عرض مشاركة واحدة
قديم 11-20-2004, 12:33 AM   رقم المشاركة : 5
الكاتب

abo _mohammed

المشــرف العــــام

abo _mohammed غير متواجد حالياً


الملف الشخصي









abo _mohammed غير متواجد حالياً


عواصف الفكر صناعة أَسَّسها السلف

* الاستدراك السادس: إتقان الإبداع ، وجعل تعليمه علامة بارزة في منهجية تربيتنا الدعوية ، فقد ذهب عهد الاكتفاء بالتلقين المجرد وحمل الاتباع على التقليد المحض، وغرس الإعجاب بالرؤساء وانتظار أوامرهم وتعليماتهم، فتلك اتكالية تفسد التلامذة وجنود الدعوة، وفيها تفويت لفرص جزئية كثيرة طيبة مباركة مبثوثة في زوايا الساحة العريضة يعلمها الداعية القريب منها ويؤذن له أن يستثمرها إذا ربيناه على النزعة الابتكارية الإبداعية وجعلناه يثق بنفسه ويقتحم المجهول ، ولا يعلم تلك الفرص الصغيرة من كان قائداً يعتني بالمجمل والعموميات والأعمال الجامعة، مهما كان هذا القائد ذكياً ألمعياً ملهماً، بل من الظلم أن نكلفه بذلك حتى لو استطاع، لأنها تشتت جهده وتذهله عن ضبط مسيرة كل الكتلة الدعوية، وقد جعل الله لكل شيء قدْرا، وأقدار القادة أن يتعاملوا مع كبار القضايا، وأقدار الاتباع أن يتعاملوا مع الأمثلة الجزئية والصور المتناثرة، حتى صار التنفيذ والإبداع فيه صنعة خاصة لجيل من الدعاة كثير العدد في كل بلد، ولو أردنا من القياديين ممارسة هذا التنفيذ لأشكل الأمر عليهم وما عرفوه، والعكس يصح أيضاً، فإنك لو طلبت من التنفيذي رؤية شمولية للساحة أو نظراً استراتيجياً لعجز وأتى بالغرائب، لضعف صنعة التحليل والتركيب لديه، ولافتـقاده عناصر الربط بين الـمـقدمات والنتائج، وكل ميسرٌ لما خلق له، والتكامل بين الفريقين أسلك سبيلا.

لكن من شرط وصول الجميع إلى الإبداع والمهارة فيه أن نوفر مجالاً حوارياً جدلياً حراً لكل رهطٍ من الأقران، بحيث نعفيهم من ضمانهم لصواب أقوالهم، بل ندعهم يفكرون بصوتٍ عالٍ، ويذكرون ما يظنونه صواباً، من دون منح أنفسنا حقاً في لومهم وتقريعهم وإعابة منحى تفكيرهم، فإنَّ الإبداع لا يتأتى مع الكبت والزجر والسخرية ، مما يجعلنا نسوغ طريقة الإبداعيين في"العصف الذهني"، وهي جلسات يحضرها العشرون والثلاثون، ونرفع عنهم الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ، ونتركهم يفكرون في القضية بعد القضية تفكيراً لا تقيده أوصاف الموضوعية ولا حدود المنطقية ولا ارتباطات الواقعية أو إذعانٌ لأرقام إحصائية، لينتج من التفكير الفوضوي الخيالي المطلق الجزافي عددٌ كبير من الاقتراحات والأفكار الجزئية حول تفاصيل القضية المبحوثة، ثمَّ بعد ذلك ترجع المجموعة بقيادة الأرشد الأفقه إلى تصفية رُكام القول، واستخلاص ما هو منطقيٌ منهُ ويتجانس مع حقائق المحيط والنمط المنهجي، وهذه طريقةٌ عامرةٌ في العالم، ضامرةٌ في العراق، لأنَّ الحاكم الفردي شاء أن يحرمَ أهل العراق من أدوات الاجتهاد والإبداع، لئلا يتمردوا عليه ويحَدّثوا أنفسهم بثورةٍ عليه، فَساقهم سَوقاً، وحرمهم من حوارٍ ونقدٍ ذاتي، ومنع التناجي الخيري العلمي، فحصل الانغلاق وتحجرت أنماط التبعية العمياء التي لا يؤذن لها أن تقارب رُشداً أو نوع ابتكار، ومن اللائق أن تنتبه التربية الدعوية لمثل ذلك، فتمارس أساليب الإبداع داخل الصف، ثمَّ مع بقية أنصار الدعوة من رواد المساجد والمتحلقين حولها في دائرة الهالة الواسعة المُنيرة حول قمرها الفكري، وبذلك يكون من الممكن أن نفجر ما في دواخل أنفس أجيال المؤمنين العراقيين من طاقةٍ كامنةٍ تتخذ من الاختراع والإتيان بالطريف ديدناً وطريقةً للاستدراك على ما فات، ثمَّ اللحاق ببقية الشعوب والأمم والسير بموازاتها والاقتباس من نجاحاتها.


