عرض مشاركة واحدة
قديم 08-04-2020, 01:15 PM   رقم المشاركة : 24
الكاتب

عمر نجاتي

الاعضاء

عمر نجاتي غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









عمر نجاتي غير متواجد حالياً


رد: كتاب آداب المريدين




[(فصل) وأما الرضا]

فالأصل فيه قول الله عز وجل: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119، والتوبة: 100، والمجادلة:22، والبينة: 8].

وقوله تبارك وتعالى: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} [التوبة: 21] الآية.

وروي عن ابن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله عز وجل ربًا".

وقيل: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر.

وروي عن قتادة رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا} [النحل:58]، هذا صنيع مشركي العرب، أخبرنا الله عز وجل بخبيث صنيعهم. فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له، وقضاء الله عز وجل خير من قضاء المرء لنفسه، وما قضاء الله لك يا ابن آدم فيما تكره خير لك مما قضى الله عز وجل لك فيما تحب، فاتق الله تعالى وارض بقضائه، قال الله تبارك وتعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216].

يعني ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، فالله عز وجل طوى عن الخلق مصالحهم وكلفهم عبوديته من أداء الأوامر وانتهاء المناهي، والتسليم في المقدور والرضا بالقضاء فيما لهم وعليهم في الجملة، واستأثر هو عز وجل بالعواقب والمصالح، فينبغي للعبد أن يديم الطاعة لمولاه، ويرضى بما قسم الله له ولا يتهمه.

واعلم أن تعب كل واحد من الخلق على قدر منازعته المقدور للقدر، وموافقته لهواه وترك رضاه بالقضاء، فكل من رضي بالقضاء استراح، وكل من لم يرض به طالت شقاوته وتبعه ولا ينال من الدنيا إلى ما قسم له، فما دام هواه متبعًا قاضيًا عليه فهو غير راض بالقضاء، لأن الهوى منازع للحق عز وجل، فتعبه متكاثف متزايد، فاستجلاب الراحة في مخالفة الهوى، لأن فيه الرضا بالقضاء بلا بد، واستجلاب التعب والنصب في موافقة الهوى، لأن فيه منازعة الحق عز وجل بلا بد، فلا كان الهوى، وإذا كان فلا كنا.

واختلف أهل العلم والطريقة في الرضا هل هو من الأحوال أو من المقامات؟

فقال أهل العراق: هو من جملة الأحوال، وليس هو كسبًا للعبد، بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال ثم تحول وتزول ويأتي غيرها.

وقال الخراسانيون: الرضا من جملة المقامات، وهو نهاية التوكل يعني يؤول إلى غاية ما يتوصل إليه العبد باكتسابه.

والجميع بينهما ممكن بأن يقال: بداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من المقامات، ونهايته من جملة الأحوال وهي ليست بمكتسبة.

وفي الجملة الراضي هو الذي لا يتعرض على تقدير الله عز وجل.

وقال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: ليس الرضا ألا تحس بالبلاء، إنما الرضا ألا تعترض على الحكم والقضاء.

وقد قالت المشائخ رحمهم الله تعالى: الرضا بالقضاء باب الله الأعظم وجنة الدنيا: أكرم من أكرم بالرضا فقد لقي بالرحب الأوفى، وأكرم بالقرب الأعلى.

وقيل إن تلميذًا قال لأستاذه: له يعرف العبد أن الله تبارك وتعالى راضٍ عنه؟ قال: لا، كيف يعلم ذلك، ورضاه غيب، فقال التلميذ: يعلم ذلك. فقال: كيف؟ قال: إذا وجدت قلبي راضيًا عن الله تعالى علمت أنه راض عني، فقال الأستاذ: لقد أحسنت يا غلام، ولا يرضى العبد عن الله حتى يرضى الحق جل جلاله عنه، قال الله عز وجل: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119، والتوبة: 100، والمجادلة: 22، والبينة: 8] أي برضاه عنهم رضوا عنه.

