عرض مشاركة واحدة
قديم 05-27-2010, 03:51 PM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

OM_SULTAN

المشرف العام

OM_SULTAN غير متواجد حالياً


الملف الشخصي








OM_SULTAN غير متواجد حالياً


شرح منظومة القواعد الفقهية,وأهم كتب القواعد الفقهية عند المالكية



شرح منظومة القواعد الفقهية


للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي

لفضيلة الشيخ

الدرس الثالث

Cant See Links

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

بقدر ما تحتاجه الضروره ==وكل محظور مع الضروره
فلا يُزيل الشكُّ لليقين ==وترجع الأحكام لليقين
والأرض والثياب والحجاره ==والأصل في مياهنا الطهاره
والنفس والأموال للمعصوم ==والأصل في الأبضاع واللحوم
فافـهم هداك الله ما يُـمَلُّ ==تـحريـمها حتى يجيء الحلّ
حتى يجيء صارف الإباحه ==والأصل في عاداتنا الإباحه
غير الذي في شرعنا مذكورْ ==وليس مشروعاً من الأمورْ
واحكم بهذا الحكم للزوائد ==وسائل الأمور كالمقاصد
أسقطـه معبودنا الرحمنُ ==والخِطْء والإكراه والنسيـانُ
وينتفي التأثيم عنه والزلل ==لكن مع الإتلاف يثبت البدل


بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأصلّي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين،
وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلىٰ يوم الدين.
أما بعد:
فقد توقفنا على قول المؤلف رحمه الله:

ولا مُحَرَّم مع اضطرار ==وليس واجب بلا اقتدارِ

وتكلمنا على قوله: (ولا مُحَرَّم مع اضطرار) وقلنا: إن هـٰذا هو قول العلماء في القاعدة المشهورة: ( الضرورات تبيح المحظورات).
وبينا متى تُفَعَّلُ هـٰذه القاعدة ومتى يعمل بها، وأنها ليست على ما يفهمه كثير من الناس من أنه أدنى حاجة وأدنى ضرورة تبيح المحظور، بل لا بد في الضرورة التي يستبيح بها الإنسان المحظورات من شروط، وذكرنا من ذلك شرطين:
الشرط الأول: أن يتعين المحرم لدفع الضرر، بمعنى: أنه لا يجد سبيلاً يدفع به ضرورته إلا المحرم.
الشرط الثاني: اليقين من أن هـٰذا المحرم الذي سيرتكبه ستندفع به ضرورته.
وهذان شرطان لا بد من تحققهما.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله قيداً لهذه القاعدة فقال:

بقدر ما تحتاجه الضروره ==وكل محظور مع الضروره

كل محظور تبيحه الضرورة لا بد من أن يقيد بقيد، وهو: أن يأخذ من هذا المحرم بقدر ما يحصل اندفاع ضرورته، وليس الأمر رفعاً للحكم بالكلية؛ يعني المحرّم لا يرتفع تحريمه بالكلية وعلى كل حال، إنما يرتفع القدر الذي يكون به الإنسان مضطرّاً، فما زاد على ذلك فإنه باق على الأصل وهو التحريم. وهذا معنى قوله رحمه الله:

بقدر ما تحتاجه الضروره ==وكل محظور مع الضروره

أي بقدر ما تحتاجه ضرورته التي يندفع بها، وليس الأمر على إطلاقه.
فما دليل هذا القيد؟ دليل هـٰذا القيد قول الله جلَّ وعلا: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)﴾،( ) وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾( ). فهذه قيود، بعد أن أذن في المحرّم عند الضرورة ذكر قيود ذلك؛ وهو ألا يكون في هذا العمل بغي أو اعتداء.
وهل فرقٌ بين البغي والاعتداء؟ هل هما قيد واحد أم هما قيدان؟ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ هل هما قيدان أو قيد واحد؟ هما قيدان، فقوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ ماذا يفيد؟ يعني أن أكله للمحرم ناشئ من البغي الذي هو الخروج عن الطريق المستقيم، فأكله للميتة عند الاضطرار إليها:
•إما أن يكون تشهياً.
•وإما أن يكون عن ضرورة.
فقوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ أي أن تكون هذه الضرورة مبيحة للأكل.
وقوله في القيد الثاني: ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ أي ولا معتدٍ قدر الضرورة، وهذا هو القيد الذي يدل على هذا الكلام الذي ذكره المؤلف رحمه الله في هذا البيت حيث قال: (وكل محظور مع الضروره) فلا يتعدى قدر الحاجة.
ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى ذكر قاعدة جديدة وهي في قوله:

فلا يُزيل الشكُّ لليقين ==وترجع الأحكام لليقين

هذا البيت في الحقيقة فيه قلق في آخره.
والشيخ رحمه الله ذكرنا لكم أنه اعتذر عما في هذه المنظومة من قلق وانكسار، وقال: سنرجع إلى إصلاح ذلك إن شاء الله، وقد أصلح رحمه الله فيما يظهر أكثر ما في هذه المنظومة.
هذا البيت يشير إلى قاعدة مشهورة عند الفقهاء، وهي إحدى القواعد الخمس الكلية الكبرى، وهي قاعدة: ( اليقين لا يزول بالشك).
واليقين هو: ما تحقق الإنسان من وجوده.
والشك: ما تردّد فيه الإنسان.
فالمؤلف رحمه الله يقول: (وترجع الأحكام لليقين) أي إذا طرأ على حكمٍ من الأحكام أو على مسألة من المسائل شك ويقين فبأيهما يعمل الإنسان، أو أيهما يأخذ الإنسان؟ يأخذ اليقين؛ لأنه الذي تقر به النفس، وهو الذي دل عليه الشرع، في موارد كثيرة، فإن الشريعة جاءت بما يسكِّن النفوس ويذهب عنها القلق والاضطراب، ولذلك كان المرجع في كثير من هذه المسائل التي يحصل فيها الاضطراب إلى الأصل وهو اليقين.
وأما الشك الذي هو التردد بين أمرين، فإن الشريعة ترجع هذا الشك إما إلى اليقين أو تدفع هذا الشك بأمرين:
الشك يندفع إما بالرجوع إلى اليقين.
وإما بالعمل بغلبة الظن، هذا عند تعذر اليقين.
وإما بالبراءة الأصلية، والبراءة الأصلية في الحقيقة هي نوع من اليقين.
ولذلك يقول العلماء: إن مما يدفع به الشك ويرفع أمرين:
الأمر الأول: غلبة الظن.
والأمر الثاني: البراءة الأصلية وهي اليقين، والبراءة الأصلية هي: أن يكون الإنسان مُعملاً الأصل وهو بقاء ما كان على ما كان، وأن الشيء لم يتغير.
ولذلك أدلة من السنة النبوية، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الشّخص يجد الشيء في الصلاة فيشكل عليه أخرج منه شيء أو لا؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً))( ). فدفع هذا الشك الطارئ على الإنسان الذي حصل به التردّد بين وجود مبطل الطهارة- وجود الناقض- وبين البقاء وهو بقاؤها، فبماذا وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وجه إلى إعمال الأصل؛ وهو بقاء ما كان على ما كان؛ وهو أن الطهارة ما زالت باقية، فلا يرتفع هذا الأصل إلا بأصل في قوته؛ وهو ما يعلم به وقوع الحدث من صوت أو ريح.
وأما ما يدور في الخاطر ويجول في الضمير من تردد فإنه لا أثر له في ارتفاع الطهارة.
ولذلك قال رحمه الله:

فلا يُزيل الشكُّ لليقين ==وترجع الأحكام لليقين

وقوله: (لليقين) اللام هنا للتعليل؛ أي لأجل اليقين، فلا نزيل الشك أي لأجل اليقين السابق الثابت ، هـٰذا معنى هذا البيت، وهو من القواعد الكبرى المتفق عليها بين أهل العلم.
وقد ذكر رحمه الله فروعاً تبنى على هذه القاعدة وقواعد تذكر وتندرج تحت هذه القاعدة، فمن ذلك قوله رحمه الله:

والأرض والثياب والحجاره ==والأصل في مياهنا الطهاره

الأصل هو ما يبنى عليه غيره.
والعلماء يطلقون (الأصل) ويريدون به عدة معانٍ:


فيقولون: الأصل في المسألة الفلانية قول الله تعالى وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويريدون بذلك الدليل.
يطلقون الأصل ويريدون به القاعدة المطردة التي لها شواهد عديدة ويندرج تحتها مسائل كثيرة، وهذا من استعمالات العلماء للأصل.
يطلق الأصل ويراد به الأمر الوثيق الكبير في الدين ولو كان في مسألة من المسائل .. لكن الغالب في الاستعمال أن يكون في الدليل، أو فيما هو مستمر من القواعد وما هو مقترب من الضوابط.
والجامع لهذه الاستعمالات المتنوعة لهذه الكلمة هو المعنى اللغوي، وهو أن الأصل ما يبنى عليه غيره.
فمن قال لك: الأصل في كذا: كذا من قول الله وقول رسوله، يكون المعنى الذي بني عليه هذا الحكم هو الآية أو الحديث، وإذا كان فيه قاعدة يشير إلى أن الذي بني عليه هذا الحكم هو القاعدة الفلانية.
فقوله رحمه الله: (والأصل في مياهنا الطهارة) الأصل مبتدأ وقوله: (الطهارة) خبر المبتدأ (الأصل في مياهنا) يشمل كل ماء، فكل ما على الأرض مما يصدق عليه أنه ماء فالأصل فيه الطهارة، وهذه قاعدة متّفق عليها، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.
فهي من القواعد التي أجمع عليها العلماء على اختلاف مذاهبهم.
وهذا الحكم مبني على أن الأصل في الأشياء الطهارة، ودليل أن الأصل في الأشياء الطهارة امتنان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الناس بأن خلق لهم ما في السماوات وما في الأرض في كثير من الآيات، وإنما يمتن بما هو طيب؛ ولأن النجاسة طارئة خلاف الأصل، ولذلك كان الأصل في المياه الطهارة وهو فرع عن قولنا: الأصل في الأشياء الإباحة والأصل في الأشياء الطهارة، حتى يدل الدليل على النجاسة.
ولذلك إذا جاء أحد وقال لك: هذا الماء لا تتوضأ به. فبماذا تجيبه؟ تجيبه وتقول: لماذا؟ السؤال:لماذا لا أتطهر به؟ لماذا تمنع من الطهارة به؟
إما أن يكون مُسْتَحَقًََّا فهنا المنع لحق الغير.
وإما أن يكون غير صالح للطهارة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان نجساً،فإن كان نجساً فلا بد أن يبين سبب النجاسة، وإلا فالأصل طهارة الماء.
ولذلك لا ينبغي للإنسان إذا وجد ما يصدق عليه أنه ماء أن يسأل هل هذا طاهر أو لا، بل هذا من التنطع المندرج في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون))،( ) فهو من التعمق والتشدد الذي يجب على المؤمن أن ينزه نفسه عنه.
ثم إن هذا الحكم ليس خاصّاً بالمياه؛ بل هو أيضاً في الأرض والثياب والحجارة، فقوله: (والأرض والثياب والحجاره) هذا عطف على قوله: (مياهنا)، فالأصل في الأرض وفي الثياب: الأرض هي كل ما يوطأ، والثياب تصدق على كل ما يلبس، والحجارة معروفة: كل صخرة، كل ما يسمى حجراً.
فالأصل في هذه الأمور كلها الطهارة، ومن ادّعى خلاف ذلك فعليه الدليل.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في وصف هذه القاعدة: وهذه قاعدة جامعة نافعة، ومقالة عامة وقضية كلية أجمع عليها أهل الإسلام، وهي نافعة، حقيقة نافعة، وإذا عملها الإنسان اطمأن وسكنت نفسه؛ ولكن من بلي بالوسواس يغفل عن هذه القاعدة، وتجده إذا أراد أن يصلي سأل عن هذا المكان هل هو طاهر أو لا؟ وسأل عن هذا الماء هل هو طاهر أو لا؟ ثم سأل عن هذا الثوب هل هو طاهر أم لا؟ ويبقى في حيرة وضيق وشك لا يعلم به إلا الله، ولو أنه أعمل الأصل لاطمأنت نفسه وسكنت وتنعم بالعبادة؛ لأن الله جلَّ وعلا لم يفرض علينا العبادات ليشقينا بها: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾،( ) فالعبادات هي مصدر ابتهاج وسرور وطمأنينة وسكون للنفس وراحة للقلب، ليس في العبادات المفروضة ولا الشرائع المسنونة ولا الآداب الإسلامية شيء يبعث على القلق؛ بل هي جميعاً تسعى لتطييب القلب وتصفيته وتزكيته.

ثم قال رحمه الله، بعد ذكر هذا الأصل ذكر أصلاً آخر قال:

والنفس والأموال للمعصوم ==والأصل في الأبضاع واللحوم


تـحريـمها ..................

فقوله: (الأصل) هـٰذا مبتدأ، خبره قوله: (تحريمها) في البيت الثاني.
ننظر إلى هذه المذكورات في البيت الأول (والأصل في الأبضاع) جمع بضع، وهو يطلق على الجماع، ويطلق على الفرج نفسه، فالبضع في اللغة العربية يطلق ويراد به الجماع، ويطلق ويراد به الفرج.
الأصل في الأبضاع أي الفروج التحريم. ما دليل ذلك؟ دليل ذلك قول الله جل وعلا في وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾،( ) فالأصل في الفروج الحفظ، وما كان الأصل فيه الحفظ كان الأصل فيه التحريم.
ثم بين ما الذي يجوز في هذه الفروج فقال: ﴿إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ هذان الطريقان هما الطريقان المباحان المشروعان فيما يتعلق بالفروج، وما عداهما فهو مغلق مسدود.
قال: (واللحوم) أي الأصل في اللحوم التحريم، ودليل ذلك قول الله تعالىٰ: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ﴾( ) بعد أن أمر في قوله: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ﴾،( ) فدل ذلك على أن الأكل لا يجوز إلا مما ذكر اسم الله عليه، هذا من حيث الوصف العام؛ فإنه لا يجوز أكل ما لم يذكر عليه اسم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما من حيث أجناس المأكولات فقول الله تعالىٰ: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾،( ) فذكر الله عز وجل المحرّمات على وجه الحصر، وقد دلت السنة على تحريم أمور زائدة على هذه الآية: فحرم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ذي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير.
فهذه الأحاديث والآيات تفيد بمجموعها هذه القاعدة، وهي أنه لا يجوز في اللحوم إلا ما دل الشرع على إباحته، سواء من حيث النوع أو من حيث الوصف.
ثم قال رحمه الله: (والنفس والأموال للمعصوم) أي:إن الأصل في النفوس -في نفوس بني آدم- وأموالهم إذا كانوا معصومين، الأصل فيها التحريم.
وقول المؤلف رحمه الله: (للمعصوم) فهمنا أنه ليس الأصل في نفوس وأموال بني آدم التحريم مطلقاً، إنما هو حكم يختص به المعصوم.
فمن هو المعصوم؟