وطريقة " العصف الذهني " عند أهل الإبداع صحيحة في مجملها، ولها عاضد من التجريب الذاتي في ممارساتنا، ثمَّ وجدتُ لها أصلاً وجذراً في طرائق أئمتنا من السلف المجتهدين المبدعين، وذلك واضح فيما ( قال سفيانُ بن عُيينة: مررتُ بأبي حنيفة وهو مع أصحابه في المسجد وقد ارتفعت أصواتهم، فقلتُ: يا أبا حنيفة: هذا في المسجد والصوت لا ينبغي أن يُرفع فيه؟
فقال: دعهم، لأنهم لا يفقهون إلا بهذا)( 1 ).

والشاهدُ في قول أبي حنيفة: لأنهم لا يفقهون إلا بهذا، فهو صريحٌ في أنه يؤمن بأنَّ رفع الصوت ضرورة لحصول ومضات الفقه، ورفع الصوت هنا إنما هو كناية عن كتلة من التحديات والاعتراضات المتأججة بين أصحاب أبي حنيفة، والردود والتوهيم والافتراق والموافقة، بحيث ينطق الكل في وقتٍ واحد، أو تعاقبٍ سريع، فتنشأ ضوضاء وصيحات مختلطة، يبرز من بين عنفوانها الصواب الإبداعي الاجتهادي، وتلك هي صفة "العصف الذهني" لمن ذاقها، وهي بضاعة إسلامية إذاً رُدتْ إلينا، ونحن أولى بها من أميركي وأوربي وياباني.


وليس من وصف الإبداع الناجح أن يتناول حتماً قضيةً كبيرةً أو أن يكتشف سراً خطيراً، بل في كثير من يوميات الحياة المنسابة قابلية لأنْ تجر صاحبها إلى إبداع فيها، ومن ابرز أمثلة هذا الإبداع الذي تجلى لي عبر اطلاعاتي التاريخية خبر فقيهٍ مصري قبل قرنين كان يحرص على تعليم العامة السُذج البسطاء أُصول الإيمان، هو الشيخ العلامة مصطفى العقباوي المالكي، فقد كان( إنساناً حسن الأخلاق، مقبلاً على الإفادة…متورعاً متواضعاً، ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام، حتى أنه كان إذا ركب مع المكاري: يعلمه عقائد التوحيد وفرائض الصلاة)( 2 ).
وقد جهل كثير من عامة أهل العراق، ولا ينفع إلا أن ننزل إليهم نعلمهم في أسواقهم ومجالسهم وبيوتهم، ونبدي خطة إصلاحية تربوية تعليمية وعظية تعيد الناس إلى الإيمان والأخلاق والصلاة، وأن نرحل إلى البادية والقرى، وأن ندخل المحلات الشعبية الفقيرة، ونمنع الدعوة أن تكون نُـخبوية تُربي المثقفين فقط.
لكن المكاري البغدادي كان يوماً ما صاحب فقه، وكانت بعض أزقة بغداد القديمة تنقطع إذا نزل المطر الغزير وتتكون بُحيرة تمنع مرور الناس، فتنشط مهنة الحمالين الذين يحملون العابرين على ظهورهم، وكان الأخ أبو أديبة سلفي النزعة، وشاركني في الأخذ عن شيخنا عبد الكريم الصاعقة، فلما استوى على ظهر الحمال قرأ"سُبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين"، وذهل عن أنَّ هذا المكاري من أهل الفقه-وليس مثل مكاري مصر-، فقال له الحمال المكاري التاكسي: أعِد، فأعاد الدعاء، فقرأ الحمال"وإنا إلى ربنا لمنقلبون"ثم أمال كتفه، وقلب أبا أديبة في الماء، وكان أستاذنا شاعر الإسلام وليد الأعظمي يروي لنا هذه النكتة الطريفة مراراً، فإن كانت حقيقة فهي إبداع من المكاري العراقي يحملنا على تربيته وتنظيمه واعتماده في خطتنا الدعوية، وإن كانت مخترعة فهي إبداع وليدي يحملنا على أن نقرأ شعره ونعظ أنفسنا به ونعيد سيرته، فقد كان-رحمه الله-جليس الفقراء ومعلمهم، وأحرى أن نجعل سيرته منهجاً دعوياً يصحح معادلة النخبوية.

====================
( 1 ) الآداب الشرعية 3/397.
( 2) تاريخ الجبرتي 3/145.

المصدر:
Cant See Links


التوقيع :



قال تعالى :
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[فصلت:33]






رد مع اقتباس