عرض مشاركة واحدة
قديم 08-04-2020, 12:50 PM   رقم المشاركة : 20
الكاتب

عمر نجاتي

الاعضاء

عمر نجاتي غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









عمر نجاتي غير متواجد حالياً


رد: كتاب آداب المريدين



[(فصل) وأما التوكل]

فالأصل فيه قوله عز وجل: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3]، وقوله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 23].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت الأمم بالموسم، فرأيت أمتي قد ملأت السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم، فقيل لي: أرضيت؟ قلت: نعم، قيل: ومع هؤلاء سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللهم اجعلهع منهم، فقام آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: سبقك بها عكاشة".

وحقيقة التوكل: تفويض الأمور إلى الله عز وجل، والتنقي عن ظلمات الاختيار والتدبير، والترقي إلى ساحات شهود الأحكام والتقدير، فيقطع العبد ألا تبديل للقسمة، فما قسم له لا يفوته، وما لم يقدر له لا يناله، فيسكن قلبه إلى ذلك، ويطمئن إلى وعد مولاه، فيأخذ من مولاه.

والتوكل ثلاث درجات: وهي التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض، فالمتوكل يسكن إلى وعد ربه، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه.

وقيل: التوكل بداية، والتسليم وسط، والتفويض نهاية.

وقيل: التوكل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين.

وقيل: التوكل صفة العوام، والتسليم صفة الخواص، والتفويض صفة خاص الخاص.

وقيل: التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم، والتفويض صفة نبينا صلوات الله عليهم أجمعين.

فالتوكل على كمال الحقيقة وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام: أما إليك فلا، لأنه غابت نفسه حتى لم يبق لها أثر، فلم ير مع الله تعالى غير الله عز وجل.

وقال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله عز وجل كالمبيت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد، لا يكون له حركة ولا تدبير، فالمتوكل على الله سبحانه وتعالى يكون لا يسأل ولا يريد ولا يرد ولا يحبس.

وقال أيضًا: التوكل هو الاسترسال.

وقال حمدون رحمه الله تعالى: هو الاعتصام بالله عز وجل.

وقال إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى: حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء مما سوى الله عز وجل.

وقيل: التوكل رد العيش إلى يوم واحد، وإسقاط هم غد.

وقال أبو علي الروذباري رحمه الله تعالى: مراعاة التوكل ثلاث درجات:

الأولى منها: إذا أعطي شكر، وإذا منع صبر.

والثانية: أن يكون العبد المنع والعطاء عنده واحد.

والثالثة: المنع مع الشكر أحب إليه لعلمه باختيار الله تعالى له ذلك.

وروي عن جعفر الخلدي قال: قال إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصًا وحشيًا، فجئت إليه فقلت: أجني أم إنسي، فقال: بل جني، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكة، فقلت له: بلا زاد ولا راحلة؟ قال: نعم. فينا أيضًا من يسافر على التوكل، فقلت له: ما التوكل؟ قال الأخذ من الله.

وقال سهل رحمه الله تعالى: هو معرفة معطي أرزاق المخلوقين، ولا يصح لأحد التوكل حتى يكون عنده السماء كالصفر والأرض كالحديد، لا ينزل من السماء مطر، ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى له ما ضمن له من رزقه بين هذين.

وقيل: هو ألا تعصي الله تعالى من أجل رزقك.

وقال بعضهم: حسبك من التوكل ألا تطلب لنفسك ناصرًا غير الله تعالى، ولا لرزقك خازنًا غيره، ولا لعملك شاهدًا غيره.

وقال الجنيد رحمه الله تعالى: التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه.

وقال النوري رحمه الله تعالى: هو أن تفنى تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلاً ومدبرًا ونصيرًا. قال الله تعالى: {وكفى بالله وكيلاً} [النساء: 81].


وقيل: هو اكتفاء العبد الذليل بالرب الجليل، كاكتفاء الخليل بالجليل حين لم ينظر إلى عناية جبريل عليه السلام.

وقيل: هو السكون عن الحركات اعتمادًا على خالق الأرض والسموات.

وقيل لبهلول المجنون رحمه الله تعالى: متى يكون العبد متوكلاً؟ قال: إذا كان بالنفس غريبًا بين الخلق، وبالقلب قريبًا إلى الحق.

