يشفع للد. النجار أنه ساق ذلك في سياق الدعوة إلى التعبير بمقاصد الشريعة عن مقاصد الإسلام عقيدة وشريعة ولكن عند التفصيل نلفى أمورا كبيرة منها :



أولا : مقاصد العقيدة أولى بالإستنباط من مقاصد الشريعة لأسباب كثيرة منها :



... العقيدة الإسلامية تتعرض اليوم ـ كما تعرضت من قبل ومن بعد إبتلاء ـ لهجومات عقدية كاسحة من داخل الأمة ومن خارجها سواء بسواء وتحمل العقيدة الإسلامية الصحيحة بالمنهج الإسلامي في مصدريه الأوليين لا يكتمل حتى يكون المسلم على بينة من العقيدة نصا وروحا كما يقال أي متنا ومقصدا ولقد أثبتت الأيام أن تلك الهجومات الكاسحة ( الغربية المعاصرة منها على وجه الخصوص ) أثمرت إنسلاخات وإرتدادات وذهبت بآلاف مؤلفة من خيرة شباب الأمة حين شغبت عليهم تلك الفلسفات المادية ببريقها الخادع في زمن إندحرت فيه العقيدة الإسلامية في النفوس ولو أحصيت عدد من آبوا بعد ذلك لألفيتهم قليلا جدا مقارنة مع جيش لجب إغتالتهم تلك العقائد الغربية المادية إغتيالا عقليا بل جعلت منهم أسيافا ماضية في خاصرة الأمة وهويتها.




... العقيدة هي الحاكمة على الشريعة وخاصة من حيث المنهج فإن الإسلام يكثف منهجه في الحياة في العقيدة بأكثر مما يفعل في الشريعة بسبب أن الشريعة حتى في وحدتها فهي متفرقة بحكم طبيعة الأشياء تفرقا نوعيا كما سماه الدكتور النجار في بحثه أما العقيدة فهي الأمر الذي دعا إليه الإسلام على مدى عقد كامل لم تنزل فيه شريعة واحدة ولكن سارت حياة ذلك المجتمع الإسلامي الصغير في ذلك الوقت بما قدم من شهداء على درب تلك العقيدة أو ذلك الدين الذي لم يكن يتوافر سوى على العقيدة كما قدم قوافل هجرة متعددة ومصابرات بل توحدت الأمة في ذلك الوقت على العقيدة وليس على الشريعة التي لم ينزل منها شيء أبدا وبذا كانت الجماعة هي المقصد الأسنى من مقاصد الإسلام الأولى دون أدنى ريب وكانت العبادة الأولى دون أدنى ريب كذلك. العقيدة بالنسبة للشريعة كلها هي ذلك الجذر الذي يتولد عند الجذع بأغصانه وأوراقه وثمره وظلاله.



... الدعوة الإسلامية المعاصرة وهي تشق طريقها في طريق محفوف بمكاره لا تحصى من الداخل ومن الخارج سواء بسواء لا يمكن لها أن تتقدم وتنتصر سوى بتعريف الناس بالعقيدة وخاصة من حيث مقاصدها العامة في تحرير الإنسان وتكريمه وحفظ شخصيته المعنوية موحدة لا تشتيت فيها و بناء الحياة على أساس أخلاقي دوما وغير ذلك مما تجده متناثرا في الشريعة بل عليه إعتراضات لا تحل سوى في مجالس العلم الهادئة مما هو محل خلاف بين العلماء حتى في فروع كبرى وبالتالي فإن العقيدة وحدها الكفيلة بتقديم الإسلام إلى الناس كافة من كل دين وملة ونحلة وطائفة صافيا نقيا رقراقا يجلبهم إلى نور الحق وعدل الإسلام.



ثانيا : أما كون مقاصد العقيدة أقل بيانا من مقاصد الشريعة بحسب ما ذكر الدكتور النجار فأظن أن الأمر ليس على إطلاقه ولا على دقته المطلوبة إذ أن من يقرأ القرآن الكريم وكثيرا من الحديث النبوي الشريف يلفى بيسر أن العقيدة معللة مقصدة ببيان صريح صحيح واضح جلي سواء بالأدوات اللغوية من مثل " كي وحتى ولعل ولام التعليل ومن أجل ذلك وغير ذلك .." أو بالسياقات الكثيرة جدا حتى أن الله سبحانه قليلا ما يدعونا إلى عبادته وحده سبحانه دون أن يعلل ذلك ويقصده بجلب مصلحتنا ودرإ المفسدة عنا أو بمقصد إسداء الشكر له سبحانه ولو وقفت عند سورة قصيرة واحدة يحفظها الملايين من المسلمين وهي سورة قريش لألفيت بأنه سبحانه يعلل إفراده بالعبودية دون إشراك بأنه " أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " ومثل ذلك لا تكاد تنفك عنه آية عقدية واحدة بل هو مخ القرآن الكريم.



بل إني أجد أن مواضع التعليل والتقصيد في الآي العقدية أبين وأجلى منها في الآي التشريعية وذلك معلل بإبتدائية العقيدة بالنسبة للشريعة وبدورها في تحرير الإنسان وتكريمه وإنقاذه من مختلف العبوديات التي تهدم شخصيته وحريته وكرامته وتجعل منه لقمة سائغة لكل مستكبر في الأرض حتى لو كانت نفسه التي بين جنبيه.



ثالثا : وكذلك الأمر في كون مقاصد الشريعة أوكد من مقاصد العقيدة بمثل ما قال الدكتور النجار بسبب دوران الإجتهاد عليها.



إذا كان ذلك دقيقا فهو في داخل الأمة في حال قوتها وإزدهارها أما في حالنا اليوم مثلا فإن مقاصد العقيدة أوكد بالعلم بسبب أن الأمة مخترقة من كل جانب بعقائد جاهلية بعضها من تراث ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام حتى إستحال الإسلام في كثير من مواطن الأمة إلى شركيات جاهلية تكاد لا تختلف في شيء عن الجاهليات الشركية القديمة أو إلى طرق تعبدية موغلة في التحريف من مثل الصوفية المتفلسفة أو المغرقة في البدع العملية أما خارج الأمة فإن الأمر معلوم والعقائد التي تعمل اليوم على إختراقنا أكثر من أن تحصى تتغلف مع مطلع كل شمس جديدة بغلاف جديد وكل ذلك يحتاج إلى مقاومة علمية فكرية وهي مقاومة لا يقدر عليها علم في الشريعة بمثل ما يقدر عليها علم المقاصد الإسلامية العقدية بسبب وضوحه وجلائه وقيامه على التعليل والتقصيد القطعي الذي لا مجال فيه لقولين أو أكثر من ذلك أو أقل.



ربما نظر الدكتور النجار إلى دوران عجلة الإجتهاد العملي وهذا صحيح مطلقا ولكن من حيث الحاجة فإن الأمر مختلف ومن حيث منطقية الأمر كذلك فإن الأمر مختلف.



المعيار المحكم في ذلك هو : تأهيل الأمة لإستعادة عافية عقدية صحيحة تمكنها من القيام بدورها علميا ودعويا على جبهتين : جبهة داخلية تمكن للعقيدة الإسلامية الصحيحة المبرأة من بدع وفلسفات إلى التحريف أقرب وجبهة خارجية تمكن العقيدة الإسلامية من مناظرة عقائد عالمية لا تحصى وخاصة الفلسفة الغربية التي مازالت تغوي وتغري وتفرخ رغم صعود الصحوة الإسلامية وبروز تشوهات خلقية كبيرة وغائرة على وجه تلك العقيدة المادية الغربية.



إن ذلك في نظري من باب تقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير ولا ريب عند كل باحث أو طالب علم بأن العقيدة مقدمة على الشريعة وليس التقديم بالتحمل النظري فحسب تحملا يلقن أركانها ثم يحيل أركانا فرعية أخرى إلى الإختلاف بين المدارس قديما وحديثا ولكنه تحمل يجمع بين النص العقدي ومقصده.



ولو جاز التوسع هنا لبان بأن العقيدة نفسها رغم طابعها النظري الإجمالي لها أحكام عملية تستدعي الإجتهاد العملي وذلك فوق كونها حاكمة على ذلك العمل وموجهة له وكفى العقيدة تقديما أن الخلاف فيها خطير إلى درجة أنه يميز بين المؤمن والكافر ولكن الشريعة ليست كذلك خاصة إذا تلبست بالفقه البشري رغم أن الأمرين بينهما برزخ ما ينبغي هدمه ليحتفظ كل منهما بخصائصه.



وبالخلاصة فإن دعوة الدكتور الريسوني لبذل الإهتمام المطلوب بمقاصد العقيدة بقيت معلقة وليس من مبرر لذلك حتى لو كان المبرر هو المزيد من الإهتمام بمقاصد الشريعة تماما كما بقيت دعوة الإمام إبن عاشور في مواصلة الإجتهاد المقاصدي من أجل إستنباط قواعد أصولية مقاصدية قطعية ( ينكر على الشاطبي قوله بقطعية المقاصد ) محكمة تكون مرجعا لأولي العلم زمن الإختلاف وذلك على غرار قواعد أصول الفقه التي بحسب الإمام إبن عاشور لم تسعف الخلاف في مواضع كثيرة.



الكلمة الأخيرة هنا هي أنه بالرجوع إلى الدراسة القيمة جدا للد. النجار نفسه في موضوع دور العقيدة في إحداث النهضة المعاصرة .. يمكن لطالب العلم أن ينتصر من الدكتور النجار ولكن بالدكتور النجار نفسه.



الموضوع الثاني : حسن تحرير المصطلحات وضبطها يقرب المسافة.



هذا موضوع مزعج في هذا العلم بسبب ضربين من الباحثين : ضرب لا يعير مصطلحاته الأصولية أي إهتمام فهو يخبط خبط عشواء ويستخدمها في سلة واحدة غير عابئ بإختلافاتها ولا بضرورة التحرير الجامع المانع بما يقتضيه البحث العلمي في كل مادة وعلم وضرب يتمحل فيها تمحلا بينا ظاهرا فيصرفها تارة إلى مصرفها اللغوي ثم يعود بعد قليل إلى صرفها مصرفا أصوليا وبذلك يفسد عليك لذة طلب العلم.



ذلك أن الكلمات حتى في عمومها اللغوي تتشابه بقدر إشتراكها في الجذر وتختلف بقدر ذلك فإذا أضفت إلى ذلك محمولات علمية طارئة وخاصة في مجال أصولي من مثل علم المقاصد ما زال يتعثر ليستقل عن أصول الفقه وبصفة أخص في زمن إكتسبت فيه كثير من تلك المصطلحات في أذهان الناس مفاهيم أخرى مشتركة ومختلفة مع ما ورث بسبب وفرة العلوم وإندياحها وإشتهارها بين الناس وإزدهار الإنتاج العلمي في كل مجال وفن ومهارة .. إذا كان ذلك كذلك فإن حسن تحرير المصطلحات أمر لا مناص عنه.



كل طالب علم في هذا الفن يدرك جيدا أن المعاناة بسبب الإختلاف في تحديد كلمات من مثل العلة والسبب والمناط والحكمة والمقصد والغاية والسر وغير ذلك مما لا يكاد يحصى .. أمر يشوش على حسن فقه طالب العلم وعلى أدائه من بعد ذلك.



ربما كان الإمام إبن عاشور موفقا جدا في هذا الخصوص عندما أتجه نحو قصر العلة على دائرة القياس جليه وشبيهه أو خفيه فإذا كانت المسألة خارج نطاق القياس ( إلا المرسل منه طبعا ) إستبدل مصطلح العلة بالمقصد ومنه قريب ومنه بعيد كما ذكر رحمه الله سبحانه.



أما التعبير عن العلة ( دائرة القياس ) أو عن المقصد ( دائرة الإستصلاح والإستحسان والإستصحاب والإستعراف " نسبة إلى العرف " والذرائعية فتحا وسدا ) بالحكمة فهو في ميزان فن علمي من مثل مقاصد الشريعة ليس دقيقا.



أما إذا جدت مصطلحات حديثة من مثل الغاية والهدف وغير ذلك فإن الأمر يتوجب توقفا وبحثا.