وقيل: سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل فقال: إلهي دلني على عمل إذا عملته رضيت عني فقال: إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى عليه السلام ساجدًا متضرعًا، فأوحى الله عز وجل إليه يا ابن عمران إن رضائي في رضاك بقضائي.

وقيل: من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله عز وجل رضاه فيه.

وقيل: الرضا على قسمين: رضا به، ورضا عنه، فالرضا به مدبر، والرضا عنه فيما يقتضي حاكمًا وفاصلاً.

وقيل: الراضي أن لو جعلت جهنم عن يمينه ما سأل أن يحولها إلى يساره.

وقيل: الرضا إخراج الكراهية من القلب حتى لا يبقى إلا فرح وسرور.

وسئلت رابعة العدوية رحمها الله تعالى متى يكون العبد راضيًا بالقضاء؟ فقالت رحمها الله تعالى: إذا سر بالمصيبة كما يسر بالنعمة.


وقيل: قال الشبلي رحمه الله تعالى بين يدي الجنيد رحمه الله تعالى: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الجنيد رحمه الله: قولك ذا لضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء.

وقال أبو سليمان رحمه الله تعالى: الرضا ألا تسأل الجنة من الله ولا تستعيذ به من النار.

وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: ثلاثة من علامات الرضا: ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء.

وقال أيضًا رحمه الله تعالى: هو سرور القلب بمر القضاء.

وسئل أبو عثمان رحمه الله تعالى عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسألك الرضا بعد القضاء" قال: لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا.

وروي أنه قيل للحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: إن أبا ذر رضي الله عنه يقول: الفقر أحب إلى من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له.

وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافي رحمهما الله تعالى: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلة، والذي قال الفضيل هو الصحيح، لأن فيه الرضا بالحال، وكل خير في الرضا بالحال، قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: {إني أصطفيك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} [الأعراف: 144] أي ارض بما أعطيتك، ولا تطلب منزلة غيره، وكن من الشاكرين: يعني بحفظ الحال.



وكذلك لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتهم فيه} [طه: 131] فأدب نبيه عليه الصلاة والسلام وأمره بحفظ الحال والرضا بالقضاء والعطاء بقوله تعالى: {ورزق ربك خير وأبقى} [طه: 131] أي ما أعطيتك من النبوة والعلم والقناعة والصبر وولاية الدين والقدوة فيه أولى مما أعطيت غيرك وأحرى، فالخير كله في حفظ الحال والرضا به، وترك الالتفات إلى ما سواه، لأنه لا يخلو إما أن يكون ذلك قسمك أو قسم غيرك، أو أنه لا قسم لأحد، بل أوجده الله تعالى فتنة.

وإن كان قسم غيرك فلا تتبع فيما لا تناله ولا يصل إليك أبدًا.

وإن كان ليس بقسم لأحد بل هو فتنة، فكيف يرضى العاقل ويستحسن اللبيب أن يطلب لنفسه فتنة ويستجلبها.

وقال قوم: الرضا بالقضاء هو أن يستوي عندك ما تحب وما تكره من قضائه عز وجل.

وقال بعضهم: هو الصبر على مر القضاء.

وقال آخر: هو طرح الكف بين يدي الله عز وجل والتسليم لأحكامه.

وقال آخر: هو إسقاط التخيير على المدبر.

وقال آخر: هو ترك الاختيار.

وقال بعضهم: أهل الرضا هم الذين قطعوا عن قلوبهم في الأصل الاختيار، فهم لا يختارون شيئًا من الأشياء مما تريد أنفسهم، ولا شيئًا مما يريدون به الله، ولا يسألونه ولا يطالعون حكمًا قبل نزوله، فإذا وقع حكم من الله حيث لا يتشوقون إليه ولم يطالعوه، رضوا به فأحبوه وسروا به.