المعصوم هو: من حَرُم ماله ودمه، من عصم الإسلام ماله ودمه، هذا هو المعصوم، وهم أربعة أشخاص: المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن. هؤلاء الأربعة هم من عصم الإسلام أموالهم ودماءَهم.
بقي خامس وهو الحربي، أي: الذي ليس بينه وبين أهل الإسلام عهد ولا ذمة ولا أمان، فهذا مباح الدم والمال.
طيب نرجع إلى هؤلاء الأربعة:
أولاً: المسلم معروف، المسلم هو من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا لا يحل دمه إلا في أمور، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث))( ) وذكرها، فدلّ ذلك على أن الأصل في دم المسلم الحرمة، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله))( ) وذكر أموراً أخرى.
الثاني:الذمي هو اليهودي والنصراني الذي يعيش بين المسلمين ويقيم بينهم إقامة دائمة، فهذا يدفع الجزية لأهل الإسلام، ومقابل دفع هذه الجزية يصان دمه وماله ويقر على دينه.
إذاً الذمي إقامته في بلاد الإسلام إقامة دائمة أو مؤقتة؟ إقامة دائمة.
الثالث: المعاهد هو الذي بين أهل الإسلام وبين بلده عهد، كحال أكثر أهل الكفر في زماننا هذا، فإنهم معاهدون؛ لأن بلاد المسلمين قد عاهدت بلادهم على مواثيق وعهود، فهؤلاء معاهدون.
الرابع: المستأمَن وهو الذي دخل بلاد الإسلام بعقد أمان، يعني ليس بيننا وبين بلاده عهد ولا ميثاق، إنما دخل إلى بلاد الإسلام بأمان، فهذا معصوم الدم والمال، لا يجوز لأحد أن يتعرضه في ماله ولا في دمه..
هؤلاء هم المعصومون.
وعلى هذا الآن لو أن إنساناً رأى كافراً في بلاد المسلمين.
هل يجوز له أن يعتدي على ماله لأنه كافر؟ الجواب: لا.
هل يجوز أن يعتدي عليه بالقتل أو بما دونه من الاعتداء على النفس؟ الجواب: لا.
لماذا؟ لأن الأصل في دماء هؤلاء العصمة، إما للذمة أو للعهد أو للأمان.
إذاً فإذا اشتبه على الإنسان شخص هل هو مباح الدم أو غير مباح الدم، ماذا يفعل؟ الأصل التحريم.
طيب ما دليل ذلك من القرآن؟ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾( ). فأمر الله جل وعلا أهل الإسلام بالتبين في موطن المتوقع فيه العدو، وهو موطن القتال والجهاد، أمره بالتبين، فدل ذلك على أن الأصل في الدماء التحريم، حتى يتبين الإنسان المبيح، حتى يتبين ويتحقق المبيح.
طيب وكذلك الأموال الأصل فيها التحريم.
أما المسلم فهذا ظاهر لا إشكال فيه؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه))،( ) وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه))،( ) والأدلة على ذلك كثيرة.
وكذلك المعاهد، وكذلك الذمي، وكذلك المستأمَِن، كل هؤلاء محفوظو الدماء والأموال، لا يجوز التعدي على دمائهم ولا على أموالهم بشيء، ولو كانت دولهم تسعى في إفساد حال المسلمين، أو اعتدت على مسلمين في جهة من الجهات، إذا كان لهم عهد مع المسلمين في المكان الذي أنت فيه فإنه لا يجوز لك أن تتعدى على أموالهم ولا على أنفسهم.
ثم قال رحمه الله في تتمة هذه القاعدة: (حتى يجيء الحلّ) فالأصل فيها التحريم حتى يجيء الحل؛ أي حتى يجري سبب الإباحة. (فافـهم هداك الله ما يُـمَلُّ)، (فافـهم) هذا أمر بالفهم والتأمل والتبين في هذه القواعد، (هداك الله) هذا دعاء منه، والهداية هنا المسؤولة هداية توفيق أو هداية إرشاد؟ كلتاهما: هداية الإرشاد وهداية التوفيق. أنت إذا قلت: (اهدنا الصراط المستقيم) أو قلت في الدعاء: (اللهم اهدني) فماذا تسأل؟ تسأل هداية الإرشاد وتسأل التوفيق وهو القيام بما فيه الهدى. فهنا قوله: (فافـهم هداك الله) دعاء وسؤال للأمرين، قال: (ما يُـمَلُّ)، (مَا) هنا موصولة بمعنى الذي، و(يُـمَلُّ) يعني يضجر منه؟ يعني من الملل؟ ما يمل: من الإملاء، أي ما يكتب، وشاهد ذلك قول الله تعالىٰ: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾( ) في آية المداينة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ و﴿لْيُمْلِلِ﴾ ماذا يعني هذا؟ يعني يملي ليكتب الكاتب، فقوله: (مَا يُـمَلُّ) أي ما يملى عليه (فافـهم هداك الله ما يُـمَلُّ).
ثم قال:

حتى يجيء صارف الإباحه ==والأصل في عاداتنا الإباحه

هذا أيضاً من الأصول التي تفيد طالب العلم.
(الأصل في عاداتنا) العادات جمع عادة، وهي ما اعتاده الناس في معاشهم ولباسهم ومعاملتهم وسائر شأنهم، هذه العادة، العادة هي ما ألفه الناس واعتادوه في معاشهم على وجه العموم: في لباسهم، في مآكلهم ومشاربهم، في معاملاتهم، الأصل فيها الإباحة، وهذا فرع عن قاعدة مشهورة معروفة بين أهل العلم وهي: (الأصل في الأشياء الإباحة)، وهي أعم من قولنا: (الأصل في عاداتنا)؛ لأن الأصل في عاداتنا مما يتعلق بالعادات؛ لكن أشمل من ذلك قوله: (الأصل في الأشياء الإباحة).
وهذه القاعدة أدلتها كثيرة، الدالة على أن الأصل في الأشياء الإباحة الأدلة فيها كثيرة، ويكفي في إثباتها ما حُكي من الإجماع على أن الأصل في الأشياء الإباحة.
وأما الأدلة التفصيلية فهي كثيرة، مذكورة على وجه التفصيل في كلام أهل العلم.
(الأصل في عاداتنا الإباحه)، (الإباحة) حكم شرعي، وهو أحد الأحكام الخمسة التكليفية، أليس كذلك؟ هذا على الصحيح من أقوال أهل العلم، وإلا فبعضهم يجعل الإباحة خارجة عن الأحكام التكليفية؛ لأن الأحكام التكليفية هي إلزام ما فيه مشقة، والإباحة ليس فيها مشقة، ولذلك أخرجها بعضهم من الحكم التكليفي.
والصحيح أنها من الحكم التكليفي؛ لأن التكليف هو إلزام وإذن، فالإذن من التكليف.
(الأصل في عاداتنا الإباحه) أي استواء الطرفين؛ يعني لا يؤمر بالفعل ولا يُنهى عنه، هذا معنى الإباحة: استواء الأمر والنهي، فلا أمر ولا نهي، المرجع في ذلك إلىٰ ما يختاره الإنسان من فعل أو ترك.
ثم قال: (حتى يجيء صارف الإباحه) يعني حتى يثبت ما يدلّ على التّحريم وعلى ارتفاع حكم الإباحة.
فمثلاً: لو أنّ شخصاً اشتبه عليه الأمر: هل الكتابة بهذا القلم حلال أو حرام؟ الأصل أنه حلال، فإذا قال: لا، حرام نقول: ما الدليل؟ وهذا يسري في كل أمر، لو قال شخص: لباس الشماغ حرام. ماذا تقول؟ ما الدليل؟ مباشرة ما الدليل؟ لأن التحريم يحتاج إلى دليل، وإلا فالأصل في الأشياء الإباحة.
دليل هـٰذا الأصل ذكرنا لكم أنه من أحاديث كثيرة، ويكفي في ذلك الإجماع، ومن الأدلة القريبة التي يمكن أن يستدل بها كلها: أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بخلق ما في السماوات والأرض، والامتنان إنما يكون بأي شيء؟ بالمحرمات أم بالمباحات؟ بالمباحات، قال الله جل وعلا: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾،( ) وهذا دليل على إباحة ما في السماوات وما في الأرض حتى يقوم الدليل على التحريم.
قال:

غير الذي في شرعنا مذكورْ ==وليس مشروعاً من الأمورْ

هذا عكس ما تقدم من قاعدة ما يتعلق بالعادات، وهو ما يتعلق بالعبادات، من أين أخذنا أنه يتكلم عن العبادات؟ هذا البيت يقول: (وليس مشروعاً من الأمور) الأمور جمع أمر (غير الذي في شرعنا مذكور) ما الذي جعلنا نقول: إن هذا البيت يريد به المؤلف رحمه الله العبادات؟ قوله: (وليس مشروعاً) لأن المشروع يذكر ويراد به ما جاء به الشرع.
إما على وجه الوجوب و إما على وجه الاستحباب، ولذلك إذا سألت أحد العلماء عن مسألة وقال لك: هذا أمر مشروع. هل تفهم أنه واجب؟ ما تفهم، هل تفهم أنه مستحب؟ ما تفهم. ما الذي تفهم من قوله: هذا مشروع أو: هذا ليس مشروعاً؟ تفهم أن هذا مما جاءت به الشريعة أو لم تأتِ به الشريعة.
هذا معنى قول أهل العلم: هذا مشروع أو ليس مشروعاً، فإذا قالوا: هذا مشروع يعني جاءت به الشريعة، أما مرتبته من حيث الحكم فهـٰذا انظر فيه إلى كلام آخر أو ابحث عنه في أدلة أخرى، فلا يفيد قول العالم: إن هذا مشروع. حكماً معيناًً يعني الوجوب أو الاستحباب.
إنما يفيد أن ذلك مما جاء به الشرع، فقول المؤلف: (وليس مشروعاً من الأمور) أي من الأمور التعبدية، من الأمور العبادية (غير الذي في شرعنا مذكور) أي غير الذي جاءت به الشريعة، و(شرعنا) أي أهل الإسلام،
وشرعنا يستقى من الكتاب والسنة والإجماع.