أما مصطلح السر فربما يكون هو المصطلح الوحيد الذي ليس له من داع في هذا المقام.



إذا تواضعنا على ما نحا إليه الإمام إبن عاشور في خصوص التمييز بين مجالي العلة والمقصد بالرغم من أن الإمام الشاطبي يعلن أن التعليل هو التقصيد ومؤداه أن العلة هي المقصد .. فإنه يحسن بنا أن نتواضع بعد ذلك على التمييز بين الحكمة وبين المقصد من جهة وبين الحكمة وبين العلة من جهة أخرى كما يحسن بنا أن نستبعد مصطلحات الغاية والهدف وما في حكمهما فضلا عن كلمة السر.



ذلك أن الحكمة من الحكيم سبحانه في شريعته نؤمن بها كما نؤمن بإرتباطها بالمشيئة ولكننا لا ندركها بالتفصيل حتى لو أدركنا كثيرا منها بالجملة وربما يتراءى ذلك خاصة في مقاصد العقيدة أكثر منه في مقاصد الشريعة ولكن المقصد من أوامره ونواهيه بأي صيغة لغوية وردت أو في أي سياق جاءت يتنزل علينا فرضا البحث عنه لحسن أيلولة الأمر إليه يستوي في ذلك ما نص عليه نصا جليا أو خفيا وما نص على جزء منه متعلق بأمر برز في تلك الأيام ( أيام التشريع ) دون أن ينص على كل أجزاء المقصد وما لم ينص عليه أصلا كما يستوي في ذلك الدليل الجزئي مع الدليل الكلي بناء متناسقا متراكما حتى بلوغ المقصد الأسنى من الإسلام عقيدة وشريعة.



قد تخفى الحكمة ولكن ما يجب أن يخفى المقصد وخاصة خارج دائرة العلة أي القياس الذي عادة ما يكون في مجال التعبديات التوقيفية وما في حكمها مما يدور بها من قريب.



لا يجديك نفعا هنا أن تقتصر على اللغة بمثل أنه لا يجديك نفعا أن تستصحب الموروث في تلك التحديدات سواء عند من يحددها أو عند من يجمعها في سلة واحدة ولكن الذي يجديك نفعا هو الجمع بين كل ذلك أي إعتماد اللغة وإعتماد سياقاتها وخاصة في المصدرين الأوليين للإسلام والإستفادة من ذلك الموروث والمقصد هو : حسن تحرير تلك المصطلحات لتكون مجسدة للمفهوم مستوعبة له بصورة أقرب إلى الجماع والمنعة.



أضرب لك مثلا : درج كل من كتب في المقاصد وأصول الفقه تقريبا دون أدنى إستثناء على القول تبعا للشاطبي وغيره في الحقيقة من قبله بأن العبادات غير معللة وهو قول صحيح ولكن تنقصه الدقة كثيرا وفي فن مثل فن المقاصد لا يكون الصحيح صحيحا حتى يكون دقيقا لأن الدقة هنا هي الكفيلة بحصد ضربين من الإجتهاد الفاسد في عصرنا وفي كل عصر : الجامدون على إجتهاد السلف والجامدون على إجتهاد الخلف.



العبادات مقصدة في أصولها بنص القرآن الكريم ونص الحديث الصحيح ولكن غير المقصد فيها هي هيئاتها وصورها وأشكالها وموازينها ومكاييلها وتآقيتها الزمانية والمكانية وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة ولا يداخله الإجتهاد أبدا مطلقا بسبب أنه غيب محض ولكنه غيب غير معلل لأن هناك غيبا معللا مقصدا بل إن العقيدة وكلها غيب تقريبا معللة مقصدة مفهومة المعنى ولا يشغب على ذلك أن ذلك بإجمال بسبب أن العقيدة ذاتها مجملة لا مفصلة.



كل الفقهاء تقريبا أوردوا كلمات الشاطبي وكلمات من سبقه في ذلك الشأن ولم أجد من أشار إلى مقصد الطاعة من خلال إتباع تلك الهيئات والصور والأشكال والتآقيت والموزونات وغير ذلك مما يستعصي عن فهم العقل.



ذاك مثل يجسد نوعا من الخلط المصطلحي الذي غشي كلمات فنية لا بد منها في هذا الفن.



وبالخلاصة في هذا الموضوع الحواري الثاني في الموضوع المقاصدي عامة وحول كتاب الدكتور النجار خاصة فإنه يجب العكوف على حسن تحرير مصطلحات هذا الفن على الأسس التالية :



... إعتماد نحو إبن عاشور في التمييز بين العلة والمقصد أي بين الإجتهاد القياسي والإجتهاد الإستصلاحي بصفة عامة ويمكن توفير منطقة وسطى بينهما إن شئت هي منطقة المقصد القريب كما سماها إبن عاشور رحمه الله سبحانه.



... التمييز بين الحكمة الإلهية وبين المقصد وذلك على قاعدة أن الحكمة هي صفة للحاكم الحكيم سبحانه فهو حاكم وحكيم في الآن ذاته والحكمة والمشيئة وجهان لقطعة واحدة ولكن ليس شرطا للعبادة أن نعلم الحكمة في كل شيء ولكن نؤتى منها على قدر الإخلاص والإجتهاد أما المقصد فهو فرض علينا الإجتهاد لمعرفته لسبب بسيط معلوم هو أنه بدون ذلك يقع التصرف منا على وجه قد يؤسس للحرج والعنت فنكون عابدين في الظاهر وعصاة في الحقيقة. أي أن الحكمة من شأن الحكيم سبحانه نؤمن بها ولكن قد نظفر بها وقد نخطئها ولكن المقصد من شأننا نحن ويجب علينا إيقاع العمل على مقتضاه نظرا وعملا فإذا وقع ذلك منا فتلك هي الحكمة.



... إستبعاد ألفاظ رجراجة فضفاضة لا تجسد روح هذا الفن من مثل الغاية والهدف والسر ويكفي أن نصوص الوحي جاءت بمصطلحات المقصد مشتقا وكذلك الحكمة ولكنها لم تستخدم مثل هذه الكلمات ولو مرة واحدة ولا بأس أن يحتفظ هذا الفن بمصطلحاته الفنية التي إشتهر بها والتي جاء الوحي بها وليست بمستعصية عن فهم الناس ولا غريبة عن إستخداماتهم اليومية.



الموضوع الثالث : التنظير التعليلي الإستصلاحي أس علم المقاصد.



إذا بقي البحاثة المقاصديون والأصوليون عامة يتعرضون في كل مرة إلى ظاهرة نفي التعليل والتقصيد عن الإسلام شريعة أو عقيدة .. فإن الإجتهاد المقاصدي يتعثر لأنه يجر إلى معارك أصبحت اليوم بسبب التطورات العقلية الإنسانية المعاصرة إلى حد ما وهمية وإذا كان لا بد من مواجهة شيء من ذلك اليوم بسبب صعود صحوة دينية يغلب عليها الجهل والأمية الدينية مما دفع رموزها إلى نفي التعليل والتقصيد جملة وتفصيلا فإن تلك المواجهة يجب أن تكون هجومية كاسحة لا دفاعية إعتذارية بله أن تؤسس لذلك الإختلاف بين النفاة والمثبتين كأنما هو إختلاف إسلامي سائغ مقبول.



المراد من هذا الموضوع هو أن علم المقاصد الإسلامية إنما يتأسس على بحوث ودراسات نظرية عميقة شاملة لحمتها التعليل وسداها الإستصلاح وهي بحوث لا تكتفي بالمصدرين الأوليين ولا بحجج وبراهين المثبتين من الإسلاميين في العلوم الشرعية ولكنها تستعين على ذلك بالإنتاج البشري للإسلاميين ولغير الإسلاميين ( الإسلاميون هنا بحسب تعبير الأشعري وليس بحسب التعبير الإعلامي الشائع ) من مثل علوم الإجتماع وعلوم الإنسان بصفة عامة وخاصة علم المنطق الذي يلتقي مع علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة إلتقاء كبيرا حتى قال إبن خلدون رحمه الله سبحانه " علم أصول الفقه منطق الإسلام ".



لقد عد العلامة إبن القيم في القرآن الكريم وحده أكثر من ألف موضع للتعليل والتقصيد.



ومن المؤلفات التي إبتليت باليتم في هذا الفن هي الأخرى المؤلف العظيم للمرحوم شلبي الذي لم يكتب في موضوعه حتى يومنا هذا وهو موضوع التعليل.



المقصود من هذا الموضوع الحواري بإختصار شديد هو التأسيس لعلم مقاصد الإسلام عقيدة وشريعة من خلال بسط البحث عميقا مؤصلا في قول الحق وقول الخلق معا ومعهما تصاريف الواقع إثباتا لنظرية التعليل والإستصلاح في الخلق الكوني والإنساني فإذا تم ذلك وغدا ثقافة إسلامية عند طلبة العلم على الأقل يندحر القول بنفي المقاصدية عن الإسلام عقيدة أو شريعة ثم يستوي أمر الحياة طورا بعد طور ويستقيم على مراد الرحمان سبحانه ومن مراده سبحانه تلازم الحق والباطل والرذيلة والفضيلة والخير والشر حتى تقوم الساعة تلازم إبتلاء وتدافع.



ولربما لا يقف حجر عثرة معتبرة في وجه ذلك الإثبات سوى العلامة الفقيه إبن حزم عليه رحمة الله سبحانه ولكن يجب على طلبة العلم حسن إستيعاب الدوافع التي جعلت ذلك الفقيه الكبير الثائر الموسوعي علما وعملا يهجم بلسانه السليط جدا على القياس وعندما يدرك طلبة العلم ذلك يتفهمون الأمر حتى لو لم يوافقوا إبن حزم الذي نفي القياس وإستخدمه في الآن نفسه. لم يجن عليه في ذلك سوى نزعته العاطفية الثائرة الهائجة رد فعل قاس على آلية القياس التي حولها الإنحطاط في الشروح والحواشي على المتون المستغلقة إستغلاقا إلى ما يشبه الآلة الميكانيكية الجامدة التي تستخرج منها الأحكام والفتاوى بمثل ما تستخرج اليوم علبة سجائر أو قطعة حلوى أو مشروب في المدن من آلة صماء منصوبة في شارع أو في حانة أو مقهى إذ بمجرد أن تقذف فيها قطعة نقدية تلبي لك حاجتك ولا يتسع المجال هنا لإنصاف ذلك الفقيه الأصولي الكبير ولكن يجب أن نميز بينه وبين من ينفي التعليل أو الإستصلاح إما عن جهل بالشريعة أو عن تحكم حزبي وتعصبا لفرقة أو مدرسة كلامية أو أصولية أو فقهية أو غير ذلك.



كما يمكن لمبحث آخر عادة ما يطرقه البحاثة الأصوليون أن يجد طريقه تابعا وتاليا لنظرية التعليل والتقصيد والإستصلاح وهو مبحث الحاجة إلى العلم بالمقاصد حاجة علمية وحاجة عملية ولكن ذلك العلم يجب أن يكون منطلقا من إثبات نظرية التعليل منطقيا ثم شرعيا وواقعيا كذلك عملا بأن الأمر كله من مشكاة واحدة وسبحان من له الخلق وله الأمر وسبحانه من هو في السماء إله وفي الأرض إله.



الموضوع الرابع : توصيف الإجتهاد العمري.



من أراد أن يدرك حقيقة الثورة العاطفية التي يحدثها الإسلام في الإنسان فإن أقصر سبيل إلى ذلك هو دراسة شخصية عمر إبن الخطاب قبل الإسلام ( حادثة وأد إبنته مثلا وحادثة صنع إله من الحلوى ثم أكله مثلا آخر ) وبعد الإسلام ( حادثة التحدي في الهجرة مثلا ثم تدبيره إماما للمسلمين يوم لم تكن تشرق الشمس ولا تغرب إلا على مملكة واسعة مترامية الأطراف يديرها ذلك الرجل الكبير الذي جدد في الفقه الأصولي بمثل ما جدد في الفقه الإداري بمثل ما جدد في فتح الأرض بالإسلام ).