وقال: إن لله عبادًا إذا وقع بهم الحكم من البلوى رأوه نعمة من الله عليهم، فشكروه عليها وسرّوا بها، ثم رأوا بعد سرورهم بالنعم أن اشتغالهم بالنعمة عن المنعم نقص، فاشتغلت قلوبهم بالمنعم عن النعم فكان البلاء جاريًا عليهم وقلوبهم غائبة عنه، فلما استوطنوا هذا المقام وداوموا عليه نقلهم مولاهم إلى ما هو أعلى لهم وأسمى من ذلك، لأن مواهبه عز وجل لا غاية لها ولا نهاية.

وأقل ما في الرضا بالقضاء أن ينقطع طمعه عما سوى الله عز وجل، وقد ذم الله عز وجل الطمع في غيره عز وجل، فروى عن يحيى بن كثير أنه قال: قرآن التوراة فرأيت فيها أن الله سبحانه وتعالى يقول: ملعون من كان ثقته بمخلوق مثله.

وروي في بعض الأخبار أن الله سبحانه يقول: وعزتي وجلالي وجودي ومجدي لأقطعن أمل كل مؤمل آمل غير باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة بين الناس، ولأبعدنه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمل غير في الشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي، ويرجى غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وهي مغلقة ومفاتيحها بيدي.

وروي في خبر آخر أن الله عز وجل يقول: ما من عبد يعتصم بي دون خلقي، أعلم ذلك من قلبه ونيته، فتكيده السموات والأرض ومن فيهن، إلا جعلت له من ذلك مخرجًا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني، إلا قطعت أسباب السماء من فوقه، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم أهلكه في الدنيا وأتعبته فيها.

وروي عن بعض الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من تعزز بالناس ذل".

وقيل: من اتكل على مخلوق مثله ذل، فكفاه الطمع بما يناله من اطلاع قلبه، وتشتت همه وذله ومسكنته، فقد اجتمع عليه أمران: ذل في الدنيا، وبعد من الله عز وجل بلا ازدياد في رزقه ذرة واحدة.

وقال بعضهم: لا أعرف شيئًا أضر على المريدين والطالبين من الطمع، ولا أخرب لقلوبهم ولا أذل لهم ولا أظلم لقلوبهم ولا أبعد لهم ولا أشد تشتيتًا لهمهم من الطمع، إنما كان ذلك كذلك لأنه أشرك بالله عز وجل حيث طمع في م خلوف مثله لا يملك ضرًا ولا نفعًا ولا عطاء ولا منعًا، فجعل ملك الملك المملوكة، فأنى يكون له ورع، فلا يتحقق ورعه حتى ينسب الأشياء إلى مالكها عز وجل، فيطلبها منه ولا يطلبها من غيره.

وقيل: الطمع له أصل وفروع، فأصله الغفلة وفرعه الرياء والسمعة والتزين والتصنع وحب إقامة الجاه عند الناس.

وقال عيسى عليه السلام للحواريين: الطمع القتول الموجى.


وعن بعضهم أنه قال: طمعت يومًا مرة في شيء من أمر الدنيا، فهتف بي هاتف وهو يقول: يا هذا إنه لا يحمد بالحر المريد إذا كان يجد عند الله كل ما يريد أن يركن بقبله إلى العبيد.

واعلم أن لله عبادًا يخفى عليهم الطمع فيمن يملك لهم ما فيه يطمعون حتى تكون الأشياء داخلة عليهم من حيث لا يطمعون، ويرون أن حالة الطمع نقص في الأحوال، وهو أدنى درجة من درجات العارفين من أهل التوكل، ولا يخطر على قلب مريد شيء من الطمع ويساكنه، إلا لأجل كمال البعد من الله عز وجل، حيث طمع في مخلوق مثله، وهو يرى أن مولاه مطلع عليه، ثم لم يحجزه الخوف من ذلك.



.


رد مع اقتباس