فما دل عليه الكتاب أو دلت عليه السنة أو دل عليه الإجماع فهو المشروع، وعلى هذا نفهم أنّ الأصل في العبادات الحظر أو الإباحة؟ الأصل في العبادات الحظر والمنع.
ولذلك الآن: كثيراً ما ترى بعض الذين يقرؤون القرآن وتمر عليهم سجدة التلاوة، إذا سجد للتلاوة قال: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله. كثير من الناس من العوام يفعل هذا، فإذا قلت له: يا أخي لماذا سلمت؟ قال: ما هو الدليل على أنه ما فيه سلام. تعكس عليه الأمر، قل: ما الدليل على أن السلام مشروع؟ الأصل في العبادة ما تفعل شيئاً إلا بدليل، فأي شيء تفعله اطلب دليله وإلا فأنت المحجوج؛ الحجة قائمة عليك.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يحرص على هذا الأمر، وأن يهتم به، وهو أن يكون على بصيرة في عمله العبادي، ما دليل هـٰذا الفعل؟ وكثير من الناس يغفل عن هذا، كثير من الناس يكون ما يفعله متلقًّى عن آبائه أو عن أجداده أو عن من رآه من أهل الفضل والخير ممن يثق به.
ولكن الأولى بالمؤمن أن يكون على بصيرة من دينه، لا سيما طالب العلم، ينبغي له أن يكون على بصيرة مما يفعل؛ لأنه محل للقدوة والأسوة والسؤال، فقد يسأل: لماذا تفعل كذا ولماذا لم تفعل كذا؟ فليعد لهذا السؤال جواباً، وليستحضر أن الأصل في العبادات المنع، وأنه لا بد من دليل على كل ما يفعله.
ودليل هذه القاعدة قول الله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾( ). فدل هذا على أنه لا يجوز شَرْعُ شيء من الدين إلا بإذن من الله؛ لأن هذا الاستفهام استفهام استنكار على الذين شرعوا ديناً لم يأذن به الله، والدّين هو العمل، ويشمل العمل القلبي والعمل البدني، العمل الظاهر والعمل الباطن، كل هذا مما ينبغي للإنسان أن يجود له أصلاً وأن يثبت له حجة فيما يفعل، ويدل لهذا الأصل أيضاً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَحْـدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْـسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))،( ) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فِي أَمْرِنَا هَذَا)) أي في ديننا، فليس الأمر شاملاً لأمر الدين والدنيا، إنما المقصود بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فِي أَمْرِنَا هَذَا)) أي في أمر الدين، وهذا قيد مهم يغفل عنه كثير من الناس، حتى إن بعض الناس يطلق على الأمور الحادثة من أمور الدنيا أنها بدعة، ألم تسمعوا أن بعض الناس يقولون: إن استعمال اللاقطات في الصلاة بدعة؟ فقيل له: كيف؟ قال: لم يكن على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل صلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بميكرفون؟
الجواب: أن هـٰذا ليس من العبادة، نحن لا نتعبد لله عز وجل بوضع الميكرفون في الصلاة، إنّما هذا من الوسائل التي يحصل بها التبليغ، ولهذا أصل: فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما صلّى في مرض موته، كان يكبر، وكان أبو بكر رضي الله عنه يكبر بتكبيره، يبلغ، فإذا جاءنا الله بوسائل تقوم بهذا الأمر ويحصل بها المقصود، فذلك من فضل الله ونعمته ومنته.
وقد ألف الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله رسالة نافعة في تقرير هذا الأمر، وهو أن المحدثات التي تستعمل في الأمور العبادية وهي ليست عبادة في ذاتها -كالميكروفونات وما أشبهها- أنها مما يدل الشرع على طلبه، لا على أنه محدث وبدعة، فينبغي أن نميز بين الوسائل وبين المقاصد.
وسيأتينا أن الوسائل لها حكم المقاصد، وليس هذا أن الوسائل لا يجوز الإحداث فيها، إنما الوسائل أمرها أوسع، كما سيأتي إن شاء الله تعالىٰ تقريره في كلام المؤلف رحمه الله تعالىٰ عند قوله:

واحكم بهذا الحكم للزوائد ==وسائل الأمور كالمقاصد

نقف على هـٰذا، ونسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
السؤال: أحسن الله إليكم يا شيخ، الناظم ذكر أن الأصل في اللحوم التحريم مع أن ظاهر الآية أن الأصل الْحِل: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ﴾( ) فذكر المحرمات ودلّ على أن الباقي حلال، ولو كان الأصل التحريم لذكر الحلال فقط والباقي حرام، أريد توجيهاً على ذلك.
الجواب: هـٰذا باعتبار الأنواع، الأصل فيها ما ذكره الله عز وجل: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾.
لكن الكلام فيما إذا اشتبه على الإنسان سبب الإباحة والتحريم في لحم معيّن، هل يقول: هـٰذا حلال أو هـٰذا حرام؟ الأصل الحظر والتحريم؛ لقوله تعالىٰ: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ﴾،( ) فإذا لم تتحقق أنه قد ذكر اسم الله عليه: بأن كان مقدّماً من مسلم، أو ما أشبه ذلك مما يغلب على الظن أنه حصل ذكر الله عليه فإنك لا تأكله.
ومن ذلك أيضاً أن يقدم لك لحم لا تدري هل هو مباح أو محرم؟ فهنا في هـٰذه الحال أعمل الأصل: التحريم؛ لأنه ما أمر الله به في قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ﴾( ) وقوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ﴾.( )
ثم إني ذكرت أن دليل هـٰذا ليس من حديث واحد أو من آية واحدة، إنما هو من مجموع الأدلة الدالة على أن الأصل التحريم.
ومن ذلك أحاديث الصيد: فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير ما حديث ذكر إذا رمى الإنسان بسهمه ثم غرق الصّيد فإنه لا يأكل منه؛ لأنه لا يدري أمات من الغرق أم مات من السهم.
كذلك وجّه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه من وجد صيده بعد أيام، أو وجد صيده ومع كلبه كلب آخر فإنه لا يأكله. لماذا؟ لأنه لا يدري أيهما صاد: كلبه الذي ذكر اسم الله عليه، أو كلب غيره.
كل هـٰذا يفيد هـٰذه القاعدة، وهي أن الأصل في اللحوم التحريم حتى يقوم السبب الدال على الإباحة.
لكن هل هـٰذا يحمل الإنسان على الشك فيما يقدم له من طعام، وإذا جاءه الطعام قال: ما نجلس، هل هـٰذا اللحم ذكر اسم الله عليه أو لا؟
هـٰذا لا تفيده هـٰذه القاعدة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سألته عائشة فقالت: يا رسول يؤتى باللحم فلا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كلوا أنتم واذكروا اسم الله عليه))( ). فأذن بالأكل وأمر بذكر اسم الله عليه؛ لأنّ الإنسان لو أراد أن يتحقق من كل ما يقدم له من اللحوم هل ذكر اسم الله عليها لكلف عنتاً ومشقة، ولتطور الأمر إلى أن يسأل عن أمور بعيدة غير متوقعة.
إذاً ملخص الجواب: أن أدلة هـٰذه القاعدة متعددة، ما تؤخذ من دليل واحد، وأما الآية فهي باعتبار ما يباح أكله في الأصل، ما يباح أكله في الأصل هو كل ما لم يرد الشرع بتحريمه، هـٰذا باعتبار النوع والجنس.
أما باعتبار: هل قام سبب الإباحة من ذكر اسم الله عز وجل، ومن كون الذبح قد استوفى شروطه؟ هـٰذا هو محل القاعدة، فليتنبه إلىٰ ذلك. نعم.
السؤال: ذكرتم القواعد الخمس الكبرى فما هي ؟
الجواب: أنا أسألك الآن ما هي القواعد؟ مرت علينا الآن عدة قواعد:
مرّت علينا قاعدة: ( الأمور بمقاصدها).
ومرّ علينا قاعدة: ( اليقين لا يزول بالشك).
ومرت علينا قاعدة التيسير: ( المشقة تجلب التيسير).
بقي: المصلحة والعادة مُحَكَّمَة، التي هي بهذا المسمى، تسمى: (العادة مُحَكَّمَة).
هـٰذه هي القواعد الخمس.
السؤال: ما حكم من شك خرج منه شيء أثناء الصلاة أم لا؟ في الصلاة وجد بللاً في ثوبه؟
الجواب: إذا كان ما تيقن أن هـٰذا البلل خرج منه في أثناء الصلاة فلا شيء عليه؛ لأنه احتمال أن يكون هـٰذا البلل حصل بعد خروجه من الصلاة، فالعبرة بوقت الصلاة هل عنده يقين أن هـٰذا البلل خرج؟ فإن تيقن أنه خرج في أثناء الصلاة فليعد الوضوء والصلاة، وإن كان حصل عنده شك هل هو في الصلاة أو في الوقت بعد الصلاة، أي بعد الفراغ منها؟ فالأصل أن صلاته صحيحة.
الأصل أن صلاته صحيحة فلا يعيد الصلاة ولا الوضوء.
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، سمعنا بأن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالىٰ رحمة واسعة وجمعنا به في الفردوس الأعلى يرى أن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المشهور: ((ولا تدابروا))( ) أن من تقدم بعد الصلاة عن الصف فإنه من التدابر، فهل هـٰذا صحيح أو لا؟
الجواب: هـٰذا صحيح، ولذلك كان شيخنا رحمه الله وجمعنا به في جنات النعيم إذا التفت إلىٰ المصلين وتقدم أحدهم عن الصف ولو كان بعيداً منه يأمره بالرجوع، يقول: ارجع؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ولا تدابروا))، وهـٰذا من التدابر، والذي يريد أن يتوسع في مكانه فإذا كان المكان ضيقاً وأراد أن يتوسع في مكانه فإنه إما أن يقوم ويرجع إلىٰ مكان آخر أو أنه يتأخر عن الصف.
طيب قد يقول القائل: إنه إذا تأخر عن الصف استدبر من خلفه.
نقول: استدبارك من خلفك هـٰذا حاصل من قبل؛ لكن أن تتقدم على إخوانك الذين هم معك في الصف وتعطيهم ظهرك هـٰذا فيه سوء أدب.
وكثيراً ما كان ينبه شيخنا رحمه الله على هـٰذا عند قيامه في الصف من بعض الإخوة الذين يتقدمون.
السؤال: وكذلك يسأل عن طواف التطوع هل الشيخ له رأي بأنه يقول: لم يرد عن السلف أنهم كانوا يطوفون تطوعاً؟
الجواب: لا؛ لكن الكلام أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم حاجّاً لم يُنقل عنه أنه طاف إلا طواف القدوم، وطواف الحج الذي هو في يوم النحر، وطواف الوداع.
ولم ينقل عنه سوى هـٰذا.
فينبغي للإنسان أن يتأسى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا سيما في أيام المواسم- بهـٰذا.