إجتهد الرجل في حوادث كثيرة إجتهادا فقهيا أصوليا ولم يجد وقتا لتدوين ذلك الإجتهاد وتحبيره ولم يجد من حوله كذلك وقتا لذلك فلما جثم الإنحطاط على الناس نفوسا وواقعا لجأ الناس إلى التدوين ولكنهم ظلوا متفرقين في صياغة أدبية تحسم بينهم توصيف فعله عليه الرضوان في مثل حادثة حد السرقة عام الرمادة.



لو لم يصبنا من الإنحطاط الذي جلب الإحتلال والغزو علينا سوى ذلك لكفانا : الرجل يجتهد ويمضي ثم يختلف الناس في توفير كلمة تجسد إجتهاد الرجل. الرجل يحل المعضلات بعقله الفقهي الأصولي العظيم ومن جاء بعده لا تسعفهم كلماتهم حتى من أجل توصيف فعل ذلك الرجل العظيم. أي نكبة أشد من هذه النكبة؟



حتى لا أطيل عليك سيدي القارئ الكريم أرشدك إلى الرجوع إلى مؤلفات الإمام القرضاوي ذات الموضوع المقاصدي أصالة أو من خلال بحوث داخلية لتدرك أصل المشكلة وربما تكون دراسته الأخيرة حول المقاصد ( 2007 ) كفيلة بذلك وذلك لنتفرغ في هذا الموضوع إلى ما يتصل به من الكتاب الذي نحن بصدد حشد الحوار حوله.



قال الدكتور النجار في هذا الشأن : " .. حينما أجل تطبيق حد السرقة في المجاعة .. أي تأجيل التنزيل ". يستخدم الدكتورالنجار آلية التأجيل في هذا الصدد منذ زمن بعيد والحقيقة أنه عند تعميق البحث في هذا الأمر فإن توصيف الدكتور النجار وتوصيفات أخرى كثيرة ليست دقيقة بل ولا صحيحة أصلا أو مناسبة لصنيع عمر.



المسألة هنا ليست مسألة مصطلحات يمكن التغاضي في شأنها ولكنها مسألة دقة في التوصيف توصد الباب أمام من يريد إهتبال صنيع عمر عليه الرضوان للقول بتأجيل نفاذ حكم قطعي بات من أحكام الشريعة وهو إتجاه معروف اليوم في الأمة أو منها ونحن معه في معركة حامية الوطيس.



ودون إطالة فإن خير من بحث في هذه التوصيفات هو الإمام القرضاوي الذي تبنى توصيفا دقيقا مناسبا وصحيحا للشيخ المدني.

وخلاصة ذلك التوصيف هو أن عمر لم يؤجل تطبيق الحكم عام الرمادة ولكن كل ما فعله عمر عليه الرضوان هو أنه إجتهد لتطبيق الحكم فلم يجد محله.



التوصيف الصحيح المناسب الدقيق هو : " غياب المحل ". وواضح الفرق بين هذا التوصيف وبين القول بالتأجيل أو الإستثناء أو غير ذلك مما قد يكون صحيحا في مواضع أخرى ولكنه في هذه الحادثة لا ينطبق عليها حبة خردل.



إن هذا الأمر يلبس على الناس دينهم وليس ذلك قاصرا على طلبة العلم بل يتعداه بسبب إندياح العلوم وإنتشارها على ألسنة الشبكة العنكبوتية والفضائيات وغير ذلك من وسائل الإعلام الهادرة المائجة .. إلى عموم الناس وبذلك نساهم بعدم إلتزامنا للتحرير العملي الدقيق الصحيح الثابت المناسب لأي إجتهاد في السابق أو اللاحق في زلزلة فكرية وخلخلة عقدية خطيرة تصيب أولئك الذين يتلقون دينهم عن مثل تلك الوسائل أو عن كل متحدث هنا أو هناك دون تمحيص ولا تبين ومعلوم كما ذكرت آنفا أن جبهة العلمانيين يجدون في كل ذلك مرتعهم الخصب سيما عندما يتلبس داعروهم بلباس الدين ويتمسحون على أعتاب علومه الشرعية ليهدموه من الداخل.



لذلك أدعو الدكتور النجار إلى تبني نتيجة التحقيق الذي يفرز بأن أحكام الشريعة لا تحتمل تأجيلا ولا إستثناء ولكن كل ما في الأمر هو أن محل التنفيذ يغيب فيغيب معه التطبيق بشكل آلي مفهوم أما مواصلة القول بالتأجيل والإستثناء وغير ذلك من الآليات فإنه إذا كان له مساغ في صفوف طلبة العلم فإنه يحدث أثرا سيئا جدا عند غيرهم ثم يهتبله أعداء المشروع الإسلامي شر إهتبال وأظن أننا في سعة أدبية وعلمية وفي غنى كذلك عن تيسير تلك الآثار. والله أعلم.



الموضوع الخامس : لا بد من الأخذ بكل التقسيمات في علم المقاصد.



وجد هذا الموضوع حظه في كتاب الدكتور النجار الذي عرض علينا مقترحات أخرى لفقهاء معاصرين يتبنون إعادة التقسيم الداخلي لسلم المقاصد الشرعية على أسس جديدة منهم الدكتور العلواني صاحب النظرات الثاقبة جدا في العلوم الشرعية شأنه في ذلك شأن الدكتور الترابي وكلاهما يمتاز بإتساع وشمول الإستيعاب المنهجي الصحيح والدقيق للقرآن الكريم ولكنهما يختلفان عن الإمام القرضاوي ببسط ما إنقدح لهما في إجتهادهما دون رعاية بعض المعطيات الواقعية وهذا معروف لطلبة العلم الذين يتابعون إنتاج هؤلاء الثلاثة وغيرهم ولا فائدة الآن في الإنبساط فيه لأنه ليس من صلب موضوعنا.



إنحاز الدكتور النجار لضرب محدد من إعادة تقسيم المقاصد الشرعية في علاقاتها الداخلية وذلك على أساس محورية الإنسان كما بينا آنفا ( أول موضع من مواضع التجديد في دراسة الدكتور النجار).



ولكن الذي أريد قوله هنا هو أن التقسيم الذي أشار إليه الدكتور النجار ولم ينحز إليه جدير حقا بالعناية والإهتمام وهو التقسيم الذي يصنف المقاصد على أساس أنها مقاصد سياسية وأخرى إقتصادية وأخرى إجتماعية وغير ذلك.



أهمية هذا التقسيم تكمن في كونه تقسيما مناسبا جدا لحياتنا المعاصرة من ناحية وكذلك من حيث أن المجال السياسي اليوم في الحياة الدولية والمحلية وفي كل تجمع تقريبا حتى لو كان جمعية ثقافية .. تغول وهيمن على ما سواه فهو الذي يقود ويخطط وينفذ ويراقب ويتابع ويجازي ويعاقب ويصحب الناس في أذواقهم وفي بيوتهم وحجراتهم الداخلية فضلا عن أماكن عملهم وأسواقهم ولا أظن أنه يمكن لواحد أن يعترض على تضخم ذلك الجانب تضخما كنز الأمر كله تقريبا في المجالين الدولي والعربي والمحلي في جهاز الدولة حتى إنك لتلاحظ اليوم بأن كل الناس ـ لم أجد إستنثاء إلى حد الساعة أبدا ـ عندما يتكلمون عن البلاد يعبرون بمصطلح الدولة. أجل. الناس ولا أقول وسائل الإعلام التي تهدم التركيب اللغوي لبنة بعد لبنة بفأس صلب من حديد. ذلك مؤشر لو أردت إلتقاطه من أفواه المتكلمين وأقلام الكتاب لأعياك الأمر لأنك لن تظفر بواحد على وجه الأرض يقول لك : البلاد أو البلد بل يقول لك : زرت دولة كذا وذهبت إلى دولة كذا ورجعت من دولة كذا وكل الناس يقصدون البلاد وليس الدولة ولكن بسبب تضخم الجانب السياسي وإحتكار الدولة له إحتكارا ألغى كل شيء من قبله ومن بعده .. وقر في لا وعي الناس ولا شعورهم بأن البلاد هي الدولة والدولة هي البلاد والحقيقة أن الدولة جزء من البلاد وليس العكس.



لا يهمنا ذلك بقدرما يهمنا تقرير هذه الحقيقة وهي تسلط السياسة على كل شيء تقريبا فأصبح الإقتصاد خادما والإجتماع رهينة والثقافة ساعية وكل ما في الأرض يخدم السياسة والسياسيين وإذا كان ذلك كذلك فإنه مناسب لعلم مقاصد الشريعة أن يبين للناس من طلبة علم وغيرهم مقاصد الإسلام السياسية ومقاصده الإجتماعية ومقاصده الإقتصادية ومقاصده الحربية والعسكرية وبخاصة مقاصد المقاومة اليوم ومقاصد الجهاد فيه بسبب إلحاحية الموضوع المطروح دوليا على أوسع مدى ممكن ومقاصده الثقافية والفكرية ومقاصده التربوية والتعليمية ومقاصده الإعلامية وغير ذلك مما لا يحصى من مجالات.



ذاك تقسيم بالخلاصة جدير بالبحث والإهتمام.



ولكن مخ هذا الموضوع هو : كل تلك التقسيمات التي تبناها الدكتور النجار والتي أقترحها الدكتور العلواني وغيرهما كثير مما لا يكاد يحصى ( مقاصد العقيدة بمثل ما إقترح الدكتور الريسوني كذلك)

كل تلك التقسيمات جديرة بالبحث والتدوين والإجتهاد وذلك لبسط أوسع منطقة ممكنة ومساحة فكرية وعلمية ممكنة عن علم مقاصد الشريعة سيما أن الناس من طلبة علم وغيرهم وعلمانيين مهتمون بموضوع المقاصد فلم لا نلقتط إهتمامهم ونبسط لهم إجتهادنا في مقاصد الإسلام بحسب المجالات التي يعيشونها اليوم بشكل معروف متميز كثيرا عما عاشه من سبقنا قبل عقود أو قرون.



معنى ذلك هو أن ندخل على الناس بمقاصد الشريعة ( عقيدة وأحكاما ) من كل باب ممكن ليجد كل مهتم بمجال ما ضالته فيه لعله يزداد علما أو فقها أو إنضباطا سلوكيا أو تندفع عنه شبهة أو غير ذلك مما ييسره ربك سبحانه.



أعني أنه يمكن الجمع بين طريقتين في الإجتهاد المقاصدي : طريقة تقدم لطلبة العلم وهي الطريقة التي ألف بها الإمامان الشاطبي وإبن عاشور وشبيها بها ما كتبه الدكتور الريسوني والدكتور النجار والإمام القرضاوي وغيرهم وهي طريقة تتسم بالمنهجية العلمية والضبط المصطلحي والبحث التنقيبي بما يتطلبه من جدال وتعقيب وتحرير وطريقة تقدم لغيرهم من عموم الناس وهي الطريقة التي تبسط هذا العلم لكل الناس بلغة عصر مناسبة مفهومة سلسة تدون فيها مقاصد الإسلام السياسية والإجتماعية والجهادية والمالية وفي كل حقل نشاط.



الموضوع السادس : تفعيل مقاصد الشريعة لخدمة أكبر التحديات المعاصرة.



لحسن إستيعاب مدلول التفعيل لا بد من الرجوع إلى الشطر الثاني من كتاب الدكتور النجار ولكن المقصود من هذا الموضوع الحواري الجديد هو تحديدا :



إعداد خارطة طريق لأكبر التحديات العظمى التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم من أجل الإستعانة عليها بوسائل شتى منها : تفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية تفعيلا يبين أولا مقاصد الإسلام في تلك الحقول من التحديات ويبين ثانيا كيفيات الإستعانة بالمقاصد لحل تلك المشكلات الكبرى يوما بعد يوم إذ ما من شك في أن المشكلة في جانب كبير منها مشكلة فكرية عقلية ذهنية مصداقا لقوله سبحانه " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ".