وقيل لحاتم الأصم رحمه الله تعالى: علام بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال: على أربع خلال: علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست اشتغل به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأبادره، وعلمت أني بعين الله تعالى في كل حال فأنا مستح منه.

وعن أبي موسى الدبيلي قال: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ إلى الرسغ لم تخف مع الله شيئًا، فقال أبو موسى رحمه الله تعالى: فخرجت إلى أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى أسأله عن التوكل فدخلت بسطام ودققت عليه الباب فقال لي: يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟ فقلت: يا سيدي افتح الباب، فقال: لو زرتني لفتحت لك الباب، خذ الجواب من الباب، فانصرفت، فلو أن الحية التي هي مطوقة بالعرش همت بك لم تخف مع الله شيئًا، قال أبو موسى رحمه الله تعالى: فانصرفت حتى جئت إلى دبيل، فأقمت بها سنة، ثم اعتقدت الزيارة، فخرجت إلى أبي يزيد، فقال لي: الآن جئتني زائرًا مرحبًا بالزائر ادخل، فأقمت عنده شهرًا لا يقع لي شيء إلا أخبرني به قبل أن أسأله، فقلت له: يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك فقال: اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة، فانصرف، فجعلتها فائدة وانصرفت.

وعن ابن طاوس اليماني رحمه الله تعالى عن أبيه طاوس رحمه الله تعالى قال: إن أعرابيًا جاء براحلة له فأبركها وعقلها، ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم إن هذه الراحلة وما عليها في ضمانك، حتى أخرج إليها ومضى، فخرج الأعرابي من المسجد الحرام، وقد أخذت الراحلة وما عليها، فرع رأسه إلى السماء وقال: اللهم ما سرق مني شيء وما سرق إلا منك.

قال طاوس: فبينما نحن كذلك مع الأعرابي إذ رأينا رجلاً نازلاً من رأس جبل أبي قبيس يقود الراحلة بيده اليسرى، ويمينه مقطوعة معلقة في عنقه، حتى جاء إلى الأعرابي فقال: خذ راحلتك وما عليها، فسألته عن حاله، فقال: استقبلني فارس على فرس أشهب في رأس أبي قبيس، فقال لي: يا سارق مد يدك، قال: فمددتها فوضعها على حجر ثم أخذ آخر فبتلها وعقلها في عنقي، وقال: انزل ورد الراحلة وما عليها إلى الأعرابي.

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا".

وروى محمد بن كعب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه مما في يديه".


وكان عمر رضي الله عنه يتمثل بهذين البيتين:

هون عليك فإن الأمور ... بأمر الإله مقاديرها

فليس يأتيك مصروفها ... ولا عازب عنك مقدورها

وسئل يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلاً.

وقال بشر رحمه الله تعالى: يقول أحدهم: توكلت على الله يكذب، واليه فإن لو توكل على الله رضي بما يفعل به.

وقال أبو تراب التخشبي رحمه الله تعالى: هو طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطي شكر، وإن منع صبر.

وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: التوكل: ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة.

وقال ذو النون رحمه الله تعالى أيضًا لرجل سأله عن التوكل فقال: هو خلع الأرباب، وقطع الأسباب، فقال له السائل: زدني، فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.

وقال أيضًا: هو انقطاع المطامع.

وأما الحركة بالظاهر التي هي الكسب بالسنة فلا تنافي توكل القلب بعدما يتحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى في قلبه، لأن محل التوكل القلب، وهو تحقيق الإيمان، فمن أنكر الكسب فقد أنكر السنة، ومن أنكر التوكل فقد أنكر الإيمان، فإن تعسر شيء من الأسباب فبتقدير الله عز وجل، وإن تيسر شيء منها فتيسيره عز وجل، فتكون جوارحه وظواهره متحركة في السبب بأمر الله عز وجل، وباطنه ساكن لوعد الله عز وجل.

وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "جاء رجل على ناقة له فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- اعقلها وتوكل".

وقيل: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئًا يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه عز وجل.

وقيل: التوكل نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك.

وقيل: التوكل الثقة بما في يد الله عز وجل، واليأس مما في أيدي الناس.

وقيل: التوكل إفراغ السر عن التفكير للتقاضي في طلب الرزق.


.


آخر تعديل عمر نجاتي يوم 08-04-2020 في 12:53 PM.
رد مع اقتباس