أما أصل مشروعية الطواف بالبيت، فهـٰذا أدلته كثيرة، ومنها قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يا بني عبد مناف لا تمنعن أحداً أن يطوف بالبيت أي ساعة شاء من ليل أو نهار))( ). وقول ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في العمرة: لأن أطوف بالبيت أحب إلي من أن أخرج إلىٰ التنعيم. وهـٰذا مشهور عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فدل ذلك على أن طواف التطوع مشهور عنه.
السؤال: كيف تكون الأعمال القلبية مبتدعة؟
الجواب: تكون الأعمال القلبية مبتدعة بأن تصرف لغير الله فتكون شركاً، وبأن تكون أيضاً على غير الوجه الذي جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمن أحدث عبادة ليرقق بها قلبه، الآن هـٰذه العبادة سواء كانت قولية أو فعلية تثمر عبادة قلبية من إخلاص أو خشوع أو إخبات، فيكون الفعل الظاهر والفعل الباطن كلاهما مبتدعاً؛ لأن البدعة لا تزيد صاحبها من الله إلا بعداً، حتى لو رق قلبه وجرى الدمع من عينه فإنه لا يزيده من الله إلا بعداً.
والأمور القلبية ما تشاهد، ما ترى؛ لكن هي ثمرات أعمال الجوارح، فإذا عمل الإنسان عملاً قال مثلاً: أنا ألزم نفسي بالتسبيح في اليوم عدداً معيناً بعد كل صلاة، ليحصل لي رقّة القلب ويحصل لي حضوره وخشوعه.
فنقول: هذا الخشوع مبتدع، وهـٰذا العمل مبتدع؛ فالأصل و الثمرة كلاهما مبتدع.
السؤال: ذكرتم رسالة للشيخ السعدي رحمه الله في آخر الدرس فما اسم هـٰذه الرسالة؟
الجواب: والله ما أذكر اسمها، لكن هي موجودة في مجموع مؤلفات الشيخ، تكلم كلاماً طيباً في هـٰذا الأمر، ما أذكر اسمها، هي لم تفرد بطباعة مستقلة، موجودة ضمن مجموع الخطب للشيخ؛ لأنه خطب بها خطبة وأيضاً كتب كتابة مستقلة في رسالة صغيرة.
السؤال: هل ذبيحة أهل أوربا مباح أكلها، على أنه يوجد من يقول: إنهم أهل كتاب؟
الجواب: نعم يسأل عن الذبيحة في البلاد الغربية.
الأصل في ذبيحة أهل الكتاب الإباحة؛ لقول الله تعالىٰ: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾( ) فهـٰذه الآية دلت على إباحة طعام أهل الكتاب.
ومن ذلك ما يذبحونه، ما لم نتيقن أن ذبيحتهم على غير الوجه الشرعي.
على أن من العلماء من يقول: إن ذبيحة أهل الكتاب تحلّ على أي وجه فعلوه، ولو لم تستوفِ الشروط الشرعية التي تجب في ذبائح المسلمين. ولكن هـٰذا القول فيه ضعف.
والصحيح أنه إذا لم نعلم أنهم ذبحوها بطريقة غير مشروعة فالأصل إباحة ذبائحهم، فإذا اشتبه عليك: هل ذبيحة الكتابي جائزة أو غير جائزة فما هو الأصل؟ الأصل الجواز، حتى يتيقن أن الذبيحة غير جائزة.
السؤال: نختم بهذا السؤال هل يجوز النظر إلىٰ الكعبة وهو يصلي؟
الجواب: لا، خلاف المشروع، المشروع في الصلاة أن يكون نظره في موضع السجود.
وأما النظر في أثناء الصلاة إلىٰ الكعبة فإنه خلاف ما دلت عليه السنّة من أن يكون النظر في موضع السجود.
وأما قولهم: النظر إلى البيت عبادة، فهو صحيح، النظر إلىٰ البيت عبادة؛ لكن في غير الصلاة.
ثم إن النظر إلىٰ البيت عبادة ليس النظر المجرد عن التعظيم، إنما النظر الذي ينظر فيه الإنسان إلىٰ هـٰذا البيت ويعظمه، ويذكر بذلك عظمة الرب الذي عَظَّمَ هـٰذا البيت، فإن هـٰذا هو العبادة، هـٰذا معنى قول أهل العلم: النظر إلىٰ البيت عبادة، وليس المقصود أن ينظر أو يتلى أو يذكر من الأذكار، فإن هـٰذا ليس صحيحاً؛ بل السنة في الصلاة أن تكون عين المصلي في موضع سجوده.
والله تعالىٰ أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



آخر تعديل OM_SULTAN يوم 05-27-2010 في 04:08 PM.
رد مع اقتباس