لا أظن أن التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة اليوم تخرج عن هذا النطاق التالي :



... تحدي المقاومة تحريرا للأرض المحتلة في فلسطين خاصة لخصوصية الأرض هناك دينيا وتاريخيا وحضاريا ولخصوصية المحتل هناك كذلك ناهيك أن القرآن لم يتمحض لقضية بعد التوحيد تمحضه لتلك القضية. يكمن تقديم ذلك التحدي على كل التحديات التالية بسبب أن ميزان التحرر والإستعباد في الكيانات القطرية التابعة عربيا وإسلاميا إنما يتحرك في كل الإتجاهات تبعا لنبض المقاومة هناك فكأنما العالم العربي والإسلامي اليوم وعوالم أخرى كثيرة في الحقيقة منها أوربا ولو جزئيا ونسبيا والوجود الإسلامي فيها وفي الغرب بشكل عام .. كأنما كل ذلك يتغير في كل الإتجاهات التي نريد والتي لا نريد إستجابة لوقع النبض هناك فهي قضية مقدمة بل هي مفتاح التحرر هنا ومفتاح النماء هناك وكل تنكب عن تلك القراءة المنهجية هو تنكب عن المسك بأم المنهاج الأسلم والأبقى في حلقة التغيير الطويلة العريقة. بكلمة مختصرة جدا : نتحرر من الإستبداد الداخلي في تلك الكيانات العربية والإسلامية التابعة الذليلة بقدر تحرر الأرض المحتلة وتقدم المقاومة لسبب بسيط مفهوم معلوم وهو أن الذي يحتلنا هناك هو الذي يفرض إرادته على أذيال الخيبة في تلك الكيانات العربية والإسلامية بحكم فقدانها للشرعية والمشروعية معا ولكن كل ذلك لا يعني سوى أن بناء ميزان يخدم التحرير هناك والتحرر هنا هو المعول عليه في دفع حركة الحرية هنا وهناك مع مطلع كل شمس إلى الأمام.



... تحدي الإستبداد السياسي الداخلي وهو تحد مرتبط بأمرين أولهما ما أشرت إليه آنفا في تحدي الإحتلال الصهيوني لفلسطين وثانيهما هو أن الإستبداد السياسي هو العقبة الكأداء التي تطحن الحريات في كل مجال وحقل حتى لو كانت حريات شخصية خاصة جدا بسبب تسلط السياسة والدولة على كل نشاط وحقل في الحياة دون تمييز بين شأن عام وشأن خاص أما من يريد تجاهل ذلك فقد حكم على حركته بجني ثمار قليلة جدا لا تكاد تسمن ولا تغني من جوع ولو كان ذلك بإسم النأي بالنفس عن مشاكل المعارضة السياسية أو توفير ملجإ آمن للدعوة ولو كانت في شكل حلقة لتحفيظ القرآن الكريم التي لا تستأمن على نفسها إلا بحماية سياسية أخرى تفوقها ولكن على كل حال يجب التوازن في ذلك لخدمة سنة التكامل بين الأشياء وبذلك نحقق أفضل منهج في التغيير نص عليه ربك سبحانه في قصة يوسف عليه السلام " إدخلوا من أبواب متفرقة ". هو تفرق في الزمان والمكان وحقول النشاط ولكن القائمين على كل ذلك يجب أن يكونوا على أدق الوعي بأنه تفرق تفرضه المعطيات الواقعية ولكنه تفرق مفروض ستلتئم حلقاته إن شاء الله تعالى بعد عقود أو قرون عندما تنضج تلك الظروف ويلتقط العمل جيل آخر وأجيال أخرى.



... تحدي الثقافة العلمانية والتفكير اللائكي وهو تحد متركب من جانبين : جانب سياسي وجانب ثقافي. الجانب السياسي فيه يعني أن كثيرا من أولئك يستخدمون السلطة والدولة وقواتهما المعنوية والمادية لضرب المشروع الإسلامي من موقع التمترس أما الجانب الثقافي فيه فيعني أن الإجتهاد الفكري والشرعي والعلمي من لدن الإسلاميين من علماء وفقهاء وطلبة علم وغير ذلك فريضة العصر ما ينبغي التأخر عنها لأن التأخر الفكري سبب كبير جدا من أسباب إنحطاطنا وتأخرنا ووجودنا اليوم في ذيل القافلة بل خدمة أذلة لأسياد القافلة فلا يغرنا أن ذلك التحدي هو إلى زوال بسبب سقوط الشيوعية ومذاهبها الغربية وبناتها الشرقية ذلك أن العلمانية التي هيمنت على قطاعات التوجيه والتربية والإعلام والتعليم في كل بلاد عربية وإسلامية تقريبا إنما تصنع المستقبل للناشئة المسلمة وتبني العقول وتصدر صورة عن الإسلام أدناها أنه دين لا دنيا فيه أو أنه مصحف لا قوة فيه فالمعركة إذن ليست في محو الدين فالدين تكفل به ربك سبحانه ولكن المعركة معهم هي معركة عقلية ذهنية قوامها أن المسلم يظل طول حياته مسلما ولكن مسلما جزئيا في عقيدته وعبادته وبعض من أحواله الشخصية .. يظل كذلك في أحيان كثيرة ومناطق كثيرة فكرا وثقافة فإذا ما قامت حركة إسلامية عارضها وقاومها أو وقف حيالها موقف السلبية والسبب هو أن عقله كان وسيظل عقلا علمانيا لائكيا وذلك هو مدلول قوله عليه الصلاة والسلام في شأن الذرية " يولد الولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " أي يهودان عقله وينصران فكره ويمجسان خلقه رغم أنه يحمل إسما عربيا إسلاميا ويلتزم ببعض عبادات الإسلام ولكن عقله صنع بعيدا عن فكر الإسلام وثقافة الإسلام. المعركة إذن مع العلمانية هي حول الإسلام وليس حول الدين.



... تحدي الحركة الإسلامية المقاومة سلميا للإستبداد الداخلي ومظاهر التخلف المختلفة وهو تحد شديد الإرتباط بالتحديات السابقة : تحدي العلمانية على أساس أن الذي يقاوم المد العلماني المتمترس بقوى السلطة وعصا الدولة وتحدي المقاومة على أساس أن الصحوة الإسلامية المعاصرة هي العمق الخلفي النابض لحركة المقاومة العسكرية في الأرض المحتلة تعزرها بالفكر والثقافة والفن ومقاومة التطبيع وغير ذلك مما لا يدخل الآن في موضوعنا وتحدي الإستبداد السياسي على أساس أن الحركة الإسلامية هي رأس الحربة في مقاومة ذلك الإستبداد تقدم الشهداء والمساجين والملاحقين والمنفيين قربات بعضها فوق بعض عربون صدق وإخلاص وتصحيح مسار حافل بالجهاد والمجاهدة حتى تنبلج أنوار الفجر الإسلامي الصادق شعاعا بعد شعاع. هذا التحدي مطلوب منه التركيز على وحدة الصحوة ووحدة الحركة في الأهداف الكبرى والإستراتيجيات العظمى مع ضمان حق الإختلاف في الخطط والبرامج وتنوع الأعمال والتخصصات وغير ذلك ولكنه يبقى دوما تحديا على طبقة العلماء والفقهاء رعايته وتنضيجه.



... تحدي الوحدة الإجتماعية لكل شعب ثم للأمة بأسرها بالتدرج لبنة بعد لبنة ذلك أن وحدة الأمة مهددة فعلا بالإنقسامات التي يغذيها الإحتلال وأعداء الإسلام ومشروعه في أروبا وأمريكا وبخاصة السرطان الصهيوني المتمكن من أجهزة التنظير والتخطيط في مناطق النفوذ في العالم ولا شك أن وحدة الأمة مقدمة على كل ما سواها إذ لا صون لهوية الأمة دون صون لوحدتها وهو مقصد إسلامي ضروري عال لا مجال للإختلاف فيه ولا حوله وقد أشار إليه الدكتورالنجار في دراسته هذه إشارات جيدة قيمة جلية من خلال مقاربة مقصد ضروري أسماه حفظ المؤسسة الإجتماعية ولا مشاحة في المصطحات في هذا المضمار.



لو نخلت كل الإجتهادات لألفيت مخها وزبدتها أمرين لا ثالث لهما : الوحدة والحرية. هما قاربا النجاة للأمة ولا شيء سواهما بسبب أنهما يشكلان المنهج الأقوم لرفع التحديات الأخرى. الوحدة والحرية أغلى مقاصد الإسلام المنهجية أي التي يمكن تفعيل بقية المقاصد فيهما وليس على هامشهما ولا خارجهما أي أنهما الإناء الذي لا بد منه قبل الحديث عن أي مقصد.



... تحدي التعليم والإعلام والتربية وما يمكن حصره في تلك العائلة. عائلة العقل وثمرته الفكر. وذلك بسبب أن مشكلتنا فكرية بالأساس فلا تتحقق وحدة الأمة ولا تحررها دون أن يكون ذلك أولوية فكرية في العقول والأذهان ولذلك يمكن أن يفرط أي نظام في أي شيء ولكنه لا يفرط في مقود التعليم الذي يضمن هويته أو يمكنه من الهوية التي يريد بناءها أو فرضها وليس صحيحا أن النظم تتمسك بالمقاود الأمنية والعسكرية فحسب أو تقدمها فتلك قراءة المتعجلين أو المستخفين ولكنك إذا دققت النظر في البلاد العربية وخارجها فإنك لاف بأن كل نظام لا بد له أن يضمن لنفسه تواصلا بحماية منهج التعليم والتربية والإعلام الذي يريد حفظه لا يشغب على ذلك أنه أطلق الحرية الإعلامية أو أغلقها.



التحدي التعليمي وما في حكمه من تربية وعلم وإعلام وغير ذلك هو تحدي المستقبل أو هو الأمانة التي نريد تسليم مشعلها للأجيال القادمة فإذا فرطنا في ذلك فرطنا في كل شيء وإذا ضمنا حدا أدنى من ذلك ضمنا اللقاح الأصيل الذي يحفظ كل المقاصد الشرعية.



تلك بعض التحديات المركزية الكبرى.



المقصود من هذا الموضوع الحواري الجديد هو :



ترتيب الإجتهاد المقاصدي المعاصر على أساس تقديم أولوية خدمة تلك التحديات الكبرى حتى يتطابق العلم فينا مع العمل فلا ينفصلان إذ أن العلم يعتبر صحيحا إذا خدم الناس في مصالحهم ووجه عقولهم إلى تقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير وذلك هو العلم النافع أي الذي يتصدى للمشكلات الواقعية المعاصرة جامعا بين أصالة الإسلام الذي شمل كل شيء وبين متطلبات العصر وبذلك يجد الإجتهاد العلمي مكانه فلا يضطر أحدنا ليكون بوقا لسلف أدى ما عليه وقضى إلى ربه وأفضى له ما كسب وعليه ما إكتسب ولا بوقا لخلف يخدم الآن أمته وشعبه وقيمه التي تتناقض بالضرورة مع قيمنا نحن.



ليس في المسألة تطويع علمي أو شهادة زور ولكن المسألة هي حسن إلتقاط متطلبات العصر والبحث في الإسلام عن شفاء لها لا أكثر من ذلك ولا أقل.



الموضوع السابع : إجتهادان مقاصديان ناقصان : العقيدة والعبادة.



أما موضوع مقاصد العقيدة التي نادى بها الدكتور الريسوني منذ سنوات فقد تم التعرض له ولكن بقيت كلمة أخرى في المستوى ذاته وهي : ضرورة إفراد العبادة في الإسلام بمقاصدها الخاصة ضمن شبكة المقاصد الإسلامية العامة ومقصدها الأسنى المعلوم عند الناس كافة.



لا يشفع لنا قولنا أن مقاصد الشريعة تضم إليها مقاصد العقيدة ومن باب أولى وأحرى مقاصد العبادة لأن ذلك تعميم لا يسمن ولا يغني من جوع من ناحية ولكن الأهم من ذلك هو أن خصوصية كل من العقيدة والعبادة في الإسلام عن الشريعة بمعناها العام والخاص معا تستوجب إفراد ذينك الجانبين بدراسة تبحث مقاصدهما.



مسوغ آخر هو أن مقالة الإمام الشاطبي ومن قبله ومن بعده في أن العبادات تمضى وفق توقيفياتها دون حاجة إلى البحث عن عللها ومقاصدها بخلاف المعاملات .. تلك قالة كما بينت في بعض المواضع آنفة الذكر صحيحة من حيث الجملة خاطئة من حيث التفصيل. كيف لا والعبادات التوقيفية التي هي أركان الإسلام بنص أحاديث مشهورة منصوص على مقاصدها في القرآن الكريم نفسه والحديث الشريف ذاته؟



الحقيقة أن الله سبحانه عندما يعين مقصدا في القرآن الكريم ( مقصد العبادات مثلا ) إنما يريد منا التشبث بذلك المقصد ثم بناء مقاصد أخرى عليه فوقه أو تحته إجتهادا في توسيع تلك الدائرة ولو ضربت لك مثلا واحدا لكفاك ( الصلاة مثلا التي عين مقصدها بكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر مرة وبكونها للذكر مرة أخرى ومقاصد أخرى معينة .. تحتمل مقاصد أخرى وخاصة تلك المقاصد التي يجنيها المصلي والجماعة المصلية في الدنيا إذ يعلم كل واحد منا اليوم أن الصلاة مدرسة في الحياة بأتم معنى كلمة مدرسة في الحياة فيها مقصد الزمن من خلال إرتباطها بتآقيت زمنية وفيها مقصد المكان من خلال إرتباطها بمآقيت مكانية وفيها مقصد الجماعة بل ربما هو أبرز مقاصدها في المستوى الكلي من خلال فرض صلاة جماعة مرة في الأسبوع هي صلاة الجمعة وفيها مقصد الطهارة النفسية والبدنية وطهارة الثياب والمكان وفيها مقصد الزينة من خلال التطيب والغسل وكراهة أو حرمة أكل ما يبث روائح كريهة حتى من غير الثوم والكراث والبصل وفيها مقصد التنظيم والترتيب من خلال تسوية الصفوف وفيها مقصد الحق والإذعان له من خلال إصلاح خطإ الإمام بالتسبيح أو بتصحيح القراءة وفيها مقصد حرمة الفرد حتى لو كان مأموما لا إماما من خلال حقه في الإصلاح وفيها مقصد الجماعة من خلال التأسي بالإمام حتى في حال خطئه قبل ورود مظان الإصلاح وفيها مقصد الجبر للأعمال ومقصد التوبة وعدم اليأس من خلال جبر بعض أعمالها وأقوالها بالسجود أو غير ذلك وفيها مقصد العلم بالقرآن الكريم تلاوة وقراءة من خلال الإمامة وشروطها وفيها مقصد العلم مطلقا وشتى صنوف العرفان والإهتمام بالشأن العام من خلال خطبة الجمعة التي هي جزء من صلاة الجمعة ومقاصد أخرى لا تكاد تحصى وكلها مقاصد لم يذكرها الوحي الكريم وهي متحققة فينا بالضرورة والمطلوب هو التشبث بالمقصد العام الذي ذكره الوحي في عبادة الصلاة مثلا ثم الإجتهاد من خلال معافسة الواقع وتلمس أثره الصلاة والجماعة والعلم في النفوس وفي الواقع من أجل الكشف عن مقاصد أخرى وكلها معلومة معروفة لا نكير عليها ).



الأمر ذاته ينسحب على العبادات التوقيفية الأخرى من مثل الزكاة والصيام والحج والذكر والتلاوة وغير ذلك مما ينتمي إلى دائرة العبادة التوقيفية من مثلا صلاة الجنازة وصلاتي الخسوف والكسوف وصلاة العيدين وصلاة الحاجة وصلاة الإستخارة إلخ ..



المهم هنا ليس الإحصاء والضبط ولكن المهم هو أن العبادات التوقيفية المعروفة التي هي أركان ركينة في الإسلام بنص القرآن والحديث والإجماع لها مقاصدها الخاصة وليست مما يمكن دمجه في مقاصد الشريعة أو مقاصد العقيدة بطريق الخصوص إلا بطريق العموم وطريق العموم ليس خاصا بالإسلام دينا ولكنه عام يشمل الإنسان والجان والملك والكون وكل موجود مخلوق أبدا طرا مطلقا.



لا يشفع لنا تغييب ذلك كون العبادات مبناها العلة بتعبير الإمام إبن عاشور لا المصلحة والمقصد كما لم يشفع لنا كون العبادات غير معللة ولا مقصدة وهي كلمة صحيحة ولكنها مضللة إذا لم يحسن طلبة العلم حسن فقهها.



كل ذلك من أجل أن ننتهي إلى مقصد الطاعة التي لم يوفه باحث حقه لا في القديم ولا في الحديث إلا الإمام الشاطبي الذي جدد في الأمر بقوله : مقاصد المكلف من الإسلام ولكن ذلك البحث الجديد توقف من بعده توقفا شنيعا ولم يجد من يحييه.



التعلل بكون العبادات غير معللة ولا مقصدة تذرع إلى الجهل أقرب منه إلى حسن الفقه ولم يكن البحث يوما في الإسلام جريمة بل فريضة إلا أن يكون بحثا في ما ند عن العقول من مثل بعض حقائق العقيدة تكييفا وتجسيما وتشبيها أو أن يكون بحثا تائها في الهيئات والصور والأشكال والتآقيت الزمانية والمكانية والموازين والمكاييل والمقادير وغير ذلك مما يكون في المعدودات والكفارات ومما لا يداخله الإجتهاد أبدا وما عدا ذلك فإن الإجتهاد فيه مطلوب وأدل دليل على ذلك هو أن الله سبحانه سمى لتلك العبادات كلها ( التوقيفية الخمسة فضلا عن الذكر والصدقة عامة ) مقصدا بل مقاصد فبأي حق نظل نردد بأن العبادات لا يداخلها الإجتهاد المقاصدي.



إن المقصد الأسنى من كل ذلك هو أن ننتهي إلى أمرين : أولهما غلق مجال العبادات في مناطقها المغلقة أن يطأها الأجتهاد العلماني الحديث حفظا لإجماع الأمة ولدينها وهو مطلب معاصر مهم جدا وثانيهما هو أن نقر بأن الطاعة بالغيب لله سبحانه وحده من لدن الإنسان العبد الحر وهو مكسب كبير جدا بل إن آيات الكتاب ومتون الحديث تنطق به نطقا فكيف لا يجد ذلك طريقه المناسب إلى تقريراتنا الأصولية المقاصدية؟ هل لكونه ملعوما من الدين بالضرورة لا يحتاج إلى تقرير أم لكوننا غفلنا عن مقاصد العقيدة ومقاصد العبادة؟



أجل. ذلك ما أعتقده. غفلنا عن مقاصد العقيدة وعن مقاصد العبادة معا وظللنا نجتهد ـ إن صح أننا نجتهد ـ في مقاصد الشريعة متعللين بأن الشريعة تضم العقيدة والعبادة والمعاملة وذلك كلام عام لا يغني من الحق شيئا في هذا الموضوع وتلك هي طبيعة كل عموم مع خصوصياته.





الموضوع الثامن : شروط الأخذ بالمصلحة المرسلة.



هذا موضوع حدد له الإمام الغزالي شروطا ثلاثة ( أن تكون ضرورية بالمعنى الخماسي التقليدي للمصالح الضرورية وأن تكون كلية وأن تكون قطعية ) ثم جاء الإمام الشاطبي فتوسع وقال هي شروط ثلاثة ( أن تكون معقولة في ذاتها خاجة عن دائرة التعبديات وأن تكون ملائمة لمقاصد الدين في الجملة غير مصادمة لأصل أو دليل وأن ترجع إلى حفظ ضروري أو حاجي أي أنها مما يتم به الواجب فهو واجب أو هي وسائلية لا مقاصدية ) ثم جاء الإمام القرضاوي فوافق الإمام الشاطبي وزاد شرطا رابعا ( أن تكون مصلحة حقيقية لا وهمية ينعي بذلك على العلمانيين الذين يمرقون من الإسلام بإسم مقاصده مروق السهم من رميته ).



الدكتور النجار في بحثه القيم هذا أتى بأمرين جديرين جدا بالإهتمام :



أولهما أنه نفذ طلب فقهاء كثر معاصرين نادوا منذ سنوات طويلة منهم الريسوني والقرضاوي والعلواني بل منهم جهابذة هذا الفن من مثل إبن تيمية وإبن القيم وغيرهما وكل أولئك نادوا منذ قرون وعقود بأن حصر المصالح الضرورية في ذلك التركيب الخماسي المعروف ليس أمرا توقيفيا ولا نهائيا بل يحتاج إلى إجتهاد ... الدكتور النجار كان من بين المنادين بذلك هو الآخر منذ سنوات طويلة وها هو ينفذ ذلك الطلب في الزمان المناسب من خلال إضافة مقصد البيئة مقصدا ضروريا وربما قارب الإجتهاد ذاته عندما تحدث عن المؤسسة ولكني لم أنسجم بالكلية مع صياغاته التي نبذت مصطلح الجماعة وإستبدلته بالمؤسسة وكان يمكنه أن يعكف حول الجماعة مقصدا إسلاميا ضروريا أصليا أصيلا ولكن بلحم ودم المصطلح القرآني ذاته وكذلك مصطلح السنة أي الجماعة وليس ذلك من قبيل أنه لا مشاحة في المصطلح إذ القاعدة الأصولية تلك ليست على إطلاقها ولكن على كل حال نفذ الدكتور النجار إلى المطلب الذي عمره قرون طويلة من خلال مقصد البيئة أولا ومن خلال مقصد الجماعة ثانيا.



ثانيهما أنه وفر علاقة ( هي جديدة علي أنا على الأقل ) بين العمود الفقري لعلم المقاصد والتسمية له هو كذلك ( أي كون وجه التقسيم الأشهر والأقدم للمقاصد هو العمود الفقري لها أي الذي يتكون من الضروري والحاجي والتحسيني ). وفر علاقة يعجز قلمي عن وصفها وهي بدون أدنى مبالغة أشد ما شدني في كتابه هذا إلى جانب مقصد البيئة بطبيعة الحال وبنائه للمقاصد بناء محوره الإنسان. علاقة لا بد من الرجوع إليها في مظانها في الكتاب من لدن كل طالب علم مهتم بهذا العلم جاد في طلبه. علاقة تجعل إرتباط تلك الدوائر الثلاث في شكل يجتمع فيه الوصل مع الفصل معا وبين أن حفظ الضروري لا يكون إلا بحفظ الحاجي ولكن ليس في الحاجي بل في الضروري نفسه وذلك من خلال إعتماده طريقا علميا يقوم على حشد أسباب الحفظ ووضع أسباب التلاشي.



الذي جرنا إلى هذا الحديث هو معالجة هذا الموضوع الحواري الجديد وذلك على أساس أن الدكتور النجار فيما تبين لي لم يفرد لهذا الموضوع ( المصلحة المرسلة دون المصلحتين المعتبرة والملغاة وشروط الأخذ بها ) بحثا ولا دراسة داخل الدراسة ولكنه أخذ بما وقر في ذهنه من ذلك وما وقر في ذهنه ـ بحسب ما فهمت ـ هو أن شروط الأخذ بالمصلحة المرسلة أكثر توسعا مما ضبطه الإمامان الغزالي والشاطبي ولولا ذاك لما أخذ الدكتور النجار بكون البيئة مقصدا ضروريا.



الحقيقة أن معالجة هذا المبحث يتطلب توسيع الإهتمام بالمقاصد من ناحية وما يرتبط بها من علوم شرعية ومن ناحية أخرى بواقعنا المعيش.



ضيق الإمام الغزالي تضييقا شديدا جدا كما ترى إذ قصر الإستصلاح بمعناه الإجتهادي العام على الضروري ( والضروري في عهده هي الخمس المعروفة ) وعلى الكلي وعلى القطعي أي أنه لا داعي للأخذ بمصلحة حاجية مثلا فضلا عن تحسينية سيما أن المصالح الضرورية أعلن عنها الشارع الحكيم سبحانه بالنص تقريبا وأنه لا داعي للأخذ بمصلحة جزئية تهم فريقا من الناس أو ردحا من الزمن ولا داعي للأخذ بمصلحة ظنية ومعلوم أن المصالح في حياتنا كلها ظنية بخلاف المصالح المعتبرة والملغاة فهي وحدها تقريبا تكون قطعية النفع أو الضر. وهذه بدورها تشترك فيها المنافع مع الأضرار بمثل ما قرر الشاطبي وغيره وهو ليس تقريرا نظريا لا ينبني عليه عمل وهذا هو مقصد إبن تيمية من قوله آنف الذكر " .. إنما العاقل من يعرف خير الخيرين وشر الشرين ".



لذلك جاء إجتهاد الإمام الشاطبي أوفق بكثير ولكنه لم يخط الخطوة المطلوبة إذ تجاوز الضروري إلى الحاجي ولكنه لم يعلن عن التحسيني إذا ما كانت لنا فيه مصلحة بينما أبدع إبداعا لم يسبق إليه عندما وضع الشرطين الأوليين وهما محل إجماع مطلقا أي أن تكون المصلحة المرسلة معقولة المعنى من ناحية وملائمة لمقاصد الإسلام عامة وغير مصادمة لا لدليل ولا لمصلحة.



أما الإمام القرضاوي فإن كل إنتاجه المقاصدي يعكف على هم واحد حتى وهو يخصص لذلك دراسة مفردة به فضلا عما يتناوله في كتبه المتفرقة الكثيرة وهو هم مواجهة طرفي الغلو في أمتنا قديما وحديثا ( وخاصة حديثا ) أي عبيد السلف وعبيد الخلف. ( هو يسميهم عبيد الفكر الغربي ) بينما يسمي الآخرين ( أصحاب الفكر المتجمد ).



لذلك لم يكن تطوير الإمام القرضاوي في مستوى شروط الأخذ بالمصلحة المرسلة مهما جدا إذا أنه لم يزد على أن وافق الشاطبي وزاد عليه شرطا هو ألا تكون المصلحة وهمية والحقيقة أن ذلك متضمنا في شرطي الإمام الشاطبي وخاصة الشرط الثاني أي أن تكون المصلحة المرسلة ملائمة لمقاصد الشريعة وغير مصادمة لدليل ولا لمصلحة أخرى ويكفي ذلك شرطا ينفي الوهمية ولكن الهم الذي يلازم الإمام القرضاوي جعله يشترط ذلك وهو يواجه في الحقيقة مشكلة حقيقية من مشاكلنا الراهنة حيث يكاد الإسلام يختطف ـ لمن لا يطلع على العلوم من مظانها ولا على تاريخ الأمة ومسائل أخرى كثيرة ـ من لدن طائفتين تسيئان إليه : طائفة عبيد السلف الذين جمدت عقولهم عند قرون خلت فهم حول رجالها يعكفون طوافين وطائفة عبيد الخلف أو عبيد الفكر الغربي الذين تنصلوا من الشيوعية الحمراء فأنقضوا على الإسلام يخربونه من الداخل ووجدوا في المقاصد ضالتهم ولكنها ضالة تضلهم هم أول ما تضلهم إذا لم يؤوبوا إلى المنهج العلمي في الإثبات والنفي.



التحسينيات في حياتنا هي أيضا مجال خصب لإعمال المصلحة المرسلة.



أضرب لك مثلا دون كثير كلام.



تخصيص جانب أو جوانب من الشواطئ العامة في مكان ما وزمن ما للنساء أو للزوجين ومن شاءا من محارمها. هذا أمر تحسيني فليس هو ضروري لا تقوم الحياة دونه ولا هو حاجي تكون دونه مشقة وحرج ويغيب اليسر المطلوب. وهو إلى جانب ذلك مصلحة مرسلة أي أنه لم يأت أمر بإرتياد الشواطئ للسياحة أو الإستحمام أو السباحة أو غير ذلك ولم يأت كذلك نهي عن ذلك فليس هو مصلحة معتبرة ولا مصلحة ملغاة بل مصلحة مرسلة تركت لإجتهاد الناس يملؤونها على ضوء ما تحقق عندهم قبل ذلك من أدلة ونصوص ومصالح معتبرة وأخرى ملغاة.



إذا قلنا بأن المصلحة المرسلة لا تطأ منطقة التحسينيات فمعناه ألا نجتهد في ذلك لا بالتحليل والإبقاء على أصل الإباحة ولا بالتحريم فضلا عما دونها من إستحباب وكراهة وذلك بدعوى أن ذلك العمل ليس ضروريا للحياة ولا هو حاجة من حاجات الناس ولكن هو من باب ما يزين حياتهم ويحسنها ويجملها ( يجعلها جميلة ).



لا شك أنك تقول الآن : ولكن هذا الأمر وارد في أصول الفقه.



عند هذه النقطة نلتقي. نلتقي لنتواضع على حقيقة تغيب على كثير من طلبة العلم وهي أن علم المقاصد متأخر كثيرا عن علم أصول الفقه وهذا دليل كاف أي أن أصول الفقه يحل هذه المشكلة أي مشكلة إرتياد النساء لشواطئ السباحة ولكن المقاصد لا تحلها حلا أصوليا جار على تحديد شروط الأخذ بالمصلحة المرسلة وفق ما بان لنا عند الإئمة الغزالي والشاطبي والقرضاوي.



لذلك فإنه لم يعد مناسبا أن نقول أن المصلحة المرسلة لا يؤخذ بها عندما تكون تحسينية والحقيقة أن الأمثلة على ذلك لا تحصى بل هي مما تعم به البلوى في حياتنا لو أن موضوعها هو موضوعنا الآن.



المناسب لشريعة الإسلام ولكرامة الإنسان ولمصلحة الدعوة الإسلامية المعاصرة هو أن نخترق بالمصالح المرسلة كل مجال وكل حقل سواء كان ضروريا أو حاجيا أو تحسينيا والمعيار في ذلك هو : حاجة الإنسان إلى ذلك مهما تكن تلك الحاجة ومهما يكن مستواها ومهما يكن بعدها فرديا أو أسريا أو جماعيا أو إنسانيا عاما غير ناسين أننا في زمن أصبحت فيه قيم الفن والجمال والزينة والحسن مناهج ومنارات وشغلا شاغلا للبشرية ولنا في ديننا الحنيف بشكل صحيح صريح ما يؤيد ذلك بمثل ما تأيد من ذلك الدكتور النجار لإلتقاط مصلحة البيئة مقصدا شرعيا عاليا مقدما.



تحكيم الفطرة والسنن أولى لعلم المقاصد.



المسألة الثانية ـ الأخيرة ـ في هذ الصدد بما يجعل الفقهاء يراجعون تلك الشروط التي إنتهت بحسب علمي عند الإمام القرضاوي هي تطوير صياغة الإمام الشاطبي في شروطه الثلاث تلك أو إضافة شرط آخر ( ولا عبرة بالصياغات هنا ) من أجل بناء سقف لا تجاوزه المصلحة المرسلة وهي سقف الفطرة البشرية بمثل ما أشار إلى ذلك الدكتور النجار في بحثه القيم هذا أي فطرة مادية وفطرة معنوية وقد أطنب في ذلك رغم العبارات الوجيزة له بحسب أسلوبه المعروف.



ذلك أن الفطرة هي أسبق من الدين وليس الدين في النهاية إلا تقويما لحياة الناس وفق الفطرة وهو الأمر الذي أبدع فيه قبل الدكتورالنجار وقبل كل أحد مطلقا في الحقيقة الإمام إبن عاشور.



الفطرة هي ذلك الوعاء الخلقي والخلقي الكبير الواسع الذي يحفظ الدين ولذلك سمى الله دينه فطرة مفطورة وخاصة كما أشار الدكتور النجار أن عصرنا هذا ـ ربما سوى بمثل عصر قوم لوط وليس من قبله ولا من بعده أحد ـ شهد عدوانات على الفطرة بشكل لا يكاد يصدق من مثل الزواج المثلي وإنبناء أعشاش الزوجية عليه والإعتراف بالولد منه وإستقبال ذلك في المحافل الرسمية في ألمانيا مثلا وأمثلة أخرى يكاد يستنكف القلم المسلم أن يكتب عنها بسبب فجاجتها وصفاقتها.



لقد أكد القرآن الكريم في أكثر من موضع بأن العدوان على الفطرة أشد عقابا وإيلاما من العدوان على الدين نفسه لأن العدوان على الدين أي على التدين قد يكون بسبب الغفلة وعمل الشيطان وزور النفس وغير ذلك ولكن العدوان على الفطرة لا يكون إلا من معتد أثيم يريد العداوة على البشرية جمعاء فعلا لا هزلا ولا كرها.



الأمر الثاني الذي يحسن إضافته لصياغة الإمام الشاطبي بعد مسألة الفطرة هو سقف السنن أي تلك القوانين التي أودعها سبحانه كونه وخلقه. بل دعنا نقول أن الفطرة هي سنة الإنسان أما سنة الكون فهي السنة. هي سنن كثيرة إجتماعية ومادية وغير ذلك ويعد العدوان عليها عدوانا على خلق الله سبحانه ومنها العدوان على المرافق كما بين ذلك الدكتور النجار.



لا يحسن الإطناب هنا كثيرا لأننا لسنا في وارد التحرير ولكننا في وارد إبداء ملاحظتين على صياغة الإمام الشاطبي ( دون الإمامين الغزالي المضيق جدا والقرضاوي الذي لم يهتم بالموضوع في شموله كما بينا آنفا وليته يفعل قبل موته لنغنم علما نافعا طول الله في عمره وأصلح الله في عمله وختم له ولنا جميعا بالشهادة والسعادة ).



ملاحظة سبقت مخها : ضم التحسيني إلى دائرة المصلحة المرسلة.



ملاحظة نحن بصددها مخها : توسيع الدائرة التي نصبها الإمام الشاطبي في شروطه الثلاثة أو ربما يحسن إعلانها إضافة وهي : ألا تكون المصلحة المرسلة مصادمة لفطرة إنسانية لا مادية ولا معنوية وألا تكون مصادمة كذلك لسنة كونية لا إجتماعية ولا مادية.



فإذا لم تصادم المصلحة المرسلة لا فطرة ولا سنة ولا نصا ولا دليلا ولا مصلحة معتبرة وكانت معقولة المعنى تحرس المنطقة التعبدية التي لا يداخلها الإجتهاد في هيئاتها وتآقيتها ومعدوداتها وما إلى ذلك وكانت تشمل الضروري والحاجي والتحسيني معا دون قصر لها على هذا دون ذلك فإنها مصلحة مرسلة مقبولة بل تكون في عداد المعتبرة ولكن بطريق الإجتهاد وليس بطريق النص.



الموضوع التاسع : توسيع دائرة شبكة الكشف عن مسالك الكشف عن المقاصد.



ربما يكون هذا الموضوع من أهم مواضيع علم المقاصد طرا مطلقا أي مباشرة بعد إثباتها في الإسلام عامة ( عقيدة وعبادة وشريعة ). تطور هذا العلم مرتهن إلى حد كبير جدا بتطوير دائرة الكشف عن مسالك الكشف عن المقاصد الشرعية أي تطوير إجتهاد إذ القضية إجتهادية ليس فيها نص ولا أثر ولكنها أعمال بشرية يصيبها الصواب والخطإ ولذلك إختلف الإمام إبن عاشور بشدة مع الإمام الشاطبي حول قول هذا بقطعية المقاصد بينما دعا الآخر إلى مزيد بذل الإجتهاد العلمي من أجل إنتاج قواعد مقاصدية قطعية تكون مرجعا للخلاف على غرار ما هو موجود في أصول الفقه رغم أنه عليه الرحمة لا يقر لأصول الفقه أي لقواعده بتلك القطعية التي تبوؤه منصب حل النزاع.



لا يتسع المجال هنا لتلخيص منهج الإمامين في مسالك الكشف عن المقاصد ولكن يمكن إجمالها كما بينت آنفا في اللغة العربية أولا ثم الأمر والنهي ثانيا ثم تتبع علل الأوامر والنواهي ثالثا ثم الإستقراء للأدلة الجزئية والكلية رابعا وقد تكون إضافة الدكتور النجار للعمل النبوي بتلك الصياغة رغم عدم توسعه في ذلك إضافة نوعية إذا وجدت من يطورها على أساس أن تكون السنة بما فيها السيرة أي قولا وفعلا وإقرارا وربما حتى صفة مسلكا مستقلا ( طبعا إستقلال خدمة وتكامل ) للكشف عن المقاصد. مع ما يستلزم ذلك من إجتهاد في قول الدكتور النجار في أن المقصود هنا هو مقام التبليغ.



إهمال أكبر كميات القرآن الكريم إهمال لمجال الكشف عن المقاصد.



معلوم عند كل مسلم يقرأ القرآن الكريم بأن أكبر كمية في القرآن الكريم هي للقصة ويمكن إدماج المثل فيها رغم إمكانية إستقلاله ولمشاهد الكون ولمشاهد النفس ويجدر الرجوع هنا ربحا للوقت إلى كتاب عظيم الفائدة جدا في هذا الموضوع وهو كتاب المحاور الخمسة للقرآن الكريم للشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله سبحانه.



حتى دون رجوع للكتاب رغم فائدته العظيمة فإنه لا خلاف في كون الأوامر والنواهي وعللهما بل حتى الأدلة الجزئية والكلية بحسب ما يحصرهما أكثر الأصوليين في خارج دائرة القصة والمثل ومشاهد الكون والنفس والقيامة وغير ذلك .. لا خلاف إذن في أن كل ذلك مما أعتمد عليه قديما وحديثا في جعله مسلكا أو مجالا لمسالك الكشف عن المقاصد .. هو صغير الحجم كميا بنسبة كبيرة جدا بالنسبة للكم الأكبر أي : القصة والمثل ومشاهد الكون والنفس والقيامة.



كيف نبرر أن مسالك المقاصد إنحبست في الأوامر والنواهي أو في إستقراء عللهما وفي إستقراء الأدلة الجزئية والكلية؟



ما هي مهمة أكبر كمية إذن أي القصة والمثل ومشاهد الكون والنفس والقيامة؟ هل هي مهمة التربية فحسب ومعلوم أن مهمة التشريع فيها ضيئلة جدا؟



ربما يكون ذلك مبررا عندما تكون القصة والمثل والمشهد بكل مواقفه في القرآن الكريم خالية من العبرة أو قل بعبارة أدق خالية من موضع الدرس بنص القرآن الكريم ومعلوم أن كل قصة وكل مثل تقريبا وكل مشهد لا بد أن يتضمن سواء في أوله أو في وسطه أو في آخره وربما أحيانا في سياق بعيد عنه نسبيا .. الدرس المراد من ذلك الإيراد بالنص وهو إيراد عادة ما يكون بصيغة العموم وأداة العموم بما يجعل القصة والمثل والمشهد متوجها إلى كل الناس في كل زمان وكل مكان وكل حال وكل عرف ولذلك خلا القرآن الكريم من ذكر كل مواقف المشهد إلا مشهد الحدث بحسب ما يطيقه السياق والموضوع ومشهد العبرة والدرس أي خلا من ذكر الزمان والمكان والإسم وغير ذلك وذلك بقصد حشر الأذهان في إلتقاط الدرس المناسب وهو درس لم يدعه ولو مرة واحدة محل إجتهاد بل نص عليه نصا.



يمكن لك أن تقول لي معترضا بأن كل تلك الدروس والعبر في القصة والمثل والمشاهد بكل مواقفها تنتمي لمقاصد العقيدة ومقاصد السنن ومقاصد الفطرة وغير ذلك مما لا يندرج في موضوعنا أي مقاصد الشريعة ولكني عندها أراجعك بقولك أن مقاصد الشريعة هي مقاصد الإسلام.



أحرر كلامي دوما طبقا على أساس أن مقاصد الإسلام هي مقاصد العقيدة ومقاصد العبادة وهما غائبان عن ثقافتنا الأصولية المقاصدية وهي مقاصد الشريعة التكليفية في كل مجال كما هو معروف عند كل واحد منا.



كما أبني رأيي على أساس أن محور التشريع الذي يكشف له عن مسالك لا يجاوز خمس الوحي أي القرآن الكريم تحديدا ولكنه خمس نوعي وليس كميا إذ بالتعبير الكمي فإن محور التشريع في القرآن الكريم لا يجاوز كما قال الإمام القرضاوي جزء من عشرين جزء.



إذا كان ذلك كذلك فكيف نهمل أربعة أخماس الكتاب العزيز أو تسعة عشر جزء من عشرين جزء من إهتمامنا في مجال الكشف عن مسالك الكشف عن مقاصد الإسلام؟



ليس هنا محل تحرير في الحقيقة ولذلك لا بد من كبح جماح الإستطراد الذي ليس هنا محله ولكني أوجز رأيي في أن القصة والمثل والمشهد الكوني والنفسي وغير ذلك من محاور القرآن العظمى والكبرى لا يقبل إستثناؤهم من أن يكونوا مجالا خصبا للكشف عن مسالك للكشف عن مقاصد الإسلام إذ الأكيد أن ذلك تضمن دروسا وعبرا منها دون ريب أن تكون مجالا وحقلا للكشف عن مسلك هنا أو مسلك هناك إلا أن تقول لي إن ذلك خاص بالعقيدة أو بالخلق أو بالسنن أو بالفطرة وعندها يكون خلافنا منهجيا كبيرا لا جزئيا صغيرا.



بقيت كلمة واحدة هنا هي أن تجزئة البحث المقاصدي ليس أمرا يخدم المهمة العلمية إلا أن يكون تيسيرا للبحث ولكن الأكيد أن إغفال مقاصد العقيدة ومقاصد الخلق ومقاصد الفطرة ومقاصد السنن ومقاصد العبادة وغير ذلك كما إغفال مجال القصة والمثل والمشهد .. كل ذلك يساهم في تجزئة علم المقاصد بشكل سلبي بل يؤثر في الحصيلة النهائية والميزان الختامي لشبكة المقاصد الإسلامية عندما ننصبها في خارطة واضحة جلية منظمة لها جذرها الأوحد وجذوعها التي تتحمل أغصانها التي تحمل بدورها ورقها وثمرها وكل ذلك يشكل ظل أرضها.



طبعا ذلك عمل موسوعي من يطالب به يطالب بما يشبه المستحيل ولكن المطلوب هو بناء تلك الخارطة بإنتظامها وتناسقها وهيكلتها ذات الأولويات المعلومة بما يجعل كل لبنة قادمة تأخذ مكانها دون شغب ولا عناء.



ذلك أمر لا أظن أنه يكون دون البدء بمقاصد العقيدة ثم مقاصد العبادة ثم مقاصد الخلق ثم مقاصد الشريعة كما لا أظن أنه يكون دون التسوية بين القرآن الكريم كله في أمره ونهيه وفي قصته ومثله وفي مشهده الكوني والنفسي والغيبي إذ كل ذلك هو الكفيل ببناء شجرة المقاصد الإسلامية بناء متناسقا مع البناء القرآني الذي لا يستغني فيه أمر ولا نهي عن قصة ولا عن مثل مهما بدا في عقولنا الآن أن الأمرين مخلتفان. ذلك فقه في القرآن يجب أن يأخذ طريقه إلينا.



الموضوع العاشر : ماهو دور الواقع في إثراء وتعميق مسالك الكشف.



لتناول هذا الموضوع الحواري العاشر لا بد من كلمتين :



أولهما : بعد تطوير مسلك العمل النبوي بمثل ما أشرنا إلى ذلك آنفا مرات في إثر إعتماد الدكتور النجار لذلك بصياغة جديدة لا بد من الإنفتاح على مسلك جديد هو مسلك : منهج الخلافة الراشدة في الكشف عن المقاصد ومنهج تفعيلها والحقيقة أن ذلك لم يخل من الإهتمام بالمرة ولكن العيب فيه أنه كان شبه مقتصر على فتوحات الفاروق العقلية في هذا العلم ولكن يمكن صياغة منهج كامل لتفكير الخلافة الراشدة في الكشف والتنزيل وجعله مسلكا مستقلا إستقلال إرتباط أو تكامل وخدمة إن صح التعبير والعمدة في ذلك أن الخلافة الراشدة في منهجها العام وليس في تفاصيلها التي يمكن أن يتسرب إليها الخطأ ككل عمل بشري غير معصوم .. هي مصدر إستئناسي كبير جدا للتشريع. كيف لا وقد جاء الحديث في ذلك صحيحا ـ على ما أظن في علم الحديث ـ وهو وارد في الأربعين النووية " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وفي روايات أخرى شبيهة ومماثلة. أما الوقوف بذلك المسلك عند الإجتهاد العمري على عظمته وعظمة صاحبه عليه الرضوان فهو يحرم الإجتهاد المقاصدي من حوادث أخرى عظيمة الفائدة ولكن المقصود دوما هو : إنتخاب منهج راشدي وليس الإستشهاد بحوادث.



هنا وصلنا إلى مفصل مهم جدا يصل أول الكلام بآخره في هذا الموضوع الحواري العاشر. مخ ذلك المفصل المهم هو أن الخلافة الراشدة في منهجها المقاصدي العام في موضوع الكشف عن مقاصد الشريعة تحديدا إنما تعتمد أمرين : أولهما النص ومنه العمل النبوي بطبيعة الحال وثانيهما هو الإستبصار بواقعها والأمثلة هنا لكل طالب علم من سيرة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم الرضوان لا تخفى ( الردة وجمع القرآن ـ السرقة والمؤلفة قلوبهم والفتوحات الإدارية الأخرى في عهد عمر من مثل صك العملة والبريد والسجون والأمصار ـ ضوال الإبل ـ الخوارج حركة معارضة مسلحة إلخ ... ).



مخ هذا المفصل هو إذن : الواقع المستهدي بالنص في حركة إجتهاد مقاصدية مستنيرة بالشورى والجماعة تقريرا للمصلحة المرسلة .. مسلك من مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة.



ثانيهما : سأعتمد على دراسة الدكتور النجار في زيادة تكريس ذلك المعنى ومخ ذلك أن مسألة البيئة في الوحي الكريم لم يكتشفها الدكتور النجار فهي موجودة في نصوص من القرآن والسنة كثيرة لا تكاد تحصى خاصة في السنة أي الحديث ولكن الدكتور النجار إنما وضع عينا على الكتاب وأخرى على واقعه ولذلك جاء لنا بمقصد ضروري جديد هو مقصد البيئة أي حفظها بمثل ما بين في بحثه الذي نحن بصدده.



ما ذا يعني ذلك.؟ ألا يعني أن الواقع يساهم في إثارة مسالك الكشف ولو على سبيل الإثراء أو التعميق أو لفت النظر أو قل ما شئت إذا كنت متحرجا من تعبيرة الواقع وضمه إلى الدين.



وما كشف عنه الدكتور النجار هنا إنما جاء لأن موضوع البيئة ملح دوليا ولكن سيجيئ زمان على الناس تلح فيه قضايا أخرى وسيجتهد المجتهدون مستهدين بالوحي الكريم ويكتشفون من خلال النظر في الكتاب وفي الواقع بتحدياته مقاصد أخرى ولتكن ضرورية أو حاجية أو تحسينية أو كلية أو جزئية أو عامة أو خاصة أو سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية أو غير ذلك .. المهم أنها مقاصد وقع الكشف عنها بسبيل الواقع ولا نحتاج إلى القول هنا ـ وليس خارج هنا ـ وبسبيل القرآن كذلك أو السنة والحديث أو السيرة بسبب أن الوحي بمعناه الشامل لم يدع شيئا لم يقل فيه كلمة أبدا مهما دق أو عظم سواء بسبيل النص المباشر أو النص الخفي أو ما يحققه الإجتهاد إنطلاقا من النص. التعويل هنا في الإطار العلمي الذي نحن بصدده هو على نص الواقع ومعافسة تحدياته وإستخدام الكتاب لحل مشاكله ولكن بعقل مجتهد لاعقل خامل.



لقد سبقت الإشارة آنفا إلى أن الدكتور النجار يقول بأن الأقدمين لم يكشفوا عن البيئة مصلحة ضرورية بسبب أن الأمر لم يكن لهم تحديا يصل حد الضرورة ولا حتى الحاجة ربما ومعنى كلامه ذاك هو أن الواقع يساهم مساهمة كبيرة عندما يكون مستهديا بالقرآن أو قل بالوحي في الكشف عن مسالك المقاصد ولو على سبيل الإثراء والتغذية والتعميق أو قل بسبيل غير مباشر.



أهم درس نستخلصه من كل ذلك هو أن الإجتهاد المقاصدي ليس له حد فيغلق دونه حتى بعد إنتصاب شجرته العظمى فإنها تحتاج إلى تجديد وإعادة إجتهاد للرعاية والزبر والخرص وكل العمليات التي تتطبها كل شجرة أو نوع خاص من الشجر.



الدرس النفيس هنا هو أن الإجتهاد المقاصدي أرض خصبة تنتظر المجتهدين والمجددين بسبب أن الواقع مسلك من مسالك الكشف عن المقاصد بحسب ما بينا آنفا ولكن لا ينتبه لذلك سوى العلماء العاملون والفقهاء المجتهدون أي الذين يهتمون بالكشف عن المقاصد وبالكشف عن سبل تفعيل تلك المقاصد أما غيرهم فيقنع بالتقليد ومن كان منا يظن ـ قبل أن يقرأ لأبن تيمة مثلا ـ أن المقاصد الضرورية يمكن أن توسع أو تضيق أو يجتهد فيها. كنت أظن أن ذلك أصلا مؤصلا لا إجتهاد فيه وأردده مع المرددين حتى قرأت غير ذلك للد. النجار وغيره.



الدرس النفيس الأعلى من كل ذلك هو : مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة فيها الثابت وفيها المتغير والإجتهاد يأتي على الثابت لتوسيع دائرته حتى لا يهمل القصة والمثل والمشهد بمثل ما بينا آنفا إذ لا مناص من القول بأن مصادر التشريع هي مصادر الكشف عن مقاصد الشريعة وهو أمر منطقي مفهوم معقول ولكن بما أن مصادر التشريع نفسها تختلف قوة وأولوية ودليلا فكذلك يجب أن تختلف مسالك الكشف كما يأتي الإجتهاد على المتغير من تلك المسالك ومنها الواقع أما السنة العملية أو السيرة وكذا منهج الخلافة الراشدة فيمكن ضبط منهجهما بحيث يكونان إلى الثبات أقرب.





تلك عشرة مواضيع حوارية يمكن لطلبة العلم أن يقتلوها بحثا كما يقال ولكن منعني الخوف من مزيد من الكتابة عن طرق مواضيع حوارية أخرى ربما تكون أقل أهمية ولكنها مهمة من مثل التأليف في علم المقاصد على طريقة الجمع بين المنهج الكلامي الفلسفي المنطقي وبين المنهج الأصولي الفقهي وذلك بالرغم من أن المنهج الأول في هذا العلم لم يكتب به إلى حد الآن ولكنه مهم خاصة في تقرير بحوث أصولية مبدئية عادة ما تتقدم هذا العلم وتوطئ له من مثل إثبات مقاصد للإسلام ودحض تراهات النفاة وتأطير إجتهاد إبن حزم في إطاره التاريخي الحضاري المعروف دون تطبيل كبير على ذلك ولا شك أن المنطق يؤيد كثيرا من تلك البحوث ويلتقي معها ولست مع نبذ التأليف الكلامي الفلسفي المنطقي لا في أصول الفقه ولا في مقاصد الشريعة بمعناها العام الواسع الذي يشمل الإسلام كله طبعا ولكني مع تعدد المناهج حتى يلفى كل صاحب إهتمام ومزاج نفسه في منهج ما فالدخول إلى الناس بعلوم الإسلام من أبواب متفرقة كفيل بتعديد مسارب الهداية والإهتمام بالإسلام ومن ذا يكون خير إن شاء الله تعالى.



ومن المواضيع الحوارية المهمة كذلك إعادة ضبط بعض مقولات هذا العلم من مثل مقولة أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد وذلك خشية سوء فهمها بسبب تأرجحها بين مجالين ففي مجال العبادات التوقيفية مثلا تكون الوسائل مقاصد بالضرورة أي مقاصد عملية سواء فقه المسلم المقصد أم تنكب عن حسن فقهه حتى لا نقع فيما وقعت فيه الصوفية المغالية أو مثيلاتها من العلمانية المعاصرة التي تريد إسقاط العبادات بسبب إمكانية تعويضها برياضات روحية أخرى تضمن الطاعة والزكاة وغير ذلك من مقاصد العبادات كما يزعمون ولكن في مجال آخر لا تأخذ الوسائل حكم المقاصد وذلك من مثل التمييز بين مقصد النص وبين وسيلته والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى فالمسبحة مثلا وسيلة للذكر ولكنها لا تأخذ حكم مقصدها وكذلك عود الأراك وغير ذلك مما لا يأتي تحت حصر وليس هو غرضنا الآن.



ومن بين تلك المقولات التي تحتاج إلى ضبط قالة أن المصلحة دليل وهي كذلك إذا توفرت فيها الشروط التي ذكرها الإمام الشاطبي خاصة وهي قالة تجد لها خصوما من كل جانب فمن جانب اليمين تجد لها خصوما لا يقرون بدليل المصلحة حتى لو كانت مصلحة مرسلة معتبرة بعد إجتهاد وإقرار من أهل العلم والفقه كما تجد من الشمال خصوما يقرون المصلحة دليلا مهما كانت منفلتة عن كل شرط بل حتى لو صادمت نصا صحيحا صريحا أو مصلحة أقوى منها أو إجماعا ثابتا أو غير ذلك من الأدلة العظمى الحاكم.



ومن بين تلك المواضيع الحوارية المقترحة ما عرف في التراث بنظرية الطوفي حول المصلحة والحقيقة أن الإمام القرضاوي وفى القضية حقها في أكثر من كتاب ورغم ذلك ما زال ذلك المشجب منتصبا يعلق عليه العالمانيون فشلهم المنهجي في إثبات الأمر ونفيه إن كانوا جادين غير هازلين في الإجتهاد المقاصدي والمقصود من ذلك هو إثبات أن الطوفي عليه رحمة الله سبحانه حمل كلامه ما لا يحتمله فهو قد قال بالحرف الواحد لمن يريد البحث النزيه بأن المصلحة التي تخصص النص إنما تستهدف النص الظني وليس النص القطعي وهذا لا خلاف عليه ولكن النص القطعي لا يخصص بشيء أبدا مطلقا كلما كان قطعيا حقا صحة وصراحة أما قضية التنزيل فأصدق ما قيل فيها هو حضور المحل أو غيابه والأمران مختلفان كما ترى رغم الإشتراك.



ومن تلك المباحث الحوارية المهمة كذلك رغم تعلقها بأصول الفقه أكثر من تعلقها بالمقاصد ولكن لا ضير كلما كان العلمان مشتركين بل شقيقين لأم وأب .. هو مبحث دلالة الأمر في الحديث النبوي الصحيح الصريح على الوجوب بمثل إيجاب أمر القرآن الكريم ودلالة النهي فيه على الحرمة بمثل دلالة القرآن الكريم أي عند تساوي المؤثرات التي تجعل من الأمر والنهي في القرآن وفي السنة ( مع شرط أن يكون الموضوع للأمر والنهي في القرآن والسنة مختلفا ) يفيد الوجوب أو الحرمة فإنه لا يفيد ذلك في السنة في كل الحالات وهو مذهب أصولي معروف ولكنه يشترك في جزء ما مع مبحث إستقلال السنة بالتشريع عند القائلين بذلك.



المبحث مهم جدا رغم إتصاله بأصول الفقه أكثر من إتصاله بالمقاصد ولكن عند البحث النظري والتنزيل العملي تجد أن العلاقة كبيرة جدا بين الأمرين ولا يتسع المجال هنا لذكر أمثلة.



وكذلك إتصاله بالعمل النبوي مما قد يعد محصورا في مقام تشريعي واحد خارجا عن دائرة التبليغ وخاصة مقام الإمامة والقيادة والسياسة وهو أمر تضمن أمثلة عديدة منها الردة ومازال المداد فيه سيالا والإجتهاد فيه رحبا.



بقيت كلمتان :



الكلمة الأولى : لا بد في رأيي من تصويب الإجتهاد المقاصدي المعاصر في إتجاه تلبية نداء الإمام إبن عاشور من أجل حراسة هذا العلم الناشئ بطاقم قاعدي متين فيه القطعي والظني يكون موئلا لطلبة العلم ( علماء وطلبة وباحثين وفقهاء ومفتين وغير ذلك في تلك الأسرة الواسعة ) ليس لحسم الخلاف في الضروري فحسب مما يدفع عن الأمة خلخلة أركانها الداخلية من جانب طائفة العلماء بعد ما تخلخلت من جانب طائفة الأمراء ولكن كذلك لإقتطاع منطقة قطعية ثابتة في هذا العلم تعزر بلغة المقاصد منطقة أصول الفقه الثابتة وبذلك يتعاون العلمان على خدمة الثابت القطعي في الشريعة لتكون دوما دوحة آمنة ظليلة لا يستعصي عليها حال ولا يجترئ عليها شاذ من شذاذ الآفاق. هو عمل كبير وطويل دون أدنى ريب ولكن له الجهابذة كما كانت في علم الرجال تغربل الضعيف من القوي حتى إستقر الأمر على ما هو عندنا اليوم والعلوم خادمة لبعضها بعضا فلا يستقيم عود هذا حتى يستقيم عود ذاك كلما كانت من مشكاة واحدة.



الكلمة الثانية : دعوة من الدكتور النجار منذ سنوات طويلة ( دعوة مكتوبة ) لا زالت ترن في أذني ولكن دونها مجاهدات علمية ومغالبات فقهية مخها : صياغة الفقه الإسلامي ( الفقه الفروعي يقصد ) على أساس تلازم بين مطالب ثلاث : مطلب تحرير الحكم الإسلامي فقها بلغة معاصرة ومطلب بيان المقصد من ذلك الحكم ومطلب صياغته بلغة روحية. هي نقلة في الفقه وتدوينه لا شك دونها عقبات فوق الكأداء ولكن لك أن تتصور معي أن أحكام الفقه الإسلامي اليوم مخرجة وفق ذلك النحو حتى يجد فيها المتصوف المعتدل نفسه وإلى جانبه الفقيه دقيق العبارة من يعيش هم عصره وإلى جانبهما حول المائدة نفسها الأصولي المقاصدي. عندها يصبح فقهنا جامعا بين الأصالة والمعاصرة للناس جلابا ولهم مرغبا مفهوما وتنداح الثقافة الفقهية وتزهر في القلوب ورعا وفي اللسان عروبة منسابة وفي العقل منهجا إسلاميا حصيفا أريبا وفي الجماعة وحدة وفي إختلافاتها تنوعا خادما مسؤولا وفي الدعوة سماحة.





خاتمــــــــــــــــــــــــــــــــة :



تلك هي إذن فقرات هذا الكراس الثلاث : محاولة لتلخيص كتاب الدكتور النجار ولكنه تلخيص لا يغني إلا الكسالى عن الرجوع إلى أم الكتاب دراسة جادة وأخص طالب العلم لا غيره.



ومحاولة إدارة قراءة في الكتاب وفيها مبحثان :



... بيان مواضع التجديد في الكتاب.



... الدعوة إلى حوار حول موضوعات مقاصدية بعضها متصل بالكتاب وبعضها مفصول عنه.



إن كنت أصبت فمنه وحده سبحانه وإن كنت أخطأت فمني وأسأله سبحانه أن يجعلني والقارئ الكريم من خير من تعلم القرآن وعلمه وممن يرزقهم الله سبحانه فقها في الدين وإجتهادا فيه وجهادا به وأشكر الدكتور النجار الذي أتاح لي هذه الفرصة معتذرا عما يكون قد بدر مني في حقه أو حق جهده مما يبدر من التلاميذ الكسالى نحو معلميهم وشيوخهم.



كما لا يفوتني أن أنبه دار النشر أو الدكتور النجار نفسه والقارئ الكريم إلى بعض الأخطاء المطبعية في الكتاب وهي ( صفحة 103 وقع خطأ في رسم آية الزمر إذ كتبت " قل لعبادي " والصحيح هو " قل يا عبادي " و صفحة 117 في قوله لم يؤدي ( زيدت الياء خطأ ) وصفحة 242 في قوله وقع والصحيح ( وقد ) وفي صفحة 259 في قوله درء المصلحة مقدم على جلب المصلحة والصحيح هو ( درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ).



والله تعالى أعلم.



الهادي بريك ـ ألمانيا.

Cant See Links


رد مع اقتباس